الجمعة، 20 سبتمبر 2024

منارة العالم

تأليف : امل شانوحة 

 

الأشباه الأربعة


اثناء رحلة موظفيّ الشركة مع رئيسهم المهووس بالكشّافة البرّية ، ضاع جاك (الأربعيني) عن بقيّة زملائه اثناء ملاحقته نوراً من بعيد ، جذبه بقوّة للسير للأمام دون العودة للمخيّم .. ليجد منارة قديمة فوق هضبة مُطلّة على البحر .. ولأن حلم طفولته إكتشاف المنارات القديمة ، إقترب من بابها المُهترئ الذي وجده مفتوحاً ! ليجد سلالم حلزونيّة للأعلى .. فظلّ يصعد ، الى ان وصل لبابٍ خشبي خاصّ بغرفة التحكّم بإضاءة المنارة. .


وقبل إدارة مقبضه .. فتح الباب رجلٌ (خمسينيّ) وهو يبتسم ، كأنه ينتظره ! وما ان رآه جاك حتى اوشك على فقدان وعيّه ، كأنه ينظر الى نفسه بعد عشر سنوات ! والذي قال ، وهو يسنده : 

- لا تخفّ يا جاك .. هيا أُدخل ، وسلّم على بقيّة أشباهك

وكأن صدمة التشابه لا تكفي ! فقد عرف اسمه ، بالإضافة لتواجد ثلاثة اشخاص آخرين داخل الغرفة الصغيرة ، جميعهم نسخاً منه : 

احدهم حين كان مراهقاً متهوّراً ، بشعرٍ طويل وثيابٍ فضّفاضة .. والثاني بالعشرينات ، بذقنٍ خفيفة ..والثالث بالثلاثينات ، بالعمر الذي توظّف فيه بالشركة الحاليّة !


ومن شدّة إرباك جاك وخوفه ، حاول الهرب .. لكن الرجل الخمسيني أمسك ذراعه وأدخله الغرفة ، مُغلقاً الباب بالمفتاح !

ليقول المراهق :

- لا تخف يا جاك ، فجميعنا بانتظار قفزتك الشجاعة 

جاك بقلق : القفز الى اين ؟!

الخمسيني : يقصد قفزة الثقة

جاك : لا أفهم كلامكم !

الخمسيني : هؤلاء الثلاثة هم نسخك الماضية ، وانا نسختك المستقبليّة. .

الثلاثيني : نحن لم نستطع إضاءة المنارة المهجورة ، لأننا كنّا تابعين لغيرنا ..مثل تصرّفاتك الحاليّة !  

الخمسيني بفخر : اما انا !! فقفزت للمجهول ، ثقةً بالربّ .. لأصبح بالنهاية منارة للجميع

جاك بعصبية : هل تشرحون ما يحصل هنا ، ام أقفز من النافذة وأنتحر !!

الخمسيني : اهدأ قليلاً

وأجلسوه على الكرسي المواجه للنافذة الزجاجيّة الكبيرة ، المُطلّة على البحر المُضاءة أمواجه بنور المنارة القويّ


المراهق : دعوني أتكلّم اولاً.. أتذكُر يا جاك حين كنت بعمري ، كم كنّا مشاغبيّن نعشق الموسيقى الصاخبة ، والموضة الهابطة .. عدا عن فشلنا الدراسيّ ، حتى أتعبنا والديّنا

جاك : نعم أذكر

المراهق : كانا يائسان منا.. فأنت ابنهم الوحيد ، ومع ذلك لم تنفع معك النصائح او دوّرات التدريب والنوادي الرياضيّة ، بل أصرّيت على اصدقاء السوء ..حتى وصلنا لليوم الذي تغيّرت فيه حياتنا..

العشريني مُقاطعاً : دعني أكمل القصة .. ببلوغك سن العشرين ، تغيّرت حياتنا بعد وفاة والدنا.. شعرت وقتها ان عليك الإسترجال لأجل امنا .. وثابرت بالدراسة صباحاً .. مع العمل بمتجر والدك مساءً ، لتأمين لقمة العيش

جاك بحزن : كنت مُجبراً على النضوج سريعاً

العشريني : هذا صحيح .. وأصبحت امك فخورة بك ، بعد تحسّن شخصيّتك .. لكنك بالحقيقة مشيّت مع التيّار ، مُطفئاً نورك الداخليّ .. خاصة بعد معرفتك بشغفك الحقيقيّ

جاك : تعرّفت على هواية الكتابة بعد رسالة التأبين التي ألقيتها بعزاء والدي ، والتي لاقت إستحسان الجميع .. وكانت المرّة الأولى التي أكتب فيها بحياتي

العشريني : لكنك تجاهلت موهبتك !

جاك بعصبية : لانشغالي بالدراسة والعمل !!

الثلاثيني مُهدّأً : وهما لا يلومانك (المراهق والعشريني)


جاك : وانت انا بعمر الثلاثين ؟

الثلاثيني : نعم ، وحينها ورثت عمك .. واستثمرت امك المال بمتجر والدك الذي أداره قريبها ، مُرسلاً مدخولاً شهريّاً ثابتاً .. ومع ذلك لم تطوّر موهبتك !

جاك : لأني كنت مشغولاً بالبحث عن وظيفة 

الثلاثيني : وتعيّنت بهذه الشركة المختصّة بالأدوات الكهربائيّة ، رغم بعدها عن هوايتك وطموحك !

جاك : كنت اريد جمع المال لشراء منزل

الثلاثيني : للزواج من زميلتك ؟

جاك بضيق : طالما تعرفون عني كل شيء ، فلما تحقّقون معي ؟!!

الخمسيني : طبعا يعرفون ، فهم نسخك القديمة .. اما انا ، فلا تعرف عني شيئاً


جاك باهتمام : ومالذي تغيّر في حياتي مستقبلاً ؟

الخمسيني بفخر : الا ترى انني نجحت بإضاءة المنارة ؟

جاك : وما دخلي بالمنارة ؟!

الخمسيني مُعاتباً : أمعقول لم تفهم بعد ؟! .. ببلوغك سن الخمسين ، أصبحت من الكتّاب المشهورين ببلدك ، بل من العشرة الأوائل بالعالم !!

جاك بصدمة : انت تمزح !


الخمسيني : لا ابداً .. إحتاج الأمر لعشر سنواتٍ من العمل الدؤوب ، بعد ترك وظيفتنا المملّة ..والتفرّغ للكتابة ليل نهار ، عقب فتح مدوّنة لنشر قصة جديدة كل بضعة ايام .. الى ان وصلت لألف قصة قصيرة !! .. أذكر يومها كنت بنهاية الأربعينات حين وصلتني رسالة تهنئة ، بعد نجاحي بمسابقةٍ ادبيّة على مستوى الدولة ، مُتفوقاً على اهم كتّاب بلدنا ! 

جاك بحماس : وكيف كان شعورك وقتها ؟

الخمسيني : لا اذكر انني بكيت هكذا ، منذ وفاة امي

جاك بصدمة : امي ستتوفّى ؟!

الخمسيني بحزن : نعم للأسف ، وقريباً جداً.. حينها تكون أخذت قرار الإستقالة من وظيفتك ، والتخلّي عن إرضاء من حوّلك على حساب نفسك وطموحك


المراهق : مع ان شخصيّتنا لم تكن جديّة بهذا الشكل ، إلاّ اننا تغيّرنا مرتيّن : مرة بوفاة والدنا .. والثانية والأهم ، بوفاة امنا 

جاك بقلق : وكيف سأعيش إن تفرّغت للكتابة ؟

الخمسيني : لا تقلق .. الراتب الشهريّ من مشروع امك ، سيكفيك حتى تقف على قدميّك.. صحيح بالكاد يسدّد الفواتير ، مع التوفير الشديد بالطعام .. لكن عليك الصمود لحين نجاحك المُبهر

جاك مُستفسراً : أقلت عشر سنوات من الآن ؟

الخمسيني : عشر سنوات من الجهد المتواصل ، مع إصابتك على الدوام بالصداع والأرق وألم العينيّن وعزلتك عن الناس .. عدا عن سخرية اقرانك الذين سيلقبونك بالفاشل والإنطوائي .. والأهم من ذلك ، خسارة حبيبتك التي ستتزوّج من عجوزٍ ثريّ ! فهل انت قادر على هذه التضحيّات ، لتصبح منارة وقدّوة لكل الكتّاب المبتدئين ؟


جاك : أجبني اولاً .. كيف كان شعورك بعد تحقيق النجاح الذي حلمنا به طوال حياتنا ؟

الخمسيني بعينيّن دامعتيّن : كأني عرفت اخيراً الحكمة من خلق الربّ لي.. فكلاً منا لديه دوّر بهذه الدنيا.. وصدّقني يا جاك : رؤية الكتّاب الصغار وهم يلاحقونني بالأسئلة والإستفسارات بحفلات التكريم ، وهم يطلبون توقيعي والتصوير معي ، تسوى الدنيا وما فيها.. والآن نصلّ للسؤال الأهم : هل ستقفز قفزة الثقة ، وتتخلّى عن كل ما حولك ، لتحقيق حلمك الذي خُلقت لأجله ؟

^^^


وقبل أن يُجيبه ، إستيقظ على صوت صديقه يهزّ كتفيّه (بعد رؤيته مُغمى عليه ، وسط الغابة)..

- لما ابتعدت عنا ؟! هيا دعنا نعود للمخيّم ، فالجميع قلقٌ عليك 

فنهض جاك وهو يشعر بألم : آخ يا رأسي !

صديقه : هل تشعر بالدوّار ؟

فالتفت جاك نحو الهضبة البعيدة ، دون ان يرى المنارة المهجورة !

جاك بتعب : يبدو انه حلمٌ غريب ! .. هيا لنعدّ للمخيّم

***


وما ان وصل الى هناك ، حتى صرخ عليه رئيسه غاضباً :

- اين كنت ايها الأحمق ؟!! أرسلت الجميع للبحث عنك ..هل انت صبيّ صغير لتضيّع عنا ؟!!

وضحك زملائه ، ساخرين منه !

ليُفاجأ جاك الجميع بقوله :

- انا استقيل 

المدير باستغراب : ماذا قلت ؟!

صديقه : جاك اهدأ قليلاً ، هو لم يقصد إهانتك

جاك : عملي بهذه الشركة الروتينيّة ، لا يُحقّق طموحي بالحياة .. الوداع يا اصدقاء!!

^^^


وركب سيارته ، عائداً الى منزله .. ليجد سيارة إسعاف متوقفة هناك! 

وقبل فهمه ما حصل ، إقتربت جارته لتخبره باتصالها بهم ، بعد سقوط امه في الشارع دون حراك ! والتي ماتت بنفس الليلة بأزمةٍ قلبيّة

فانهار بالمستشفى باكياً ، رغم ان نسخته المستقبليّة أخبره عن موتها القريب ، لكنه لم يظن بهذه السرعة ! ويبدو ان هذه هي قفزة الثقة التي تحدّث عنها نسخه الأربعة بالمنارة 

***


بعد انتهاء العزاء .. إفتتح جاك مدوّنته الأدبيّة ، ليبدأ بنشر قصته الأولى .. وفي نفس الوقت شارك بعدّة مواقع للكتّاب المبتدئين الذين ذُهلوا بموهبته الفريدة التي تطوّرت مع الوقت ، مع تزايد القرّاء والمتابعين في مدوّنته ! 

ورغم التعب الجسدي والنفسي الذي عاناه مع كل قصة تربويّة وهادفة ألّفها ، لكنه تابع المسيرة وهو مُتفائل بأن منارته على وشك إضاءة العالم كلّه !


هناك 9 تعليقات:

  1. هذه قصة فانتازيا خيالية ، اتمنى ان تعجبكم

    ردحذف
  2. وهل هناك قصة لم تعجبنا
    كل قصص المدونة تعجبني
    المدونة كالغرفة الخاصة نهرب إليها من صخب الحياة المرهقة

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً على الكلام الجميل ، أخي وصديقي محمد

      حذف
  3. yas : والله اتعبتينا معك يا امل ..نفس التصنيف الظالم في كل مره لقصصك المتميزه بجداره ..فلا تسمينها بالقصص الفخوره بها ..حقيقۃ لا اعلم السبب ..
    كلمات القصه تخرج من القلب وتصل اليه ايضا ..
    وفيها منك الكثير اظن ربما ولا تدرين ..
    كتنهدات مصدور ربما ..وربما كنت مخطءا ..لا ادري ..
    اعتقد حقيقۃ بدون مزاح ان لديك شخصيتان ..علی الاقل ..تنفصل شخصيۃ الكاتب في وقت ما فتخرج الدر المكنون ..الذي لابد لاخراجه من معالجه وتحريض ومعاناه ..الخ مما يمر به كثير من الكتاب ..
    معشر ..المعذبون ابدا ..
    لعنوان القصه وحده ⭐⭐⭐⭐⭐⭐⭐⭐⭐⭐
    اما القصه نفسها فحلم لم يزل يجري ..
    وهذا حالي داءما عندما تكون القصه بهذه الشفافيه والرقه والعذوبه
    اجدني عاجزا عن التعليق عليها كما يجب ان اوفيها ..
    ربما سبب هذه الحاله ياتي من تاثر القلب وانفعاله لروح القصه نفسها ..
    لا اظن انه بقي الكثير ولكني حقا اتمنی ان اری او اسمع او اقرا عن وصولك قبل المغيب ..
    هاكم امل ..قلمي المتواضع اضعه من اجل هذه القصه ..✒
    واتمنی ان ترضين عن كل تلك القصص واخواتها التي لم تنصفيها ..دون وعي منك ربما عمدا ..
    فقد عجز العلماء عن سبر اغوار الادباء فدانوا لهم وشهدوا في النهايه ..

    ردحذف
    الردود
    1. فاجأني تعليقك يا ياسر ، بصراحة لم اظن القصة بهذه الجودة ! احياناً اكتب ما اسمعه في عقلي وكأني بحصة إملاء ، مع اضافى شعوري مع معاناة البطل .. ولأنه كاتب بهذه القصة ، وضعت بعضاً مما واجهته خلال 27 سنة .. سعيدة انها وصلت للقرّاء بشفافية كما كنت اتمنى .. احياناً لا اعرف ان كنت احسنت الكتابة الا من تعليقات القراء .. ليست قلة ثقة بموهبتي ، لكن خوفي الدائم من ضعف اسلوب الكتابة او الفكرة او الحبكة بكل قصة .. فأنا ادعو دائماً بعلو مستوى قصصي تصاعدياً حتى نهاية عمري .. شكراً جزيلاً استاذ ياسر ، رفعت كثيراً من معنوياتي بتعليقك الجميل .. تحياتي لك ، يا صديق المدونة المخلص

      حذف
  4. قصة مذهلة

    عندي سؤال هل يمكنكي كتابة قصة
    بطلها شاب عبقري لاكنه مخبول و غير مبالي و يفعل ما في رأسه يصنع جهاز يسمح له بالعبور بين العوالم و يقوم بضرب أبليس بكرسي لسبب سخيف بعدها يدخلان في نقاش عما يحصل ألشاب يطلق و حش في نهاية القصة يذبح ملايين ألجن كنوع من المرح
    الشاب يرمز الا العبثية هو مذهب يؤمن أن لا شئ يهم في الحياة

    ردحذف
  5. مع عودة جاك دون جوزفين او جاكلين معه ولكن اتى بغير معياد اتى متاخر قليلا
    ابدعتي استاذه امل كانها بها جوانب منا وخصوصا انت الامل قادم استاذه امل
    مع عودة الخريف نتظر قصص الحب البارده وقصص الحرب والثلج مبدعه دوما f

    ردحذف

طبيب الأسنان المشبوه

فكرة : اختي اسمى كتابة : امل شانوحة    جنّية الأسنان جلست سلمى على كرسي طبيب الأسنان وهي ترتجف رعباً ، فهي المرّة الأولى التي تخلع فيها سن ا...