تأليف : امل شانوحة
الظلّ الملكي
بعد بلوغي سن السبعين ، تجرّأت أخيراً على كتابة مذكّراتي :
((انا صوفيا ، ملكة اسبانيا .. الطفلة التي لم ترغب عائلتها في إنجابها !
فأبنتهما البكر (ليونور) تملك كل المواصفات المطلوبة ، لتصبح الملكة القادمة
أما أنا ، فكنت النسخة الإحتياطية التي لا يُفترض استعمالها !
فهم أخبروني أن الدستور يفرض التفرقة..
لكني كطفلة ، لم أفهم قانوناً يمنع والدان من احتواء طفلتهما الثانية التي أجبروها على الوقوف طويلاً أمام عدسات المصوّرين ، بظهرٍ مستقيم وابتسامةٍ جامدة دون حركةٍ زائدة أو كلمةٍ عفوية.. بعد وصف أمي لضحكاتي الطبيعية بـأفعالٍ شائنة ، وعلّمتني الصمت وعدم الجدال باكراًً !
فأنا لا اذكر قبلةً دافئة من والدايّ ، بعكس اختي التي لا تفارق حضنهما ! حتى اللعب معها كان ممنوعاً.. فدخول غرفة اختي يحتاج اذناً مسبقاً ، كأني غريبة عن قصرهم
رغم انني لم أحسد ليونور على تسلّط الأضواء عليها ، بعد تحمّلها فوق طاقتها ..وإلزامها بمسؤولياتٍ ضخمة ، وحفظها لبروتوكولاتٍ مُعقّدة !
في المقابل لم يكترثوا بتعليمي سوى سلوك النبلاء ، دون الطموح بالملك يوماً
لهذا قضيت معظم وقتي مع مربيتي الحنونة التي رأتها امي يوماً تحتضنني بغرفتي ، فطردتها على الفور ! غير آبهة ببكائي وتوسّلاتي لإعادتها للقصر .. وبذلك خسرت الحضن الوحيد الذي اكترث بأمري !
اما موضوع المناسبات الوطنية .. فقد اعتدّت الوقوف خلفهم ، كالمنبوذة.. لأعاني من تجاهلهم بصمت ، كشمعةٍ تذوب في وضح النهار .. حتى انهم اجبروني على حضور مناسبات تخصّ اختي ، رغم مرضي وارتجافي من الحمّى .. واكيد لن يحدث هذا ، لوّ حصل العكس !
وبسن المراهقة .. طالت قامتي أكثر من اختي ، فمنعوني من الكعب العالي .. ولبس الفساتين الزاهية ، حتى لا الفت الأنظار اليّ .. ورفضوا قصّ او تصفيف شعري بموديلاتٍ جذّابة ، مع إجباري على إسداله كفتاةٍ مُهملة .. فأنا مُلزمة بالبقاء ظلّاً لأختي ، ملكة البلاد المستقبليّة !
وحين كسرتُ قدمي ، لم يمدّ والدايّ أيديهما لمساعدتي.
فعلتها ليونور بدلاً عنهما.
ففرح قلبي… قبل أن تُطفئه كلماتها الباردة :
- لن أبدو متعالية أمام الصحافة
حينها فهمت أن الشفقة في عائلتنا ، أمراً محسوباً !
فهل خاب املي ؟ بالحقيقة لم يعد شيء يفاجأني من جفاء عائلتي .. لدرجة انني تخيّلت نفسي : كلقيطة على باب قصرهم في ليلةٍ مظلمةٍ وباردة.. لهذا عليّ الإمتنان لضمّي الى عائلتهم الملكيّة ، دون المطالبة باهتمامهم ومحبتهم او مقارنتي بإبنتهم الحقيقية !
هكذا اوهمت نفسي ، مُتجاهلةً صور حمل امي بي ! كيّ أحمي قلبي من قسوتهم الغير مبرّرة
وذات مساء ، سمعتهم يتحدثون عن جولةٍ أوروبية.. لكنهم مُتردّدين في اصطحابي ، لجهلي بالبروتوكولات.
وصادف تلك الليلة ، قراءتي إعلاناً عن مخيّمٍ لتعلّم الفروسية والإنضباط العسكري لأبناء الطبقة المخملية..
فدخلتُ الصالة بحماسٍ مُصطنع .. فتنفّسوا الصعداء ، لأنه الحل الأمثل لتخلّص مني صيفاً كاملاً..
وكم بكيتُ في ليلتي الأولى بالمعسكر... لأني كنت آمل رفضهم اقتراحي ، للبقاء معهم .. لكنهم ارتاحوا من همي !
لأعلم لاحقاً بأن ذلك المخيّم كان اجمل شيءٍ حصل بحياتي ، ففيه التقيت بزوجي المرحوم ..
وكان شاباً يافعاً من طبقة الأمراء.. عانى مثلي من الإهمال ، لأنه الإبن الأوسط لعائلته .. لهذا لم يكن صعباً التفاهم بيننا ، فلدينا الجروح ذاتها !
في البداية خفتُ من لطفه ، ظناً ببحثه عن الأضواء
لكنه طلب زواجاً بعيداً عن الإعلام .. على الشاطئ ، بحضور كاهنٍ والأصدقاء المقرّبين فقط ! فأحببتُ الفكرة.
تزوّجنا سرّاً ، لكن الخبر تسرّب لعائلاتنا .. فهدّدوا بحرماننا من ألقابنا والصلاحيّات الملكيّة ، لكننا لم نكترث .. وانتقلنا إلى بيتٍ صغيرٍ في الريف.. حيث عمل زوجي بالتجارة ، بينما اعتنيتُ بمنزلي رغم حملي ..
وأنجبتُ ابني على يد قابلةٍ قروية. .واستدعيتُ مربيتي القديمة التي اعادت الدفء الى عائلتي.. وحرصنا جميعاً بعدم إظهار الطفل للعلن
لكن ببلوغ شهره الثالث ، صوّرني احد الصحفيين وانا احمله في حديقة منزلي بطائرة درون !
مما احدث ضجةً اعلامية .. أجبرت والدايّ على دعوتنا للقصر ، لأخذ صورةً عائلية ..
وهناك رأيتُ الشوق في عيني أبي وهو يحمل حفيده. .لكن أمي اعادت الطفل لي ، فور انتهاء التصوير !
بينما همست ليونور بحقد :
- ما كان عليك ان تسبقيني بالزواج والإنجاب
فحاولت امي تهدئة غيظها :
- لا تقلقي يا ليونور ، عرسك سيُخلّد بالتاريخ … ليس كعرس اختك السوقي !
فعدتُ إلى بيتي مكسورة ، واحتواني زوجي الحنون الذي وعدني بعدم التفرقة بين ابنائنا ، مهما كان عددهم
بعد عام ، أنجبت طفلتي .. لكن هذه المرة حرصت عائلتي بعدم إشغال الإعلام بي ، بعد مسارعتهم بتزويج اختي من اميرٍ وسيم لا تطيقه !
لهذا بالكاد ابتسمت بعرسها الذي لم أُعزم عليه ، مُتحججين امام الصحافة : بمضاعفاتٍ مؤلمة بعد ولادتي !
وهو شيء لم يحصل .. لكني التزمت بيتي ، كيّ لا اظهر كذبهم للعلن
وبعد زواج اختي الضخم .. ودّع والدايّ العريسيّن في المطار ، للذهاب بشهر عسلٍ فاخر حول اوروبا..
لكن شاء القدر ان يحدث خللاً بطائرتهما الخاصة ، أدّت لوفاة اختي مع عريسها !
وجاء الخبر صادماً على الجميع .. حتى عليّ ! فهي بالنهاية اختي الوحيدة..
وبكيت امام تابوتها ، لحرماني التقرّب منها طيلة حياتي ! كما شعرت بظلمهم لها ، بعد إجبارها على النضوج باكراً .. وزواجها التقليدي دون حب ، بعكسي انا.. لهذا بكيت على شبابها الضائع ، بينما والدايّ تجمّدا في حالة صدمةٍ واضحة ..
وحين حاولت احتضان امي لتخفيف المها ، همست في اذني :
- هل انت سعيدة الآن ، لحصولك على العرش بدلاً منها ؟!!
وقد صدمني كلامها ، فالمُلك لم يكن يوماً غايتي بالحياة !
كل ما اردّته هو الشعور باحتواء اختي الكبرى التي يبدو أن امي أفهمتها بأني منافستها على العرش ، وأغار منها ..لهذا تجنّبتني المرحومة طوال حياتها !
اما ابي ، فكنت قلقة عليه... فهو بدا مشوّش التفكير ، كأنه محتار بمن سيرثه بعد وفاة ابنته المفضّلة التي علّمها كل شيء عن السياسة .. فهو لم يهتم بتثقيفي من هذه الناحية.. وسيكون صعباً فعل ذلك ، بعد انشغالي بعائلتي.
ويبدو ان همه كبير ، لدرجه انتحاره بعد وفاة اختي بأسبوع !
وكانت تلك الصدمة الثانية للشعب ..ولأمي التي انهار جبروتها اخيراً ، بعد فقدان سندها الوحيد بالحياة
وماهي الا ايام ، حتى لحقته امي بعد مرضٍ ألمّ بها
وبعد انتهاء العزاء .. زارني الوزير في بيتي الريفيّ ، لنقلي الى القصر ..لحفلة تتويجي ملكة البلاد ! وهو شيء لم يخطر ببالي ، حتى بأحلامي المتفائلة
وبالفعل تم تحضيري للمناسبة الضخمة التي حضرها الشعب الذين اصطفّوا بالآلاف خارج القصر ..وهم يشاهدون عبر شاشةٍ ضخمة ، لحظة وضع التاج فوق رأسي..
وبعد تلاوتي للقسم الملكي ، أخرجوني للشرفة ..لأكن في الواجهة هذه المرة ! بدل وقوفي طوال حياتي مع الحرس ، خلف عائلتي
حيث لوّحت للشعب والدموع في عينيّ .. بينما زوجي يدعمني بابتسامته الحنونة وهو يحمل طفلتنا ، وبجانبه ابننا الذي كان سعيداً بالحدث
ثم اعطاني المسؤول الميكروفون للتحدث مع الشعب الذي التزم الصمت ، لسماع كلمتي المكتوبة بعناية من قبل نائبي .. الذي فاجأته بطيّ الورقة ، والتحدّث إرتجالاً مع الجمهور :
((جميعكم يعلم بقصتي مع عائلتي ، وكيف كنت الخروف الأسود طوال حياتي.. لم اكن احلم يوماً بأن اصبح مليكتكم .. ولا انكر شعوري بالخوف من هذا المنصب الذي لم يحضّرني اهلي له ، كما فعلوا مع اختي المرحومة.. والآن اقف امامكم وقلبي حزين على فقدانهم .. فقد كنت آمل بوجودهم معي ، لمساندتي.. رغم يقيني بأنهم لن يفعوا ذلك ابداً ! .. لا اعتقد انني سأكون ملكةً تقليدية ، لكرهي للبروتوكولات المعقّدة .. فما يهمّني هو انتم !! فأنا اشعر بآلامكم ، واعرف شعور الشخص المُهمّش بالحياة.. لذلك لا اعدكم بالكمال ، بل بالإنسانية والعدالة .. كل ما اريده منكم هو دعمي بحنانكم وعطفكم.. وان اخطأت بحقكم ، فعاتبوني بلين..
دعونا معاً نقدّم أفضل ما لدينا ، لبناء بلدنا الحبيب .. وجعله في مصاف الدول العالمية ، فهو حلمنا جميعاً .. بالنهاية انا منكم ، وانتم مني !! ..عشتم وعاشت اسبانيا !!))
وما ان انهيت كلمتي ، حتى ضجّت الشوارع بالهتافات المؤيدة لحكمي المتواضع ! وهم يردّدون :
- تحيا ملكة اسبانيا !! تحيا الملكة الحنونة !!
ومن يومها ازدهرت بلادي اقتصادياً بشكلٍ لم يحدث من قبل ، بعد اعتياد شعبي على زيارتي لشركاتهم ومصانعهم دون حرسٍ او بروتوكولات خانقة.. حيث سلّمت على الصغير قبل الكبير.. واهتمّمت بسماع مشاكلهم ، والسعيّ بحلها بكل الطرق الممكنة
وهآ انا أتفرّغ أخيراً للكتابة بعد قيامي قبل ايام ، بتسليم تاجي لإبني الذي ربّيته على التواضع مع الشعب ومحبة الوطن .. والأهم من ذلك ، علّمته الإهتمام بأخته بعد حرصي انا وزوجي على عدم التفرقة بينهما.. وهو شيء جهله والدايّ اللذيّن تسبّبا بجروح الثقة ، وقيمتي امام نفسي لفترةٍ طويلة من حياتي.. لولا زوجي الحبيب الذي دعمني في كل خطوة.. كما لا انسى محبة الشعب الذين عاملوني باحترامٍ وتقدير ، لم اجده بعائلتي الراحلة
وصيّتي الأخيرة : لا تجعلوا ابنائكم ظلالا ، فكل فردٍ مهم بهذه الحياة .. عشتم وعاشت اسبانيا !!))
*الظلّ الملكي*
مذكّرات : الخروف الأسود
*****
ملاحظة :
هذه القصة استوحيتها من احداثٍ حقيقية لأميرتيّ اسبانيا .. شاهدوا الفيديو الذي استلهمت منه القصة:
https://www.tiktok.com/@britishroyaltypulse/video/7585889489193536798?_r=1&_t=ZS-92QpMRkHfI9

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق