الخميس، 12 سبتمبر 2024

الأمنيّة الأخيرة

تأليف : امل شانوحة 

 

الأسرار الدفينة


دخل الممرّضان (الشاب والصبيّة ، الموظّفان الجدّد) الى غرفة الطبيب النفسي (الخمسيني) بعد طلب رؤيتهما في مكتبه بدار المسنين .. 

وسأل الممرّضة اولاً:

- أخبروني ان لديك موهبة الرسم ؟

- نعم دكتور

- يعني تستطيعين رسم الشخص بمجرّد اعطائك المواصفات ؟

الممرّضة : أكيد !! وكنت قدّمت على مركز التحقيقات الجنائيّة ، لكنهم يفضّلون رجلاً لهذه الوظيفة.. ولأني درست التمريض ، عملت هنا


الطبيب : ماذا عنك ، علمت انك بارع بعلوم الحاسوب ؟

الممرّض : نعم ، وكنت سأتخصّص جرافيك ديزايّن ..لكن بعد الذكاء الإصطناعي ، درست التمريض

الطبيب : لكنك مازلت تتقن الأمور التقنيّة الحديثة كالتلاعب بالأصوات ، اليس كذلك ؟

- نعم دكتور .. يمكنني خلق شخصيّات بالجرافيك ، كأنها حقيقيّة

الطبيب بارتياح : ممتاز !! اذاً اريدكما في عملٍ خاصّ براتبٍ أضافيّ ، لكن بسرّيةٍ تامة .. لا اريد لإدارة الدار الوقوف بطريقنا

- لم نفهم المطلوب منا ؟!


الطبيب : والدي توفيّ هنا .. وكان حلمه رؤية اخي الكبير الذي قُتل بالحرب ، منذ ان كنت مراهقاً .. لذا صارت لديّ رغبة بتحقيق أماني العجائز ، خاصة من هم على شفير الموت لرؤية أحبّائهم الذين فقدوهم بالموت او الغربة .. فرغم ان معظمهم فقدوا جزءاً كبيراً من ذاكرتهم بالخرف والزهايمر ، إلاّ انهم يتذكّرون شخصاً واحداً على الأقل ، كان مقرّباً منهم سواءً قريب او صديق .. وأريد منكما إدّعاء تلك الشخصيّات لإسعادهم بأيامهم الأخيرة .. وانا سأساعدكما بالمعلومات التي أخبروني بها خلال جلسات العلاج او التنويم المغناطيسي

الممرّضة : أظني فهمت قصدك.. تريدني أن أرسم احبائهم ، من خلال وصفهم لأشكالهم ؟ 

الطبيب : نعم ، وابنتي تخصّصت في صنع أقنعة السيليكون للمسرح والسينما .. فإن كانوا من يحبونه انثى ، تضعين انتِ القناع .. وإن كان ذكراً ، تضعه انت..


الممرّض : وبدوري سأستخدم مهارتي بالحاسوب لتغيّر صوتي وصوت زميلتي الى صوت أحبّائهم ، عبر جهازٍ صغير يوضع اسفل القناع .. لكن المشكلة ، كيف سأعرف طبقات الأصوات إن كانوا ماتوا منذ زمن ؟! 

الطبيب : سأسأل اقاربهم ان كان لديهم تسجيلاً بأصوات الراحلين او فيديوهات قديمة .. كما ان بعض النزلاء امتلكوا جوّالات حديثة قبل وضعهم بالدار ، وربما الصوت مازال مُسجّلاً لديهم.. وإلاّ عليكما المجازفة بالتحدّث بأصواتكما ، مُعتمدين على ضعف سمعهم 

الممرّضة : خوفي أن يكشفوا قناع السيليكون ؟ 

الطبيب : معظمهم يحتاج لتغيّر نظّاراته بعد سنوات بالدار .. لكن مديرنا البخيل يرفض هذه التكاليف .. وسيفيدنا ضعف بصرهم لإنجاح خطتنا بإسعادهم 


الممرّضة : وكل هذا تحقيقاً لحلم والدك فقط ؟! 

الطبيب : أعتقد الفضّفضة مع أعزّائهم ، سيريحهم ويحسّن نفسيّتهم المتعبة .. فالكثير منهم مازال لديه أمور لم يناقشها مع أعزّائهم الراحلين

الممرّض : وهذا عملٌ خيريّ ، فلما لا تريد إخبار الإدارة به ؟ لربما يكافؤننا على مجهودنا !

فتنهّد الطبيب بضيق : عدا أن مديرنا بخيل ، هو موظفٌ تقليديّ .. يكفيه إطعام العجائز وإعطائهم الأدوية في وقتها ، الى حين وفاتهم ! لهذا لن يهمّه فكرة إسعادهم بأيامهم الأخيرة

الممرّضة بحماس : حسناً دكتور ، مع من نبدأ اولاً ؟!!


الطبيب : الغرفة رقم ثلاثين .. فيها سيدة سبعينيّة ، وهي أصغر المتواجدين بالدار بعد أن فقدت رشدها بوفاة ابنها الوحيد اثناء تسلّقه الجبل برحلةٍ كشفيّة مع الأصدقاء  دون اخذ إذنها ، فهي ربّته وحدها بعد وفاة ابيه.. ومن بعدها صارت تحدّث نفسها طوال الوقت .. ففضّل اقاربها وضعها هنا ، بدل مشفى المجانين.. وأظن تجسّدك شخصيّة ابنها ، سيخفّف الكثير من مأساتها

الممرّض : وانا مستعد لذلك ، بعد رسم زميلتي لشكله

الممرّضة : اليس أسهل لوّ طلبنا صورته ؟

الطبيب : اقاربها مزّقوا كل ما يخصّ ابنها ، على امل نسيانه ! لكنها تضرّرت أكثر بفعلهم المتهوّر.. وقد وصلني إتصال من قريبها يخبرني انه مازال يحتفظ بتسجيل ابنها على جواله ، فطلبت إرساله إليّ .. وسأعطيه لك لتغيّر صوتك ، لصوت المرحوم

الممرّض : احتاج بعض الوقت لفعل ذلك 

الممرّضة : إذاً سأذهب الآن الى غرفتها لرسم ابنها ، من بعدها تقوم ابنتك بصنع قناع الوجه .. فكم تحتاج وقتاً لفعل ذلك ؟

الطبيب : ابنتي ماهرة بعملها .. (وأشار للممرّض).. وانت استعد !! بعد يومين تنفّذ المهمّة

^^^


وبالفعل ! تحسّنت نفسيّة السيدة كثيراً ، بعد محادثتها الممرّض لثلاث ساعاتٍ متواصلة وهي تذكّره بالماضي وأحلامه المستقبليّة ! كما عاتبته عن الرحلة التي أبعدته عنها .. بعد إتقانه شخصيّة ابنها ، بناءً على المعلومات التي حصل عليها من أهلها ، عقب ضغط الطبيب عليهم


وكذلك فعلوا بالمريض الثاني الذي ماتت زوجته بسبب بخله الشديد الذي منعه من شراء دواء القلب لها ! بعد إتقان الممرّضة دوّر الزوجة التي سامحته عن اخطائه الماضية ، وأنها بانتظاره بالجنة..

وكان هذا سبب موته بعد يومين وعلى وجهه ابتسامةً عريضة ، وورقة مكتوبة تحت وسادته : عن راحة ضميره بعد اعتذاره لها ، وشوقه الكبير للقائها بالآخرة !


وظلّ الطبيب والممرّضان يعملون بصمت كل ليلة ، لمنح العجائز أمنيتهم الأخيرة بالحديث مع احبّائهم الذين فقدوهم دون سابق انذار بسبب الحوادث او الموت المفاجئ او إختفاء اخبارهم بغربةٍ دائمة !

***


الى ان ارسل الطبيب الممرّضين بمهمتيّن مُنفصلتين.. حيث توجّب على الممرّضة محادثة نزيلة يتجنّبها الجميع ، لصعوبة طباعها وعصبيّتها ولسانها الحادّ ، دون فهم أسباب غضبها الدائم !

بينما ارسل الممرّض لعجوزٍ إنطوائيّ (نادراً ما يتحدّث مع زملائه) بعد تقمّص شخصيّة صديقه المقرّب


ليكتشف الممرّضان أمريّن صادميّن ! فالسيدة اعترفت بأنها سفّاحة قديمة ، قتلت خمسة رجال ودفنتهم بالغابة.. وسبب قتلها لهم : هو شبههم بعمها الذي اعتدى عليها بصغرها ! 

فسألتها الممرّضة (التي تمثّل دوّر جارتها وصديقتها المقرّبة) عن مكان الجثث ؟ فطلبت العجوز ورقة وقلم .. ورسمت شجرة مكسورة وسط الغابة ، فيها أثر حرق برقٍ قديم .. وأخبرتها ان جميع الجثث مدفونة حولها


اما الممرّض فاكتشف شيئاً أهم ..وهو ان العجوز الإنطوائي : كان لصاً محترفاً ، وهو من سرق اهم تاجر بالبلد ! وأخفى الذهب في صندوقٍ مدفون اعلى تلّ القرية


وبعد اعتراف النزيلان بساعات ، أعلن الدار وفاتهما بسكتةٍ قلبيّة ! وربما فضّفضتهما الأخيرة جعلتهما يستسلمان للموت ، بعد البوح بسرّهما المزعج اخيراً .. مما جعلهما يرحلان بهدوء ، خصوصاً بعد إبلاغ الطبيب الشرطة باعتراف العجوزة ..وعلى إثره ، تم اكتشاف الجثث الخمسة بعد ثلاثين سنة من اختفائهم المفاجئ !


اما الكنز ، فاتفق الطبيب مع الممرّضيّن على إخفائه عن الشرطة ..وتقاسمه بينهم لمرور اربعين سنة على الجريمة ، ووفاة الثريّ دون ورثة ! مُعتبرين بأنه مكافئة مالية ربّانية على تحقيق اماني كبار السن في ايامهم الأخيرة.. دون علم الممرّضان بأن الطبيب قتل المجرميّن بإبرة هواء بعد اعترافهما ، كيّ لا يُهانا بتحقيقات الشرطة والإعلام ! (فلولا تمثيل دوّر صديقيّهما المقربيّن ، لما فضحا جريمتهما التي كانت ستموت تفاصيلها معهما) فحسب رأيّ الطبيب : تأنيب الضمير لسنواتٍ عدة ، عقاباً كافياً لهما ! وفضّل كتمان الأمر ، خوفاً من تهوّر الممرّضان اليافعان او تهديده لاحقاً بجريمة الموت الرحيم !

***


ومع دخول مرضى جدّد للدار .. تابع الثلاثة عملهم السرّي ، لكشف المزيد من اسرار كبار السن .. لربما من خلال إيهام العجائز اللقاء بأحبّائهم ، يكسبون ثروةً أخرى غير متوقعة .. فبالنهاية الإنسان بئر من الأسرار الدفينة !  


هناك 19 تعليقًا:

  1. yas فكره جديده اخری بداخلها افكار جدد برايي ان المحتضر لا يجب الكذب عليها فبالنهايه سيواجه مصيره المحتوم الصوره تشبه صور كتاب القراءه والمطالعه منذ عقود

    ردحذف
    الردود
    1. الذكاء الإصطناعي أصرّ على الرسم بهذه الطريقة ، لا ادري لماذا ؟!

      حذف
    2. ليذكرنا بكتاب القراءة والمطالعة 😁

      حذف
  2. yas ذكرتني ايضا بقصه حكاها اجدادنا عن رجل من قريتنا ذهب يعود مريض من اقاربه واخذ يهون عليه ويصبره ويبشره ويوءمله بالشفاء ولكن عندما هم بالخروج اصطدمت جبهته بعارضۃ الباب وكان طويلا فالتفت الی اهل المريض وقال لهم
    بغضب الباب واطي اوي عندكم اومال هتطلعوا الخشبه ازاي ..
    المهم ان المريض مات بنفس اليوم 😂

    اولءك اباءي فجءني بمثلهم
    اذا جمعتنا ياجرير المجامع

    ردحذف
    الردود
    1. كان افضل لو لم يزرّ المريض ، قتله بتشاؤمه .. اعجبتني القصة

      حذف
  3. اشتقت لهذه المدونه ذات القصص الرائعه .. أهلا سيده امل .. كيف حالك ؟ اشتقت لك وللجميع .. حدثت مشاكل هنا ؟
    أحياناً الصمت شيء جميل للغايه ، كنت أرى تلك المشاكل.. واستطيع أيضاً التدخل.. لكن فضلت أن لا أفعل شيء .. جميعهم أكبر مني سناً .. لذا التزمت الصمت ..
    القصه جميله .. سلمت يداك ..

    ردحذف
    الردود
    1. ونحن اشتقنا اليك يا ابن العراق .. كيف حالك ؟ طمئنا عليك ؟

      حذف
  4. فكرة جديدة من جديد هذا ليس غريبا
    ما شاء الله خيالك واسع ومنعش
    واصلي وأتحفينا سيدة أمل
    (اشتقت لقصص المسابقات الغريبة وقصص الامراض النفسية🙃🤭)
    تحياتي
    سيدة النور 🕊🤍

    ردحذف
    الردود
    1. لوّ طلبتي مليون دولار ، لحصلتي عليها .. الآن أنهيت مسوّدة مسابقة نفسيّة ، سأنشرها قريباً بإذن الله

      حذف
    2. الله الله
      كل هذا حظ 😅😅
      في انتظارك حبيبتي 🤗

      حذف
    3. اتمنى لك الحظ الوفير بكل جوانب حياتك .. تستحقين الأفضل ، يا سيدة النور .. خلال يومين سأنشرها بإذن الله

      حذف
  5. شكرا ولك بالمثل وأكثر يارب
    احبك في الله

    ردحذف
    الردود
    1. ان شاء الله أختي أمل
      هذا شرف لي
      🕊🤍

      حذف
    2. يكفيني ان مدونتي المتواضعة ناسبت ذوقك ، عزيزتي سيدة النور

      حذف
  6. من ابداعات الجميله الاستاذه امل الامل قادم ان شاء الله
    استاذه امل ليس لارجاع الماضي انت كنت بكابوس الشمعه مع نوار ايام لاتنسى
    ولكن للاسف هناك من يقطحم مندوتك ويعمل نفسه المصلج والفاهم

    ردحذف
    الردود
    1. ان شاء الله الفرج قادم .. انا أؤمن بمقولة (لكل مجتهدٍ نصيب) .. والله لن يضيّع تعبي سدى .. شكراً لتفاؤلك

      حذف
  7. يعافي قلبك وروحك نحن معك دوما ونريد عودة جاكلي وجاك وتلك القصه

    ردحذف

طبيب الأسنان المشبوه

فكرة : اختي اسمى كتابة : امل شانوحة    جنّية الأسنان جلست سلمى على كرسي طبيب الأسنان وهي ترتجف رعباً ، فهي المرّة الأولى التي تخلع فيها سن ا...