الجمعة، 27 أكتوبر 2023

طوفان المشاعر

تأليف : امل شانوحة 

العدالة الإلهيّة


في سجنٍ للمعتقلين السياسيين ببلدةٍ عربيّة.. واثناء تعذيب الضابط لشابٍ في زنزانةٍ مُنفردة.. توقف عن جلده ، بعد سماعه صراخ الناس من خارج السجن الموجود على اطراف بلدةٍ ريفيّة ! 

قبل أن يتعالى نداء العساكر الذين يركضون بفزعٍ بين العنابر :

- إنفجر السدّ .. إهربوا بسرعة !! 


ولم يستوعبا ما حصل ! حتى وصلت المياه خارج السجن ، لمستوى النافذة العلويّة للطابق الأول (خلف الزجاج العازل) 

وهذا يعني ان المياه غمرت قبوّ السجن التي فيها مكاتب العساكر بالطابق الأرضيّ ! وذلك بعد انفجار السدّ المُستخدم لريّ الأراضي الزراعيّة الموجودة بمحيط السجن الكبير ! 


فحاول الضابط النجاة بنفسه .. لكن الباب الحديديّ علِقَ بعد تدافع اغراض السجن خلفه ، التي جرفتها مياه الطوفان ! 

فصرخ السجين :

- فكّ وثاقي لإساعدك بفتحه .. ماذا تنتظر ؟!! سنغرق سويّاً


فأسرع الضابط بفكّ سلّسلته الحديديّة .. ليقوم الإثنان بسحب الباب للخلف بكل قوّتهما ، حتى فتحاه بصعوبة .. 

وبدآ السباحة للوصول لأدراج الطابق الثاني .. حيث استطاع السجين الصعود اولاً ، مُتجاهلاً آلام الجلد على طول ظهره !  


وعندما وصل لأعلى الدرج ، شاهد الضابط (الذي عذّبه) يُصارع للوصول اليه .. فنزل اليه ، وهو يمدّ يده نحوه : 

- إعطني يدك !!

ورغم صدمة الضابط من مساعدة السجين له ! لكنه امسك يده بقوّة 


ثم صعدا الأدراج .. حتى وصلا لعنبر المساجين الذين كانوا يطرقون قضبانهم بأكوابهم الحديديّة ، وهم يطالبون بفتح زنازينهم قبل وصول المياه اليهم !

فقال السجين للضابط : 

- هات المفاتيح !! علينا مساعدتهم

الضابط : لا وقت لذلك .. فماء السدّ سيغمر السجن كلّه ،علينا الوصول للسطح حالاً!!


وسبقه بصعود الأدراج ! فلم يكن امام السجين إلاّ الّلحاق به ، بعد وصول المياه الضحلة الى الزنزانات على طرفيّ العنبر الطويل !

^^^


وحين وصلا للباب الحديديّ .. فتح الضابط قفله ، وخرجا لسطح السجن 

ثم أقفلا الباب خلفهما ، بعد أن إوشكت المياه على الوصول اليهما ! وهذا يعني انهما الناجيان الوحيدان في السجن 


فوقفا مذهولان امام سور السطح .. وهما يشاهدان غرق المدينة الريفيّة بالكامل ، بأراضيها ومبانيها التي تهدّمت بقوّة السيل ! 

بعكس المبنى الخرسانيّ للسجن الذي لم يتزحّزح من مكانه ، ليصبح وسط بحيرةٍ من الأمواج الطينيّة العاتية التي جرفت معها كل مظاهر الحياة في المنطقة ! 


فلم يكن امامها سوى الجلوس على السطح في انتظار قدوم المساعدة ، التي لن تأتي لحين إفراغ السدّ لمائه وتوقف الطوفان !

***


بعد هدوء الوضع ، قال الضابط وهو ينظر للسماء :

- أتمنى ان تأتي المساعدة قبل حلول المساء 

- تبدو قلقاً ! هل اهلك يسكنون بهذه المنطقة ؟

فردّ الضابط بنبرةٍ حزينة : انا لا اهل لي

السجين باستغراب : ماذا تقصد ؟!

- عائلتي تبرّأت مني بعد معرفتها بوظيفتي الوحشيّة ، كما وصفوها ! ولم تقبل أيّةِ عائلة بتزويجي ابنتهم ، رغم راتبي الكبير ! لهذا لن يهتم احدٌ لموتي .. ماذا عنك ؟

فابتسم السجين ساخراً : يعني اثناء تحقيقك معي ، سألتني عشرات الأسئلة عن علاقتي بالدولة والسياسة والمعارضة والأسلحة والعالم أجمع .. والآن تريد التعرّف على حياتي الخاصّة ؟!

فأجاب بلؤم : نحن عالقان هنا ، وحديثي معك هو لتمضيّة الوقت فحسب 


السجين : حسناً لا تغضب .. (ثم تنهّد بحزن) .. لي خمسة اخوة .. ووالدي متوفي .. وامي مرضت بعد اعتقالي ، ولا ادري ان كانت بخير ام لا !

الضابط : وهل انت متزوج ؟

- كنت خاطباً قبل عامين من اعتقالي .. ولا ادري إن كانت تنتظرني ، او عدّتني ميتاً كبقيّة السجناء !.. وانت ، الم تحب من قبل؟

- لم اعرف الحب في حياتي 

السجين بتهكّم : هذا طبيعي

- أتقصد لأنّي أُعذّب المُعتقلين ؟ 

- برأيّ لا يمكن لشخصٍ طبيعيّ ان يعذّب إنسان بهذه الوحشيّة!


فتنهّد الضابط بحزن : والدي كان ساديّاً ، ويستمتع بتعذيبي .. 

- ولماذا !

- لأني اشبه امي التي تخلّت عنه ، وتزوّجت برجلٍ آخر .. لهذا أفرغ غضبه عليّ .. ورغم تزوّجه بغيرها وإنجابه لثلاثة اولاد ، لكنه ظلّ قاسياً معي ! ولم يسمح بتقرّبي من إخوتي ، ارضاءً لزوجته ! 


ثم عمّ الصمت لبعض الوقت ، قبل أن يسأله السجين :

- عندي فضول لمعرفة كم شخص عذّبت حتى الآن ؟

الضابط : أعمل بهذه المهنة منذ 12 سنة .. كل شهر يحضرون لنا عشرة اشخاص للتحقيق معهم .. فأقوم بتعذيب اثنين منهم على الأقل .. إحسبها انت !! 

السجين : وهل كان حلمك العمل بالسجون ؟

- وهل يتمنّى أحد تلويث سمعته بهذا المستنقع القذر ؟

- اذاً كيف وصلت الى هنا ؟


الضابط : بعد ان طردني ابي من بيته ، عملت في الجيش للحصول على السكن والطعام المجانيّ .. وبدأت أترقّى شيئاً فشيئاً ، الى ان وظّفوني هنا .. ومع الوقت أصبحت بلا قلب ، كبقيّة عساكر السجن!

- وكيف تنام بعد سماعك لكل هذا الأنين والصراخ ؟!

- لم أنمّ منذ عشرين سنة إلاّ بحبوب المنوّم ، بعد تعافيّ من المخدرات التي أدمنت عليها لأربع سنوات

السجين : اذاً ضميرك يؤنّبك من وقتٍ لآخر ؟!

- وهل تظنني وحشاً ؟!.. بالطبع يؤنّبني !! بل يقتلني احياناً 

- وماهي الضحيّة التي لم تنساها ابداً ؟


فسكت الضابط مُطوّلاً ، وكأنه يسترجع ماضيه الأليم : 

- صبيّ في 14 من عمره .. كان جميلاً للغاية ، وكأنه ملاكٌ من الجنة .. تناوب عليه الملاعين للإعتداء عليه ، بينما أراقبهم من بعيد .. الى أن زحف المسكين نحوي ، وقبّل حذائي وهو يترجّاني بقتله ! وعندما طلب مني الرقيب الضخم ، إحضاره اليه.. أرحته من عذابه ، برصاصةٍ في رأسه ..ليتناثر دماغه على ثيابي .. ولم أنسى كلماته الأخيرة حتى اليوم : ((عمي تبدو رحيماً ، رجاءً أقتلني)) .. ناداني باحترام رغم معاناته ، وهذا ما يجعلني أنهار كل ليلة !


السجين : رحمه الله .. حسناً ، ومن هو اكبر ضحاياك ؟

- رجلٌ كهل ، في التسعين من عمره .. رفض أخذنا حفيده للتحقيق ، بعد مشاركته بمظاهرةٍ مُعادية للرئيس.. فصفعته بقوّة ، لإبعاده عن طريقي .. فارتطم رأسه بطرف الكنبة ، ومات على الفور .. أكاد أجزم أنه بحياتي كلّها ، لم أرى وجهاً مُنيراً كوجهه ! ولوّ استغفرت ربي طوال عمري ، لن يسامحني على قتلي العجوز الصالح ..


ثم ابتعد عن السجين ، كيّ لا يرى دموعه .. وأخذ يراقب السيل بهدوء ، قبل أن يقول :  

- إنحسر الطوفان بعد سحبه الجثث الى النهر ! قريباً ستأتي المساعدة ، اما بالهليكوبتر او بقوارب النجاة ..لكني لا اظنهم سيخاطرون اليوم ، فالشمس على وشك المغيب 

السجين : المهم أن يأتوا غداً باكراً .. برأيّ ان ننام ، قبل ان يشتدّ جوعنا

- طبيعي ان تكون مُتعباً ، بعد جلدي لك بعنف .. هيا حاول النوم ، لربما خفّ ألمك قليلاً 

- وماذا ستفعل انت ؟

الضابط : سأسهر قليلاً مع ذكرياتي اللعينة 


وما ان وضع الشاب رأسه على ارضيّة السطح ، حتى غفى سريعاً من شدّة تعبه 

***


في الصباح الباكر ، استيقظ الشاب .. ليرى الضابط يخلع بذلته العسكريةّ ، ويبقى بثيابه البيضاء !

- ماذا تفعل ؟!

الضابط بقهر : حديثنا البارحة ، جعلني أتذكّر جميع الأشخاص الذين ماتوا تحت تعذيبي .. فتأكّدت أنه لا يمكنني متابعة الحياة ، بهذا القدر من تأنيب الضمير .. خاصّة بعد ظهورهم في منامي الليلة الماضية ، وهم ينتظرون مُحاسبتي ! 

- ولما خلعت بذلتك ؟

- لتلبسها انت !! فقريباً ستحضر قوى الأمن والدفاع المدني لإخلاء الناجين .. وان رأوك بملابس السجناء ، سينقلونك لسجنٍ آخر.. لهذا إلبس زيّ العسكريّ ، مُدعياً شخصيّتي .. فهم لن يعرفوا شكلي ، دون اوراقي الرسميّة .. وبعد نقلك من هنا ، تودّع أهلك قبل هروبك لخارج البلاد بهويّةٍ مزوّرة .. فهو الحلّ الأمثل لعدم عودتك لسجونهم المرعبة 

السجين : وماذا ستفعل انت ؟

- سأنال عقابي ، قبل جفاف السيل 


ووقف على سور السطح .. فحاول الشاب الّلحاق به ، وإيقافه .. لكنه قفز للإسفل باتجاه المياه الضحلة التي أغرقته بثواني !

***


بعد مشاهدة موته ، لمح الشاب قارباً فيه اربعة عساكر مُتوجهين نحو مبناه (الوحيد الباقي في المنطقة) للبحث عن ناجين .. 

فأسرع الشاب برميّ ملابس السجناء من فوق ، ليجرفها السيل بعيداً 


وفور لبسه الزيّ العسكري ، سمع ضابطاً يناديه (بمكبّر الصوت) من القارب :

- انت ايها العسكريّ !! هل يوجد ناجين غيرك ؟!!

فعرّفَ الشاب عن نفسه بإسم الضابط المُنتحر ، وبأنه الناجي الوحيد بالسجن !

***


بعد نقله لمكانٍ آمن .. أسرع الى بلدته ، للقاء عائلته الذين أخفوه عن الأقارب والأصدقاء لحين تهريبه ، خوفاً من سجنه مُجدّداً ! 


وقد وافقت خطيبته على الزواج به .. فأقاموا حفلاً بسيطاً دون موسيقى ، كيّ لا يعرف الجيران بوجوده .. ثم نقلوه مع زوجته (بهويّته الجديدة) للعيش بأمان في دولةٍ اجنبية ، بعيداً عن حياة الذلّ والتعذيب في وطنه الغالي ! 


هناك 10 تعليقات:

  1. هذه من القصص الفخورة بها .. اتمنى ان تعجبكم .. ((ورحم الله شهداء سدّ درنة الليبيّة))

    ردحذف
  2. يا الهي .. شعرت بغصه وانا اقرأ القصه ، بعض السجناء يستحقّون التعذيب حتى الموت .. لكن بعضّهم ابرياء .. وحُكِم عليهم بالظلّم .. فاليفرج الله عنهم ، واليخفّف العذّاب عليهم ، فاليبعدنا الله عن هكذا بلاء .. صحيح .. أتت في وقتها !! يقولون بعض الناس ، ان ما حدث بالمغرب وليبيا .. كان من أيدي الماسيون او الماسون كما يسمونهم ! ليس لهذه الدرجه .. يستطيعون صنع اعصارٌ مُدمّر ، والهزّات الارضّيه .. حتى عندما تكلّموا عن انقطاع الأنترنت .. قالوا بسبب الماسيون !! .. ألم يقولوا كوكباً سيضرب الطاقه الشمسّيه .. فما دخلّ هولأك بالأمر ؟!
    جميعها من عند الله .. وقد تسألت كثيراً .. اليس الله بغفورٌ رحيم .. فلِما لا يخفّف العذاب على عباده ، اعلم بأنهم تجاوزوا حدودهم .. لكن لا نّنسا بأن هناك مظلّومين .. وكذلك حرب غزه .. يستطيع الله ان يقذّف رحمته عليهم .. لِما لا يفعل ؟ فالأمر لا يُطاق ابداً .. اغمض عينّي وافتحهُما .. وانا لا زلّت افكر بالاطفال ، مقاطعّهم حزينه ومؤلمه !! اعانهم الله ..

    ردحذف
    الردود
    1. اسف .. لم انتبه ، لكن ماذا تعني السياسه ؟ اتذكر بأن هناك شخص اخبرك بالتعليقات بأنه سُجن بسبب الكلام .. انتي قدّمتي له النصيحه .. يعني لا تزال للأن هناك سجن للمعتقلين السياسيين .. لكن عن ماذا يتكلمون؟ مثلاً ؛ لو كان هناك شخص من السياسه ، وكان يسرق بأموال الدّوله .. وانا اعرفه .. وابلغت عليه ، هل سيسجنونّي ؟ ام لا
      وكيف يتم سجنهم ؟ .. ليس جميعهم شهداء ، يوجد منهم الكافر " أي الساحر" ويوجد تاركِ الصلاة .. وكذلك المجرمين ، انا لم اقصد شهداء غزه المساكين .. بل الاطفال ، ولا اقصد الشهداء .. بل الذين فارقوا أهالّيهم بالاحتلال ، بكائهم وكلماتهم مؤلمه .. تركهم الله بلا اهالي ، لما لا يرحمهم ؟ باخذ ارواحهم او ترك اهاليهم .. وليس ان ياخذ عائله بأكملها ويترك شخصً واحدً ! هذا ليس عادلاً ابداً !!

      حذف
    2. جميع الدول العربية فيها سجن للصحفيين الأحرار او رجال الدين ، او للأشخاص الأبرياء الذين شاركوا في مظاهرةٍ ما .. اعانهم الله جميعاً ..

      اما عن فلسطين ، فالله يختار الشهداء من بينهم .. ومن بقي منهم ، سيكبر ليكون مجاهداً قوياً .. وربما هؤلاء الأيتام الصغار هم من سيحرّرون فلسطين غداً ، تكريماً لأرواح اهاليهم ..ثقّ اكثر بحكمة ربك ، فهو بالنهاية وعدنا بالنصر ولوّ بعد حين

      حذف
    3. اعانهم الله .. احقاً ستحدث حرب بالعراق ؟ اسمع الاخبار ، ولا افهم شيء !! لكن ما يقولونه الناس .. ان امريكا اخذت قاعداتها من بغداد ، وحذروا رئيس العراق .. وكذلك مَن يضع امواله بالصيرفات ، اخذوها لانهم قالوا ان سقط صاروخ على الصيرفات .. ستخسرون اموالكم .. وكل هذا لاننا ارسلنا جيشاً عراقيً لحماية الشعب الفلسطيني .. واخذوا قاعداتهم ، كي يسحقوا بغداد وما فيها

      حذف
    4. الله اعلم .. اكيد يخططون لدمار كل الدول العربية لإنشاء مملكة صهيون من النيل حتى الفرات ! لا نقول سوى ((يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين))

      حذف
    5. الله اليستر بالقادم ..

      حذف
  3. قصة جميلة جداً بارك الله فيك .. اني من ليبيا وكم ليا نستنى إنك تكتبي قصة عَ سد درنة وشهداء درنة ربي يرحمهم 🤍

    ردحذف
  4. القصه اكثر من رائعه عجبتني جداً

    ردحذف

العقد الأبدي

كتابة : امل شانوحة  العاشق المهووس رغم وسامة إريك إلاّ أن الطلّاب تجنّبوا مصاحبته في مدرسته المتوسطة ، لغرابة طباعه ! فوالداه وأخوه الكبير م...