كتابة : امل شانوحة
القاتل المتسلّسل
في قريةٍ صغيرةٍ هادئة ، وفي وقت الظهيرة .. تنزّه شابٌ من سكّانها لوحده في الغابة .. وكلما اقترب من النهر ، لاحظ شيئاً مُمدّداً هناك .. ليتفاجأ بجثة رجلٍ خمسينيّ مشوّه الوجه !
فأخرج جواله للإتصال بالشرطة .. لكن سرعان ما أقفل المكالمة ، وفرّ هارباً من المكان !
***
بدأت الجثة تتحلّل قرب النهر ، دون قيام الأشخاص 13 الذين وجدوها خلال الإسبوع الفائت بالإبلاغ عنها !
الى أن عثر عليها الشاب جاك الذي اتصل فوراً بالشرطة ، مُتجاوزاً خوفه من تهديد اللاّفتة المرمية قرب رأس القتيل المجهول ، المكتوب عليها بالدماء المتحوّل للون الأصفر بمرور الزمن :
((ستكون ضحيّتي التالية إن اتصلت بالشرطة ، انت مُراقباً من بعيد))
وبعد إخبار الشرطة بمكان الجثة ، عاد الى منزله
***
بعد انتهاء جاك من الإستحمام ، سمع جرس منزله .. ليجد صورةً مرمية فوق دعّاسة منزله !
وما أن رآها ، حتى أصيب بصدمة :
فهي صورته اثناء تبليغه الشرطة ، بجانب الجثة !
كأن احدهم صوّره من الضفّة الأخرى للنهر !
ومكتوبٌ خلف الصورة :
((انت التالي !!))
وقد ارعبه الأمر لدرجة جعلته يقود سيارته مُسرعاً باتجاه مركز الشرطة الوحيد بالقرية ، برئاسة المحقّق العجوز (آدم) الذي قال بعد رؤيته الصورة :
- قمنا بنقل الجثة الى المشرحة ، وننتظر التقرير الشرعيّ عن سبب الوفاة .. ما يقلقني هو كيف صوّرك القاتل لحظة اتصالك بنا ؟! هل منزله قريب من النهر ؟!
جاك برعب : لا ادري سيدي ، الأمر أفزعني حقاً .. فهل عليّ مغادرة منزلي بعد معرفة القاتل عنواني ؟
- إن كان يراقبك ، فهو يعلم بوجودك هنا .. ولا اظن تركك منزلك يجديك نفعا
- كل ما اردّته هو حصول الميت على دفنٍ لائق ، دون اكتراثي للقاتل او سبب الخلاف بينهما ! ..رجاءً إرسل معي شرطيين لحراسة بيتي
آدم : لا يمكنني فعل ذلك .. فليس لديّ سوى خمسة موظفين ، جميعهم منشغلين بعملهم الإداريّ
- وماذا تقترح عليّ فعله بعد أن أصبحت حياتي في خطر ؟
آدم : الأفضل ملازمة منزلك لحين حلّنا لغز القاتل الغامض
***
فعاد جاك خائفاً الى بيته ، وهو يلعن نفسه على فضوله :
((ليتني لم اتصل بالشرطة ، لما أصبحت هدف المجرم التالي))
وحاول النوم تلك الليلة ، بعد إقفاله جميع النوافذ والأبواب بإحكام
***
في اليوم التالي .. توقفت دوريّة شرطة امام منزل جاك ، لتصوير جثته وهو مطعون بسكينٍ في ظهره وسط الصالة !
ولافتة مرمية بجانبه ، مكتوباً فيها :
((من لديه الفضول لملاحقتي ، سيكون ضحيّتي التالية))
فأراد المحقّق (آدم) توكيل الشرطيين الشابين بمهمّة ملاحقة القاتل ، لكنهما رفضا خوفاً من تهديد القاتل المجهول !
آدم بعصبية : أتعصيان أمري ؟!!
- آسف سيدي ، لا اريد الموت وعرسي بنهاية الإسبوع
- وانا سيدي ..زوجتي ستنجب ابننا الأول الذي أتوق شوقاً لرؤيته
آدم : إذاً ليس امامي سوى استلام القضيّة بنفسي ، رغم قرب موعد تقاعدي بعد 50 عاماً من العمل الدؤوب
- فعلاً سيدي ، طوال خدمتك لم تحصل مخالفةٌ واحدة .. والآن ابتلينا بقاتلٍ لا نعرف نواياه ..
الشرطي الثاني : ولا نعرف إن كان من اهل قريتنا او غريب ينوي التلاعب بسلامة قريتنا الهادئة
آدم : لا تقلقا ، سأكشفه قريباً .. المهم أن تكتما الموضوع ، كيّ لا نثير ذعر الأهالي ..
***
إلاّ أن احد الشرطيان أخبر عروسته بقضيّته الجديدة ، وسرعان ما فضحت السرّ لأهلها واصدقائها.. لينتشر الخبر بالقرية كالنار بالهشيم عن وجود قاتلٍ متسلّسل بينهم !
فطالب الأهالي المحقّق آدم بإحضار دعمٍ من المدينة ، لكنه برّر رفضه بقدرته على إيقاع المجرم بنفسه !
***
لم تمضي اسابيع ، حتى اعلن آدم قبضه على مشتبهٍ فيه يُسمى اريك : وهو رجلٌ ضخم اربعينيّ من اهل قريتهم لديه إعاقة عقليّة ، يعيش قريباً من النهر ..
وأخبر المحقّق اهالي قريته : إن اريك اعترف تحت ضغط التحقيق : بأنه تشاجر مع ضحيّته الأولى (السائح الغريب) لجلوسه في مكانه المفضّل لصيد السمك.. وحين رفض الرحيل ! دفعه بقوة ، ليرتطم رأسه بالحجر
وقد أثبت التقرير الشرعيّ إن القتيل لم يمت على الفور .. بل بعدّة ضرباتٍ عنيفة ، هشّمت وجهه بالكامل ..
وإن اريك اعترف بضربه حتى الموت ، خوفاً من الإبلاغ عن اعتدائه عليه !
ولأن منزل اريك قريباً من النهر ، فقد وجّه كاميرا المراقبة على مكان الجثة ، لملاحقة الفضوليين على حسب تعبيره !
فضجّ الناس المطالبين بإعدامه ، بعد إرعابهم على مدى اسابيع
***
ووصل الخبر لرئيس المدينة الذي ضغط على محكمة القرية لتعيّن محامي دفاع للقاتل المعاق (اريك) ، ليقوم محاميه بسؤال المحقّق العجوز :
- سيد آدم ، هل تخبرنا كيف اكتشفت أن موكّلي هو القاتل ؟
المحقق آدم : لم يكن الأمر صعباً ، فهناك ثلاثة منازل قريبة من النهر .. إحداها لعائلة لا تعود من اوروبا إلاّ في فصل الصيف ، والجريمة حصلت بالربيع .. والمنزل الآخر تسكنه ام وثلاثة اطفال .. اما المنزل الأخير فيعيش فيه اريك وحيداً بعد وفاة امه .. كما أن إيجادي لكاميرا المراقبة في صالة منزله ، مُوجّهة مباشرةً للضفّة المقابلة من النهر ، تُعدّ دليلاً قويّاً على إدانته ..
محامي إريك : لكن موكّلي أنكر معرفته لطريقة إستخدام كاميرا المرحوم والده ، التي وجدتها انت بعد تفتيشك منزله لوحدك !
آدم : في قريتنا الصغيرة يوجد مركز شرطة وحيد برئاستي ، بالإضافة لخمسة موظفين : اثنان بإجازة عرسٍ وولادة طفل .. وواحد مسؤول عن الحجزّ في المركز..وموظفٌ لاستقبال الشكاوي .. وشرطيّة لتلقّي مكالمات الطوارىء .. فلم يكن هناك غيري لتفتيش منزل المشتبه به
- وعلينا تصديق كلامك بأن معاقاً ذهنيّاً لديه القدرة على مراقبة مكتشفيّ جريمته !
- عملتُ 50 سنة بهذه المهنة ، ولم تحدث مخالفة واحدة بحياتي
المحامي : ولما برأيك لم يدفن اريك جثة السائح الغريب الذي لا يعرفه احد ؟
- هو لم يكن معاقاً منذ الصغر ، بل حصل له اضّطرابٌ عقليّ بعد رؤيته والده يقتل اخاه الأكبر وينتحر امامه وهو بعمر العاشرة .. لهذا توقف عقله عند ذلك العمر ، فهو يظن إرعاب الفضوليين مغامرةً مثيرة لا اكثر
- وهل تظنه قاتل جاك ؟
آدم : بل مقتل جاك هو الذي أثبت شكوكي نحوه
- وضّح كلامك لوّ سمحت
- جاك كان حنوناً عليه ، وكثيراً ما سمح له اللعب بألعاب الفيديو في منزله
- الهذا طعنه من الخلف ؟
آدم : أعتقد إن جاك أدخله منزله .. وحين ادار ظهره ، طعنه اريك بالسكين لأنه الوحيد الذي تجرّأ على الإتصال بالشرطة .. بالنهاية منزل القتيل لم يوجد فيه أثر لاقتحام بابه الرئيسيّ او نوافذ غرفه
المحامي : سيدي القاضي !! أطالب باستجواب موكّلي
وبعد جلوس اريك على كرسي الإعتراف ، سأله محاميه :
- ما رأيك بما سمعته ؟
اريك بارتباكٍ واضح : انا لم اقتل احداً ، ولم اخرج من بيتي طوال المدة الماضية بسبب مرضي
- ولماذا مرضت ؟
- اكلت شيئاً منتهي الصلاحية ، فآلمتني معدتي .. وبقيت اياماً في فراشي
محاميه : بما أن منزلك مواجه للنهر .. الم تشاهد قاتل السائح ، او تشمّ رائحة تحلّل جثته ؟
اريك : كانت هناك رائحة سيئة ، جعلتني أقفل جميع النوافذ .. لكني لم اخرج من منزلي لاستكشاف المشكلة ، بسبب حرارتي المرتفعة
محاميه : الم يزرك احد للإطمئنان عليك ؟
اريك بحزن : ليس لديّ اصدقاء
المحامي : ولا حتى جاك ؟
- لم اره منذ ثلاثة شهور
- نفهم من ذلك انك تنكر تهمة قتلك السائح ؟
اريك باستغراب : ولماذا اقتل شخصاً غريباً ؟!
المحامي : حسب كلام المحقّق آدم ، قتلته بمحاولة لتقليد والدك
- انا اكره والدي ، فلماذا أقلّده ؟
- اذاً لم تأذي احداً ؟
اريك : لم أؤذي انساناً او حيواناً بحياتي ، ولا اعرف سبب وجودي هنا
المحامي : سيدي القاضي !! لا اظن رجل بعقليّة طفل سيخطّط لقتل شخصين
فرفع المحقّق آدم يده : بل اربعة !!
المحامي بدهشة : ماذا !
آدم : اثناء بحثي في الغابة ، وجدّتُ سيارة واقعة بالجرف لزوجين مسافرين : الزوج مذبوحاً من رقبته ، وزوجته مطعونة خمس مرات في صدرها .. وحسب تقرير الطبيب الشرعيّ : جميع الضحايا قتلوا بذات السكين التي وجدتها في مطبخ المشتبه به اريك ، المعروف عنه تنزّهه في الغابة كل ليلة
اريك باكياً : قلت لكم !! كنت مريضاً الفترة الماضية
فطرق القاضي بمطرقته بقوة : سأصدر الحكم بعد قليل
وبعد مشاورة القاضي مع هيئة المحلّفين ، أصدر حكماً بإعدام اريك شنقاً لاجتماع الأدلّة ضدّه !
***
وباليوم المحدّد .. تمّ إعدامه شنقاً في ساحة القرية ، بناءً على طلب الأهالي .. وبذلك أُغلقت القضيّة..
لاحقاً نال المحقق جائزة من مركز المدينة لحلّه لغز القضيّة بمفرده ، ولتحقيقه العدالة طوال فترة عمله في القرية
***
بعد شهر .. ودّع المحقّق (آدم) قريته للإنتقال للقرية المجاورة ، بغرض الإهتمام بأرضه الزراعيّة التي اشتراها حديثاً ..
فأقاموا له حفلاً وداعيّاً قبل ذهابه
***
في القرية الجديدة .. لم يمضي على وجود آدم شهرين هناك ، حتى تكرّرت الجريمة نفسها ! بعد عثور شرطي المرور على شخصٍ مذبوح في سيارته المتوقفة على جانب الطريق العام ، وفي المقعد المجاور لافتة مكتوباً عليها :
((إن اتصلت بالشرطة ، ستكون ضحيّتي التالية))
وفي الوقت الذي طوّقت فيه الشرطة الشارع لجمع الأدلّة ، كان المحقق آدم يكتب مذكّراته في منزله قائلاً :
((قرّرت التقاعد بعد سنوات من عملي الروتينيّ المملّ ، مع رغبتي بالحصول على تكريمٍ يناسب جهدي السابق.. ولم أكن لأحصل على مرادي إلاّ بارتكابي جرائم غامضة ، أقوم بحلّها بنفشي ، بعد توريطي شخصاً سهل الإشتباه به .. ولم تكن الفكرة لتخطر ببالي لولا السائح العنيد الذي أصرّ على قتل الغزال الذي يشرب من النهر ، رغم لافتة منع صيد الغزلان.. فتشاجرت معه ، ليتعثّر وحده ويرتطم رأسه بالحجارة .. وصار يهدّدني وهو ينزف بشدّة ، بطردي من العمل بعد اعتدائي عليه ! فلم اتمالك نفسي وهجمت عليه ، لأهشّم وجهه بالحجارة المُسنّنة .. ولم استطع دفنه بعد سماعي صرخة المسافرة التي رأتني مع زوجها لحظة ارتكابي الجريمة ! فلحقت سيارتهما اثناء توغّلهما بالغابة ، وبدأت أصدم جوانبها لإجبارهم على التوقف .. ويبدو انني اربكت السائق الذي وقع في الجرف ، مُرتطماً سيارته بالشجرة .. ولأني لا اريد شهوداً على جريمتي ، قمت بطعنهما حتى الموت.. ثم اسرعت بكتابة اللوحة ورميها امام جثة السائح ، قبل وصول الفضوليّ الأول للمنطقة..
بعدها ثبتّ الكاميرا بجوار منزل المعاق ، لأراقب الفضوليين من مكتب منزلي ..
وكما توقعت لم يجرأ احد على الإتصال بالشرطة ، فيما عدا جاك الذي زرته باليوم التالي .. وبعد أن أدخلني الصالة ، طلبت كوب ماء .. وحين ادار ظهره ، عاجلته بطعنةٍ قوية أودت بحياته .. واخترت اريك المعاق ليكون المشتبه به لسببين :
الأول : كونه الحلقة الأضعف بالقرية ، فالجميع يشعرون بالريبة من تصرّفاته الحمقاء التي لا تناسب عمره ..
والسبب الثاني : لأنه غير قادر على الدفاع عن نفسه .. لهذا ارتبكت حين عيّنت المحكمة محامياً جيداً له !
لكني بدهائي استطعت إقناع هيئة المحلّفين بانحراف عقليّة اريك ، ورغبته بتقليد والده المجرم ..
اما الآن فأنا متواجد في قريةٍ ساحليّة ، هدوئها أشعرني بالملّل من حياتي الروتينيّة.. يبدو انني بدأت استمتع بعالم الجريمة !
وبالطبع لم ارتكب جريمتي الجديدة قبل إيجادي كبش الفداء : وهو عجوز يكرهه الجميع ، يعيش بجانب الشارع العام ، معروفاً بأخلاقه السيئة ولسانه السليط .. لهذا لن يكون صعباً تلفيق التهمة اليه ، لكره الناس له..
بينما انا خارج الشبهات لحسن سلوكي وذكائي بحلّ الألغاز القانونيّة التي ستجعل مركز المدينة يكرّمني ثانيةً بدروع وشهادات تقدير تناسب مسيرتي العمليّة المُجهدة..
أعرف ما تفكّرون به ، لكن لا تلومونني على خططي الشيطانيّة ، فحياة العجائز مُملّة للغاية))
ثم أغلق دفتر مذكّراته ، وهو يخطّط لتعكير سلام قريته الساحليّة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق