الاثنين، 12 أغسطس 2024

الحياة الكئيبة

تأليف : الأستاذ عاصم
تنسيق : امل شانوحة 

 

الراحة الأبديّة 


خرجت ريم الى سطح الشركة التي تعمل فيها ، لتدخين سيجارة وإنهاء عملها بعيداً عن زحمة المكاتب .. وقبل انشغالها بحاسوبها .. إنتبهت على وجود الموظف المريب الذي يعمل في قسم الإرشيف (دون تذكّرها إسمه) واقفاً على سور السطح دون حِراك ، كأنه ينوي القفز !                           

فصرخت بعلوّ صوتها ، فزعة : 

- ماذا تفعل يا مجنون ؟!! 

فالتفت اليها بنظرةٍ غاضبة ، لمقاطعته بآخر لحظة !                           

فتابعت كلامها ، وهي تتقدّم نحوه ببطءٍ وحذر : 

- إيّاك ان تفعل !! دعنا نتحدّث قليلاً .. وإن فشلت بإيجاد حلٍ لمشكلتك وإقناعك بمتابعة حياتك ، حينها انتحر كما خطّطت 


ورغم علمه بعدم فائدة الإستماع اليها ، إلاّ انه لن يضرّه تأجيل انتحاره لبعض الوقت.. وجلس عند حافّة السور .. فاقتربت اليه ، وجلست بجانبه .. وقدّمت له سيجارة .. وكان معها بعض الشطائر والمياه .. فألحّت عليه مشاركتها الطعام ، حتى تُشعره ببعض الألفة .. فأستجاب لها مرةً أخرى مُرغماً .. 


وعندما رأت مضغه للطعام والشراب بصعوبةٍ وألم ، فهمت بأن نيّته للإنتحار لأسبابٍ صحيّة .. وحين لاحظ نظراتها المُشفقة ، علم بما تفكّر فيه .. وكشف عن قميصه ، لترى جسمه المشوّه من حرقٍ قديم ! وأخبرها كيف احترق داخل سيارته لوقتٍ طويل ، قبل تمكّنهم من إنقاذه .. وليتهم لم يسعفوه .. فهذه الحادثة حصلت له ببداية زواجه ، قبل عشر سنوات .. 


ثم حدّثها عن أمنيّته بملامسة ظهره الفراش ، لينام كبقيّة البشر .. فهو ينام جالساً منذ الحادثة .. وأحياناً يربط نفسه بيد الكرسي الذي يستند عليه ، كيّ لا يميل رأسه .. وعن رغبة ابنته الصغيرة (التي لم يرها بعد الطلاق) النوم على ذراعه واحتضانه ، لكنه لم يستطعّ الإقتراب منها او ملاعبتها مثل الآباء الطبيعيين.. وكيف اصبحت حياته عذاباً وجحيماً ، بسبب آلامه التي لا تنتهي .. وكم دعى الله ليلاً ونهاراً لتخفيف المه ، حتى اوشك على الإلحاد .. مُناجياً ربه بيأس كل ليلة : ((يارب لم تركتني هكذا ؟ ألست أرحم الراحمين ..ألست أرحم من أمهاتنا اللآتي ولدننا ؟ ألست قادراً على كل شيء ، فلا يعجزك شيء ، ولا تسأل عن شيء ؟ أعلم انّي محظوظ بعدم تشوّه وجهي بالحادثة .. وأعلم أن هناك حكمة مما حصل ، لكني لم أعد أحتملّ!!))


وطوال حديثه عن ماضيه ، إستمعت اليه ريم بذهول ! فهي الآن فهمت سبب طباعه الصعبة مع الموظفين وانطوائيّته وعصبيّته الزائدة .. وكذلك إهماله لشكله ، رغم حصوله على الكثير من الإنذارات من المدير ، عدا عن الخصومات الماليّة .. لكنه يعيش في قوقعته الخاصّة ! وهاهي تنصت اليه بارتباك ، دون معرفة ما ستقوله لتحسين نفسيّته المحطّمة !


بينما تابع سرد تفاصيل حياته الكئيبة : حيث فضّلت زوجته الإفتراء عليه بتهمٍ باطله ، كيّ لا تكون امرأه عديمة الأصل .. الى أن نجحت بكسب حضانة ابنته التي منعتها من زيارته ، بعد ادّعائها امام القاضي بنوبات صرعه الهستيريّة ! وقد أجادت التمثيل حتى صدّقها الجميع ، ومنهم إخوته الذين يشبهون إخوّة يوسف ، بعد اتفاقهم على طرده من تجارة العائلة بحجّة مرضه ! مما أفقده الوعيّ ، فضرب كبيرهم بعد حرمانه من ميراث والده الذي يحتاجه لأدوية المسكّن الغالية .. وفي المقابل ، رفع الأخ دعوى قضائيّة ! جعلته يترك منزله ويسكن بحيّ قذرٍ رخيص ، ويقبل العمل المملّ بإرشيف الشركة رغم شهادته العالية ! 

ثم سكت مطوّلاً لعدم رغبته بمتابعة ذكرياته ، حتى لا تتقيّأ ريم من سوء حياته !  


ليتفاجأ بها تقول له : 

- صدّقني لن أجادلك في أيّ شيء ..ولكن أريدك أن تصعد على السور ، كما فعلت قبل قليل .. وتنظر امامك ، وتخبرني بما تراه .. 


ورغم غرابة طلبها ، الا انه فعل ! واثناء شروده بمنظر المباني حوله ، والرياح تداعب شعره وذقنه الطويلتيّن .. إذّ بها تدفعه بقوّة من ظهره ، ليطير في الهواء ! 


وبعد رؤية جثته اسفل الشركة ، غارقاً ببركة دمائه .. قالت في نفسها : ((هذا افضل حلّ لك ، ولجميع من حولك .. فحياتك لم تعدّ ممكنة بأيّ حال من الأحوال .. ولعلّي أسديتك معروفاً ، ووفرّت عليك وِزّر قتل نفسك البائسة .. وأعطيتك ثواب الشهادة)) 


ثم دخنت سيجارةً أخرى ، كأنها تغسل الهواء الآثم الذي شهد الموقف بدخانها الأبيض ..فرغم جريمتها الشنيعة إلاّ انها شعرت برضا كبير .. فهاهو الهالك سينام على ظهره في القبر لأوّل مرة منذ سنوات .. فهنيئاً له الراحة الأبديّة !


هناك 19 تعليقًا:

  1. بما اني لم اضف شيئاً من افكاري على القصة ، فلن احسبها من ضمن قصصي للأمانة الأدبيّة .. اتمنى ان يعجب تنسيقي الأستاذ عاصم ، وتعجبكم قصته

    ردحذف
    الردود
    1. يعني هي وهبته الشهادة لتأخذ هي إثم قتله ، ثم ستكمل حياتها وكأن شيئا لم يكن ، أين المنطق في وهبه الراحة الأبدية ، فهل هي أرحم من الله عليه .

      حذف
  2. النهاية كانت غير متوقعة ظننت انها طلبت منه الصعود الى سور السطح لتحدثه عن الحياة واستمرارها، لكنها اختصرت له النهاية التي يريدها

    ردحذف
  3. نهاية القصة كانت هي عنصر المفاجأة وتستحق جائزة اوسكار لأفضل نهاية غير متوقعة

    ردحذف
  4. نهاية غير متوقعة

    ردحذف
  5. شكرا كثيرا لك امل ..لقد قرأها البطل ايضا وهو لك شاكرا لك ذاكرا ..كما لو ازاح حجرا او صخرة من على صدره ..
    وكما قال قاءد اوركسترا التايتانيك :
    ايها الساده ..كان لي شرف العزف معكم في هذه الامسيه ..


    ردحذف
    الردود
    1. هذه قصتك بالنهاية ، ايها البطل المتشائم

      حذف
  6. اجبت على سؤالكِ في قصة : سفّاح المنشار

    ردحذف
  7. ✍️ساهر...
    رأيت الدنيا.. لا شيئ بجذبني ٱليها،
    الإنسان ضعيف مغلوب على أمره مهما
    بلغ علمه وذكائة وإن كثر ماله.. ضعيف،
    ولا قوي إلاَّ رب العالمين ومن لجأ لغيره
    فلن يفلح،
    الدنيا باختصار: مامضى فات، والمؤمل
    غيب ولك الساعة التي أنت فيها..
    وكل الساعات ملك لله لا لغيره يعطي
    ويمنع يحيي ويميت....الخ
    في موازين القدر: إختيارك ليس إختيارك وما ترفضه هو مارفضه القدر من قبلك ولايأتي القدر إلاَّ بخير وإن بدت الصورة ظاهرها شراً فاطمئن فالقادم خيراً،

    من الطبيعي أن لكل شخص في خاطره أمنيات يتمناها يسعى لأجلها، خيرات أو أي شيئ جميل يسر النفس ويسعدها، فعندما يهيئ لك رب العالمين أسباب لتصل ماتطمح إليه فإذا أخذت بهذه الأسباب نلتها وإن لم تأخذ بها لن تنالها لأنك تركت الأسباب وأولها وأهمها وفي مقدمتها الدعاء....

    ومن أرقىٰ وأسمىٰ مقامات التوكل على الله عندما تنقطع عنك كل الأسباب أو لنقل تخلت عنك الدنيا ولم يبقى سوى الله في قلبك تتجه إليه بالدعاء

    " إنه قد قَدَّرَ له مطلوبه بسبب.. إن تعاطاه حصل له المطلوب وإن عطل السبب فإن المطلوب والدعاء من أعظم الأسباب في حصول المطلوب "
    عبارة توقفت عندها..!!

    تحية طيبة للأخت أمل
    تحياتي/ ساهر ،،،

    ردحذف
    الردود
    1. لا تحرمنا من تعليقاتك المفيدة.. سلمت أخ ساهر

      حذف
  8. رائع أستاذ عاصم
    نهاية مفاجئة غير متوقعة
    ريم قاسية وربما يعود عليها يوماً ما
    شكراً أستاذة أمل لنشرك قصص قرائك

    تحية طيبة وعطرة للجميع

    ردحذف
    الردود
    1. استاذ محمد .. كنت ارسلت لي تعليقاً سابقاً عن فكرة لك .. وقد استوحيت منها قصة ، لكن ليست عن معارك بين جيش ابليس والمسلمين .. بل عن ابليس وابنه وعلاقته بالمواطنين البشر .. سأنشرها قريباً ، واعود لنشر تعليقك السابق ليعرف القرّاء فكرتك الأساسيّة

      حذف
  9. خير ما فعلت ريم تصرف صائب قامت به

    ردحذف
    الردود
    1. عليك التصادق مع عاصم (صاحب القصة) كلاكما لديه النظرة التشاؤمية للحياة !

      حذف
    2. نظرة واقعية ليست تشائمية

      حذف
  10. نهاية عير متوقعة بالمرة لَكَم أسْعَدُ بهذه التفاصيل التي تكسر ريتم القصة وترفع عنصر المفاجئة والتشويق
    ريم قاسية جدا فعلت به مثلما فعل به الآخرون والحياة
    لا أحد له الحق في وضع نهاية شخص ما حتى لو كان هذا حدا لمشاكله ومعاناته فهذه روح أمانة الله عندنا
    على كل تحياتي لصاحب القصة ومنسقة القصة أستاذة أمل أتمنى ان يكون مستقبلا تعاون أكثر بينكما
    سيدة النور🕊🤍

    ردحذف
    الردود
    1. كلامك صحيح .. الحياة نعمة علينا تقديرها جيداً .. تحياتي لك

      حذف

الأمنيّة الأخيرة

تأليف : امل شانوحة    الأسرار الدفينة دخل الممرّضان (الشاب والصبيّة ، الموظّفان الجدّد) الى غرفة الطبيب النفسي (الخمسيني) بعد طلب رؤيتهما في...