الثلاثاء، 7 ديسمبر 2021

إحتكار الهواء

تأليف : امل شانوحة 

المدينة المُحتجزة


تقع مدينةٌ هادئة في واديٍ مُحاط بالجبال العالية ، ومنفذها الوحيد للمناطق الأخرى هو جسرٌ مُعلّقٌ قديم .. 

وفي الماضي أخبرهم الأجداد عن إنفجارٍ بركانيّ حصل للجبل الشامخ قبل مئة عام ، لهذا لم يتوقع السكّان أن يثور ثانيةً في آخر الليل أثناء نومهم !

حيث استيقظوا فزعين على صراخ أحدهم ينادي بفزعٍ شديد :

- إستيقظوا جميعاً ، البركان يُحاصرنا من كل مكان !! 


فهرعوا الى خارج منازلهم ، ليشاهدوا حمماً بركانيّة تجري على شكل نهرين من الجحيم ، أحاطتا بمدينتهم الصغيرة من الجانب الشرقي والغربيّ!


فأسرعوا نحو منفذهم الوحيد ، ليصابوا باليأس والحيرة بعد انقطاع الجسر المعلّق عند مرور الصخور المُنصهرة بجانبه !

فعادوا للإختباء في بيوتهم ، وهم يغطّون أنوفهم من السحابة الرماديّة التي غطّت مدينتهم بالكامل..وسُمع سعال الأهالي المتواصل طوال الليل .. 

***


عند بزوغ الفجر ، خرجوا لاكتشاف حجم الكارثة التي وقعوا في أسرها .. ليجدوا مدينتهم مُحاصرة من كل جهة ! عدا عن الغيمة الضخمة السوداء التي حجبت معظم ضوء الشمس .. 

وخاف المسؤولون من حدوث كارثة إنسانية بعد تفاعل الحممّ والمياه البحريّة التي ستؤدي لإطلاق غازات ثاني أكسيد الكربون والميثان ، مُضاعفةً حجم السحابة الخانقة .. عدا عن إحتماليّة هطول الأمطار الضارّة بالزرع والدواب ..


وبعد بحثهم عن الناجيين : إكتشفوا جثث عائلاتٍ احترقت بيوتها المتواجدة في مجرى النهر البركانيّ .. كما موت الأشخاص الذين يعانون من الربو ، لعدم قدرتهم على التنفس بهذا الجوّ الخانق .. 


وقال لهم رجلٌ مثقّف :

- إن التسرّب البركاني فصلنا عن بقيّة المناطق .. ولوّ أن بركاننا انفجر ، لأرسل من حولنا المساعدة بعد سماعهم لصوته المهيب ..لكن الحمم سالت بهدوء مساءً ! تماماً كما حصل في بومبي قديماً ، وقتلتهم اثناء نومهم .. 

فقال رجلٌ آخر : لا أعتقد جيراننا سيساعدونا بعد الخطابات المعادية لرئيس بلديتنا الراحل الذي دمّر علاقتنا معهم ، ولا أظنهم يكترثون بمصيرنا ..


فردّ المثقّف : هذا إن لاحظوا ما حلّ بنا أصلاً ! فالسحابة الرمادية فوق وادينا مباشرةً ، ولا تظهر من خلف الجبل الشاهق الذي يفصلنا عنهم ..

شاب بيأس : وهآ نحن أصبحنا في حصارٍ شامل بعد انقطاع الشبكة عن جوّالاتنا! 

المزارع : لا تيأسوا يا اصدقاء ، فلديّ طائرة صغيرة لرشّ المبيدات الزراعية.. سأحلّق بها للجهة المقابلة ، لإحضار المساعدة 

عجوز : إذهب في الحال ، نحن بانتظارك يا بطل !! 

***


لم تمرّ ساعة ، حتى رأوا لهيب الطائرة من بعيد ، بعد ارتطامها بسفح الجبل .. ويبدو أن الطيّار (المزارع) لم يلاحظ ذلك ، بعد اختراقه السحابة الرماديّة التي عطّلت أجهزة الرقابة في طائرته .. وبموته ، خسروا فرصتهم الوحيدة للنجاة !


وأثناء تجمّعهم في الساحة ، سمعوا رعداً قوياً .. فأسرعوا للإختباء في بيوتهم كيّ لا يصابوا بالأمراض من المطر الملّوث ، الذي دمّر مزروعاتهم ونفقت دوابهم التي لم تُحتمى في الحظائر خلال ساعتين فقط !

اما الأشخاص الذين تعرّضوا للبللّ ، فأصيبوا بحروق في جلودهم بسبب حمض الكبريتيك للأمطار الملوّثة ! 

***


وكلما مرّ الوقت ، أصبح الجوّ خانقاً وغير قابل للتنفّس.. وأدرك الأهالي إنهم لن ينجوا من الموت ، إلاّ باستخدام أقنعة الأكسجين .. فتجمّعوا خارج بوّابة المستشفى الوحيدة هناك ، مُطالبين بإنقاذهم قبل نفاذ الهواء الصالح للتنفّس من الجوّ ..


فخرج اليهم مدير المستشفى (التي ورثها عن والده الجرّاح الطيب) وهو يضع قناع التنفّس على وجهه ، قائلاً بمكبّر الصوت :

- أعرف حجم الكارثة التي نزلت بأهل مدينتي ، فجميعنا مُعرّضون للموت دون أقنعة التنفّس .. لكن للأسف !! عدد الأنابيب والأقنعة محدود في مستشفايّ ، لهذا لن أعطي سوى إنبوبة وثلاثة أقنعة لكل منزل 


فضجّت الناس برعبٍ شديد ، وقال احدهم :

- معظمنا لديه اكثر من خمسة افراد في بيته ، هل نحرمهم من الهواء؟!

المدير : اذاً إختاروا من منهم يستحق الحياة

فالتفتوا لبعضهم بقلق !.. فأكمل المدير قائلاً :

- برأيّ الذي يستحق القناع الطبّي : هو من تجاوز عمره 18 ، ودون سن 50

فضجّت الناس من جديد ، مُعترضين على قسمته الظالمة !


مدير : أنا أفكّر بمدينتنا بعد انتهاء الكارثة ، فشبابنا من سيعمّرها من جديد .. لهذا لا داعي لحصول المعاقين والمرضى الميؤوس منهم والعجائز والرضّع والمساجين على الأقنعة ، فهم ليس لديهم فرصة للنجاة بجميع الأحوال 

فصرخ أحدهم غاضباً : انا لن أقتل امي بسبب إحتكارك لأجهزة التنفّس !!

المدير بلؤم : اذاً أعطها جهازك ايها الإبن البارّ ، فهذا قرارك .. 


فعمّ الصمت المتوتّر بينهم .. بينما أكمل المدير قائلاً :

- نحن محتجزين الآن في مدينةٍ منكوبة ، ولا ادري إن كانت المناطق المجاورة ستلاحظ مصيبتنا ..وإلى أن ينتبهوا ويرسلون لنا فرق الإنقاذ ، تكون قوارير الأكسجين نفذت من مخزن المستشفى .. لذا عليكم إختيار من يستحق من اهلكم البقاء حيّاً .. وإن كان لديكم الكثير من الأبناء ، فاختاروا الأصلح بينهم 


فاعترض شابٌ رياضيّ على اقتراحه ، قائلاً لأهل مدينته :

- انا لديّ حلٌ آخر !! سأتسلّق الجبل المجاور للبركان ، وسأنزل منه الى القرية المجاورة ..وهناك اتصل بالسلطات لإنقاذنا جميعاً 

المدير بنبرةٍ ساخرة : تحتاج مدةً طويلة للقيام بمهمّتك المستحيلة .. كما أظن الجبال المجاورة ارتفعت حرارة حجارها بسبب البركان ، ونجاتك مُعجزة بحدّ ذاتها..

الرياضيّ بعصبية : تبقى مغامرتي أفضل من رؤية أحبّائنا يموتون بقرارٍ منا .. وانا استطيع إنجاز المهمّة ، صدّقوني !!

فقال له عجوز : إذهب يا بنيّ واجلب المساعدة لنا ، كان الله في عونك

الرياضيّ : سأذهب فوراً لمنزلي ، لتجهيز عدّة التسلّق .. وإلى أن أُحضر فرق النجاة ، عليكم مُقاسمة قوارير الأكسجين مع عائلاتكم   


وبعد ذهابه ، قال المدير ساخراً :

- يحتاج على الأقل إسبوعين إلى شهر لإنقاذنا .. الى ذلك الحين ، تكون السحابة السامّة قضت علينا جميعاً .. لهذا سأبدأ بالمزاد العلني 

العجوز بدهشة : هل ستبيع القوارير لنا ؟! 

المدير بلؤم : وهل ظننت إنني سأهديها لكم بالمجّان ؟

العجوز : لكن هذه مستشفى حكوميّة ، والدولة دفعت سعر الأكسجين 

المدير : واين الدولة الآن لتمدّنا بالمزيد ؟  

العجوز : أنا فقير ، فكيف أدفع لك ؟!

المدير : من لا يملك ثمن الهواء ، فلا حاجة لحياته البائسة

فابتعد العجوز عن الجموع ، باكياً ومنكسراً..


الرجل مُعاتباً : لما قسوت عليه ؟ هو بعمر والدك

المدير : قلّ بعمر جدي .. ولا اظن اولاده سيفضلّون حياته على ابنائهم الصغار ، فهو ميت بجميع الأحوال .. المهم !! لنُكمل عملنا .. سأحدّد سعر القارورة ب300 دولار ، وسعر الكمّامة الواحدة ب 10 دولار 

- هذا أغلى بكثير من سعرهما الحقيقي !

المدير : وهل تظنني غبي كيّ لا أستغلّ حالة الطوارئ التي نعيشها

- ايها اللعين !! أتحتكر الهواء ؟!

- والدك كان جراحاً طيباً ، وتعامل مع الجميع بإنسانيّة 

المدير : ابي مات وانتهى امره .. الآن من سيشتري القارورة ؟ فسعرها قابل للزيادة في الأيام المقبلة ، لأن الكميّة محدودة


فسارع الأثرياء والطبقة المتوسطة بشراء القوارير منه .. ليعود كل واحداً منهم بعددٍ قليل من أقنعة الأكسجين ، وهو حزين لتوزيعها على من اختاره من أفراد عائلته (ممّن برأيه يستحقون الحياة) !

***


ومرّت الأيام بصعوبة على اهل المدينة بعد زيادة تلوّث الجوّ ، حتى بات التنفّس مستحيلاً دون قناع .. 


وتعدّدت المشاهد الحزينة : بين صراخ الأطفال والمعاقين الذين وجدوا صعوبة في التنفّس .. وهيجان المساجين الذين قرعوا بأكوابهم على القضبان الحديديّة مطالبين الحرس بإنقاذهم .. وبين دعوة العجائز الغاضبين على اولادهم الذين رفضوا مشاركتهم الأكسجين ، بحجّة عيشهم حياتهم .. وبكاء الأهالي الذين أُرغموا على إزالة أقنعة التنفّس عن مرضاهم والرضّع الخدّج ، لأخذ قارورتهم الى بيوتهم .. وبين اختيار الأب لأفضل ابنائه لإعطائه الأكسجين ، بعكس المشاغبين الذين ترجّوه بسماع اوامره في حال أعطاهم فرصة للنجاة 


ومع هذه الحوادث العنيفة اللاّ إنسانية زاد عدد الموتى ، ولم يعد هناك متسّع في المقبرة الرئيسية ، فاضّطروا لرميّ الجثث في البحر 

وتحققّت رؤية المدير : ببقاء الشباب احياءً بعد رفضهم إعطاء أقنعهتم لوالديهم وأخوتهم الصغار ، وفضلّوا مراقبة موتهم لإنقاذ أنفسهم ! 

حتى إن بعضهم قتل أخاه او صديقه او جاره لأخذ قناعه بالقوة ، بعد نفاذ قارورته من الأكسجين ..لتُظهر هذه المحنة اسوء صفات أفراد المجتمع (المُسالم سابقاً) ! 

***


لم تمضي ثلاثة اسابيع حتى خلت السجون من المتهمين .. والمستشفى من المرضى ..والمدارس من الطلاّب الصغار .. وأُغلقت دار المعاقين والعجزة بعد موت جميع نزلائها !

وكثرت حالات سرقة الأقنعة من داخل المنازل ، فصار الشباب يلصقونها بوجوههم اثناء نومهم ..


ووصل اليأس بالشباب بعد دفنهم أقاربهم ، لانتحار بعضهم ! ليُسارع جيرانهم باقتحام منازلهم للحصول على ما تبقّى من قوارير الأكسجين ، بعد نفاذ الكميّة في المستشفى ..وما بقيّ في مخزنها إرتفع سعره بشكلٍ خياليّ ، حتى اضّطر اكثرهم للتنازل عن ملكيّة منزله وأرضه للمدير الجشع ، مقابل قارورة صغيرة من الأكسجين!

***


وفي يوم .. تجمّع الشباب الغاضبين في الساحة ، لإيجاد حلٍّ مع المدير الذي انتقل للعيش في مخزن المستشفى ، لضمان احتكاره لثروته ! 

وقرّروا إقتحام مخزنه لأخذ القوارير بالقوة ، قبل موتهم جميعاً 


وقبل تحرّكهم الى هناك .. تفاجأوا بالرياضيّ يناديهم من بعيد ، بعد عودته من مغامرته الخطيرة !

فتجمّعوا حوله ، ليخبرهم أنه اتصل بالحكومة التي أطلعها على حجم الكارثة .. ووعده المسؤول بنقل الأحياء منهم الى المدينة المجاورة ..


فهلّلوا فرحين بنجاح مهمّته الصعبة .. وتعاهدوا فيما بينهم : أن لا يخبروا احداً بالوحشيّة التي حصلت في مدينتهم (بسبب طمع مدير المستشفى) كيّ لا يتساءلوا قانونياً عن عدم مساعدة غيرهم ومشاركتهم أقنعة الأكسجين ..

***


بعد ساعتين ، سمعوا أصوات المروحيّات قادمة اليهم ! 

فأسرع ممرّضان لإخبار مديرهم بذلك .. ليتفاجآ بعشرات القوارير الموجودة في مخزن المستشفى ، أضعاف الرقم الذي أخبرهم به قبل أيام! 

فلم يتحملا حقارته باحتكار الهواء ..

ورفع أحدهم السكين عليه ، فأخبرهما خائفاً : إنه فعل ذلك لصالحهم ..فهو اراد رفع سعرها ، للحصول على المزيد من المال لتطوير المستشفى وزيادة رواتب الأطبّة والممرّضين 


فقال الممرّض لزميله :

- دعه !! هو لا يستحق تلويث يديك بدمائه القذرة .. لنتركه هنا حتى يتعفّن تماماً

المدير بغرور : لن تستطيعا حبسي للأبد ، فالشباب سيبحثون عني بعد نفاذ أكسجينهم 

- لا ، لن يحتاجها أحد بعد اليوم 

المدير بقلق : ماذا تقصد ؟!

فقال الممرّض لزميله : لا تخبره بشيء

(فالمدير لم يسمع صوت المروحيّات ، لوجوده في مخزنٍ تحت الأرض) 

المدير بغضب : مالذي استجدّ يا ملعونين ؟!! ..أحلف إن تركتماني هنا ، ستُطردا من مستشفايّ للأبد !!


فلم يهتما لتهديده ودفعاه للخلف ، ليقع على الأرض ..ويُسرعا بقفل الباب عليه ..

فصرخ المدير مرتعباً : 

- رجاءً لا تفعلا ذلك ، سأموت من الجوع !!

الممرّض بتهكّم (من خلف الباب) : 

- كُلّ الهواء الذي احتكرته علينا ، لعلّه ينفعك 


وخرجا من المستشفى ، دون اكتراثهما بطرقاته العنيفة وبكائه الخائف !

***


عند وصولهما لساحة المدينة ، شاهدا الشباب يركبون المروحيّات تِباعاً لنقلهم لمكانٍ آمن .. 

وكان الممرّضان آخر الواصلين .. وبعد جلوسهما في الطائرة ، سألهم الطيّار :

- هل يوجد غيركما في المدينة ؟ 

الممرّض : لم ينجو من البركان سوى 25 شاباً ، فهل نقلتموهم جميعاً ؟

الطيّار : إذاً العدد صحيح .. لنبتعد من هنا ، فالجوّ خانقٌ بالفعل  


وارتفعت الطائرة .. والممرّضان ينظرا لمدينتهما المنكوبة ، دون ذكرهما إسم مدير المستشفى الذي سيبقى مُحتجزاً وحده مع قوارير الهواء ، حتى آخر نفسٍ له!  


هناك 3 تعليقات:

  1. سلام الله عليه عليكم اخت أمل أرى انك قد اضفتي قصصا جديدة الى مدونتك فللأسف الشديد لم استطع أن أطلع على المدونة منذ اسبوعين لأني مشغولا ببعض المشاكل التي اتعبتني وشغلت تفكيري فلا اريد أن أقرأ قصصك إلا وأنا مرتاح البال لإنها بالنسبة لي شيئا من الذكريات الجميلة والاوقات السعيدة رغم أني موجود إلا أني شارد الذهن ولكن مهما طال غيابي فأنا عائدا بإذن الله لإني محتاج لكلماتك الجميلة كي أنفث غبار الهم والأحزان فأرجوا من الله تعالى أن تبقي لنا أملا بعد آلام ودمتي ودام الخير بوجودك وسلام الله عليك في حلك وترحالك
    اخوك طارق

    ردحذف
    الردود
    1. اهلاً اخ طارق .. ازال الله همومك ، وأفرح قلبك .. لا تفكّر كثيراً بالمشاكل ، فقط استخرج منها العبرة التي ارادك الله ان تتعلّمها من المصيبة ..إتكل على الله وأنت متيقن إن الأيام السعيدة قادمة لا محالة .. إفعل مثلي ، انا اكتب منذ 24 سنة ونصف ومازلت أؤمن بأنني سأنجح بالنهاية ، لأن لكل مجتهدٍ نصيب .. الله لم يخلقنا لنتعب ، بل لنصبح أفضل نسخةً منا ..وهذا لن يحصل الا بالتجارب الصعبة .. اما من ناحية قصصي الجديدة ، فأتمنى أن اعرف رأيك بهم قريباً بعد أن يهدأ بالك .. تحياتي لك

      حذف

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...