الجمعة، 9 مايو 2025

الفتاة الشفافة

تأليف : امل شانوحة 

الخالة الحقودة


في ذلك الصباح .. إستيقظت روان (7 سنوات) من النوم ، لتجد خالتها في المطبخ ! فسألتها بنعاسٍ وبراءة :

- لما اتيت الينا باكراً ؟!

لتُفاجأ بصفعةٍ قويّة من خالتها التي جذبتها من بيجامتها بعنف ! وهي تُقرّب وجهها نحو اذنها الصغيرة ، هامسةً بعصبيّة :

- اعدك أن لا يراك احد !!!


ثم ابتعدت سريعاً عن روان ، فور دخول والدتها المطبخ ..

فقالت الصغيرة لأمها بعيونٍ دامعة :

- لقد ضربتني خالتي !

فارتبكت الخالة وهي تحاول التبرير لأختها الصغرى :

- لا ، هي تبالغ .. كانت صفعة صغيرة تأديبيّة ، لعدم تنظيف اسنانها بعد استيقاظها من النوم.. فمن الضروري الإهتمام برائحتنا ، خصوصاً امام الضيوف .. اليس كذلك حبيبتي ؟

ثم دفعتها بلطف الى خارج المطبخ ، وهي تقول :

- هيا إذهبي والعبي مع اخوتك


فلم تفهم روان ما حصل ! لكن نظرات خالتها الحادّة ، جعلتها تتجنّبها طوال تلك الزيارة..

^^^


في تلك الليلة ، شاهدت روان حلماً غريباً : ((كأنها عالقة في كوخٍ صغير فوق الجبل.. وحول الكوخ ، ذئابٌ سوداء تحرسه حتى لا تخرج منه ! فحاولت الصراخ ، طلباً للنجدة .. لكن صوتها لم يُسمع ابداً ، كأنها خرساء))

واستيقظت مرعوبة ، دون إخبار احدٍ بما رأته !

***


منذ ذلك اليوم ، تغيّر شيءٌ في حياتها ! فصديقاتها بالمدرسة تعمّدن الإبتعاد عنها .. حتى المعلّمات لم يردنّ سماع إجاباتها عن الدروس .. ومهما رفعت يدها ، لا يرونها ، كأنها تحوّلت لفتاةٍ شفّافة ! 


ومنذ ذلك الحين .. صارت تأكل شطيرتها في فرصة الغداء وحدها (بساحة المدرسة) بعد ابتعاد الطالبات عنها ، كأنها غير موجودة !


ومهما حاولت المشاركة بحصصّ الرسم او الطبخ او الخياطة ، لا احد يهتم بشغلها ولوّ كان مُتقناً وجميلاً !

^^^


والأمر لم يتوقف على الدراسة .. فحتى في الإجتماعات العائليّة ، لم يرغب احد من الأقارب (الصغار) اللعب او التحدّث معها ! 

لذا اعتادت الجلوس في طرف الصالة وهي تراقبهم من بعيد يتسامرون ويضحكون ، دون إلتفات احدٍ اليها !


ووصلت معاناتها الى افراد عائلتها : ففي حال أحضر والدها العاباً لإخوتها الثلاثة ، فإنه ينسى إحضار لعبةٍ لها.. وإن اشترت الأم الحلوى ، تنسى حصّتها دائماً ! 

***


ومع مرور السنوات.. إعتادت روان الإعتماد على نفسها ، دون تأمّل الإهتمام من قريبٍ او غريب .. وأصبحت انطوائيّة للغاية ، بالكاد يُسمع صوتها.. وبسبب كل تلك المشاعر المكبوتة ، لم تجد ملاذاً سوى التعبير بالكتابة.. 


فبدأت اولاً بتدوين خواطرها.. التي تحوّلت تدريجيّاً لقصصٍ مخيفة ، بسبب كوابيسها التي تلاحقها كل ليلة .. وكأن معاناتها مع البشر لا تكفيها ، لتتنافس الجن على أذيّتها ايضاً !

***


وعندما وصلت لسن الشباب .. ورغم جمالها البريء اللّافت ، الاّ ان معظم خطوباتها 13 باءت بالفشل ! فالخطباء يجدون صعوبة بالنظر اليها .. ومن بعدها يذهبون ولا يعودون ثانيةً ! حتى باتت تعلم مُسبقاً ان زيارتهم لن تتعدّى الساعتين ، ومرّنت نفسها أن لا يؤلم رحيلهم قلبها المرهق .. وكأن مشاعرها تجمّدت من شدّة جفاء وبرودة الناس من حولها !

***


وبعد ٤٠ سنة على هذه الحال.. وفي عيد ميلادها ٤٧ .. واثناء وجودها وحدها في منزل اهلها (بعد زواج إخوتها)

تفاجات بجرس الباب ، الذي ارعبها في البداية ! فمنذ وفاة والديّها ، لم يزرها إخوتها الاّ في العيديّن ..


وعندما فتحت الباب .. وجدت اخوتها الثلاثة مع ازواجهم واولادهم ، وهم يحملون كعكة عيد ميلادها وهدايا لها ! حيث غمروها بالأحضان والقبلات ، وهم يتمنّون لها العمر المديد ! 

بينما ظلّت روان صامتة ومذهولة ، دون ان تجيبهم ! فهي غير معتادة على اهتمامهم ، فكيف بالمديح الذي توقفت عن سماعه منذ طفولتها


ليس هذا فحسب .. بل تجادل إخوتها على من يأخذها الى بيته ، بدل بقائها وحدها في منزل والديهما المرحوميّن.. لكنها فضّلت عدم تغيّر مكان إقامتها .. فتركوها على راحتها .. 

^^^


وبعد ذهابهم.. فتحت حاسوبها ، لتُفاجآ بآلاف التعليقات على قصتها الأخيرة التي نشرتها في مدوّنتها ! مع انه بالكاد يصلها تعليق او اثنين مع كل قصة من قصصها الألف ، مهما بلغت روّعتهم !


ولم تتوقف المفاجآت هنا.. فقد امتلأ ايميلها بطلبات المنتجين والمخرجين لتحويل بعض قصصها لأفلام ومسلّسلات ، كما تحلم دائماً ! 

بل ان بعضهم عرض عليها (تطوّعاً) ترجمتها لعدّة لغات ..والبعض الآخر إقترح تحويلها لكتب ومجلّات ورقيّة ، ونشرها على حسابه الخاصّ !


فوضعت حاسوبها جانباً بعد زيادة نبضات قلبها ، في محاولة لإستيعاب ما يحصل معها بهذا اليوم السحريّ !

روان بارتياب : أهذا حلم ؟! مالذي يحصل بالضبط ؟! كأني كنت بفقّاعة صابون لسنواتٍ طويلة .. والآن فُقعت ، ليراني الجميع كأميرة زماني ! .. لا ، هذا شيء اكبر من ان استوعبه .. من الأفضل ان انام ، قبل ان أفقد عقلي

^^^


في المنام ، شاهدت ذات الحلم الذي رأته في طفولتها .. لكن هذه المرة ، ابتعدت الذئاب السوداء عن الكوخ الذي حُبست فيه لفترةٍ طويلة .. كأنهم سمحوا لها اخيراً بالخروج من معتقلها !


وعندما استيقظت لشرب الماء مساءً ، وجدت رسالة على جوالها من أخيها الكبير :

((خالتنا توفيّت في الغربة.. وسيدفنونها بعد ساعات من الآن .. هي ماتت هذا الصباح.. لكن قبل قليل حتى أخبرني ابنها بهذا النبأ الحزين.. فترحّمي عليها))


حينها فقط تذكّرت الصفعة القديمة ، وتهديدها الغريب : ((اعدك ان لا يراك احد))

روان بارتباك : أمعقول انها سحرتني ! وعندما ماتت ، فُكّ سحر التعطيل .. لهذا بدأ الجميع يراني ويُحسن معاملتي ؟! عليّ التأكّد من الموضوع 


وأرسلت رسالة (واتس آب) لإبنة خالتها :

((عظّم الله أجركم.. اعرف ان وقتكم الآن عصراً ، ومشغولين بالجنازة .. لكن حياتي انقلبت فجأة للأفضل بعد وفاة امك.. فهل اعترفت بشيء قبل وفاتها ؟ أقصد بموضوعٍ يخصّني ؟))


وبعد ساعة .. رنّ جوّالها ، فاستيقظت روان من نومها .. 

ابنة خالتها : الو ، كيف حالك ؟ الآن حتى قرأت رسالتك

روان : اعرف انكم مشغولين بالدفن..

مقاطعة : كلامك صحيح

روان باستغراب : عفواً !

- لقد تعسّر موت امي البارحة .. وكأن روحها رفضت الخروج من جسدها ، قبل اعترافها بالحقيقة.. حينها شدّت ذراعي ، لتهمس في اذني : دعيها تسامحني .. فسألتها : من ؟ .. فقالت : ابنة خالتك

روان بصدمة : أتقصدني انا ؟!

- نعم .. قالت انه عندما كنتِ في سن السابعة ، زارت امي إحدى البصّارات لتسألها : إن كنتُ سأصبح انا او إخوتي من الشخصيّات الناجحة عندما نكبر ؟ فأجابتها المشعوذة : بلا.. فسألتها امي : إن كان هناك شخصاً محظوظاً من الأقارب ؟ .. فذكرت المشعوذة : اسمك !

روان بدهشة : انا ؟! بل كنت تعيسة طوال حياتي

- رجاءً دعيني أُكمل القصة

- تفضّلي


فتنهّدت ابن خالتها وهي تشعر بالإحراج ، قبل ان تقول : 

- امي سامحها الله ، لم يعجبها الأمر.. بل رفضت بشدّة تميّزك عن اولادها .. لهذا طلبت من المشعوذة ان تُقيّدك بسحرٍ اسود ، كلّف امي ثمن منزلنا الجبليّ الذي باعته على عجل ، لكيّ تجعلك فتاةً شفّافة

روان بضيق : شفّافة !

- يعني لا يراك احد : لا المعلّمين ولا الأقارب ولا الغرباء ، ولا حتى اهلك ..وكأنك..

فأكملت روان بغيظ : في فقّاعة صابون

- بالضبط !! ويبدو ان وفاة امي حرّرك من السحر الذي رمته بالبحر ! لكن طالما تحسّنت حياتك الآن ، فهذا يعني انك بخير ..

روان مقاطعة بعصبية : بعد ماذا ؟!! بعد اربعين سنة ، ضاعت فيها طفولتي ومراهقتي وشبابي ، وصحّتي .. وكل احلامي وآمالي .. وحُرمت من إيجاد وظيفة وتكوين عائلة و..


ابنة خالتها مقاطعة : رجاءً سامحيها

روان بقهر : أسامحها على كوني معروفة بين الناس بالفاشلة والعانس .. ام اسامحها بعد موت والدايّ دون ان إسعدهما يوماً ، او يفخرا بإنجازاتي !!

- ارجوك روان .. سندفن امي بعد قليل ، وأخاف عليها من نار جهنم

فقالت روان بنبرةٍ غاضبة : 

- قسماً بذات العزّة !! لوّ سامحها الله وجميع البشر ، فلن اسامحها ابداً!!


وأنهت روان المكالمة وهي منهارة ببكاءٍ مرير ، حسرةً على حياتها الضائعة !

^^^


ومن شدّة حزنها ، غفت تلك الليلة بعد ان بلّلت وسادتها بالدموع وهي تستذكر خيبات املها طوال حياتها ، ووحدتها بين افراد عائلتها الذين عاملوها كغريبةٍ عنهم 


لتشاهد مناماً لملاك يُطبّطب على كتفها :

((وهل تظني بأن الله لن يعوّضك عن صبرك ؟ هيا قومي واعتلي عرشك ، فأنتِ استحقّيته بجدارة !!))


واستيقظت وهي تشعر براحةٍ لا مثيل لها ! جعلتها تعدّ قهوتها ، وتفتح حاسوبها ..لتبدأ بقبول عروضات المنتجين والمخرجين بكل تفائل ، بعد ان فُكّ نحسها اخيراً

***


ولم يمضي شهر ، حتى بدأ حسابها البنكيّ (الذي فتحته مؤخّراً) بالإمتلاء بالنقود الذي صرفته اولاً على اخوتها ، ثم اقاربها .. ثم فقراء منطقتها .. وصولاً لفقراء بلدتها الذين رشّحوها لرئاسة نقابة الأدباء ، بعد ان اصبحت اهم كتّاب البلد ! 


ليس هذا فحسب ، بل التقت بكاتبٍ وسيم من بلدٍ مجاور .. سرعان ما تبادلا مشاعر الإعجاب ، اثناء منافستهما على تأليف أنجح الأفلام الهادفة في دوّلتيهما !

***


ولم ينتهي العام .. حتى ذهبا معاً الى حفلة الأوسكار ، كأول كاتبيّن عربيّن يحصلان على جائزةٍ عالميّة ! 


وبعد انتهاء الحفل .. تهافت عليهما الصحفيّون لتصويرهما وهما ممسكا أيديهما ، كزوجيّن مُحبيّن وأديبيّن موهوبيّن

^^^


وفي ذلك المساء ، بعد عودتهما الى بلدتهما العربية .. أخذا يتأمّلان جائزتهما الذهبيّة ، بعد ان وضعاهما قرب سريرهما .. وهي تقول له:

- سبحان الله ! سحرتني خالتي لأربعين سنة ، بنيّة فشلي بالعمل والزواج ..لكنها لم تعلم ان حصرها لتلك المشاعر داخلي دون إيجادي من أفضّفض له ، جعلني كاتبة عربية وعالميّة ! والأغرب من ذلك .. ان تلك الموهبة التي تطوّرت من شدّة بؤسي ، جمعتني بأجمل نصيبٍ في الدنيا ! ولوّ لم تسحرني .. لأصبحت معلّمة رياضيات ، كما تمنّيت بصغري .. ولرضيت براتبٍ بسيط طوال حياتي !

زوجها ممازحاً : ولكنتِ تزوّجت من معلّم لغة او رياضة ، وتقاسمتما راتبكما لدفع اجرة شقتكما الصغيرة.. وهآ نحن نعيش بقصرٍ فخم ، بسبب إنجازاتك المذهلة

روان : يبدو ان عليّ مسامحتها ! فبسبب حقدها وغيرتها ، حوّلتني من إنسانةٍ عادية الى ..

فأكمل زوجها : الى موهوبةٍ مشهورة .. والى اجمل زوجة قنوعة في العالم!! 


فحضنته بحنان ، وعيونها مليئة بدموع الشكر والإمتنان لله الكريم الوهّاب 


هناك 5 تعليقات:

  1. هذه القصّة مُقتبسة من معاناة المسحورين الذين اقرأ قصصهم الحقيقيّة من وقتٍ لآخر.. فتأثير السحر مُقسّم لنوعيّن : إمّا ان تكون شفّافاً (كما احداث القصة) او العكس تماماً : تُثير غضب الجميع حتى لوّ لم تقمّ بأيّ تصرّفٍ خاطئ ، كأنك دُست على كرامتهم !
    وانا عشت الحالتيّن ، لكن ليس بشكلٍ دائم .. بل تفاوتتّ قوّته حسب سنوات حياتي

    فمن لطف الله علينا : إن السحر يضعف مع الوقت ، في حال لم يقمّ الساحر بالتجديد الذي بالعادة يُكلّفه الكثير من المال
    وايضاً أكّد المشايخ : إن السحر بجميع انواعه (حتى لوّ مرمي في البحر) يُفكّ بموت الساحر .. تماماً كالعين الحسودة ، التي تنتهي بموت الحاسد ..
    وهذا الإعتقاد موجود بكل الأديان.. لذلك قامت بريطانيا (بالعصور المُظلمة) بحرق جميع الساحرات بعد انتشار الطاعون فيها ، ظنّاً بأنه مُفتعل بأسحارهنّ !

    وبالنهاية أقول : انه من الغباء وضعف الإيمان ان يبيع الشخص دينه ، لسحر عدوّه ! لأنه مهما عسّر حياته .. فإن الموت والرزق والنصيب لا يتغيّر ، بل يبقى القدر كما كتبه الله ، ولوّ طالت معاناة المسحور..

    فهل الأمر يستحق ان يخسر الإنسان جنّةً عرضها السموات والأرض ، لأجل تبريد نار قلبه الحقود الغيّور ؟!

    ردحذف
  2. كنت اخشى ان تقولي بالنهايه ثم استيقظت من نومها لتجد ان كل هذه السعاده كانت في الحلم فقط . يعني جميل التفاؤل والله ولكننا ننتظر هذه الانقلابه منذ ربع قرن ونيف ولم يحدث شيء سوى المزيد من القهر والخيبات . لكن عامة قصه لطيفه يامول 💐
    aamlegend

    ردحذف
  3. غير اني لم ولا ولن اسامح ولو ولجوا جميعا بسم الخياط عليهم داءرة السوء

    ردحذف
    الردود
    1. من يؤذينا دون سبب ، لا يجب ان نسامحه ابداً

      حذف

الفتاة الشفافة

تأليف : امل شانوحة  الخالة الحقودة في ذلك الصباح .. إستيقظت روان (7 سنوات) من النوم ، لتجد خالتها في المطبخ ! فسألتها بنعاسٍ وبراءة : - لم...