الجمعة، 12 مارس 2021

مباراةٌ لا تنتهي

 كتابة : امل شانوحة

 

مهارات مكبوتة


بعد عودة المعلمة جاكلين الى بيتها ، حاولت التركيز اثناء تصحيحها واجبات الطلاّب ، مُتجاهلةً اصوات الركض في الشقّة التي فوقها ! 

الى أن ضاق صدرها .. ونزلت للطابق الأرضيّ لتبلغ شكوتها لحارس المبنى عن قلّة ذوق جارها ، قائلةً بعصبية : 

- إخبره أن يأمر اولاده بالتوقف عن لعب الكرة ، فأنا موظفة وأحتاج للهدوء


الحارس : لكن يا آنسة.. 

جاكلين مقاطعة : أعرف انني مستأجرة منذ يومين ، لكن الضجيج لا يُطاق يا رجل !!

- يا آنسة ، الشقة التي فوقك فارغة

- لكني أسمع صوت الكرة طوال الوقت ! ومستحيل أن يكون مصدرها الشقة المجاورة لأنها فوق رأسي تماماً ، وتتبعني أينما ذهبت ، كأنهم يقصدون مضايقتي !!

الحارس : انا أخبرتك سابقاً عن قصة العجوز التي انتحرت بالشقة ، لكنك أصرّيتِ على العيش في مبنانا المسكون 

- بسبب إيجاركم المنخفض ، ولأنني لا أصدّق بالأشباح

- اذاً سأفتح لك الشقة لتتأكّدي بنفسك ، فلا أحد رغب باستئجارها بعد تلك الحادثة

***


وحين صعدا للطابق العلويّ ، وجدتها فارغة بالفعل ! 

الحارس : ارأيتِ ، لا يوجد احدٌ هنا

جاكلين باستغراب : هل تسمح لي برؤية بقية الغرف ؟ 

- تفضّلي


وكانت جميعها عبارة عن جدران متآكلة وأرضيّة مُتربة .. وحين دخلت الغرفة الأخيرة ، وجدت كرةً قديمة هناك !

فنادت الحارس : تعال !! وجدتها 


وحين اقترب من جاكلين .. تفاجئا بتحرّك الكرة وحدها ، رغم النوافذ المغلقة ! قبل أن تُقذف بقوة ، لترتطم مباشرةً في وجهها .. مما جعل الحارس يهرب من الشقة فوراً .. ولحقته جاكلين المرتعبة ، لتجد الباب مقفلاً بأحكام ..

ورغم صراخها للحارس ، الا ان صوتها ظهر خافتاً كأن لا صدى له !


ثم سمعت دحرجة الكرة .. فالتفتت خلفها ، لتشاهد أربعة ظلال صغيرة تقترب منها ! وكان هذا كافياً لتفقد جاكلين وعيها .. 

حينها رأت مناماً غريباً :

((أربعة اولاد يلعبون الكرة بجانب الغابة ، بحماسٍ وسعادة .. لكنهم توقفوا بعد سماعهم لإمرأة عجوز تناديهم من الكوخ .. ثم رأت نفسها تركض معهم عائدةً الى المنزل ..

وجلست بجانبهم على طاولة الطعام .. لترى العجوز تسكب في صحونهم عصيدة مقزّزة ! 


فقال أكبر الأولاد بضيق :

- رجاءً جدتي ، لا تطبخي هذا الطعام الرديء ثانيةً 

فأجابته بحزم : لا اريد إعتراض !! اساساً صحتي تتدهور كل يوم ، ولم يعدّ بإمكاني خدمة البيوت .. والمال الذي ادّخرته ، انتهى قبل ايام .. ومازلتم إيها الكسالى ترفضون العمل للمساعدتي بمصروف المنزل

فأجابها الولد الأوسط : مازلنا صغاراً يا جدتي .. فأخي الكبير 13 سنة ..وانا 12.. وأخوايّ التوأمان 10 .. فأيّ عملٍ سنجيده بعد إجبارنا على ترك المدرسة ؟ 


الجدة بلؤم : لأني لا أملك مصاريف تعليمكم !! اساساً أنتم تضيعون الوقت بلعبكم السخيف ؟

فقال الولد الأصغر : نحن نتدرّب كل يوم ، لنصبح لاعبيّ كرة ماهرين

أخوه التوأم : أتعرفين يا جدتي كم يدفعون للاعب كرة القدم ؟

الأخ الأوسط بحماس : الملايين !!

الجدة : اولئك يتدرّبون في نوادي رياضية ، وانا لا أملك المال لذلك .. لهذا عليكم البحث عن وظائف ، فأنا لست ملزمة بكم ..

الولد الصغير بحزن : وما ذنبنا اننا ايتام ؟

اخوه التوأم معاتباً : لسنا ايتاماً !! أمي حيّة وستعود الينا يوماً ما ، اليس كذلك جدتي ؟ 


فتنهّدت بضيق ، قبل ان تقول :

- أظنكم كبرتم كفاية لتعرفوا الحقيقية .. امكم لا تعمل نادلة في المدينة ، بل هي فتاة ليل ..وكل واحداً منكم ، إبن أحد زبائنها ..

فسألها أحد التوأمين : لكن أخي يشبهني تماماً !

الجدة : انتما من ذات الأب ، وأخويكما من والدين مختلفين .. يعني جميعكم اولاد حرام

الولد الكبير بغضب : انت تكذبين !!

الجدة : أصمت يا ولد 


الولد الكبير : اذاً نريد الإنتقال للمدينة للعيش مع امي ، فالحياة معك صعبة للغاية

الجدة : وانا تمنّيت ذلك منذ كنتم أطفالاً ، وتركتكم اللعينة عندي لتكمل عملها القذر في المدينة .. حتى مصروفكم التي كانت ترسله لي ، توقف منذ سنة 

الكبير : إعطيني عنوان عملها وثمن الحافلة ، وسأذهب وحدي للمدينة للبحث عنها 

الجدة : لا تتعب نفسك ، فصديقتها أخبرتني منذ شهور : أن قوّادها تخلّص منها ، بعد شجارٍ حادّ بينهما

الأخ الأوسط بقلق : ماذا يعني تخلّص منها ؟!

الجدة بلؤم : يعني قتلها

الأخان التوأمان : لا !! امي حيّة


الجدة بعصبية : توقفوا عن البكاء !! هي رحلت الى الجحيم وانتهى أمرها .. وعلينا إيجاد مصدر رزق لإكمال حياتنا المزرية .. وسنبدأ البحث بعد إنتقالنا لوسط البلد ، فأنا أحتاج لعلاجٍ عاجل في المستشفى .. وحين نصل هناك ، أوظّفكم كعمّال في البقالات والمقاهي لتساعدوني بالمصروف .. أمّا كرة القدم ، فانسوها تماماً !! ... والآن إنهوا طعامكم بصمت ، وناموا باكراً .. فغداً ستساعدوني بتنظيف الكوخ ، قبل عرضه للبيع


واستمرّ الحلم الغريب ! لكن هذه المرة إنتقلت جاكلين الى الشقة العلوّية مع الأطفال ، لتجد الجدة تعاتبهم بغضب : 

- هل انتم سعيدون الآن ؟!! الجيران إشتكوا لصاحب المبنى عن  إزعاجكم المستمرّ ، بسبب لعبكم الكرة في غيابي .. الا تفهمون انني أموت بالسرطان ؟!! متى ستكبرون وتتحمّلون المسؤولية ؟ عليكم أن تفهموا إننا نعيش الآن في شقة وعلينا إحترام الجيران ، وإلا سنطرد في الشارع !!

الولد الكبير : إذاً أعيدنا الى الغابة ؟ 

الجدة : بعت كوخنا منذ سنة ، الم تستوعب ذلك بعد ؟!!


الولد الأوسط : لكننا ماهرون جداً بالكرة .. صدّقيني جدتي ، سنصبح من المشاهير حينما نكبر

الجدة بعصبية : هذا إن لم أقتلكم اولاً .. هاتوا الكرة .. هاتوها الآن!!

الإبن الصغير باكياً : ارجوك لا ترميها من النافذة ، فنحن لا نملك ثمن غيرها

الجدة : اذاً سأخبّئها في غرفتي ، وإيّاكم البحث عنها في غيابي 


ثم تغير الحلم ! لتنتقل جاكلين الى سيارة العجوز برفقة الأولاد السعداء بالعودة الى منزلهم القديم في الغابة .. لكنها شعرت بخوفهم فور نزولهم من السيارة ، وبقاء العجوز خلف المقود وهي تقول :

- لا أريد التشرّد بالشوارع بسببكم !! فصاحب المبنى أعطاني إنذاراً أخيراً ، وأنا وعدّته بإنهاء مشاغبتكم هذا اليوم

ثم أدارت المحرّك .. فسألها الصغير بخوف :

- اين تذهبين يا جدتي ؟!

الجدة بغضب : كبرتم كفاية للإعتناء بأنفسكم .. (ثم رمت الكرة لهم) ..خذوا كرتكم اللعينة ، وألعبوا لآخر يومٍ في حياتكم ايها الفاشلين !!


ثم قادت سيارتها المهترئة بعيداً ، بعد أن تركتهم وحدهم بجانب الغابة ! فانهار التوأمان بالبكاء .. 

فلم يكن امام اخاهم الأكبر (المراهق) سوى إلهائهم عمّا حصل .. فصفّر بفمه ، مُعلناً مباراة جديدة .. 

وركضوا خلف الكرة باتجاه الغابة ، كما كانوا يفعلون قبل سنتين .. 


وسرعان ما أصبحت اللعبة حماسيّة بحلول العصر .. قبل أن يقذف الأخ الأوسط الكرة بعيداً ، لتسقط فوق سكّة الحديد القريبة من المكان .. 

فذهب اخوه الكبير لإحضارها ، ليتفاجأ بإخوته يصرخون برعب :

- إبتعد بسرعة !!

فالتفت خلفه ، ليرى قطاراً سريعاً متجهاً نحوه !

فرمى الكرة لهم .. وقبل هروبه ، علقت قدمه أسفل السكّة ..

 

فركض إخوته اليه في محاولة لإنقاذه ، لتتلطّخ وجوههم بدمائه في ثوانيٍ 

وتجمّدوا في مكانهم من شدة الصدمة بعد رؤيتهم بقايا قدمه العالقة في السكّة ، التي كانت آخر ما تبقى من جسد أخيهم الكبير !


وبمرور الوقت .. حاول الأخ الأوسط لمّلمة اشلاء أخيه المُبعثرة في كل مكان لدفنها بشكلٍ لائق ، لكنه انهار بعد تقيؤه وهو يبكي بمرارة 


وهنا عاد التوأمان اليه ، وهما يقولان بيأس :

- بحثنا في الأرجاء ، لكننا لم نجد احداً يساعدنا 

واقترب التوأم الآخر منه : 

- أخي ارجوك ، دعنا نعود للكوخ قبل حلول المساء


ورغم إن الأخ الأوسط لم يستطع جمع كل الرفات ، الا انه حفر سريعاً بيده : لدفن الأطراف ، وجزءاً من جمّجمة أخيه الكبير !

ثم ذهب مُتثاقلاً مع أخويه الصغيرين باتجاه كوخهم القديم


ووصلوا هناك قبل غروب الشمس ، ليجدوا كوخهم مُهدّماً بالكامل ! وبعض أغراضهم القديمة مرمية بجانبه ..

 

فأخذ التوأمان يبحثان عن شيءٍ يأكلانه او يشعلانه في المساء .. في الوقت الذي أمسك فيه الأخ الأوسط الحبل الذي وجده بكلتا يديه ، وهو سارحٌ بخياله ! 

فنادياه من بعيد : إبحث معنا عن الطعام ؟!!

لكنه ظلّ يردّد بداخله ، بتأنيب ضمير :

((انا رميت الكرة بعيداً .. انا قتلت أخي))


وبعد دقائق ، صرخ أحدهم : وجدت شجرة تفاح !!

فأسرع اخوه التوأم اليه ، وأخذا يقطفان التفاح ويأكلانه بشهيّة لسدّ جوعهما 


بعد قليل ، لاحظا إن أخاهم الأوسط لم يلحقهما ! فتوجها للمكان الذي كان فيه ، ليجدانه مشنوقاً على الشجرة !

وانهارا بالبكاء الشديد ، بعد أن أصبحا وحدهما في الغابة الموحشة .


وبعد شعورهما ببرد المساء ، دبّ اليأس في قلوبهما الصغيرة .. وما أن سمعا صافرة القطار من بعيد ، حتى خطرت ببالهما الفكرة ذاتها ..وأسرعا نحو سكّة الحديد .. وأمسكا يديهما بقوة ، وأغمضا عينيهما تجنّباً لأنوار القطار الساطعة وهو يقترب نحوهما مُسرعاً 


وقال لأخيه بعلوّ صوته :

- لا تخف ، سنجتمع بهم قريباً !!

فنادى الآخر باكياً : امي ، إنتظرينا !!

***


وهنا استفاقت جاكلين من كابوسها المزعج ، لتجد نفسها مازالت في الشقة العلويّة ..والكرة تتدحرج حولها ببطء !


فجلست وهي تحاول إلتقاط انفاسها ، بعد رؤيتها لموجز الحياة الصعبة التي عاشها اليتامى الصغار ! 


ثم قالت بصوتٍ مسموع :

- الآن فهمت لما عذّبتم جدتكم بحرمانها من النوم ، بعد أن أصبحتم ارواحاً .. فبانتحارها حصلتم على انتقامكم ، أليس كذلك ؟ 

فأخذت الكرة تقفز بقوة امامها ، كأنهم موافقين على كلامها ! 


فاستجمعت قواها لحمل الكرة وهي تقول :

- لا يحقّ لأحد أن يمنع الأطفال من اللعب .. هيا بنا ، سآخذكم الى الملعب 


وحين حاولت فتح باب الشقة ، وجدته مقفلاً ..

جاكلين : هيا يا صغار ، الا تريدون اللعب ؟ إفتحوا الباب 

فانفتح الباب وحده .. ونزلت بالمصعد نحو سيارتها .. 


وحين شاهدت بمرآتها الأمامية : الكرة تتدحرج فوق المقاعد الخلفية ، عرفت ان ارواح الصغار الأربعة معها بالسيارة ! 


ورغم خوفها من مرافقتها للأشباح ، الا انها قالت لهم : 

- لا تجعلوا السائقين الآخرين يلاحظون تحرّك الكرة وحدها ، كي لا توقفني الشرطة

فتوقفت الكرة في مكانها !


وظلّت تقود ، الى أن وصلت لملعبٍ مهجور موجود بأطراف المدينة  


ودخلت الى هناك وهي تحمل الكرة التي وضعتها في منتصف الملعب المليء بالأعشاب البرّية العشوائية .. 

وبعد أن نظرت نظرةً أخيرة لمدرّجاته المُهدّمة ، قالت بصوتٍ عالي:

- ستبدأ المباراة !! هل انتم جاهزون ؟!!


وصفّرت بفمها ، لترى الكرة تتحرّك بقوة باتجاهين مُعاكسين ! فعلمت انهما انقسما الى فريقين .. 

وأسرعت مُبتعدة عن الملعب ..

 

ثم ركضت نحو سيارتها ، بعد أن تركتهم يكملون لعبتهم التي لن يجرأ أحد على إيقافها ، في مباراةٍ حماسية لا نهاية لها !  

***


جاكلين وهي تنظر للكاميرا : 

((قد تظنون انني قوية لتخلّصي من الأشباح ، لكني بالحقيقة محظوظة لأن قلبي لم يتوقف من شدة الخوف .. وحتى اليوم لا يعرف سكّان العمارة سبب توقف الضجيج فجأة في مبناهم ، الذي استمرّ لسنواتٍ طويلة .. ورغم الهدوء الذي نعِمنا به ، الا أنني إنتقلت سريعاً الى مبنى آخر يبعد أميالاً عن العمارة المسكونة (سابقاً) خوفاً من عودة الملاعيين الصغار .. لكن حظّي العاثر جعلني أقيم تحت شقة فيها اولاد مشاغبين آخرين ! ومع ذلك أقنع نفسي بأن عليّ تحمّل الجيران ، وإن من حقّ الصغار أن يلعبوا من وقتٍ لآخر .. هذا إن كان هناك اطفالاً فوقي بالفعل ، لكني لا أجرأ على التأكّد من ذلك ثانيةً !))


******

ملاحظة : 

قبل ايام ، صعد أخي الى الشقة التي فوقنا لإخبار جارنا عن إنزعاجنا من ركض اولاده المتواصل منذ الصباح حتى آخر الليل كل يوم .. لكنه أخبره إنه يعيش وحده مع زوجته بعد تزويج ابنه الوحيد قبل شهور ، وأنه ليس لديهم احفاداً بعد .. الغريب إن الضجيج توقف بعد هذه الشكوى ! 

فعدا عن قصتي الخيالية ، هل لديكم تفسيراً منطقياً لهذه الحادثة الغريبة ؟!  


هناك 4 تعليقات:

  1. اعتقد بأنهم جن من الصالحين يسمونهم عمار البيوت ...فبعد ان اشتكا اخوك الى صاحب الشقه هدأو...واعتقد انه العجوز كانا يرتبا الشقه وينقلا ادوات في الشقه.. والله اعلم

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً جزيلاً لك ، المهم أن الوضع هدأ اخيراً بعد اسابيع من الإزعاج المتواصل .. تحياتي لك

      حذف
  2. عجبتني القصه جداً
    وانقهرت على الاطفال المساكين شنو ذنبهم اذا امهم وسخه😔؟
    اكيد الي كنتوا تسمعوا اصواتهم جن😈
    احس نفسي اني جنيه كل اشويه اطفر من قصه لقصه حتى ما استبعد گمتي تخافين مني😂

    ردحذف
    الردود
    1. لا ، يكفيني جني واحد بهذه المدونة (ابن اليمن) .. لم اكن ادري ان مدونتي مشهورة بعالمكم !

      حذف

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...