الثلاثاء، 30 مايو 2023

سجن الجزيرة

تأليف : امل شانوحة 

إتفاق المجرمون !


جرت العادة بإغلاق الأبواب والنوافذ وإطفاء جميع الأنوار ، ومنع النساء والأطفال الخروج من الأكواخ ، والحيوانات من الزرائب بعد مغيب الشمس ! فهو الوقت المُخصّص للمجرمين الرجال بالتحرّك بحرّية داخل الجزيرة : حيث يحقّ لهم أكل ما يريدونه من المزروعات ، بحدود وجبةٍ مُشبعةٍ لهم ! وصولاً لذبح وشواء الدواجن والماشية التي يرونها خارج الزريبة مساءً..

كما يمكنهم الإعتداء بالضرب ، او إستغلال جسد الأشخاص الخارجين من بيوتهم في الوقت المُخصّص لهم !


وفي المقابل يُمنع عليهم حرق الأراضي وإفساد الزرع ، او قطف المزروعات اكثر من حاجتهم.. ويعاقبون بقسّوة إن اقتحموا المنازل المغلقة ، قد تصلّ للإعدام من زعيمهم !

***


داخل إحدى الأكواخ (حيث يستعدّ الأهالي للنوم باكراً) سأل الصغير امه :

- لما تخافين كلما اقتربت من النافذة ، وتعاقبينني إن أزحت الستارة السوداء  للنظر للخارج ؟!

فتنهّدت الأم بضيق : 

- القصة حصلت قبل عشر سنوات .. ففي هذه الجزيرة الصغيرة ، بُنيّ سجنٌ ضخم ، ضمّ أعتى المجرمين في دولتنا.. الى أن اكتشف احد الحرّاس خصوبة الأراضي المجاورة للسجن ، ممّا شجّع بعض المزراعين على الإستفادة منها

الصبيّ : وحينها قدمت انت وابي الى هنا ؟

- أحضرنا جدك بعد زواجنا .. سامحه الله

- تبدين متضايقة من قرار المرحوم ؟!


الأم : بالطبع !! فبعد ثلاث سنوات من زراعتنا الأرض ، حصلت ثورةٌ عنيفة داخل السجن مساءً .. لنستيقظ على خبر هروب الحرّاس بقواربنا الصغيرة ! تاركين المساجين على حرّيتهم بعد خلعهم البوّابة الرئيسيّة .. لتعيش بعدها العوائل العشرة أسوء ايام حياتها بعد نشر الخمسين مجرماً الفساد بالجزيرة ، مُعتدين على الكثير من الفتيات والأولاد ! عدا عن قتلهم الحيوانات وإفسادهم الأراضي الزراعيّة

- ولما لم تهربوا من هنا ؟!

- أخبرتك أن الحرّاس الجبناء أخذوا سفننا ، ولم نستطع بناء غيرها بأمرٍ من زعيم المساجين الذي أجبرنا على العمل بالزراعة ورعيّ المواشي لإطعامهم ! وبما أن جدك كان أكبر المتواجدين بالجزيرة ، عقد إتفاقاً مع زعيمهم : ((بأن النهار لنا ، والمساء لهم .. وأن من يُخالف العقد ، يتحمّل العواقب وحده.. لهذا لا يمكننا إنقاذ أيّ شخصٍ يخرج من منزله ، اثناء وجودهم))


الصبيّ : وماذا بشأن المجرم الذي يُخالف اوامر زعيمه ؟

- تجرّأ اثنان سابقاً على ذلك ، بعد اقتحامهما منزلاً لخطف فتاةٍ بالقوّة .. فحكم عليهما الزعيم بالسباحة بعيداً عن الجزيرة ، تحت تهديد السلاح.. ولا أظنهما وصلا لشطّ الأمان ، فجزيرتنا تبعد اميالاً عن بقية المدن.. وأظنه عقابٌ عادل ، طالما التزمنا بالبقاء في منازلنا المظلمة كل ليلة ! 

الصبيّ : كنت اتساءل دائماً ، أين تختفي ثمارنا في الصباح ؟ والآن عرفت السبب

- لا تقلق ، فزعيمهم حدّد الكميّة المسموحة لكل مجرم حسب وزنه .. رغم أن كميّتهم ضُعف ما تحصل عليه العوائل المسالمة ! وهذا ظلم ، فنحن نزرع ونفلح طوال النهار ، وهم نائمين بسلام في زنازينهم المفتوحة .. عدا عن إجبارنا بنهاية كل اسبوع : بطبخ وليمةٍ لهم ، نضعها فوق الطاولات قبيل الغروب.. وكثيراً ما نمنا جياعاً ، وهم يحتفلون بالخارج بأكلنا الدّسم وحلوياتنا اللذيذة ! .. لكن ماذا نفعل ؟ فنحن الضعفاء بعد استيلائهم على اسلحة الحرس ، ولا يحقّ لنا الإعتراض !


الصبيّ : ولما لم ترسل الدولة سفناً ، لإخراجنا من هذا الجحيم ؟!

- أرسلوا مرة دوريتيّ شرطة .. فحصلت معركةٌ عنيفة ، ربح فيها المساجين بعد قتلهم عدداً من الشرطة ، وفرار الآخرين بقواربهم ! ومن يومها أصبحنا في عِداد الموتى ، ولم يقترب احد لإنقاذنا من جديد 

- الأمر مخيف يا امي !

الأم بحزن : أكيد بنيّ ، فنحن نعيش كل يومٍ بيومه .. وهذا خطأنا منذ البداية ، لقدومنا الى جزيرة المجرمين ، هرباً من الضرائب المفروضة على المزارعين في دولتنا .. المهم الآن !! حاول النوم سريعاً .. وان اضّطررت لدخول الحمّام ، فلا تصدر صوتاً يُزعج الملاعين في الخارج

***


في الصباح .. تجوّلت الأهالي بين الأراضي والزرائب ، لتفقّد المسروقات من الحيوانات والزرع.. حيث اعتادت النساء على لبس رداءٍ اسودٍ يُخفي وجههنّ وجسمهنّ ، خوفاً من تلصّص المجرمين من نوافذ زنازينهم ! كيّ لا يعجبوا بإحداهن ، ويخطفونها مساءً.

حتى الأولاد ، عليهم اللعب في زريبةٍ مُغلقة بعيدة عن مقرّ السجن ، خوفاً من المنحرفين !

***


إستمرّ هذا الوضع المتشنّج لخمس سنواتٍ أخرى ، قبل إنتشار خبرٍ بين الأهالي عن وصول عجوزٍ الى جزيرتهم ! 

وبعد إسعافه وإطعامه ، أخبرهم انه صيّاد تعرّض لهجوم حوتٍ عنيف ، كسر سفينته بزعنفته ، فهرب بقاربه المطاطيّ .. وتاه في البحر لأربعة ايام ، الى ان وصل اليهم!


فأخبروه عن طبيعة حياتهم الصعبة وقوانينهم الصارمة.. ومن بعدها جهّزوا فرشةً من الصوف ، وضعوها له بإحدى الزرائب (فجميع الأكواخ العشرة مُكتظّة بالعوائل)

***


بحلول المساء .. راقب العجوز من شقّ الباب الوضع بالخارج ، بعد سماعه شابين يتجادلان امام زريبته :

- مللّت من اكل الخضروات والفواكه !!

زميله : إصبر قليلاً ، سنحصل على الطعام الفاخر بعطلة الإسبوع

- لا يكفي !! اريد تذوّق اللحم الآن

- وماذا تشتهي مولايّ ؟

بعصبية : لا تسخر مني !!

- أقصد .. هل ترغب بالدجاج ؟

- بل لحم خاروف

- مستحيل !! الخرفان معدودة على الجزيرة ، ويحتاجونها للحليب ومشتقّاته

- وانا أرغب باللحم المشويّ الذي حُرمت منه طوال سنوات اعتقالي

- كما ترى .. لا خرفان خارج الزرائب ، كما ينصّ العقد

- لا يهمّني إتفاقهم اللعين !! سأقتحم هذه الزريبة وأسرق إحداها ، لنتناولها بعيداً عن زملائنا

- أكيد سيشتمّون رائحة الشواء .. عدا أن اللحم يحتاج ساعتين على الأقل لينضج ! فكيف سنُخفي الأمر عن زعيمنا الذي سيعاقبنا على السرقة؟

- لنستولي على الخاروف اولاً ، ثم نفكّر بحلّ للمشكلة


ثم فتح القفل ، بسلكٍ حديديّ..

- أحقاً فتحته ؟! يالك من خبير

- طبعاً !! فأنا لصٌّ محترف .. هيا نختار أكبر الخرفان


ليتفاجآ ببندقية العجوز مُصوّبة نحوهما !

فسأله أحدهما : من انت ؟!

العجوز بحزم : انا حارس الزريبة ، وسأعاقبكما على مخالفة عقدنا

- لم نرك من قبل ! هل انت دخيل على جزيرتنا ؟

العجوز : هذا ليس من شأنك .. (ثم لقّم بندقيته).. أظن قتلكما لن يُغضب الزعيم ، اليس كذلك ؟ 

الشاب مُستسلماً بخوف : رجاءً لا تقتلنا !! فنحن جياع ، لا اكثر !

^^^


واثناء جدالهم ، مرّ الزعيم ومساعده ..

الزعيم : ماذا يحصل هنا ؟!

العجوز : جئت في وقتك

وأخبره بما حصل.. فصفع الزعيم المجرم المُخالف ، وهو يصرخ غاضباً:

- هل أقتلك الآن ، ام أؤجّلها للغد امام زملائك ؟!!

الشاب بخوف : سيدي ! كل ما أردّته هو تناول اللحم المشويّ .. أهذه جريمة أُعاقب عليها بالإعدام ؟!

الزعيم ساخراً : وهل انت امرأة حامل تتوحّم على اللحم ؟ الا تعرف يا غبي إن مخالفتنا للعقد سيحرمنا تناول الأكل الشهيّ بنهاية الأسبوع ؟


الشاب مُعترضاً : هم يطبخون الخضار والحلوى ، ونادراً ما يذبحون خِرافهم بحجّة الحليب والصوف .. رجاءً سيدي ، اريد تناول اللحم.. أكاد آكل الخاروف نيئاً من شدّة جوعي ! وأخاف أن ..

العجوز مقاطعاً : انا صيّادٌ ماهر ، ولي طريقة مسائيّة أستخدمها لصيد الأسماك الكبيرة .. ما رأيك ايها الشاب لوّ تستبدل اللحم بالسمك ؟

الشاب بحماس : موافق !!

فقال الزعيم : بشرط !! أن تعلمنا طريقة الصيد

العجوز : سأفعل .. وبذلك تصطادون طعامكم ، بدل سرقة مزروعات غيركم 

^^^


وتتبّع المجرمون العجوز الى الشاطىء ، وهم ينيرون طريقهم بالقناديل..

ليراقبوا باهتمام طريقة العجوز الغريبة بالصيد : عن طريق حفره قناة بالشاطىء ، ووضع الطُعم (مجموعة ديدان) في نهايته !


وخلال دقائق ، سبحت عدة اسماك بالجدول الصغير.. ليتم صيدها بسهولة بعد وقوعها بالفخّ الضيّق.


ثم علّمهم طريقةً سريعة للشواء بنكهةٍ لذيذة ، مُستخدماً بعض الأعشاب البرّية .

وتركهم يأكلون بشهيّة ، ليعود للنوم بالزريبة ..

***


بمرور الأيام ، أصبح العجوز مُرحّباً به في الفترة المسائيّة للمجرمين.. فهو أكبرهم سناً : فزعيمهم يبلغ الأربعين ، بينما هو في منتصف السبعينات.. ولهذا استطاع إخضاعهم تحت سلطته ، برقّة إسلوبه ورزانته الحكيمة .. 


حيث أخبرهم في إحدى الليالي : بأنه لا يمكنهم الإستمرار بهذه الفوضى ! وعليهم الإندماج مع اهالي القرية المُستعدين لتزويجهم بناتهم ، في حال أحسنوا التصرّف .


وبصعوبة استطاع العجوز الجمع بين الفريقين (عصراً) ضمن احتفالٍ كبير ، بعد إقناع الأهالي بتزيّن بناتهم لمشاركة المجرمين الحفل ! 

وكان لهذا وقعٌ كبير على قلوب الشباب الذين أبدوا استعدادهم للعمل مع الآباء ، كمهر لبناتهم الفاتنات.. حتى أن زعيمهم أُغرم بأمرأةٍ أرملة من جيله 

^^^


بنهاية الحفل.. قسّم العجوز المهام على المجرمين الخمسين : حيث وافق بعضهم على العمل بالزراعة .. بينما أبدى الآخرون إهتمامهم بالمواشي .. وفضّل قسمٌ منهم الصيد البرّي او البحري .. ومنهم من تطوّع أن يكون حطّاباً ..وأثنين رغبا بتعلّم الطبّ البيطريّ من رجلٍ مُختصّ بهذه المهنة


وبذلك أُلغي العقد القديم : حيث سُمح للمجرمين الخروج صباحاً ، لبناء اكواخهم استعداداً للزواج .. بعد قيام زعيمهم بإغلاق بوّابة السجن القديم ، بزنّزاناته الرطبة بشكلٍ نهائيّ !  

***


بنهاية العام .. أُقيم حفل زواجٍ جماعيّ للمجرمين الخمسين الذين أثبتوا للأهالي طوال العام ، حسن نواياهم من خلال نشاطهم ومواظبتهم على العمل الشريف. ..لتتحوّل الجزيرة الى مجموعة عوائل ، بعد اندماجهم اخيراً بالمجتمع !

***


بعد سبع سنوات ، امتلأت الجزيرة بالأولاد والأطفال حديثي الولادة 


ولم يمضي وقتٌ قصير .. حتى أقيمت جنازة حضرها الجميع ، بعد وفاة العجوز الذي وحّد صفوفهم !

***


بعدها بشهرين .. قدمت سفينة من الدولة ، لنقل السجناء الى السجن المركزي ! ليُسارع الأهالي بتخبئة المساجين القدامى داخل زرائبهم وفوق اشجار الغابة .. مُدّعين بنائهم لسفينةٍ قبل سنوات ، والإبحار بها في جوٍّ عاصف .. وطالما لم يصلوا للمدينة ، فهذا يعني موتهم غرقاً


فاقترح القبطان على الأهالي ، ترك الجزيرة والعودة معه للمدينة.. لكنهم رفضوا ، بعد بنائهم مدرسة لأولادهم وعيادة للطبّ الشعبيّ.. 

فعاد القبطان مع الحرس بعد فشل مهمّتهم ! 

وذلك بعد قيام المسؤول بإغلاق السجن المهجور بالشمع الأحمر .. 


ليعود المجرمون الى منازلهم وهم ينوّون إكمال حياتهم بسلام ، بعيداً عن انظار الإعلام والشرطة التي أغلقت ملفّاتهم القضائيّة ، كخاتمة لسجن الجزيرة المهجور !  


هناك 14 تعليقًا:

  1. تخيّلت القصة كفيلمٍ أجنبيّ ! .. أتمنى أن تعجبكم

    ردحذف
  2. أنا حرفيا كل قصصك أتخيلها كفلم أجنبي ههههه قصة جميلة تمنيت أن تكون أطول قليلا استمري

    ردحذف
    الردود
    1. طالما تتخيّل قصصي كأفلام ، معناها إن مهمّتي نجحت بإيصال خيالي للقرّاء الأعزّاء .. تحياتي لك

      حذف
  3. عاصم : تصلح فعلا كفيلم .
    لو تركنا وشاننا بدون حكومات مثل هذه القريه لاختفت اغلب مشاكلنا . فلن يشغلنا الدولار وارتفاع سعره وعدم وجوده اصلا وغلاء الدواء ونقصه والوقود والطعام والكهرباء والماء والغاز...الخ من هذه الأساسيات التي صار توفيرها شقاء وعناء .
    كانت المقايضه افضل نظام اقتصادي واجتماعي عرفه البشر .
    والقادم احلك لا محاله .

    ردحذف
    الردود
    1. إن بقينا على هذه الحال ، سنعود للمقايضة لا محالة .. تحياتي لك

      حذف
  4. ربما سيُقطع الإنترنت في لبنان في الأيام التالية .. كما سأتوقف عن الكتابة بيوم 6 تحضيراً لعمليّة امي الجراحيّة ، ومرافقتها في المستشفى .. يعني ان توقفت عن النشر ، سيكون لهاذين السببين.. تحياتي للجميع

    ردحذف
    الردود
    1. القصة رائعه وحقا تستحق لتكون فيلم
      لكن لديك خطئ بالاملاء
      هو ليس خاروف
      بل خروف
      وان اردتي التوظيح اكتبيها خَروف هكذا^^

      سلمت يداك للقصة ،وشافا اللة والدتك
      سأبدء باذن الله بكتابة القصة هذه الايام وساكتبها هنا تحديداً
      تحياتي لك ونلتقي على خير

      حذف
    2. نلتقي على خير .. بالتوفيق لك

      حذف
  5. عاصم : تجريها على خير باذن الله وشفاءا تاما
    لها واعانك الله عليها .

    ردحذف
  6. استمري عزيزتي أمل فقد رأيت فيك قدوة في المجال الأدبي الابداعي، تمنياتي لكِ بالتوفيق❤️

    ردحذف
    الردود
    1. بارك الله فيك .. وشكراً لتعليقك الداعم.. تحياتي لك

      حذف
  7. شياء يعجبني فيك انكي علي المبدأ والله يحزني كتبه مثلك ولديها هذ الكم من لأبدع والقصص ورويات تضل في خفاء تعرفت على امل شنوحه من خلال موقع كابوس وقت كنتي رئيسة الموقع وبعدها تركتي موقع اتمنه الك الوقت طيب امل والله يحفظك ويسعدك

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً عزيزتي شيماء .. أخجلتي تواضعي .. أتمنى أن تنال قصصي إعجابك دائماً .. تحياتي لك

      حذف

مسابقة الجدارة

تأليف : امل شانوحة منصبٌ رفيع إستوفى خمسة شباب شروط الوظيفة في شركةٍ مرموقة .. واجتمعوا في مكتب المدير العام (أغنى تجّار البلد) الذي قال لهم...