الخميس، 7 يوليو 2022

الضحيّة التالية

كتابة : امل شانوحة 

 

القاتل المتسلّسل


في قريةٍ صغيرةٍ هادئة ، وفي وقت الظهيرة .. تنزّه شابٌ من سكّانها لوحده في الغابة .. وكلما اقترب من النهر ، لاحظ شيئاً مُمدّداً هناك .. ليتفاجأ بجثة رجلٍ خمسينيّ مشوّه الوجه ! 


فأخرج جواله للإتصال بالشرطة .. لكن سرعان ما أقفل المكالمة ، وفرّ هارباً من المكان !

***


بدأت الجثة تتحلّل قرب النهر ، دون قيام الأشخاص 13 الذين وجدوها خلال الإسبوع الفائت بالإبلاغ عنها !


الى أن عثر عليها الشاب جاك الذي اتصل فوراً بالشرطة ، مُتجاوزاً خوفه من تهديد اللاّفتة المرمية قرب رأس القتيل المجهول ، المكتوب عليها بالدماء المتحوّل للون الأصفر بمرور الزمن :

((ستكون ضحيّتي التالية إن اتصلت بالشرطة ، انت مُراقباً من بعيد))


وبعد إخبار الشرطة بمكان الجثة ، عاد الى منزله 

***


بعد انتهاء جاك من الإستحمام ، سمع جرس منزله .. ليجد صورةً مرمية فوق دعّاسة منزله ! 

وما أن رآها ، حتى أصيب بصدمة :

فهي صورته اثناء تبليغه الشرطة ، بجانب الجثة ! 

كأن احدهم صوّره من الضفّة الأخرى للنهر ! 

ومكتوبٌ خلف الصورة :

((انت التالي !!))


وقد ارعبه الأمر لدرجة جعلته يقود سيارته مُسرعاً باتجاه مركز الشرطة الوحيد بالقرية ، برئاسة المحقّق العجوز (آدم) الذي قال بعد رؤيته الصورة : 

- قمنا بنقل الجثة الى المشرحة ، وننتظر التقرير الشرعيّ عن سبب الوفاة .. ما يقلقني هو كيف صوّرك القاتل لحظة اتصالك بنا ؟! هل منزله قريب من النهر ؟!

جاك برعب : لا ادري سيدي ، الأمر أفزعني حقاً .. فهل عليّ مغادرة منزلي بعد معرفة القاتل عنواني ؟

- إن كان يراقبك ، فهو يعلم بوجودك هنا .. ولا اظن تركك منزلك يجديك نفعا 

- كل ما اردّته هو حصول الميت على دفنٍ لائق ، دون اكتراثي للقاتل او سبب الخلاف بينهما ! ..رجاءً إرسل معي شرطيين لحراسة بيتي

آدم : لا يمكنني فعل ذلك .. فليس لديّ سوى خمسة موظفين ، جميعهم منشغلين بعملهم الإداريّ 

- وماذا تقترح عليّ فعله بعد أن أصبحت حياتي في خطر ؟

آدم : الأفضل ملازمة منزلك لحين حلّنا لغز القاتل الغامض 

***


فعاد جاك خائفاً الى بيته ، وهو يلعن نفسه على فضوله :

((ليتني لم اتصل بالشرطة ، لما أصبحت هدف المجرم التالي))


وحاول النوم تلك الليلة ، بعد إقفاله جميع النوافذ والأبواب بإحكام

***


في اليوم التالي .. توقفت دوريّة شرطة امام منزل جاك ، لتصوير جثته وهو مطعون بسكينٍ في ظهره وسط الصالة ! 

ولافتة مرمية بجانبه ، مكتوباً فيها :

((من لديه الفضول لملاحقتي ، سيكون ضحيّتي التالية))


فأراد المحقّق (آدم) توكيل الشرطيين الشابين بمهمّة ملاحقة القاتل ، لكنهما رفضا خوفاً من تهديد القاتل المجهول ! 

آدم بعصبية : أتعصيان أمري ؟!!

- آسف سيدي ، لا اريد الموت وعرسي بنهاية الإسبوع  

- وانا سيدي ..زوجتي ستنجب ابننا الأول الذي أتوق شوقاً لرؤيته 

آدم : إذاً ليس امامي سوى استلام القضيّة بنفسي ، رغم قرب موعد تقاعدي بعد 50 عاماً من العمل الدؤوب

- فعلاً سيدي ، طوال خدمتك لم تحصل مخالفةٌ واحدة .. والآن ابتلينا بقاتلٍ لا نعرف نواياه ..

الشرطي الثاني : ولا نعرف إن كان من اهل قريتنا او غريب ينوي التلاعب بسلامة قريتنا الهادئة 

آدم : لا تقلقا ، سأكشفه قريباً .. المهم أن تكتما الموضوع ، كيّ لا نثير ذعر الأهالي ..

***


إلاّ أن احد الشرطيان أخبر عروسته بقضيّته الجديدة ، وسرعان ما فضحت السرّ لأهلها واصدقائها.. لينتشر الخبر بالقرية كالنار بالهشيم عن وجود قاتلٍ متسلّسل بينهم ! 

فطالب الأهالي المحقّق آدم بإحضار دعمٍ من المدينة ، لكنه برّر رفضه بقدرته على إيقاع المجرم بنفسه !

***


لم تمضي اسابيع ، حتى اعلن آدم قبضه على مشتبهٍ فيه يُسمى اريك : وهو رجلٌ ضخم اربعينيّ من اهل قريتهم لديه إعاقة عقليّة ، يعيش قريباً من النهر ..


وأخبر المحقّق اهالي قريته : إن اريك اعترف تحت ضغط التحقيق : بأنه تشاجر مع ضحيّته الأولى (السائح الغريب) لجلوسه في مكانه المفضّل لصيد السمك.. وحين رفض الرحيل ! دفعه بقوة ، ليرتطم رأسه بالحجر 

وقد أثبت التقرير الشرعيّ إن القتيل لم يمت على الفور .. بل بعدّة ضرباتٍ عنيفة ، هشّمت وجهه بالكامل .. 

وإن اريك اعترف بضربه حتى الموت ، خوفاً من الإبلاغ عن اعتدائه عليه ! 

ولأن منزل اريك قريباً من النهر ، فقد وجّه كاميرا المراقبة على مكان الجثة ، لملاحقة الفضوليين على حسب تعبيره ! 

فضجّ الناس المطالبين بإعدامه ، بعد إرعابهم على مدى اسابيع 

***


ووصل الخبر لرئيس المدينة الذي ضغط على محكمة القرية لتعيّن محامي دفاع للقاتل المعاق (اريك) ، ليقوم محاميه بسؤال المحقّق العجوز :  

- سيد آدم ، هل تخبرنا كيف اكتشفت أن موكّلي هو القاتل ؟ 

المحقق آدم : لم يكن الأمر صعباً ، فهناك ثلاثة منازل قريبة من النهر .. إحداها لعائلة لا تعود من اوروبا إلاّ في فصل الصيف ، والجريمة حصلت بالربيع .. والمنزل الآخر تسكنه ام وثلاثة اطفال .. اما المنزل الأخير فيعيش فيه اريك وحيداً بعد وفاة امه .. كما أن إيجادي لكاميرا المراقبة في صالة منزله ، مُوجّهة مباشرةً للضفّة المقابلة من النهر ، تُعدّ دليلاً قويّاً على إدانته ..


محامي إريك : لكن موكّلي أنكر معرفته لطريقة إستخدام كاميرا المرحوم والده ، التي وجدتها انت بعد تفتيشك منزله لوحدك !

آدم : في قريتنا الصغيرة يوجد مركز شرطة وحيد برئاستي ، بالإضافة لخمسة موظفين : اثنان بإجازة عرسٍ وولادة طفل .. وواحد مسؤول عن الحجزّ في المركز..وموظفٌ لاستقبال الشكاوي .. وشرطيّة لتلقّي مكالمات الطوارىء .. فلم يكن هناك غيري لتفتيش منزل المشتبه به 

- وعلينا تصديق كلامك بأن معاقاً ذهنيّاً لديه القدرة على مراقبة مكتشفيّ جريمته !

- عملتُ 50 سنة بهذه المهنة ، ولم تحدث مخالفة واحدة بحياتي


المحامي : ولما برأيك لم يدفن اريك جثة السائح الغريب الذي لا يعرفه احد ؟

- هو لم يكن معاقاً منذ الصغر ، بل حصل له اضّطرابٌ عقليّ بعد رؤيته والده يقتل اخاه الأكبر وينتحر امامه وهو بعمر العاشرة .. لهذا توقف عقله عند ذلك العمر ، فهو يظن إرعاب الفضوليين مغامرةً مثيرة لا اكثر

- وهل تظنه قاتل جاك ؟

آدم : بل مقتل جاك هو الذي أثبت شكوكي نحوه

- وضّح كلامك لوّ سمحت

- جاك كان حنوناً عليه ، وكثيراً ما سمح له اللعب بألعاب الفيديو في منزله

- الهذا طعنه من الخلف ؟

آدم : أعتقد إن جاك أدخله منزله .. وحين ادار ظهره ، طعنه اريك بالسكين لأنه الوحيد الذي تجرّأ على الإتصال بالشرطة .. بالنهاية منزل القتيل لم يوجد فيه أثر لاقتحام بابه الرئيسيّ او نوافذ غرفه 

المحامي : سيدي القاضي !! أطالب باستجواب موكّلي

 

وبعد جلوس اريك على كرسي الإعتراف ، سأله محاميه :

- ما رأيك بما سمعته ؟

اريك بارتباكٍ واضح : انا لم اقتل احداً ، ولم اخرج من بيتي طوال المدة الماضية بسبب مرضي

- ولماذا مرضت ؟ 

- اكلت شيئاً منتهي الصلاحية ، فآلمتني معدتي .. وبقيت اياماً في فراشي 

محاميه : بما أن منزلك مواجه للنهر .. الم تشاهد قاتل السائح ، او تشمّ رائحة تحلّل جثته ؟ 

اريك : كانت هناك رائحة سيئة ، جعلتني أقفل جميع النوافذ .. لكني لم اخرج من منزلي لاستكشاف المشكلة ، بسبب حرارتي المرتفعة 


محاميه : الم يزرك احد للإطمئنان عليك ؟

اريك بحزن : ليس لديّ اصدقاء

المحامي : ولا حتى جاك ؟

- لم اره منذ ثلاثة شهور

- نفهم من ذلك انك تنكر تهمة قتلك السائح ؟

اريك باستغراب : ولماذا اقتل شخصاً غريباً ؟!

المحامي : حسب كلام المحقّق آدم ، قتلته بمحاولة لتقليد والدك

- انا اكره والدي ، فلماذا أقلّده ؟

- اذاً لم تأذي احداً ؟

اريك : لم أؤذي انساناً او حيواناً بحياتي ، ولا اعرف سبب وجودي هنا

المحامي : سيدي القاضي !! لا اظن رجل بعقليّة طفل سيخطّط لقتل شخصين 


فرفع المحقّق آدم يده : بل اربعة !!

المحامي بدهشة : ماذا !

آدم : اثناء بحثي في الغابة ، وجدّتُ سيارة واقعة بالجرف لزوجين مسافرين : الزوج مذبوحاً من رقبته ، وزوجته مطعونة خمس مرات في صدرها .. وحسب تقرير الطبيب الشرعيّ : جميع الضحايا قتلوا بذات السكين التي وجدتها في مطبخ المشتبه به اريك ، المعروف عنه تنزّهه في الغابة كل ليلة 

اريك باكياً : قلت لكم !! كنت مريضاً الفترة الماضية

فطرق القاضي بمطرقته بقوة : سأصدر الحكم بعد قليل  


وبعد مشاورة القاضي مع هيئة المحلّفين ، أصدر حكماً بإعدام اريك شنقاً لاجتماع الأدلّة ضدّه ! 

***


وباليوم المحدّد .. تمّ إعدامه شنقاً في ساحة القرية ، بناءً على طلب الأهالي .. وبذلك أُغلقت القضيّة.. 


لاحقاً نال المحقق جائزة من مركز المدينة لحلّه لغز القضيّة بمفرده ، ولتحقيقه العدالة طوال فترة عمله في القرية

***


بعد شهر .. ودّع المحقّق (آدم) قريته للإنتقال للقرية المجاورة ، بغرض الإهتمام بأرضه الزراعيّة التي اشتراها حديثاً ..

فأقاموا له حفلاً وداعيّاً قبل ذهابه

***


في القرية الجديدة .. لم يمضي على وجود آدم شهرين هناك ، حتى تكرّرت الجريمة نفسها ! بعد عثور شرطي المرور على شخصٍ مذبوح في سيارته المتوقفة على جانب الطريق العام ، وفي المقعد المجاور لافتة مكتوباً عليها : 

((إن اتصلت بالشرطة ، ستكون ضحيّتي التالية))


وفي الوقت الذي طوّقت فيه الشرطة الشارع لجمع الأدلّة ، كان المحقق آدم يكتب مذكّراته في منزله قائلاً :

((قرّرت التقاعد بعد سنوات من عملي الروتينيّ المملّ ، مع رغبتي بالحصول على تكريمٍ يناسب جهدي السابق.. ولم أكن لأحصل على مرادي إلاّ بارتكابي جرائم غامضة ، أقوم بحلّها بنفشي ، بعد توريطي شخصاً سهل الإشتباه به .. ولم تكن الفكرة لتخطر ببالي لولا السائح العنيد الذي أصرّ على قتل الغزال الذي يشرب من النهر ، رغم لافتة منع صيد الغزلان.. فتشاجرت معه ، ليتعثّر وحده ويرتطم رأسه بالحجارة .. وصار يهدّدني وهو ينزف بشدّة ، بطردي من العمل بعد اعتدائي عليه ! فلم اتمالك نفسي وهجمت عليه ، لأهشّم وجهه بالحجارة المُسنّنة .. ولم استطع دفنه بعد سماعي صرخة المسافرة التي رأتني مع زوجها لحظة ارتكابي الجريمة ! فلحقت سيارتهما اثناء توغّلهما بالغابة ، وبدأت أصدم جوانبها لإجبارهم على التوقف .. ويبدو انني اربكت السائق الذي وقع في الجرف ، مُرتطماً سيارته بالشجرة .. ولأني لا اريد شهوداً على جريمتي ، قمت بطعنهما حتى الموت.. ثم اسرعت بكتابة اللوحة ورميها امام جثة السائح ، قبل وصول الفضوليّ الأول للمنطقة.. 

بعدها ثبتّ الكاميرا بجوار منزل المعاق ، لأراقب الفضوليين من مكتب منزلي .. 

وكما توقعت لم يجرأ احد على الإتصال بالشرطة ، فيما عدا جاك الذي زرته باليوم التالي .. وبعد أن أدخلني الصالة ، طلبت كوب ماء .. وحين ادار ظهره ، عاجلته بطعنةٍ قوية أودت بحياته .. واخترت اريك المعاق ليكون المشتبه به لسببين : 

الأول : كونه الحلقة الأضعف بالقرية ، فالجميع يشعرون بالريبة من تصرّفاته الحمقاء التي لا تناسب عمره ..

والسبب الثاني : لأنه غير قادر على الدفاع عن نفسه .. لهذا ارتبكت حين عيّنت المحكمة محامياً جيداً له ! 

لكني بدهائي استطعت إقناع هيئة المحلّفين بانحراف عقليّة اريك ، ورغبته بتقليد والده المجرم .. 

اما الآن فأنا متواجد في قريةٍ ساحليّة ، هدوئها أشعرني بالملّل من حياتي الروتينيّة.. يبدو انني بدأت استمتع بعالم الجريمة ! 

وبالطبع لم ارتكب جريمتي الجديدة قبل إيجادي كبش الفداء : وهو عجوز يكرهه الجميع ، يعيش بجانب الشارع العام ، معروفاً بأخلاقه السيئة ولسانه السليط .. لهذا لن يكون صعباً تلفيق التهمة اليه ، لكره الناس له.. 

بينما انا خارج الشبهات لحسن سلوكي وذكائي بحلّ الألغاز القانونيّة التي ستجعل مركز المدينة يكرّمني ثانيةً بدروع وشهادات تقدير تناسب مسيرتي العمليّة المُجهدة.. 

أعرف ما تفكّرون به ، لكن لا تلومونني على خططي الشيطانيّة ، فحياة العجائز مُملّة للغاية)) 


ثم أغلق دفتر مذكّراته ، وهو يخطّط لتعكير سلام قريته الساحليّة!  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...