تأليف : محمد بيومي آل غلاب
تنسيق : امل شانوحة
أبناء الجذور
انتقل الروائي الشاب (سام) إلى بلدةٍ اسكتلنديةٍ غامضة ، كان اختفى بعض سكانها قبل سنوات في ظروفٍ غامضة !
فاستأجر كوخاً صغيراً فوق التلّ ، يواجه قصراً مهجوراً بحديقته المسوّرة بسياجٍ صدئ ، أشبه بمتاهةٍ من الأشجار الشائكة.
***
وفي يومه الأول هناك.. سار سام بجوار سياج القصر ، وهو يُحدِّث نفسه :
- كم أحب الأجواء الكئيبة للمناظر الطبيعية المهملة ، التي تُلهم مخيّلتي الكتابية!
وشرد بأفكاره ، حتى أوشك الاصطدام بعجوزٍ يمرّ من هناك..
سام: عفواً سيدي ! لم أنتبه لوجودك.
العجوز: أأنت الغريب الذي قدم إلى بلدتنا ؟
سام : نعم ، البارحة استأجرت ذلك الكوخ.. (وأشار إلى بيته المواجه للقصر).. فأنا كروائيّ ، تُلهمني الأجواء الغامضة للقصر المهجور على كتابة قصتي الجديدة.
العجوز: أرجو لك التوفيق.. لكن بما أنك أتيتَ على موضوع القصر ، فاسمعني جيداً !! إيّاك أن يدفعك الفضول لدخول حديقة القصر أو عبور سياجه.. وإذا رأيتَ بستانيَّ القصر ، اهرب فوراً دون التحدّث معه.
سام باهتمام : لماذا ؟ ما السر وراء ذلك ؟!
العجوز بتردّد : حسناً ، سأخبرك القصة.. عائلة "ويليوود" سكنت القصر قبل عقود.. فسيدُ القصر هو الدوق "آرثر" وزوجته الدوقة "جوديث" وابنهما اللورد "جون"... وذات يوم.. اكتشف آرثر خيانة زوجته مع عشيقها ، صديق العائلة : الإيرل "سميث".. فجنَّ جنونُه.. وقام بتسميم زوجته وعشيقها الذي دعاه على العشاء.. حتى إنه لم يتردّد بوضع السمّ في صحن ابنه الوحيد ، ظناً بأنه ابنُ عشيق زوجته.. وبعدها انتحر.. وانتشرت الأقوال بأن روحه عادت ككائنٍ أثيريٍّ يجول في حديقة القصر.. فالمرحوم عُرف بعشقه للبستنة.
سام بابتسامةٍ ساخرة : أهذه أسطورة منطقتكم ؟
العجوز بجديّة : فعلت واجبي بنصحك ، والقرار يعود لك.
وولّى العجوز ظهره ، مختفياً في الظلام بعد غروب الشمس..
فتمّتم سام بامتعاض : ((العجائز يعشقون روايةَ الأساطير والخرافات.. لا يهم ، لن أدع ذلك الخَرِف يُفسِد إلهامي وأفكاري))
وعاد إلى كوخه.
***
في تلك الليلة.. فشلت محاولات سام المتكرّرة ، لكتابة مقدمة روايته الجديدة ! وهي المرة الأولى التي يشعر فيها بخمول أفكاره الإبداعية.. فقرّر التنزّه حول القصر المهجور ، طالما الساعة لم تتجاوز العاشرة مساءً..
وما إن اقترب من سور القصر ، حتى ازدحم عقله بالأفكار الاستثنائية.. وكأنه التقط حديث اشخاصٍ يتحاورون فيما بينهم ، عن تجاربهم المرعبة التي عاشوها منذ وقتٍ قصير!
وكان أمام قراريّن : إما العودة لكوخه ، لتدوين تلك الأفكار الغريبة.. أو استكشاف القصر المهجور الذي زاد رعباً مع عتمة المساء !
فأضاء جواله ، وقفز من فوق سوره الصدئ.. ثم مشى بين أشجار حديقته حتى وصل إلى بوّابة القصر الرئيسية التي وجدها مقفلة.
فالتفّ حول القصر، لعلّه يجد مدخلاً آخر !
وفعلاً بعد وقتٍ قصير.. وجد في أحد جوانب القصر ، باباً خشبياً مهترئاً لمطبخ الخدم.. فدفعه ببطءٍ ، سائراً باتجاه صالة القصر.
وهناك ، التفت يمنةً ويسرةً.. فلم يجد غير أثاثٍ فخمٍ قديمٍ ، مليءٍ بالأتربة والغبار..
بينما وجد في ردهة القصر الرئيسية ، لوحةً جداريةً كبيرة مرسوماً فيها : رجلٌ أربعينيٌّ وسيدةٌ ثلاثينيةٌ ومراهقٌ بعمر الخامسة عشرة.
فتمّتم سام في نفسه :((يبدو أنها عائلة ويليوود المالكة لهذا القصر، السيد آرثر وزوجته جوديث وابنهما جون)).
ووقف أمام اللوحة متأملاً فيها ، وهو شاردُ الذهن لبضع دقائق.. حتى عاد انتباهه بعد سماعه خشخشةَ الفئران في إحدى نواحي القصر.. فخرج إلى حديقة القصر..
ليلاحظ عدة أشياءٍ مريبة : خاصة بعد تعثّره فوق نبتةٍ عريضة ! ليشعر بحرارة أوراقها توشك على حرق قميصه ، وكأنها اسيد
وعندما دنا منها.. سمع أنفاس ورودها المتسارعة ، كأنها غاضبة من تناثر بعضها على الأرض ، بعد سقوطه عليها..
وعندما قرّب نور جواله من ساق النبتة المكسور ، رأى شيئاً لزجاً أحمر اللون ينزف منها كالدماء!
فسارع بقفزه من السور الى خارج القصر.. ليلاحظ شيئاً أشدّ رعباً : بعد بزوغ الفجر ، رغم أنه لم يمضِ بالقصر سوى بضع دقائق.. حتى ساعته توقفت طوال وجوده بالداخل !
ورغم غرابة ما حصل ! إلا أنه قرّر كتابة تجربته المريبة ، كجزء من روايته الجديدة دون الإستغراق بالتفكير
***
بعد أيام ، وفي إحدى الليالي المُقمرة.. بينما كان سام يُحدّق من نافذة غرفته المُطلة على حديقة القصر ، لاستلهام بقيّة أحداث روايته.. رأى شخصاً مُنهمكاً بالعمل هناك
- أوه ! ذاك هو البستاني الذي أخبرني عنه العجوز.. أخيراً وجدتُ من يُلهِب أفكاري ، ويخبرني بحقيقة القصر وما حصل لمالكيه.
ومع ذلك فضّل مراقبة البستاني أولاً ، قبل التجرّؤ على التحدّث معه.. والذي رآه يعمل بجهد دون إنارة جواله أو حتى قنديل قديم ، مكتفياً بضوء القمر الذي يسطع فوق حديقته!
حيث لم يبدُ كرجلٍ عادي ، بل كان طويلاً ونحيلاً بشكلٍ غير طبيعي ! يرتدي بذلةَ عملٍ عتيقةً ، وقبعةَ قشٍّ مهترئةً تُخفي ملامح وجهه..
وكان يتحرّك ببطءٍ شديد ، حاملاً مقصّاتِ تقليمٍ ضخمةً وصدئة.. دون إصداره أيَّ صوت ! حتى حفيفَ أوراق الشجر الجافة تحت قدميه ، كان معدوماً..
ورغم ذلك ، كانت أغصان الشجر تلاحقه.. فتدنو منه ، كلما انحنى لزراعة شيءٍ أسفل منها.. ثم تلتفت للقمر ، كأنها تناجي ربها بخوف!
عدا عن تصرّفات البستاني التي لا تفسير لها :
فأحياناً يقف مطوّلاً أمام الشجرة دون فعل شيء ، كأنه يتحدّث معها أو يلومها.. بينما الأشجار ترتعش أمامه ، كضحايا مذعورة!
وحين يرمش سام عينه.. يجد البستاني انتقل لطرفٍ بعيد من الحديقة ، دون علمه كيف وصل إلى هناك بهذه السرعة!
كل هذا جعله يتردّد بمقابلة البستاني المريب.. لكن فضوله وافتتانه بالأجواء المحيطة ، جعلاه يراقب البستاني كلَّ ليلة وهو يُقلم الأغصان الميتة ويعيد ترتيبها ويجدّلها في أشكالٍ مشوهةٍ تُشبه الأطراف البشرية ! فكل زاويةٍ في الحديقة عبارة عن تمثالٍ حيٍّ من اليأس النباتيّ.
فتساءل سام في نفسه :((ترى هل ما قاله العجوز عن ذلك البستاني صحيحٌ ؟ وما سببُ جعله النباتاتِ والأشجارَ ملتوية بهذا الشكل المرعب ؟ وهل له علاقة باختفاء السكان المفقودين ؟!))
***
وفي إحدى الليالي.. استيقظ سام من نومه بعد سماعه أصواتاً قادمة من حديقة القصر.. وعندما تنصّت جيداً للريح ، سمع أسماءً تُتلى مع نسمات المساء الباردة.. فانتبه على اسمٍ منها ، قرأه سابقاً بإعلانٍ مُعلّق على إحدى دكاكين البلدة ، لشخصٍ مفقود منذ شهور! وقبل استيعابه ما حصل ، سمع اسمه بشكلٍ واضح:
- تعال يا سام !! نحن بحاجتك يا سام !! أنقذنا يا سام !!
كل هذا جعله يخرج من كوخه باتجاه القصر ، كأنه منومٌ مغناطيسياً!
وعندما استيقظ من غفلته ، وجد نفسه واقفاً أمام لوحة العائلة المُغبرّة.. ورغم عدم حمله الجوال ، إلا أن نور القمر الذي تسلّل من النافذة المفتوحة أضاء اللوحة..
لكن هذه المرة تغيّرت ملامح العائلة ! فالزوجة وابنها ينظران برعب لسيد القصر الذي بدا على وشك الانفجار غضباً (كأن اللوحة رُسمت بعد معرفته بخيانة زوجته).
وعندما سمع سام خطوات أقدامٍ تتعثّر فوق الدرج ، سارع الهرب باتجاه الحديقة.. وهناك اشتمّ رائحة التربة (المُسقاة حديثاً) ثقيلة ومعدنيةً ، كرائحة الدم القديم المخلوط بالصدأ.
وعندما وصل للنافورة الرخامية الجافة وسط الحديقة.. تفاجأ بما رآه!
وكاد قلبه يقف رعباً بعد إدراكه بأن البستاني لا يعتني بالنباتات فحسب ، بل يزرع شيئاً مقزّزاً ، أشبه ببقايا بشرية مُختلطة بالبذور والأعشاب!
وهنا تأكّد بأن البستاني المشبوه هو سبب اختفاء بعض سكان البلدة ، بعد قتلهم وزراعتهم بشكلٍ يُجبر رفاتهم على النمو بطريقةٍ مشوّهة ومرعبة!
فقال سام بخوف : عليّ الهرب سريعاً ، قبل شعوره بوجودي.. وإلا سيصبح مصيري مثل هؤلاء المساكين
وحينما استدار للهرب ، وقبل أن يُسلِم ساقيه للريح ، شعر بلمسةٍ باردةٍ على كتفه! فتوقف سام متجمداً ، ملتفتاً للخلف ببطءٍ.. ليرى وجه البستاني تحت قبعته المهترئة.
فجحظت عيناه من هول ما رآه ! إنه الدوق آرثر بعينين مجوّفتين مليئتين بالتراب والدود !
بينما ابتسم البستاني آرثر ابتسامةً مرعبةً ، وفاحت من فمه (الخالي من الأسنان) رائحةُ الموت الأقوى من رائحة التربة الملوّثة بدماء المفقودين!
- نجحتُ بجذبك إليّ يا سام ، فأنا بحاجة لروائيّ يدوّن إنجازاتي.
***
في صباح اليوم التالي.. لاحظ بعضُ سكان البلدة (ممن مرّوا بجانب القصر أثناء ذهابهم إلى أعمالهم) أن شجرةً جديدةً وغريبةَ الشكل ، نمت سريعاً قرب نافورة القصر.. أغصانُها ملتفةٌ حول بعضها ، ككتابٍ مغلق!
وعندما وجد العجوز كوخ الروائي مفتوحاً وأوراقه مُبعثرة ، لا تحوي روايةً بل جداول دقيقة لمواعيد الريّ والزراعة بعد منتصف الليل.. سارع لإخبار رئيس بلدته بعودة اللعنة ، بعد الاختفاء الغامض للكاتب الشاب !
***
لاحقاً ، أحاطت السلطات التلّ بأسلاكٍ شائكة ، بعد تطاير أوراق مكتوبة بالدم تحكي طرق موت المفقودين.. ورغم عدم جرأة أحد على الاقتراب من التلّ الملعون.. إلا أن البستاني الصامت عاد أكثر شباباً وحيوية ، لمواصلة عمله كل مساء دون كللٍ أو ملل!

بما ان القصة من تأليف الأستاذ محمد ، فلن احسبها من ضمن قصصي (للأمانة الأدبية) ..
ردحذفأحسنت استاذ محمد ، قصة رائعة
بهذه القصة للأستاذ محمد ، اختم هذا العام .. وكل عام وانتم بخير
ردحذفاذا لم احسب هذه القصة .. فقد قمت بتأليف (126) قصة لهذا العام ..ولله الحمد
ردحذفأحسنت أستاذة أمل
ردحذفشكراً على تلبية طلبي لنشر القصة وعلى دعمك وتعاونك
سأحاول نشر قصتك الثانية العام الجديد .. كل عام وانت بخير
حذفوأنتِ بخير وصحة وسعادة
حذف