الاثنين، 14 يناير 2019

رحلة العجائب !

تأليف : امل شانوحة

لقد أنقذوني من موتٍ محتّم !

الجندي ريتشارد بضيق : لا !! لم أعد أحتملّ , سأذهب الآن الى الثُّكنة
صديقه هاري : يا مجنون ! ستقتلك العاصفة 
مارتن : او رصاص الأعداء 
ريتشارد بعصبية : لنا اسبوع ونحن ننتظر نقلنا الى المعسكر , لكنهم لم يرسلوا أحداً لنجدتنا رغم كثرة الرسائل التي أرسلناها لهم , حتى لم يكترثوا بمدِّنا بالمؤن الغذائية ! لهذا قرّرت الذهاب وحدي الى هناك .. فإن متّ وانا أحاول , لهو أفضل من إنتظاري الموت داخل هذه الخيمة الباردة اللعينة !!

ثم خرج من الخيمة , تاركاً صديقيه وبقيّة رفاقه العشرة يتدفأون حول شعلة النار .. 
بينما انطلق هو الى الثكنة العسكريّة البعيدة , مُستعيناً ببوصلته .. وهو يعلم بأن فرصته بالنجاة قليلة , إن لم تكن مُعدمة !
***

وأمضى ريتشارد نهاره الأول وهو يمشي بصعوبة بين الثلوج , داخل غابةٍ موازية للنهر المتجمّد , ببطنٍ خاوٍ وثياب بالكاد تدفئه ! 

وفي المساء .. وما ان شعر ببرودة الصقيع , حتى ندم على قراره الإنتحاري للقيام بهذه المجازفة الخطِرة , الا ان رغبته في إنقاذ رفاقه كانت ومازالت الدافع الأول لمغامرته المجنونة ! 

وحاول إشعال النار بعد جمعه القليل من الحطب , لكن ولاّعته لم تضيء ممّا زاد الأمر سوءاً .. فحاول إشعالها بالطريقة البدائية , لكن رجفة يديه المتجمّدتين حالت بينه وبين حصوله على الدفء اللازم للبقاء حيّاً .. 

لكنه لم ييأس من محاولة إشعال الحطب تكراراً ومراراً , الاّ بعد اختراق الغصن لراحة يده مُتسببة بنزيفٍ مؤلم .. فصرخ بعلوّ صوته متألّماً , دون الإكتراث من وجود الأعداء قربه .. لأنه بات يتمنّى الموت في ظلّ الظروف السيئة التي يمرّ بها ! 

وبعد ان هدأ روعه , ربط يده المجروحة بقطعة قماشٍ مزّقها من طرف قميصه .. ثم استلقى بظهره على الشجرة , وهو يتلوّ التراتيل التي يحفظها إستعداداً للموت
***

الغريب انه نام تلك الليلة وهو يشعر بدفءٍ كبير ! 
وحين استيقظ صباحاً .. وجد الحطب مسّوداً امامه , وكأن شعلتها انطفأت للتوّ ! مع انه لا يتذكّر انه نجح في إشعالها ! 

وتحسّس أطرافه , خشية ان تكون تعرّضت لقضمة الصقيع اثناء نومه .. لكنه كان بخير وبإمكانه متابعة المسير .. فحمد ربه على نجاته من موتٍ محتّم , وأكمل طريقه .. 

وما ان مشى بضعة خطوات مُتعمّقاً في الغابة , حتى وجد منزلاً ريفيّ من طابقين ينبعث منه دخاناً ذو رائحةٍ جميلة ! 
فأسرع نحوه .. وطرق الباب , ويده الأخرى فوق زناد المسدس الذي خبّأه خلف ظهره , خوفاً من ان يكون بداخله جنود العدو .. 
لكنه وجد الباب مفتوحاً ! .. وحين دخل , لم يجد فيه احد ! 

وسرعان ما اشتمّ رائحة الحساء اللذيذة .. فأسرع نحو الموقد , وصار يتذوّقه مباشرةً من القدر الساخن 
وإذّ به يسمع صوت امرأة خلفه تقول بلغتها الروسية , التي كان يتقنها :
- إرفع يديك عالياً !!
وحين التفت اليها , كانت صبيةً شقراء تصوّب بندقية الصيد نحوه!
فقال لها بلغتها :
- ارجوكِ يا آنسة , لا تقتليني
- ولما لا ؟ فأنت من جنود العدوّ الإلماني 
- نعم , لكني لوحدي 
الفتاة : أرى ذلك .. هل يدك تنزف منذ وقتٍ طويل ؟
- منذ البارحة مساءً , وهي تألمني كثيراً 
الصبية : اذاً علينا تطهيرها قبل ان تتجرثم
- نعم رجاءً

الفتاة :أعطني سلاحك اولاً , ومن بعدها أضمّد جرحك وأطعمك..ثم تمضي في حال سبيلك , قبل عودة زوجة ابي وابنتها من القرية المجاورة
- وهل ستعودان هذا المساء ؟
الفتاة : اليوم او غداً صباحاً .. وانا كنت أطبخ لهما
- ولما تخدمينهما ؟! اليس هذا منزل والدك ؟
- نعم , لكنه تزوجها بعد وفاة امي .. اما هو , فقد قُتل برصاصة قنّاصكم السنة الفائتة
- آسف لسماع ذلك .. (وسكت قليلاً) .. لم اسألك , ماهو اسمك؟
الصبية : أولغا 
- مرحباً أولغا , انا ريتشارد .. 
- لا يهمّني من انت .. سأحضر لك المطهّر والشاشّ , إنتظرني هنا

واثناء تضميدها لجرحه , إنتبهت على نظراته المتأمّلة لوجهها الجميل
أولغا بضيق : لا تنظر اليّ هكذا , ودعني أركّز على عملي
- آسف , فأنا ضعيف امام الحسناوات 
لكنها لم تكترث لمدحه وتابعت العمل , ثم قالت : 
- وهآقد أنتهينا من الجرح.. سأسكب الآن الطعام , بشرط ان تأكله على عجل

وبالفعل شرب الحساء مع قطعتي خبز بنهمٍ شديد ..فسألته باستغراب :
- كيف تركك اصدقائك تذهب لوحدك الى الثكنة بهذا الطقس السيء؟!
ريتشارد : لأنهم فضّلوا انتظار المساعدة , لكني رجلٌ أحب المجازفة 
- وماذا ستفعل حين تصل الى معسكرك ؟
ريتشارد : سأطلب منهم إنقاذ رفاقي , ومن بعدها أُطالبهم بإعادتي الى المانيا
- أبهذه السهولة سيقبلون تسريحك ؟
الجندي بفخر : هم وعدونا في حال قمنا بمهمةٍ خاصة ان يكافؤنا بالعودة الى بلادنا , وقد أنهيتها مع اصدقائي بمهارةٍ ونجاح

أولغا بغضب : وكم قتلتم من ابناء شعبي ؟
- آسف عزيزتي لكنها الحرب , وأنا جندي مُضّطرٌ للإنصياع للأوامر ..ولوّ كان الأمر لي , لما لوّثت يديّ بالدماء .. فأنا استاذٌ محترم في قريتي
أولغا باستغراب : استاذ !
ريتشارد : نعم وكنت دائماً أعلّم تلاميذي الأخلاقيات ..لكنهم أجبروني على انخراط في هذه الحرب اللعينة بعد ان أصبح التجنيد إجبارياً في المانيا
أولغا بقهر : وفي روسيا ايضاً , بعد كثرة إعتداءاتكم علينا  
- كما قلت لك سابقاً , انها قوانين الحرب .. وربما يوماً تعود العلاقة بين الدولتين سلميّة , كما كانت سابقاً 

أولغا بغضب : لا أظن ذلك .. يكفي ما عشته البارحة لأحقد عليكم للأبد , فقد كنت أموت رعباً بعد اشتداد القصف من حولي
ريتشارد بدهشة : أيّ قصف ؟! فأنا كنت قريباً من هنا ولم أسمع شيئاً ! 
- هل انت أصمّ ؟! البارحة نزلت صواريخكم كالمطر فوق الغابة .. وبعد ان هدأتم , خرجت للإسطبل للأطمئنان على الماشية وحينها سمعت صراخك .. وفكّرت جدّياً بقتلك , لكن حين رأيتك ترتجف في نومك من البرد , شفقت عليك وأشعلت لك النار 
ريتشارد بدهشة وبإمتنان : أكان انتِ ؟! شكراً جزيلاً لك

في هذه اللحظات .. إشتدّ هدير الرياح في الخارج , فقالت له :
أولغا : العاصفة ! يبدو إنها عادت من جديد 
ريتشارد : اساساً كيف تعيشون بروسيا , فجوّها أبرد من طاقة البشر على التحمّل !
- لقد تعوّدنا على هذه الحياة القاسية .. المهم الآن , هل شبعت؟
- نعم , لكن هل ستخرجيني من بيتك في مثل هذا الصقيع ؟!  
أولغا : وهل ترضى ان نبقى لوحدنا في المنزل ؟ أتدري ما ستفعله زوجة ابي ان رأتك معي ؟ ربما تقتلنا سويّاً
- لا أظنها ستعود قبل انتهاء العاصفة
فسكتت الصبية وهي تفكّر بالأمر , فأسرع قائلاً :
- دعيني أرتاح قليلاً قرب الموقد , وأعدك بأن أذهب فور انتهاء العاصفة

وإذّ بأصوات الحيوانات ترتفع من حولهم ! 
فسألها ريتشارد باستغراب : 
- ما هذا الصوت ؟!
أولغا : أوه ! انها خِرافي , عليّ تدفئة الإسطبل حالاً .. هل تساعدني ؟
- بالتأكيد !! ويمكنني إطعامهم وتنظيفهم ان أردّتِ
- لا , لا تلمس القاذورات كيّ لا يتجرّثم جرحك ..فقط ساعدني في إشعال الموقد لهم .. هيا لنخرج
***

وبالكاد وصلا للإسطبل خلف المنزل , بعد اشتداد رياح العاصفة الباردة ..
وهناك قاما بما يستطيعان لإدفاء الحيوانات .. لكن قبل عودتهما الى المنزل , سمعت أولغا صوت عربة تقترب من المكان ! 
فقالت بقلق : يا الهي ! يبدو ان زوجة ابي وابنتها عادتا الى هنا  
ريتشارد بدهشة : أبهذا البرد ؟!

ثم استرق النظر من شقّ الإسطبل , ورآهما تنزلان من العربة باتجاه المنزل..
أولغا بقلق : إبتعد عن الباب , وتعال واختبئ بين القشّ ..هيا بسرعة !! 
- لكن ارجوكِ لا تنسيني هنا , سيدة أولغا
- لا تقلق ..سأطمئن عليك من وقتٍ لآخر , لكن إيّاك ان تظهر أمامهنّ 
***

ثم أسرعت نحو المنزل , حيث وجدتهما تتدفئان قرب الموقد .. 
فسألتها الأم :
- اين كنتِ ؟!
أولغا وهي تلهث : العدو اللعين !! لم يهدأ قصفه الا هذا الصباح , فذهبت الى الإسطبل للإطمئنان على المواشي.. وانتما ! كيف عدّتما بهذه الجوّ العاصف ؟!
الأم : كنّا في طريق العودة الى هنا , قبل ان نعلق في العاصفة .. 
ابنتها : من بعدها لا اعلم ماذا حصل ! أظنني غفوت , وحين استيقظت كنّا وصلنا الى هنا .. 
امها : وانا ايضاً لا أذكر سوى بداية الرحلة .. انه لأمرٍ غريب ! 
فنظرت أولغا من النافذة وسألتهما : 
- واين سائق العربة ؟ لا اراه في الخارج ! 
زوجة ابيها : ربما عاد الى القرية .. دعك منه الآن واطعمينا , فنحن جياع
- حالاً خالتي
***

وفي المساء .. إنتظرت أولغا نومهما بالطابق العلوي كيّ تأخذ رغيفاً وقطعة جبن وشايٍ ساخن الى ريتشارد النائم في الإسطبل بين الخراف وقرب الموقد ليتدفأ معهم قليلاً .. 
فغطّته بالبطانية وتركت الطعام بجانبه وعادت الى بيت , وهي تدعو ربها أن يرحل صباحاً قبل ان يراه احد 
***

وقد فعل ذلك فجراً بعد تناوله الفطور الذي تركته بجانبه , وبعد تأكّده من انتهاء العاصفة .. 
لكنها تمنّت لوّ انه انتظرها , كيّ تزوده بطعامٍ يكفي رحلته نحو الثكنة !
*** 

في هذه الأثناء .. تابع ريتشارد رحلته , مُستعيناً ببوصلته  
قائلاً في نفسه :
((ربما أصل الى المعسكر خلال يومين , أتمنى فقط ان لا أموت جوعاً قبل وصولي الى هناك))  

وفجأة ! سمع صديقيه هاري ومارتن ينادونه من الخلف ..
- ريتشارد !! انتظرنا قليلاً
ريتشارد بدهشة : كيف وصلتما اليّ بهذه السرعة ؟! وكيف تركضون بسهولة فوق الثلوج ؟!
هاري : انت تمشي ببطء , فتتبّعنا آثار اقدامك .. 
مارتن : نعم , لقد قرّرنا ان نكون معك في هذه الرحلة .. فإمّا ان نصل للمعسكر بسلام , او نموت سويّاً
ريتشارد : سنصل , لا تقلقا .. هل أحضرتما خيمة وكشّاف , او ولاّعة ومعلّبات طعام معكما ؟
هاري : لا ..لم نردّ حمل شيءٍ معنا , كيّ نصل اليك بسرعة
ريتشارد بعصبية : هل جننتما ؟!! وكيف سنتدفّأ مساءً ؟
مارتن : لا تقلق , سنجد حلاً
***

وتابعوا المسير الى وقت العصر , حينها شعر ريتشارد بجوعٍ شديد .. وأخذ يشدّ الحزام حول خصره النحيف .. 
وهنا انتبه على غياب أحدهما , فسأل صديقه : 
- اين هاري ؟!
مارتن : أظنه ابتعد عنّا لقضاء الحاجة , لا تقلق سيلحق بنا

وفجأة ! سمعا هاري يناديهما من خلف التلّ .. 
وحين وصلا اليه .. كان يقف قرب جثة جنديٍ روسي يسند ظهره على شجرة , ويبدو من وجهه المزرق إنه مُتجمّدٌ منذ شهور ! 
ريتشارد : هل هو مقتول ؟!
هاري : لا , يبدو انه مات من البرد
ريتشارد : إبحثوا في أغراضه
هاري : لقد فعلت , ووجدت مرطباناً فيه طعامٌ مثلّج 
مارتن : اذاً دعونا نسخّنه
ريتشارد : أخاف ان يكون فسد بعد هذه المدة
مارتن : بهذا البرد , لا اظن .. دعنا نسخّنه ونرى ماهو

وحين فعلوا .. كان شيئاً حلو المذاق كالمربى , كما كان في حقيبة الجندي رغيفٌ طويل قاسي كالحجر .. فسخنوه الى ان عادت طراوته بعض الشيء .. وصاروا يغمّسون قطعاً منه في المربى ويأكلونه بنهمّ 

الغريب انهم ظلّوا يتناولون من المرطبان الصغير حتى شبعوا تماماً , بل أحسّوا ايضاً بالدفء والطاقة تسري في أجسامهم ! 
ريتشارد باستغراب : ما هذا المربى السحريّ ؟!
مارتن : هل تظنه مخلوط بالكحول ؟!
ريتشارد : لا ادري ! لكني أشعر بنشاطٍ مُفاجئ
هاري : وانا ايضاً
ريتشارد : اذاً دعونا نُكمل المسير قبل غياب الشمس
***

وأكملوا طريقهم وهم بكامل قواهم .. ورغم ان الأمر كان مريباً نوعاً ما , الا انهم تجاهلوه .. 

ومع حلول الظلام , كان عليهم إيجاد مكانٍ يبيتون فيه قبل اشتداد البرودة .. وتفرّقوا في ثلاث إتجاهات للبحث عن مكانٍ آمن .. 
وبعد قليل , ناداهما مارتن من بعيد , قائلاً :
- وجدّت كهفاً يا رفاق !! 
وكادوا يطيرون فرحاً بعد اكتشافهم لكهفٍ عميق بإحدى الجبال القريبة .. 

ريتشارد وهو يتفقده , حاملاً شعلة النار التي أوقدوها على مدخل الكهف : 
- أشكّ بأنه كهفٌ من صنع الطبيعة
مارتن : ماذا تقصد ؟!
ريتشارد : إنظرا الى حوافه الحادّة , كأنه تمّ تفجيره سابقاً لصنع مخبأٍ للروس 
مارتن : اذاً سآخذ شعلتي وأتعمّق بداخله , لربما كان مخزناً للطعام 
هاري : او مخزناً للأسلحة نُخبر قادتنا به 
ريتشارد بحماس : وحينها حتماً سيكافؤنا بالعودة الى المانيا , كما وعدونا سابقاً .. هيا بنا !! 
مارتن بحزم : لا !! انت إبقى هنا واحرس المكان , وانا وهاري نكتشف الكهف ..وان شعرتَ بجنود العدو تقترب من هنا , قمّ بتحذيرنا فوراً
ريتشارد : كما تشاءان !

وبعد قليل .. خرجا وهما يحملان صندوقاً فيه 6 قناني كحول مُعتّقة ..وهما يقولان بحماس :
- لم نجد مؤناً غيره بالداخل , لكننا وجدنا الكثير من اسلحة الصيد وأصابع الديناميت
ريتشارد بفرح : أحقاً ! هذا سيُسعد قائدنا كثيراً .. هيا بنا نحتفل بهذا الإكتشاف الرائع !!

وظلّوا يشربون طوال الليل , الى ان سكروا ..وصارو يغنون ويرقصون بسعادة , حتى غلبهم النوم
*** 

في الصباح .. إستيقظ ريتشارد وحيداً في الكهف ! 
والأغرب حين اكتشف بأن صندوق الكحول لم ينقص منه سوى القنينتين التي شربهما , رغم تأكّده من ان صديقيه شربا الأربعة الباقية ! 

ثم خرج من الكهف منادياً عليهما , الا انهما اختفيا تماماً ! 
وحين يأس من رجوعهما , تابع طريقه نحو المعسكر ..مُقنعاً نفسه:
((سيلحقا بي , كما فعلا البارحة)) 
***

وبعد ساعتين من المشي فوق المنحدرات الخطرة , إذّ به يسمع هدير النهر 
ريتشارد بدهشة وقلق : ماذا ! أهو نفسه النهر القريب من مخيّمنا القديم ؟! 

وحين اقترب من النهر ورأى الشجرة الضخمة المهترئة اسفل الجبل , عرِفَ بأنه كان يسير في دوائر على مدى اربعة ايام , وبأنه عاد الى نقطة الصفر !
- لا مستحيل !! هل عدّت مجدّداً الى خيمتنا البائسة ؟! كيف هذا ! مع اني تتبّعت البوصلة جيداً , هل هي معطّلة ؟!

ودخل الى الخيمة وهو يُهيء نفسه لسماع سخريات رفاقه , لكنه تفاجأ برؤيتهم مُتجمّدين في أماكنهم ! 
والصدمة الأكبر كانت حين وجد صديقيه (هاري ومارتن) من ضمن 12 جندي الميتين ! 

فصرخ ريتشارد وهو يحاول إيقاظ مارتن : 
- هيا استيقظ يا صديقي !! الم تكنّ معي البارحة ؟!! كيف وصلت قبلي الى هنا ؟! وكيف تجمّدت انت وهاري بهذه السرعة؟!

وقبل ان يستوعب ما حصل ! سمع سيارات حربيّة تقترب من المكان.. فاختبأ سريعاً خلف أمتعة اصدقائه .. مُشهراً سلاحه على القادمين باتجاهه , خشية ان يكونوا من جنود الأعداء 
لكن ما أن رأى ضابطه يدخل الخيمة , حتى ناداه : 
- قائدي !

الضابط بدهشة : الجندي ريتشارد ! مالذي حصل لأصدقائك ؟!
ريتشارد : لا ادري سيدي .. فقبل ايام قررّت الذهاب وحدي الى الثكنة ..لكن يبدو انني أضعت الطريق وعدّت مجدداً الى هنا , لأتفاجأ مثلكم بما حصل !
فقال ضابطٌ آخر بعد معاينة المكان : يبدو انهم علقوا داخل دوّامة العاصفة التي منعتهم من مغادرة الخيمة او إيقاد النار لتدفئة , فماتوا من شدة البرد 
فقال القائد لريتشارد : كنت محظوظاً بإبتعادك عن الخيمة التي كانت في مسار العاصفة , والاّ للقيت حتفك معهم .... هيا لا تحزن هكذا , فهو قدرهم .. إركب الشاحنة , ودعنا نعيدك الى ثكنتنا 
***

وفي الطريق .. أخبرهم ريتشارد بما حصل معه , لكنه توقف عن سرده للأحداث الغريبة بعد مرورهم بجانب منزل أولغا 
وحينها صرخ ريتشارد للسائق : توقف هنا !!
فتوقفت شاحنة الجنود , لينزل منها ريتشارد مندهشاً بعد رؤية منزلها والإسطبل مهدّماً تماماً !

فعاتب قائده بغضب : لما قصفتموه ؟!! لم يكن فيه سوى ثلاث نّسوة بريئات 
القائد : هل جننت يا ريتشارد ؟! هذا المنزل قصفناه فور إحتلالنا للمنطقة
الضابط : هذا صحيح ..قصفه زميلي منذ ثلاثة أشهر تقريباً
ريتشارد : هذا مُحال ! كنت فيه قبل يومين , بعد ان أنقذتني الروسية أولغا التي تعيش هناك مع زوجة والدها وابنتها .. صدّقوني انا لا أكذب عليكم  

فقال له سائق الشاحنة ساخراً : أحقاً ..تماماً كما أنقذك صديقاك المتجمّدان اللذان وجدا لك المربى السحريّة , وصندوق الكحول المخبّأ في كهفك الوهمي ؟
ريتشارد بعصبية : نعم !!!
القائد : يبدو ان البرودة التي تعرّضت لها في الأيام السابقة أثّرت على سلامة عقلك ! فنحن قمنا بتمشيط المكان أكثر من مرة , ولم نجد كهفاً في هذه المنطقة .. كما لا أثر للروس : سواءً جنود او اهالي , بعد سيطرتنا على قريتهم منذ شهورٍ عدة ..

ريتشارد بإصرار : سيدي انا لا أدّعي ذلك , وهناك فعلاً اسلحة ومتفجّرات مُخبأة بالكهف .. وان أردّتم يمكنني إيصالكم اليه , فأنا مازلت أتذكّر ..
القائد مقاطعاً وبلا مبالاة : ريتشارد !! عدّ للشاحنة ودعنا نعيدك الى الثكنة , فقد أنهيت مهمّتك السابقة بنجاح , وسنوفي بوعدنا لك ونعيدك قريباً الى المانيا 
***

وبعد اسبوع .. عاد ريتشارد الى المانيا , بعد ان أدرك : 
بأن الصبية أولغا ساعدته دون علمها بموتها مع حيواناتها قبل شهور , إثر تهدّم منزلها والإسطبل بالقصف الإلمانيّ ..
وبأن زوجة ابيها وابنتها وسائق العربة لم يعودوا يوماً الى المنزل بعد موتهم وهم نيام أثناء العاصفة .. 
وبأن صديقيه لم يدركا بأنهما تجمّدا من البرد , بعد ان علقوا مع بقيّة الجنود في الخيمة

كما استوعب سبب شعوره بالشبع والإرتواء ذلك اليوم , لأنه وحده من أكل رغيف الخبز والمربى وشرب زجاجتيّ الكحول , بعد ان دلّته روحيّ صاحبيه على تلك المؤن !

وربما جميعهم قدّموا له المساعدة , بعد علمهم بتتبّعه لبوصلةٍ معطّلة طوال رحلته ..
ويبدو ان قرب ريتشارد من الموت جعلت الأرواح تسانده , كيّ يبقى حياً ليُخبر العالم بتجربته التي كانت أغرب من الخيال ! 

والتي للأسف لم يصدّقها قائده الذي مات مع جنوده إِثر ثورة أهالي القرى المجاورة الروسية , بعد إخراجهم لأسلحتهم المخبّأة في ذلك الكهف 
كما ان تفجيرهم للمعسكر النازيّ كانت البداية لإنسحاب الجيش الإلماني من روسيا ! 

وتمّتم ريتشارد بحزن , وهو يستمع لنبأ هزيمتهم من المذياع (في قريته الإلمانية المُدمّرة) : 
- ترى , هل بقيت روح أولغا وعائلتها وصديقايّ عالقة هناك , ام انها في طريقها الى الجنة بعد إنقاذهم حياتي ؟! 
***

والى يوم وفاة ريتشارد كعجوزٍ هرِم , ظلّ يحكي قصته الغريبة للناس الذين انقسموا بين مصدّقٍ ومكذّبٍ لها , لكنهم جميعاً لا ينكرون بأنها أغرب تجربة عسكريّة حصلت في الحرب العالمية الثانية !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...