السبت، 22 نوفمبر 2025

دمعة خلف القناع (قصة اطفال)

تأليف : امل شانوحة 

البالون الأحمر


اعتاد الأطفال المصابون بالسرطان على رؤية المهرّج بنهاية كل اسبوع ، بعد تعهّده بملاعبتهم وإضحاكهم طوال النهار


لكن في هذا اليوم ، فرح جميع الأطفال بوجوده .. ما عدا احمد (ولدٌ في الثامنة) تم نقله حديثاً لهذا الجناح ، بعد وصوله للمرحلة الأخيرة من سرطان الدم


فاقترب منه المهرّج (الخمسيني) وهو يعطيه بالوناً احمر ، محاولاً دغّدغته لإضحاكه.. ليفاجئه احمد بالسؤال :

- لما تُخفي دموعك يا عم ؟


وقد اربكه كلامه ! فلا احد لاحظ عينيه الدامعتين خلف مكياجه السميك ، سوى احمد الذي كان ينتظر اجابة المهرّج الذي فضّل العودة لبقيّة الأولاد الذين ينادونه للعب معهم

^^^


بعد انتهاء اليوم .. توجّه المهرّج الى مكتب الإدارة ، للسؤال عن حالة الولد الجديد ؟

فأجابه الطبيب : للأسف ! احمد يحتضر ، سيد سمير .. فالعلاج فشل بتحسين حالته .. ويبدو انه مُستسلمٌ للموت.. فهو من والديّن منفصلين ، إنتقلا لبلدتيّن بعيدتيّن عن هنا .. مُكتفيا بالإتصال به ، من وقتٍ لآخر ! اما جدته (التي عاش احمد معها سنتيّن قبل مرضه) فتحاول زيارته ، كلما تمكّنت من ذلك ..

المهرّج : اذاً مريض ، ويعاني من الوحدة ايضاً ! هذا بلاءٌ كبير على ولدٍ صغير

- هو ليس حزيناً مثلنا .. بل مُتشوّق للطيران بالجنة ، كما رأى بإحدى مناماته 

- هو حتماً من طيور الجنة .. (ثم تنهّد بضيق) .. انا حزينٌ عليه ، لأن لديه موهبةً مميّزة : فهو يشعر بآلام الآخرين ، دون تحدّثهم عن مصابهم !

- ماذا تقصد ، سيد سمير ؟!


لكن المهرّج لم يرغب الإفصاح عن اوجاعه.. وخرج من المشفى ، وهو يشعر بثقلٍ في قلبه دون استطاعته التعبير عنه !

***


وتوالت عطل نهاية الإسبوع ، مع زيادة تعلّق الأطفال بالمهرّج وألعاب الخفّة التي يتقنها.. ماعدا احمد الذي يقضي وقته بالنظر للسماء (من نافذة جناح الأطفال المرضى) كأنه يُهيّئ نفسه لرحلته القادمة !


لهذا طلب المهرّج الإذن من الطبيب ، لاصطحاب الصغير لحديقة المشفى

^^^


وبعد إيقاف الكرسي المتحرّك لصبيّ ، بجانب المقعد الذي جلس عليه المهرّج بالحديقة .. سأله احمد :

- ما المصيبة التي واجهتك ، جعلتك تُخفي حزنك خلف ابتسامتك المصطنعة ؟

- انا أملك متجر حلويات في حيٍّ شعبي.. أرمل ، ولديّ طفلة بمثل عمرك

احمد : وهل ماتت ابنتك ؟

فجاء سؤاله صادماً !

- كيف عرفت ؟!

احمد : لأني شعرت بالحزن يملاً قلبك ، ومع ذلك تقاوم البكاء ! 

فالتزم المهرّج الصمت ! 

احمد : يبدو أخبروك أن البكاء ليس للرجال ، كما ينصحني ابي بكل مكالمة؟ 

المهرّج بحزن : أظنها تربيةً خاطئة ، فجميع المخلوقات تبكي عند الألم 

- اذاً إخبرني كيف ماتت ؟

- بالسرطان

احمد : ألهذا تطوّعت بمشفانا ، لتوديع المُحتضرين مثلي ؟  

- لا تتشاءم هكذا ، فأنت مازلت حيّاً 

- لكني سأموت قريباً

سمير : هل سمعت الطبيب او الممرّضة..

احمد مقاطعاً : لا !! لكني رأيت جدي بالمنام يخبرني أنه سيراني قريباً ، لهذا مازحت جدتي بأنني سألاقيه قبلها

فسكت سمير وهو يحاول كبت دموعه .. 


فوضع الصغير يده على كتف المهرّج ، وهو يقول :

- عندما علمت بمرضي ، ذهبت مع جدتي للمدرسة لسحب ملفي .. فالتقيت بمعلّم الدين الذي سألته عن الموت ؟ .. فطلب مني ، تخيّل رحلةً مدرسيّة .. وهناك حافلتان مُخصّصتان لأخذ الطلاّب الى الملاهي .. لكن صديقي فضّل الركوب بالحافلة الأولى ، بينما ركبت الثانية .. فهل سأحزن على فراقه ، طالما سألتقيه لاحقاً في الملاهي ؟.. ما أقصده يا عم ، ان جميعنا سنجتمع بالجنة ان لم نُغضب ربنا ، فلما نحزن على فراق أحبّتنا باكراً ؟ 


فلم يجد سمير نفسه الا وهو يحتضنه بحنان .. محاولاً التماسك بصعوبة ، كيّ لا ينهار امام البطل الصغير 

***


في الإسبوع التالي .. قدم المهرّج باكراً للمشفى ، وهو يتمنى رؤية احمد بخيرٍ وسلامة .. لكنه وجد سريره فارغاً !

وقبل السؤال عنه.. تجمّع الأولاد حوله وهم يرغبون ملاعبته ..

فصار يرقص ويغني لهم ، وعقله منشغل بأحمد الذي يتأمّل دخوله الى جناح المرضى بأيّة لحظة

^^^


وبعد ساعة ، لم يستطع المهرّج الإنتظار اكثر.. واعتذر من الأولاد ، مُتحجّجاً بدخول الحمام.. ثم سارع لمكتب الطبيب الذي أطلعه على الخبر السيء ! فأحمد توفيّ ليلة امس ، وتم دفنه صباحاً في قبر جده 

^^^


عاد المهرّج مثقلاً بالهموم الى جناح الأولاد الذين تجمّعوا حوله ، وهم يطالبونه بنفخ البالونات لهم..

ولم تكن قدماه (بحذائيه الكبيرتيّن) باستطاعتهما حمله ، بعد انهياره داخلياً على وفاة صديقه الصغير..


وهنا دخلت الممرّضة الى الجناح .. وفور رؤيتها المهرّج ، اخرجت رسالة من جيبها .. وهي تقول :

- البارحة عندما كان احمد يعاني من سكرات الموت ، طلب مني كتابة هذه الرسالة لك 


فابتعد سمير عن الأولاد لقراءتها ، وفيها :

((سأبحث عن ابنتك بين قصور الجنة ، الى ان القاها .. وسأخبرها عن شوقك لها .. وسأطلب منها زيارتك بالإحلام ، لتخفيف آلامك.. كما سأرسل لك اشارةً غريبة ، لإفهامك بأنني اصبحت ملاكك الحارس .. طلبي الأخير : إن كنت تحبني بالفعل ، فلا تخفي حزنك هذه المرة .. إبكي لفقدان ابنتك ، ولأجلي ايضاً.. اراك بالحافلة التالية التي ستصل للجنة ، بعد سنواتٍ طويلة من اليوم))


وما ان انهى الرسالة ، حتى سارع سمير الخروج من جناح الصغار .. لينهار باكياً فوق مقعد حديقة المشفى ، كما لم يبكي من قبل ! وكأن وفاة احمد المفاجئة ، أخرجت جميع مشاعره المكبوتة ! 


ولم يتوقف عن البكاء ، الا بعد حصول امرٍ غريب ! وهو خروج البالون الأحمر من نافذة جناح مرضى السرطان ، ليهبط بجانب مقعد المهرّج ! 

حينها فهم بأن روح احمد تواسيه .. 

وابتسم بحزن خلف مكياجه السميك ، وهو يتمّتم :

- اعدك يا احمد بالإهتمام برفاقك بعد رحيلك

***


بعدها تعاقد سمير مع ادارة المشفى على وظيفةٍ دائمة لإسعاد الأطفال ، بعد ان كانت تطوّعاً في عطل الإسبوع فقط


لكن هذه المرة أفهم الصغار : بأنه حتى المُهرّجين يمرّون بأيامٍ صعبة.. وانه لا بأس من التعبير عن احزاننا ، بجانب ضحكاتنا وتفاؤلنا بالأيام السعيدة القادمة  

وبذلك أضاف الى قناعه ، دمعة بجانب عينه .. رمزاً لحزنه على فقدان ابنته ، وملاكه الصغير أحمد !


هناك تعليق واحد:

دمعة خلف القناع (قصة اطفال)

تأليف : امل شانوحة  البالون الأحمر اعتاد الأطفال المصابون بالسرطان على رؤية المهرّج بنهاية كل اسبوع ، بعد تعهّده بملاعبتهم وإضحاكهم طوال الن...