الأحد، 6 يناير 2019

إنتقام الأرواح

تأليف : امل شانوحة

 
الوسادة كشفت السرّ !

ذهبت عائلة فؤاد للمبيت في منزل جدته المريضة في القرية الثانية , بينما بقي الشاب في بيته ساهراً على الإنترنت لقراءة مواضيع الجن التي لطالما أثارت إهتمامه .. وظلّ يشاهد فيديوهات عنها , حتى غفى في منتصف الليل  

وفي منامه .. سمع امرأة تحدّثه : 
- يبدو انك مُغرمٌ بعالمنا , كجدك .. إذا أردّت معرفة المزيد , فتعال وقابلني
فؤاد : وأين أجدكِ ؟
- في مطبخ منزلكم 

واستفاق , ليجد الوقت مازال ليلاً .. فلم يعرّ الحلم إهتماماً , وحاول العودة الى النوم.. 
لكنه فجأة سمع خربشات أظافر صادرة من فِراشه , وكأن قطةً محشورة بالداخل ! 
فأنّصت جيداً لمصدر الصوت , ليسمع صوتاً خافتاً يقول له : 
- تعال وواجهني يا جبان 

فنهض من سريره فزعاً ! ..ورغم تردّده , الا ان حسّ المغامرة جعلته يذهب الى المطبخ .. ليتفاجأ هناك بوجود صبية بشعرها الأسود الطويل وملابسها البيضاء الفضفاضة.. وحين اقترب منها , وجدها تأكل بقايا الأرز من صحنٍ منقوع بالماء القذر في الحوض .. وكان الأمر مقزّزاً , فتراجع للخلف بضعة خطوات قبل ان تُدير وجهها اليه , لتظهر عيناها المخيفتان ممّا جعله يتجمّد في مكانها , بينما كانت تطفو بخفّة نحوه !
ثم كتبت شيئاً على صدره بأظافرها الطويلة , واختفت !

فاستيقظ من نومه على صوت المنبّه مع إشراقة الشمس.. فأبعد الحاسوب عنه وهو يقول :
- هذه آخر مرّة اقرأ فيها عن الجن والعفاريت .. كم الساعة الآن ؟ .. آه تأخّرت !!

وبعد نصف ساعة .. وقبل ان يُزرّر قميصه , شاهد بالمرآة خربشات على صدره , وكأنها كتابةٍ بلغةٍ غريبة ! وتذكّر المنام , فقال في نفسه : 
((ترى ماذا أرادت ان تُخبرني به الجنية ؟!)) 
وصوّر صدره المجروح بالجوّال , ثم خرج للعمل ..
***

حين عاد عصراً الى المنزل .. إنتبه بأن الكتابة إختفت من صدره! 
ومرّ يومين آخرين وعائلته مازالت في منزل الجدة التي يبدو انها تحتضر 

وذهب مساءً الى القهوة لرؤية اصدقائه , وأخبرهم بما حصل معه.. لكنهم ضحكوا عليه حين أراهم جوّاله , بعد اختفاء الكتابة الغريبة من الصورة ايضاً !

فتضايق فؤاد من سخرياتهم , وخرج غاضباً من القهوة .. ليلحقه رجلٌ مُسنّ غريب عن القرية , منادياً : 
- يا شاب !! أرني تلك الصورة , فقد سمعت حديثك بالصدفة
- لكن يا عمّ , الكتابة إختفت تماماً !
العجوز بثقة : لا تقلق , فمازال بمقدوري رؤيتها .. هيا أرني ما كتبته لك الجنّية , فأنا خبير بلغتهم

ورغم ان كلامه أرعبه , لكنه امتثل لطلبه .. وبعد ان رأى الصورة , قال له بحزم : 
- إذهب فوراً الى بيت جدتك , فهناك سرّ عليك إكتشافه بنفسك 
فؤاد باهتمام : وماهو ؟!
لكن العجوز إبتعد دون ان يجيبه !  
***

وعاد الشاب الى بيته .. وقبل ان ينام , إتصلت امه لتخبره : بأن جدته تنادي بإسمه دائماً وهي غائبة عن الوعيّ .. وأصرّت ان يأتيهم غداً لتوديع جدته قبل وفاتها .. 
ورغم كره فؤاد للزيارات العائلية , لكنه وافق بعد تذكّر كلام العجوز الغامض !
*** 

وفي عصر اليوم التالي .. وصل فؤاد الى بيت جدته التي لم تعيّ اصلاً بوجوده !
وظلّ مع عائلته الى ان حلّ المساء , لكن امه رفضت عودته الى المنزل وأصرّت ان يبيت في غرفة جده المتوفي 

لكن الوسادة الطرية لم تريحه .. وبعد يأسه من محاولات النوم , فتح خزانة جده ليجد وسادة أخرى قاسية كما يحب , والتي ما ان وضع رأسه عليها حتى غفى على الفور  
***

لكن بعد ساعتين , إستيقظ فزعاً على صوت مشاجرةٍ عنيفة بين رجلين ! ثم اشتدّ العراك بينهما وكأنهما تشابكا بالأيدي , فقفز فؤاد من فراشه لفتح النافذة .. لكنه لم يجد أحداً في الشارع , كما كان المنزل هادئاً بعد نوم الجميع ! 
فقال في نفسه بضيق : ((اللعنة ! كابوسٌ جديد)) .. ثم عاد للنوم 

وفي منامه ((شاهد المتخاصمين : أحدهما كان جده وهو في الخمسين من عمره , وهو العمر الذي توفي فيه ! 
والآخر : رجلٌ في الثلاثين من عمره 
ووقف فؤاد يشاهدهما من طرف الغرفة وهما يسدّدان اللكمات لبعضهما بعنف , مع أقذر الشتائم ! 

فأراد مساعدة جده , لكن يد امرأة أوقفته ! وحين نظر الى الصبية , وجدها جدته (كما في صورها العائلية القديمة) 
ثم شاهد الرجل وهو يضع الوسادة القاسية فوق رأس جده ويضغط عليها بقوة , الى ان توقفت حركة الجد بعد موته إختناقاً ! 

وإذّ بجدته تُسرع لاحتضان الرجل بعد إنهياره بالبكاء , مُحاولةً تهدئته وبأنه قام بعملٍ بطولي لتخليصها من زوجها المتوحش (كما وصفته)
فقال لها الرجل : علينا التخلّص من جثته قبل طلوع الفجر  
فقالت له : لا تقلق حبيبي , سأساعدك بحمله لدفنه بالحقل .. فأهالي القرية نائمون حتماً في هذه الليلة الهادئة , قبل عودة القصف من جديد 

ثم شاهد فؤاد نفسه وقد انتقل جسده الى حقول , ليرى جدته وعشيقها وهما يدفنان جده تحت شجرةٍ كبيرة هناك .. 
ومن ثم ودّعها حبيبها قائلاً : 
- سأبتعد قليلاً عن الأنظار لحين انتهاء المشكلة , ثم أعود لأخطبك 
وهي تمسك بيده بخوف : أهذا وعد ؟
- أمازلتي تشكّكين بحبي بعد قتلي لزوجك ؟ سأعود , لا تقلقي

وهنا سمع فؤاد صوت جده من خلفه يقول غاضباً : 
- خذّ بثأري منها يا حفيدي البطل))

واستيقظ فؤاد وهو يتصبّب عرقاً .. وفي هذه اللحظات دخلت امه الغرفة للإطمئنان عليه , الا انها عاتبته بعد رؤيتها للوسادة على فراشه : 
- فؤاد ! لما أخذت وسادة والدي ؟ فأمي تمنعنا من لمسها لأن فيها رائحة المرحوم  
وأرجعتها الى الخزانة .. 

فقال فؤاد بنفسه بضيق : 
((كل تلك السنوات وجدتي تُوهمنا بحزنها الشديد على اختفاء جدي بظروفٍ غامضة ايام الحرب , لكني عرفت الآن بسرّها القذر ..الغريب انها لم تتزوج بعده , فهل خذلها حبيبها بعد ان أرغمته على القتل ؟!))

ثم سأل امه : كيف حال جدتي الآن ؟
الأم بحزن : ما زالت على حالها ! لا هي تستعيد صحتها , ولا هي تموت لترتاح من آلامها
- اريد ان ارآها
- هي نائمة الآن
فؤاد : اريد ان أقرأ لها بعض آيات القرآن
- حسناً بنيّ , لكن رجاءً بصوتٍ منخفض
***  

وحين دخل غرفة جدته .. مدّت يدها اليه بابتسامةٍ حنونة , لكنه وقف بعيداً عنها .. وحين رأت تعابير وجهه المُشمئزّة , قالت له :
- هل زارك جدك في منامك ؟
- نعم ! كيف عرفتي ؟
- لأنه أخبرني بأنه سيوكلك بالإنتقام له , لهذا طلبت رؤيتك
- ولماذا قتلته ؟
الجدة وهي تتنهّد بضيق : عدّني اولاً بأن لا تخبر سرّي لأحد 
- سأفعل .. ليس لأجلك , بل لسمعة العائلة
- اذاً اقترب وسأخبرك بكل شيء .. لربما راحة ضميري , تُخرج روحي لتخليصي من هذه الدنيا الكئيبة 

وجلس بجانب سريرها , فقالت وهي تمسح دموعها :
- زوجني والدي من جدك الذي يُكبرني بعشرين سنة رغم اعتراضي الشديد , ورغم معرفة امي بتعلقي الشديد بإبن الجيران الذي كان من ابناء جيلي , والذي التحق بالجيش مباشرةً بعد زواجي , ممّا حطّم قلبي المكسور .. والى اليوم مازلت ألوم عائلتي على سوء إختيارهم , ففارق العمر جعل الإتفاق بيننا مستحيلاً .. فأنا كنت أتوق للعاطفة والمعاملة الرقيقة , بينما كان همّ جدك الوحيد هو فكّ الأسحار للناس داخل منزلنا , رغم توسلي اليه للقيام بعمله في مكانٍ آخر , بعد ان عانيت وابنائي من الكوابيس ومن أذيّة الجن , لكنه شخصٌ اناني لا يهمّه سوى سمعته امام الناس , وتحسين صورته كشيخٍ جليل .. ورغم معاناتي الكبيرة مع جلافة طبعه , الا انني أخلصت له طوال السنوات العشر الأولى .. حتى عودة حبيبي من العسكرية , ففي تلك الأيام كان التجنيد إجباريّاً لمحاربة الإحتلال 
- وماذا حصل وقتها ؟

الجدة بابتسامةٍ حزينة : أذكر ان جدك كان مسافراً حين لمحت حبيبي يراقب منزلي من بين الحقول .. ولم أعيّ بنفسي الا وانا أركض اليه كعاشقةٍ مُتيمة , مُتناسيةً بأنني زوجة وأم لثلاثة أطفالٍ صغار ! وقد إتفقنا لاحقاً على إكمال علاقتنا بالسرّ , مُستغلين سفر زوجي للقرى المجاورة لفكّ الأسحار , حيث كان يتغيب عدة ايام كل شهر , تكفي لتذوّق الحب مع عشيقي الغالي
- وهل أنجبتي امي .. 
الجدة مقاطعة : فؤاد !! كما أخبرتك سابقاً , فأمك وأخوالك أنجبتهم قبل عودة حبيبي من الجيش , فلا تشكّك بنسبهم رجاءً
- حسناً , إخبريني مالذي حصل بالضبط يوم الجريمة ؟

الجدة بحزن : كان المفترض ان يبقى زوجي يومين في المدينة .. فوضعت ابنائي عند امي تلك الليلة , وانتظرت حبيبي مطوّلاً الى ان غفوت .. وفي منتصف المساء شعرت بشخصٍ ينام خلفي فظننته هو , واخطأت حين ناديت بإسمه , لأتفاجأ بصفعةٍ قوية من جدك وهو يسألني عن هوية عشيقي .. وحين رآني مُرتبكة تيقن من خيانتي , وبدأ يضربني بقسوة ..في تلك الأثناء إقتحم حبيبي الغرفة بعد سماعه صراخي من خارج المنزل .. وأظنك رأيت في منامك ما حصل بعدها ..
فؤاد بحنق : ومن بعدها أخبرتي الجميع بأن جدي أصرّ على السفر قبيل الفجر الى القرية الثانية بعد عودة القصف الجويّ , لعلاج مسحورٍ في حالةٍ طارئة .. ومن ثم اختفى , ولم تجدوا له أثراً ؟ 

الجدة : صحيح .. وبعد أشهر من إختفائه صدقوا كذبتي , واعتبروه ميتاً .. وأقمنا العزاء , ووضعنا شاهداً بإسمه على قبرٍ فارغ .. اما حبيبي فقد استدعوه الى الجبهة بعد اشتداد القتال , ولم يعدّ منذ ذلك الحين .. واستسلمت لفكرة موته , بعد مرور سنة على اختفائه !
فؤاد بضيق : يعني قتلت جدي دون جدوى !

وفجأة ! ظهرت لهما الجنية , وهي تطفو قرب الباب .. وكان صوتها صوت الجد الذي قال لفؤاد بحزمٍ وغضب : 
- والآن بعد معرفتك بقصة قتلي , قمّ وخذّ بثأري منها !!
وأشار على زوجته التي كانت ترتجف بقوة بجسمها الهزيل !  
فقال فؤاد وهو يبلع ريقه بخوف للجنية : وماذا تريدني ان أفعل يا جدي ؟
فقام بحركة بيديه : تعني خنقها  

وهنا انتبه فؤاد على جدته التي كانت تحاول إلتقاط أنفاسها بصعوبة , وكأن أحداً يُعذّبها ! وأمسكت بيده وهي تقول بألم : 
- ارجوك .. قمّ بما يطلبه منك جدك , وخلّصني من هذا العذاب .. فهو منذ مرضي الأخير , قام بتسليط اصدقائه الجنّ ليخنقوني كل مساء .. وما عدّتُ أتحمّل هذا الألم ..رجاءً أقتلني يا فؤاد !!

لكن حفيدها رفض ذلك .. وما ان قام من جانبها , حتى ألقت الجنية بين يديه وسادة جده القاسية , وهي تُشير بأن يخنق بها جدته .. 

وحين حاول فؤاد الهرب من الغرفة , تحوّلت الجنية الغاضبة الى زوبعةٍ سوداء إخترقت جسده .. لتتحرّك يداه فجأة , دون ارادةٍ منه ! وأمسك بالوسادة التي وضعها رغماً عنه فوق جدته , وأخذ يضغط بقوة على وجهها , وهو يبكي محاولاً إبعاد يديه دون فائدة , وكأن الجنية تحكّمت بأطرافه .. 

وظلّ على هذه الحال , الى ان توقفت جدته عن الحركة .. ثم خرجت الجنية من جسده , لتعود سيطرته على يديه الذي أبعدهما فوراً عن وجه جدته , ليرى عينيها المُبيضّتين تؤكدان وفاتها !
ثم كلّمته الجنية بصوتها الإنثويّ :
- هذا لا شيء امام ما سيفعله جدك بها في عالم الأرواح

ثم علت فجأة صرخات جدّته المتألمة من ضرب زوجها العنيف الصادرة من وسادة جده التي بيده .. ليُسرع برميها على الأرض , ويخرج باكياً من الغرفة .. فتجتمع عائلته من حوله لتهدأته , بعد معرفتهم بموت الجدة .. دون ان يدركوا يوماً بأنه قاتلها ! 
 *** 

ومع مرور الأشهر .. إزدادت موهبة فؤاد بفكّ الأسحار , حتى شبّههُ الناس بجده الذي يبدو انه كافأه على الإنتقام له ! 

كما انه داوم على زيارة قبر جده المدفون تحت شجرة الحقل , دون إخبار امه وأخواله الذين مازالوا الى اليوم يظنون بأن والدهم قُتل شهيداً بالحرب 

اما وسادة جده التي شهدت على الجريمة , فقد رماها ببئرٍ مهجور كيّ لا يسمع أحد ما سمعه تلك الليلة , حفاظاً على سمعة وشرف عائلته !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...