تأليف : امل شانوحة
المشاعر المُحرّمة
إنحرفت سيارته عن الطريق العام إثر غفوةٍ خاطفة ، أوصلته الى قريةٍ صحراوية بعد نفاذ وقوده .. فنزل مُتذمّراً ، للسؤال عن محطّة بنزين..
ووصل للسوق .. ليرى عجائز يصرخون عالياً ، كأنهم يُفرّغون همومهم بالهواء ، دون أن يلتفت أحدٌ لهم !
واطفالٌ يلهون بقسوة وهم يقذفون قطةً مذعورة ، بينما أصحاب الدكاكين يراقبونهم بلا اعتراض !
وشابٌ بلحيةٍ طويلة وملابس مُهملة يغني قصيدةً حزينة ، دون اهتمام احد بمصابه ! حتى من يأكل في المطعم شارد بفكره ، دون ردّه السلام على الغريب الذي دخل قريتهم !
وقد بدت قريةً كئيبة .. كأن هناك قانوناً خفيّاً يُجرّم المشاعر بينهم ، ويجعله عاراً !
الى ان وجد فتاةً صغيرة تقفز الحبل ، وهي تشعر بالمللّ من لعبها بمفردها!
فسألها المسافر :
- مرحباً ايتها الصغيرة .. هل تدلّيني على محطّة البنزين في مدينتكم ؟
فأجابت بتهكّم : ليس لدينا سيارت ، فلما المحطّة !
المسافر باهتمام : وكيف تتنقلون بين المناطق ؟
- نحن لا نبتعد كثيراً عن هنا .. وان اردنا التنقّل ، فبواسطة الأحصنة والحمير
- الا يوجد كهرباء لديكم ؟
- مازلنا نستخدم القناديل والحطب والفحم
المسافر بدهشة : تبدون من القرن الماضي ، لما لا تنتقلون لمكانٍ أفضل؟!
- معظمنا فقراء ، كما تلاحظ من اكواخنا المتهالكة .. فرجالنا غائبون في المنجم ..(وأشارت لجبلٍ ، خلف مدينتهم الخشبيّة).. بينما تغرق نساؤنا في أحواض الغسيل ودخان المطابخ
- الا توجد مدارس لديكم ؟
- رئيس بلديّتنا تطوّع لتدريسنا القراءة والكتابة ، مرة في الإسبوع .. فهو المتعلّم الوحيد بيننا .. اما كبارنا ، فيرفضون التعلّم .. فحسب رأيهم : سيموتون هنا ، كما حصل مع اجدادهم الجهلاء !
المسافر : اذاً إخبريني عن عجائزكم ، لما يتحدثون بصوتٍ عالي ؟
- رغبةً بأن يسمعهم احد.. فقانونا يمنع التدخل بشؤون الآخرين.. لهذا يرفعون اصواتهم كيّ لا تنفجر صدورهم بهمومهم المكبوتة ، هذا ما قالته امي !
- وماذا بشأن الشاب الذي يلقي القصيدة باكياً ؟
الفتاة : كان شاعرنا ، وموهوب القرية .. عشق فتاةً ، هربت بإحدى الليالي بشاحنة نقل ! ولا نعرف مصيرها حتى اليوم .. البعض يقول ان سائق الشاحنة قتلها ودفنها بالصحراء .. بينما يؤكّد شخص على رؤيتها ترقص بحانة في المدينة ! بكلا الاحوال ، فقد العاشق عقله بعد خسارتها.. (ثم أخفضت صوتها) .. بصراحة لا الومها على الهرب ، لأني مثلها أتوق للحرية.. وأفكّر عندما اكبر ، بالإنتقال للعاصمة .. فالحياة هنا مملّة للغاية ، بعد تحريم العواطف ! فالكبير يتعامل بقسوة مع الصغير الذي يتمرّد بعصيان اوامر البالغين .. وكل هذا يحصل بلا شكوى او لوم ! فقد اعتدنا الأكل والنوم بصمت .. فلا رومنسية بين الأزواج ، ولا تعاطف مع الصغار .. كأننا خلقنا دون مشاعر ! فجنائزنا دون دموع ، وأعراسنا صامتة.. بسبب قانوننا الصارم بعقاب من يضحك بصوتٍ عالي او يبتسم بغباء !
الرجل باستغراب : ماهذا القانون الجائر ؟! .. ماذا عنك ؟ هل لديك صديقات بمثل عمرك ؟
- بالتأكيد يوجد فتيات من جيلي .. لكن عندما نجتمع ، تنشغل كل واحدة بدميتها الصوفية دون التحدث مع الأخرى ! اما الأولاد فلا توجد مباريات كرة قدمٍ بينهم ، بل يتنافسون على اذيّة المارّة برميّ الحجارة او ضرب الحيوانات ! .. (ثم تنهدت بضيق) .. نحن حقاً نعيش في الجحيم.. والأفضل خروجك سريعاً من هنا ، قبل فقد شعورك الإنسانيّ
^^^
لم يكن المسافر الغريب رجلاً عادياً ، بل طبيباً نفسيّاً بارعاً .. والقدر اوصله اليهم ، لتصبح مشكلتهم مادةً دسمة لكتابه الجديد .. لهذا قرّر امضاء الصيف معهم ، بعد استئجاره كوخاً صغيراً .. حوّل إحدى غرفه لعيادة ، لعلاج نفسيّتهم المتدهورة
لكن الأكثرية رفضوا إطلاع غريب على أسرارٍ لم يشاركوها مع ازواجهم وأهاليهم!
بينما وافقت ام الشاعر المجنون على جعل ابنها اول مرضاه.. والتي كشفت للطبيب سرّ قريتها :
- قبل سبعين عاماً ، قُتل ابن رئيس بلديتنا السابق في انفجارٍ بالمنجم .. ومن شدة ألمه على فقدان ابنه الوحيد ، أصدر قراراً بمنع مظاهر الفرح العلنيّ.. ومع الوقت صار وجعنا عادة ، وصمتنا قانوناً جبريّاً ! .. المهم الآن هو علاجك لأبني ، العاشق الحزين
فوعدها الطبيب بذلك
^^^
وبعد ذهابها ، وافق ابنها على الإستلقاء على الأريكة .. وما ان طلب منه الطبيب وصف حبيبته ؟
حتى انهار الشاب باكياً .. مُخرجاً من جيبه : صورة قديمة لطفليّن سعيديّن ، واصفاً الفتاة بحبه الأول والأخير
الطبيب : اذاً لما هربت ، طالما تحبها هكذا ؟
- هي لم تعلم مشاعري نحوها .. فالبوح عندنا ، يكسر هيبة الرجولة .. (ثم تنهّد بقهر) .. ليتني أعرف مصيرها.. حتى لو ماتت ، اريد عنوان قبرها لزيارته على الدوام
فوعده الطبيب بالبحث عنها بعد عودته للمدينة ، بنهاية العطلة الصيفية .. لكن بشرط !! تحسين مظهره ، في حال وافقت الإرتباط به
فسارع الشاب الى منزله ، وهو مُتحمّس لتغير هيئته .. مما صدم امه ، التي نقلت خبر تحسّنه لبقية النسوة !
^^^
وسرعان ما انتشر خبر شفاء المجنون بين اهالي القرية الذين انبهروا من قدرات الطبيب العلاجية !
وبدأ الناس يتوافدون لعيادته : العجائز بفضّفضتهم عن مشاكلهم الصحيّة.. والنساء بدموعهن المكبوتة من جفاء ازواجهن.. والرجال بتذكّر مصاعب العمل بالمنجم الذي تسبّب بوفاة بعض اصدقائهم .. والأطفال بألعابهم القاسية ، للفت انتباه آبائهم الذين تجاهلوا تربيتهم وتقويم سلوكهم !
شيئاً فشيئاً ، انكسر جدار الصمت .. وبدأت القرية تستعيد شعورها الإنسانيّ.
***
ثم أقام الطبيب بالتعاون مع رئيس البلدية (الجديد) حفلة للعزّاب ، أحيوه بالأغاني والرقص لأول مرة منذ سنواتٍ طويلة
لينتهي الحفل بإعلان خطوبة بعضهم ، وسط فرحة الأهالي بهذه المناسبة السعيدة
بنهاية الصيف .. تجمّع الأهالي لتوديع الطبيب الذي وعد شاعر (المجنون سابقاً) بإيجاد حبيبته الضائعة
***
بعد اسبوعين ، وجد الفتاة الهاربة تعمل نادلة في إحدى المطاعم ..
فأخبرها عن عاشقها الذي فقد صوابه ، بعد رحيلها المفاجئ عن القرية .. فردّت باستغراب :
- هو لم يجرؤ يوماً على محادثتي او التقرّب مني ، لهذا تجاهلته !
فسألها الطبيب عما حصل يوم هروبها ؟
فأخبرته بأن سائق الشاحنة حاول استغلالها ، كونها مراهقة جميلة .. لكنها استطاعت إجباره بتوصيلها للمحطة .. وهناك ارسلها العامل الى هذا المطعم ، الذي تعمل فيه منذ ثلاث سنوات
الطبيب : وهل ستبقين هنا ، بينما حبيبك ينتظرك بشوق في القرية ؟
- كنت اعشق اشعاره ، فهو احد شبابنا الموهوبين .. وأشعر بالحزن لما حصل له بسببي
الطبيب : اذاً ماهو قرارك بشأنه ؟
ففكّرت قليلاً ، قبل ان تقول :
- اوافق الإرتباط به ، في حال قدم الى هنا .. فأنا لن اعود لتلك القرية التي تُحرّم المشاعر الإنسانيّة !
***
وبالفعل اتصل الطبيب بالشاعر ، وأخبره بقرار حييبته .. فلم يتردّد بالموافقة
وعاد إليها ، هذه المرة بلا خوفٍ او قيود.. وعانق حبيبته أمام الملأ ، وهو يعلن خطبته لها ..
وبسبب حبه لعروسته ، إشتعلت قصائده من جديد .. التي غنتها بصوتها العذب.. وسرعان ما اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي ، ليتحوّلا لأيقونتيّن للفن الريفيّ
ورغم الشهرة والمال ، لم ينسيا قريتهما التي أوصلاها بالكهرباء والإنترنت ، ورصّفا طرقها الرملية .. لتزدهر لاحقاً بالزوّار والسوّاح ، الذين قدموا لزيارة مسقط رأس الفناّنين الصاعديّن
^^^
وهكذا تحوّلت القرية المنسيّة الى وجهةٍ سياحيّة ، بفضل طبيبٍ تائه ساقه القدر لتحرير مجتمعٍ من سجن العواطف المكبوتة !

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق