الخميس، 20 نوفمبر 2025

الإرث الحقيقي

تأليف : امل شانوحة 

العم القروي


في ذلك النهار ، بالقرية الزراعية .. تلقى صفوت (الرجل الخمسيني) إتصالاً من المحامي ، يخبره عن وفاة اخيه الأصغر وزوجته بحادث سير ! وأن عليه القدوم للمدينة ، لاستلام الميراث


ورغم قساوة الخبر ، الا ان الأخ الأكبر بدا متماسكاً بعد وصوله لمكتب المحامي الذي كان مُتعجباً من عدم حضوره مراسم دفن وعزاء أخيه الوحيد !

فرد الأخ الكبير بقسوة :

- توفيّ وانتهى الأمر ، إخبرني بورث العاقّ

فطلب المحامي من سكرتيرته ، إدخال الأمانة..

فإذّ بولديّن وفتاة يدخلون المكتب ، والحزن واضحاً على وجوههم الصغيرة! 

ثم بدأ المحامي بالتعريف عنهم :

- هؤلاء هم ابناء اخيك الأصغر


فنظر اليهم العم ، بلؤم .. وهو يحاول كتمان مشاعره الحقيقيّة ، بعد رؤيتهم لأول مرة ! 

بينما اكمل المحامي كلامه :

- الإبن الأكبر 14 سنة .. سمّاه اخوك على إسم جده .. فتحي .. والإبن الأصغر عمره 8 سنوات .. وسمّاه على إسمك انت !! صفوت 

فتفاجأ العم من هاذين الأسميّن ! بينما اكمل المحامي كلامه : 

- اما الفتاة ، فعمرها 11 سنة .. وهي على إسم جدتها .. زينب

فقال العم ساخراً : وهل وافقت امهم .. ابنة الذوّات .. على هذه الأسامي البلديّة ؟!

فردّ فتحي (ابن اخيه الأكبر) : 

- رجاءً عمي .. لا تخطئ بحق امي ، فهي الآن في ذمّة الله 


فتجاهل العم كلامه ، مُحدّثاً المحامي : 

- ولما جمعتني بهم ؟ الم تتصل بي لأجل الميراث ؟ 

المحامي : هؤلاء هم ثروّة اخيك .. فالبنك استولى على منزله وسيارته ، لدفع قروضه المتأخرة .. ولم يبقى من إثره ، سوى ابنائه الثلاثة

فنهض العم عن الكنبة ، وهو يقول بعصبية :

- ما هذه المهزلة ؟!! أأحضرتني من القرية ، للإعتناء بهؤلاء الأيتام !

المحامي : انت قلتها بنفسك .. ايتام ، وليس لديهم احدٌ سواك

العم بتهكّم : وماذا عن جدتهم الثريّة ؟  

المحامي : اخوك تزوّج ، رغم معارضة حماته (تعيش ببلدٍ اوروبيّ) التي قاطعت ابنتها الوحيدة ، فور خطبتها من ريفي بسيط .. لهذا لم تحضر دفنها وعزائها ! 


وهنا قالت الصغيرة بخوف : عمي رجاءً !! إن رفضّت الإعتناء بنا ، سيفرّقونا بدور الأيتام .. وانا لا اريد الإبتعاد عن اخوايّ 

العم بعصبية : مالا تعرفونه عن ابيكم .. انه باع نصيبه من ارض جدكم ، لعدوّ عائلتنا ، لتوفير مصاريف زواجه من امكم !! وبسببه ، مات ابي قهراً .. بينما أجبرت انا على مقاسمة بئرنا مع ذلك الحقير الذي نغّص حياتي لسنوات.. فلما عليّ دائماً تحمّل افعال والدكم الخرقاء ؟!! 

ثم قال للمحامي :

- هؤلاء الأولاد لا يعنوا لي شيئاً !!

فردّ المحامي : لكن سيد صفوت ، انت لم تتزوّج مطلقاً .. وهؤلاء الأولاد سيكونوا..

العم مقاطعاً : لن يكونوا يوماً في مقام اولادي !! فوالدهم اللعين تزوّج من غير بيئتنا ، لذا لست مسؤولاً عن هؤلاء الغرباء !!

 

وقبل خروجه من المكتب ، امسك الصغير يده : 

- دائماً ما سخر زملائي بالمدرسة من إسمي الذي يبدو اكبر من عمري ! لكني كنت اجيبهم بفخر ، انه اسم عمي .. رجاءً خذنا معك ، لرؤية المنزل الذي تربّى به والدنا 


كلامه الرقيق ، حرّك مشاعر العم الذي تفحّص يد الصغير :

- يداك باردتان كوالدك ! كنت دائماً احرص على تغطيته في الليالي الباردة ، خوفاً من اصابته بالحمى .. فهو كان هزيلاً مثلك

صفوت الصغير : اذاً كنت تحب ابي !

فسكت العم بامتعاض ، لتقول الفتاة : 

- هل مازلت تحتفظ بزيّ الضابط الذي اشتريته لوالدي بعيد ميلاده العاشر ، من مصروفك الخاص ؟ 

العم بدهشة : كيف عرفتي بتلك الهدية ، يا زينب ؟!

فأجابته بابتسامة : أخبرنا والدنا الكثير عنك

صفوت الصغير بحماس : وأخبرنا كيف قتلت الذئب الذي سرق دجاجاتكم!!

فتحي (الإبن الكبير) : وأخبرنا كيف اهتتمت به ، بعد وفاة امكما وهو طفلٌ صغير ..وكيف ضُربت من جدي بدلاً عنه ، لتحمّلك اخطائه المتهوّرة بعمر المراهقة

زينب : وكيف اطفأت نار العشب التي اولعها ابي بمفرقعاته ، والتي كادت تُشعل المزرعة بأكملها .. لولا بطولتك بإطفائها بيديك !

وعاد الصغير لمسك يد عمه المشوّهة :

- هل مازالت حروق يدك تؤلمك ، عمي ؟!  


وهنا نظر العم للمحامي الذي كان يشير برأسه بعدم التخلّي عنهم ، ليعود وينظر للأولاد وهو يقول : 

- أظني بحاجة لعمّال في ارضي


فقفزوا فرحاً بعد علمهم ببقائهم معاً ، برعاية عمهم الذي تضاربت المشاعر داخله : بين رغبته الإهتمام بهم ، وبين قهره من زواج اخيه الخاطئ الذي دفع ثمنه غالياً !

***


في قطار العودة للقرية.. جلس الأولاد الثلاثة بأدب دون التفوّه بكلمةٍ واحدة ، وهم ينظرون للأراضي الزراعية بذهول ! 

ليفاجئهم عمهم بشراء بعض الحلوى من بائعٍ يتجوّل بين الركّاب ! فأكلوها بنهم ..  فعلم بجوعهم ، لكنه التزم الصمت

***


عندما وصلوا لمنزله مساءً ، اخذوا يتأمّلونه باستغراب ! 

فقال العم :

- المنازل بالقرية مصنوعة من الطين والقشّ ، وليس الإسمنت كما في شقتكم بالمدينة.. لكنه دافىء شتاءً.. والآن ادخلوا تلك الغرفة ، ستجدون فراشاً كبيراً على الأرض .. ستتقاسموه بينكم ، فهو مكان نومكم

فتحي : حسناً ، سنغيّر ملابسنا اولاً

وأخذ اخوته الصغار ، وهو يجرّ حقيبة ملابسهم الى غرفتهم

^^^


بعد قليل .. دخل العم ، ليراهم مستلقيين بالفراش : 

- ماذا تفعلون ؟!

فتحي : أحاول تنويم اخوتي ، كما طلبت

العم : لن تناموا وانتم جوعى .. هيا للعشاء !! 

فنهضوا سعداء ، لأنهم كانوا يتضوّرون جوعاً .. لكنهم خافوا سؤاله عن الطعام


وجلسوا بجانب عمهم وهم يتناولون الفول والخبز البلدي ، بعد افتراشهم الأرض 

لينتبه العم على ارتباك الصغير ! فسأله : 

- مابك لا تهدأ يا ولد ؟!

فردّ أخوه الكبير : رجاءً لا تغضب منه ، فهو متعوّد على الأكل على المائدة .. لكن سيتعوّد مع الوقت 


فسكت العم قليلاً ، قبل ان يقول :

- سأطلب من الخيّاط القدوم الى هنا غداً ، لأخذ مقاساتكم

زينب : نحن لدينا ملابس ، يا عمي !

العم بحزم : ملابس المدينة لا تنفع في الأرض الموحلة ، لأنكم ستعملون بجهد !! فالحياة معي ، لن تكون بالمجّان 

الصغير : وماذا عن المدرسة ؟

فأشار اخوه الكبير (بأصبعه على فمه) بأن يصمت .. لكن زينب تنهّدت بحزن : 

- كنت بارعة بالدراسة

العم : نحن مازلنا بالعطلة الصيفيّة

زينب بارتياح : أتقصد انك ستسجّلنا في المدارس ؟!

العم : حسب جهدكم بالزريبة والأرض طوال الصيف

الأخ الكبير بقلق : وهل هناك مدارس بالقرية ؟

العم : مدرسةٌ واحدة لجميع المراحل ، لكن شهادتها معترفٌ بها في الدولة

زينب : وهل يدرسون الإنجليزية ؟

العم : لا ، يركّزون على العربي والدين والحساب


فشعر الأخوان الكبار بالقلق ، لعدم استفادتهم من شهاداتهم لاحقاً .. بينما كان الصغير منشغلاً بانهاء صحنه ..

العم : عليكم النوم باكراً .. فغداً فجراً ، تبدأون بأعمالكم الروتينية .. انا ذاهبٌ الآن عند جارتي ، فهي لديها اولاد بمثل عمركم .. سأستلف منها ملابس تفيدكم بالعمل ، لحين انتهاء الخيّاط من ملابسكم الجديدة .. زينب !! إجلي صحون اخوتك ، قبل نومك .. وانت ايها الصغير !! اياك تلويث الفراش ليلاً 

الأخ الأكبر : لا تخف عمي ، سأوقظه آخر الليل لدخول الحمام 

العم : جيد !! انتبه على اخوتك .. فلا طاقة لي بذلك

***


قبل شروق الشمس ، ايقظهم العم لصلاة الفجر (خلفه بالصالة) 

ورغم نعاسهم الا انهم كانوا سعداء بوجودهم معه ، بعد فقدهم والديهما 


وبعد انتهاء الصلاة ، لاحظ فتحي دموع عمه .. فسأله بقلق : 

- هل هناك خطبٌ ما ؟!

- تذكّرت والدك ، عندما كنا نصلي خلف جدك .. فهو لم يكن اخي الصغير فحسب ، بل طفلي المشاغب .. لكنه بالنهاية باعني بثمنٍ بخس ، لأجل امرأة من المدينة

فتحي : اعتذر منك عن خطأ والدي ، لكنه كان مغرماً جداً بأمي

العم : هذا ليس ذنبك.. المهم ان تنتبه على اخوتك 


وابتعد عنه ، قبل سقوط دمعته .. فعلم فتحي بأن عمه حنون ، لكنه مقهور على خسارة اخيه الأصغر !

***


وتوالت الأيام ، إهتم فيها الصغار بقطف القطن من مزرعة عمهم .. مع حلب البقر وإطعام الدجاج ، منذ شروق الشمس حتى غروبها .. وما ان يصلوا الى فراشهم ، حتى يناموا سريعاً من شدة تعبهم ! 


بينما يراقبهم العم من بعيد وهو يخفي شعوره بالفخر ، من نشاطهم واتقانهم للعمل بوقتٍ قصير !

***


وذات يوم ، رأى الصغير يلعب بالدرّاجة ..

العم بدهشة : من اين اتيت بها ؟!

صفوت الصغير بحماس : وجدتها بعليّة منزلك !!

- ومن سمح لك الصعود الى هناك ؟!

- كنت اشعر بالمللّ .. فلمن هذه الدرّاجة ؟!

فتنهّد بحزن : لوالدك عندما كان بمثل عمرك 

- آه ! انت اشتريتها له من مصروفك ، بعد نجاحه بالمدرسة .. فهو أخبرني بأنها كانت اجمل هدية منك 


فسكت العم بحزن ، وهو يتذكّر علاقته الجيدة بأخيه في الماضي .. بينما اكمل الصغير كلامه :

- هل تسمح لي بركوبها يومياً ؟

العم : فقط عصراً ، بعد انهاء عملك بالمزرعة


فأشار الصغير بأصبعه ، للنزول اليه .. فأخفض العم رأسه ، ليتفاجأ بتقبيل صفوت وجنته ! ثم قاد درّاجته بسرعة نحو الزريبة ، لإخبار اخويّه بشأن الهديّة


بينما صعد العم للعليّة التي لم يفتحها منذ رحيل اخيه للمدينة .. وأخرج اغراضه القديمة من حقيبةٍ مقفلة .. وما ان شاهد صورتهما معاً ، حتى انهار ببكاءٍ مرير .. وهو يتساءل بقهر :  

((لما فعلت ذلك ؟ لما تخليّت عني ؟ فأنا اهتمّمت بك طوال حياتي ، ولم ابخل عليك بشيء.. وتركتني لأجل امرأة لا تناسب عائلتنا ، وأمتّ ابي قهراً .. سامحك الله يا اخي المشاغب !)) 


وصار يقبّل صورته بقهر ، دون انتباهه على فتحي (الأبن الكبير) الذي راقبه من باب العليّة (كان قدِمَ لشكره على درّاجة اخيه) .. والذي اكتفى بنزول الأدراج بهدوء ، دون ازعاج عمه الذي اكمل نهاره وهو سارح بذكريات الماضي

***


في اليوم التالي .. لم يخرج العم من غرفته طوال النهار ، على غير عادته! 

فذهبت الصغيرة للإطمىنان عليه ، لتجد حرارته مرتفعة ! (يبدو ان بكائه البارحة على اخيه ، أمرض جسده) 


فحاولت مناداة اخيها الأكبر ، لتراه مع الجار يعلّمه قيادة الجرّار الزراعيّ .. بينما اخيها الصغير منشغلاً بإطعام الدجاح ! 


فسارعت للمطبخ لإعداد الشوربة لعمها .. ثم جلست امامه ، لتغيير الضمادات الباردة ، على امل إخفاض حرارته

واثناء مساعدة عمها على شرب الشوربة ، سألها : 

- من علمك اعداد هذه الشوربة اللذيذة ؟!

زينب : امي ، فقد كان طبخها لذيذٌ جداً

العم باستغراب : ظننتها تعتمد على الخدم !

زينب : امي كرهت حياتها بقصر جدتي التي أجبرتها على التعلّم بالمدراس الداخلية .. حتى أيام العطل ، إنشغلت عنها بتجارتها الخارجية ! فمعظم طفولتها قضتها مع مربيات مختلفات .. لهذا اقسمت على تربيتنا بنفسها .. وكانت اجمل اللحظات ، عندما كنت اساعدها بإعداد الحلوى  

- وكيف كانت علاقتها بوالدك ؟

- كانا يحبان بعضهما جداً !! 

- الم يتشاجرا يوماً ؟!

- لا اذكر ذلك .. فهي اعتنت بأبي جيداً ، وكانت اماً رائعة .. وكنا نسمع ضحكاتها مع والدي ، عندما يشربان القهوة وحدهما على الشرفة .. (ثم تنهّدت بحزن) كانت حياتنا سعيدة بالفعل ! كم اشتقت لوالدايّ 

وارتمت بحضنه باكية .. ولم يستطع العم ابعادها ، واكتفى بتمسيد شعرها بحنان 

***


بعد شهرين من عيشهم بالقرية .. تفاجأ الأولاد الثلاثة بوجود حقائب مدرسيّة فوق فراشهم ! فسارعوا لغرفة عمهم ، وهم يسألونه : ان كان سجلّهم بالمدرسة مع بداية السنة ؟

فأجاب العم بابتسامةٍ حنونة : 

- الم يخبركم والدكم باهتمامي بدراسته ؟ رغم ان جدكم أجبرني على ترك الدراسة ، للعمل معه  

زينب : بلى !! أخبرنا بعشقك للعلم .. شكراً عمي لاهتمامك بنا ، كما فعلت مع ابي سابقاً 

العم : اذاً اذهبوا لكتابة اسمائكم على دفاتركم الجديدة ، فبعد يوم الغد سيبدأ عامكم الدراسيّ 


فذهب الصغار سعداء لغرفتهما ، بينما سأله الكبير بقلق :

- وماذا بشأن الزريبة والأرض ؟

العم : استأجرت عامليّن لمساعدتي غداً ، بدلاً عنكم .. فقد كبرت على الإهتمام بالأعمال وحدي .. المهم ان تنتبه على دراسة اخوتك ، ومن يصاحبون .. ولا تقلق بشأن المصروف .. يكفيني حصولكم على نتائج جيدة بالمدرسة 

فقبّل فتحي رأسه الشائب ، بينما اكتفى العم بابتسامة رضا 

***


ومرّت الأيام ، تعمّقت فيها علاقة العم بالأولاد الثلاثة .. خصوصاً الصغير الذي صار ينام بجانبه ، للإستماع لقصصه قبل النوم (بنهاية الإسبوع الدراسيّ) 

كما تعوّدوا على الذهاب معه للسوق والمطعم الشعبي ومنازل الجيران ، والإحتفال سوياً بالأعياد ... حتى بات اهالي القرية ينادونهم بأولاده !


وهو ايضاً شعر بذلك.. الى ان تفاجأ بمكالمة من المحامي يخبره : بأن جدتهم (والدة امهم) عادت من اوروبا .. وتريد نقلهم للمدينة ، للإهتمام بهم!

وجاء الخبر صادماً للعم ، وللأولاد الثلاثة الذين رفضوا ترك القرية بعد تعوّدهم على حياة الريف !

وترجّوا عمهم بعدم ارسالهم لجدتهم الأنانية التي لا يهمها سوى تجارتها الأوروبية ، وصديقاتها من الطبقة المخملية .. وعبّروا عن قلقهم من إهمالها ، كما فعلت بإبنتها الوحيدة


وبالفعل رفض العم ارسالهم .. لتسارع الجدة برفع قضية حضانة ، كونها الأقدر مادياً على الإهتمام بهم 

***


ومرّت القضيّة ببطءٍ شديد ، الى ان طلب القاضي سماع رأيّ الأولاد الثلاثة .. 

فبدأ الإبن الأكبر بالكلام :

- علّمني عمي ادارة الأعمال واسلوب التحدّث اللبق مع الكبار ، مع معاونتي بمسؤولية اخوتي .. فهو قوّم سلوكي ، ووجّهني لأكون رجلاً ناضجاً 

القاضي : وماذا عنك ، ايتها الصغيرة ؟

فمسحت زينب دموعها : احببته كوالدي .. فهو حنونٌ جداً ، وإن كان لا يظهر ذلك .. لكني المحه كل ليلة ، وهو يضع الحلوى في حقائبنا المدرسية.. كما اخاط لي دميةً صوفيّة.. اما جدتي !! فكانت تكتفي بإرسال الألعاب بأعياد ميلادنا ، دون رؤيتنا او التحدّث معنا بالهاتف ! فهي لم تشعرنا بحنانها ، ولم تخبرنا القصص الجميلة ، كما فعل عمي بالليالي الباردة .. وأجمل شيء نفعله معه ، هو صلاتنا خلفه .. وتحفيظنا القرآن برمضان ..

وهنا اكمل الصغير الكلام : كما اخذنا للملاهي الجميلة !!

فوقفت الجدة وهي تقول بامتعاض :

- تلك ملاهي شعبيّة .. وإن بقيتم معي ، سآخذكم لملاهي ديزني الشهيرة  


لكن الأولاد الثلاثة لم يشعروا بالحماس ، كما توقعت !

الصغير : بل أُفضّل المراجيح الخشبيّة مع عمي الذي يلاعبنا ، وهو يغني لنا الأغاني الشعبية 

فردّت الجدة باشمئزاز : 

- يبدو لديكم نفسيّة الفقراء ، كوالدكم الريفيّ .. والغبية ابنتي ، فضّلته عليّ ! رغم إنفاقي اموالاً كثيرة ، لتعليمها بأحسن المدارس 

زينب مقاطعة بعصبية : تقصدين المدارس الداخلية !! حتى أيام العطل ، كنت ترسلينها للمعاهد والتخييم الكشفيّ .. انت لم تهتمي بمشاعرها مطلقاً!!

الجدة : كنت منشغلة بتجميع ثروّةٍ مالية لها 

زينب : هي لم تكن تريد مالك ، بل حضنك وأمومتك .. 

الأخ الأكبر : وهاهي امي ماتت الآن ، فما استفادت من ثروّتك يا جدتي ؟

زينب : ابي عوّضها عن حنانك .. فهي عاشت معه اجمل 15 سنة في حياتها

الجدة بحزم : ان لم تكفّوا عن تصرّفاتكم المشاغبة ، سأحرمكم الميراث !!

الأخ الكبير : لا حاجة لنا بمالك !! فعمي يوفّر لنا كل شيء


وهنا رنّ جوال الجدة : 

- آسفة سيدي القاضي .. سأخرج من القاعة ، لردّ على عميلٍ مهم لشركتي

القاضي : يبدو ان عملك اهم من سماع حكمي النهائي بشأن حضانة احفادك ! لهذا لن اطيل عليك 

وضرب بالمطرقة بقوة على طاولته ، وهو يقول :

- حكمت بالحضانة ... لعم الأولاد !!


فقفزوا فرحاً وهم يحتضنون عمهم بسعادة .. بينما خرجت الجدة غاضبة من المحكمة ، رغم اخفاء ارتياحها من مسؤوليتهم (فهي رفعت القضية ، لحماية سمعتها بين افراد مجتمعها المخمليّ) .. حيث سارعت تلك الليلة ، للعودة لأوروبا .. لمتابعة اعمالها التجارية ، دون اكتراثها لخسارة احفادها! 

^^^


بينما عاد الأولاد الثلاثة مع عمهم ، لمنزل جدهم بالقرية .. مُفترشين الأرض ..وهم يتناولون عشاءً بسيطاً ، اثناء استماعهم لقصته الجديدة 

 والتي ما ان انتهت ، حتى فاجأته الصغيرة بسؤالها :

- عمي .. لما لم تتزوّج حتى اليوم ؟!


فأخبرهم أنه عشق ابنة الجيران التي فضّلت الزواج من رئيس بلدية القرية المجاورة الذي كان بعمر والدها .. مما كسر قلبه ! 

وعندما قال اسمها الكامل ، شهقت زينب بدهشة :

- زميلتي بالمدرسة من نفس العائلة ! أُيعقل ان حبيبتك هي عمتها؟!


لكن العم نبّهها بعدم فتح الموضوع مع زميلتها ، كون حبيبته السابقة متزوجة حالياً .. وسارع لغرفته ، قبل رؤيتهم دموعه .. لكن زينب كان لها رأياً آخر 

***


بعد ايام .. تفاجأ العم بالمراهق فتحي يحفر وسط الأرض !

- لما تنبش ارضي ، يا ولد ؟!!


فأخبره انه اثناء وجودهم بالمدينة (لحضور قضيّة الحضانة) بحث بالإنترنت عن طريقة لإيجاد الآبار الخفيّة ، بواسطة انحناء العصا من الأرض الرطبة .. وانه متأكّد من وجود الماء بهذه البقعة من ارض عمه الذي طلب من خبير القرية الحفر هناك .. 


وبالفعل ، لم ينتهي الصباح حتى خرج الماء بغزارة من الأرض ! مما جعل العم يحتضن فتحي بفخر ، لأن هذا البئر سيخلّصه من شريكه الشرير (الذي باع اخوه نصيبه له) ليفاجئه فتحي بقرارٍ آخرٍ حكيم :

- طالما اخبرتني ان قانون القرية يمنع بناء الأسوار بين الأراضي المجاورة ، فما رأيك بزراعتنا الصبّار الشائك على حدود ارضنا ؟ فهذا سيمنع ثور جارك الخسيس من اكل محصولنا 

فعاد العم لاحتضانه من جديد ، وهو يقول بفخر :

- انت عبقريّ كأبيك !! سنفعل ذلك بعد انتهائنا من بئرنا الجديد .. صحيح ان والدك اوقعني بمشاكل مع ذلك الشرير ، لكن بذكائك حللت المشكلة التي اتعبتني لسنواتٍ طويلة .. (ثم نظر للسماء) .. دعنا نعود للمنزل ، فالشمس على وشك المغيب 

^^^ 


بعد العشاء .. دخلت زينب الى غرفة عمها قبل نومه ، لإعطائه رسالةً ما.. وهي تقول بارتباك :

- اعرف انك طلبت مني عدم التدخّل بشؤونك العاطفية .. لكني اخبرت صديقتي بكل شيء .. والمفاجأة ان زوج حبيبتك مات قبل سنتين ، ولم تنجب منه ، كونه كبير بالعمر .. وعندما علمت بأني قريبتك ، ارسلت مع صديقتي هذه الرسالة 

- أهذه الرسالة منها ؟!

- نعم ، من حبيبتك السابقة .. واحلف انني لم اقرأها


ثم خرجت من الغرفة ، ليقرأ الرسالة بيدين مرتجفتين .. مكتوباً فيها:

((اعرف انك غاضبٌ مني .. لكني لم أفضّل زوجي عليك ، لأنه ميسور حال .. فما لا تعرفه ، ان والدي كان مديناً له .. وكان سيخسر مزرعته .. فزوّجني غصباً عني ، لسداد ديّنه .. لكني ادّعيت امامك ، برغبتي بماله .. خوفاً ان تبيع نصيبك من الأرض ، لسداد دين ابي .. وبذلك تقهر والدك ، كما فعل اخوك .. لكني مازلت احبك ، فأنت حبي الأول والوحيد))


بعدها سمعت زينب (التي كانت تتنصّت على غرفة عمها) صوت بكائه المقهور .. فقالت بنفسها :

((والله لن اهدأ ، حتى أزوّجك حبيبتك .. فهذا واجبي ، لردّ جميلك عن اهتمامك بنا.. لكن عليّ العمل بسرّية))

***


وبالفعل ، اتفقت زينب مع صديقتها على توصيل الرسائل بين العاشقيّن .. الى ان اخبرت زينب تلك السيدة : بأن عمها يدعوها للإحتفال معهم ، بعيدٍ شعبيّ (دون علم عمها بالأمر) .. ليلتقي العاشقان اخيراً بعد فراق عشرين سنة .. حيث اعتزلا الجميع ، لتحدّث معاً اسفل شجرة التلّ .. بينما اهالي القرية يراقبونهما من بعيد ، لمعرفتهم بعشقهما القديم ! 


ولم ينتهي الحفل .. حتى اعلن العم امام الجميع ، خطبته لحبيبته القديمة ! لتعلو معها الزغاريد والتصفيق ، تهنئة للعريسيّن الجدد 

***   


وقد تعاهد فتحي لعمه بالإهتمام بإخوته ، ريثما ينتهي شهر عسله مع حبيبته التي سافر معها للمدينة .. 


وبعد اسبوعين .. عاد العريسان بعد ان اخبرت السيدة الأولاد الثلاثة ، بأنها ستكون بمقام والدتهما .. وقد احبوها بالفعل ، لتعاملها اللطيف معهم.. خاصة بعد تحسّن طباع عمهم الذي زاد رفقاً وحناناً بهم !

***


وفي احدى الليالي ، إفترشوا الأرض امام المدفأة .. وبعد ساعة ، نام الأولاد بجانب العم وزوجته قبل انهاء قصته الجميلة .. 

فنظر لزوجته وهو يقول بسعادة : 

- اخي ترك لي ، اجمل ثروّة بحياتي.. رحمك الله ، يا اخي الحبيب

وحضن زوجته بحنان ، وهو ممتنٌّ لله على عائلته السعيدة!


هناك تعليق واحد:

الإرث الحقيقي

تأليف : امل شانوحة  العم القروي في ذلك النهار ، بالقرية الزراعية .. تلقى صفوت (الرجل الخمسيني) إتصالاً من المحامي ، يخبره عن وفاة اخيه الأصغ...