الجمعة، 12 ديسمبر 2025

نعمة الجهل

تأليف : امل شانوحة 

العمر المضمون


هبطت مركبة ناسا فوق كوكبٍ غامض ، يُشبه الأرض الى حدٍ كبير : بجباله وبحاره ومدنه ، حتى وجوه سكّانه .. كأنهم نسخةٌ أخرى لبشر الأرض ، والذين استقبلوا الروّاد الثلاثة بترقبٍ حذر  

وما إن بدأوا الحديث معهم ، حتى انكشف نظامهم الغريب ! ففي عالمهم ، الموت ليس لغزاً بل محدّداً بسنٍ معينة :

فالنساء يرحلن بعد بلوغ السبعين ، والرجال عند الثمانين .. في نومٍ هادئ دون مرضٍ او حوادث !   

ظاهرياً يبدو الأمر نعمة .. لكن سرعان ما اكتشف الروّاد بأنها نقمةٌ مُدمّرة.


فشبابهم بعد ضمان اعمارهم ، أهملوا واجباتهم الدينيّة .. فبحسب رأيهم ، مازال لديهم وقتاً طويلاً للتوبة ! لهذا أسرفوا في السهر واللهو ، وتجربة العادات السيّئة التي لن تقصّر عمرهم او تؤذي صحتهم !

بعكس كبار السنّ الذين ازدحمت بهم دور العبادة ، وهم يجتهدون بالصلاة والصوم والدعاء ، في عزلةٍ عن ابنائهم المنشغلين بمتع الحياة !


كما لم يتزوّج احد في سنٍّ مُبكّرة ، فلا حاجة للإستعجال بتحمّل المسؤولية (باعتقاد شبابهم) .. لهذا تناقص عدد اطفالهم بشكلٍ كبير ، حتى خلا عالمهم من لعبِ وضحكات الجيل الجديد ! 


وبلغ استبداد شبابهم ، لدرجة نفيهم عجائزهم للطرف الآخر من الكوكب .. بعد سرقة بيوت اجدادهم ، بحجّة أنهم على وشك الرحيل.. 

وفي المقابل ، بنوا داراً ضخمة للمسنين .. ليموتوا فيها بهدوء ، وبوحدةٍ قاتلة !


حتى الأغنياء من كبار السن : رفضت العائلات تزويجهم بناتهم ، خوفاً من ترمّلهن السريع ! 


مما تسببّ بإحباطهم الذي ادّى لانتشار الإنتحار بينهم ، خوفاً من سنوات المللّ الأخيرة.. بينما فضّل بعضهم : الإستقالة باكراً ، لتوديع عائلاتهم التي سيحرمون منها قريباً !


وهنا تجرّأ أحد الروّاد على القول : 

- نحن في الأرض ، لا نعرف متى او كيف نموت .. فلا شيء مضمون في حياتنا 

فسأله احد الشباب بدهشة : 

- وكيف تعيشون وتستمرّون بالعمل والزواج والإنجاب ، وأنتم لا تضمنون بقاءكم ؟!

فأجاب الرائد بابتسامة :

- لهذا بالذات نحيا حياةً طبيعية.. فالجهل بساعة موتنا ، يجعلنا نحرص على التفاصيل .. كالإهتمام بأطفالنا ، خوفاً من إيذاء انفسهم .. ونبرّ آبائنا ، خشيّة فقدانهم.. ونحافظ على صحتنا النفسيّة والجسديّة .. ونستعجل ببناء مستقبلنا ، كأننا خالدون.. وفي حال مات عزيزٌ علينا ، لا نعترض على قضاء الله الذي ندعوه كل لحظةٍ وحين ، لحماية احبائنا .. ونحمده على كل دقيقة تمرّ علينا بأمانٍ وصحة .. وهذا يجعلنا نقدّر كل يومٍ نعيشه ، في حياتنا مجهولة المصير 


فساد صمتٌ عميق ! قبل ان يقول أحد عجائزهم : 

- يبدو أن الموت المفاجئ ، نعمة لا نفهم قيمتها ! 

وتبعته عجوزة بحسرة : 

- لوّ كانت حياتي مثل الأرضيين ، لما خفت من موتي لوحدي.


ثم توسّل العجوزان للروّاد الثلاثة بأخذهما إلى الأرض ، لعيش ما تبقى لهما هناك .. لكن الرائد اعتذر بأدب : 

- للأسف ، مركبتي صغيرة .. لكني سأحمل قصة كوكبكم معي .. لعلّ أهل الأرض يدركون النعمة التي يعيشونها ، ولا يشتكوا موتاً مُبكراً بعد اليوم.


ثم ودّعوهم ، وانطلقوا بمكّوكهم عائدين لأرضٍ مليئة بالحب والخوف ، والضحك والدموع .. كوكبٌ تسوده المفاجآت ، يجعلنا نستحق العيش فيه حتى أنفاسنا الأخيرة!


هناك تعليقان (2):

  1. اعطيتي لنا الامل ع الارض ههههه جميله القصه ولكن من اين خطرت لك

    ردحذف
    الردود
    1. هي احدى افكار طفولتي : بأننا لوّ علمنا بيوم وفاتنا ، سيكون الأمر مريحاً نفسياً .. لكن بعد التفكير بالموضوع ، وجدت ان الموت المفاجئ هي حكمة من الله ، للإستمرار بعبادته لآخر عمرنا .. فالحمد الله على كل شيء

      حذف

نعمة الجهل

تأليف : امل شانوحة  العمر المضمون هبطت مركبة ناسا فوق كوكبٍ غامض ، يُشبه الأرض الى حدٍ كبير : بجباله وبحاره ومدنه ، حتى وجوه سكّانه .. كأنهم...