الجمعة، 26 مارس 2021

تشاك الطيّار

 تأليف : امل شانوحة

 

نزهةٌ مخيفة


في منتصف الليل .. شعرت جاكلين برغبة لشراء الحلويات من البقالة الموجودة أسفل مبناها .. 

ففتحت نافذة غرفتها اولاً ، ثم جلست فوق الوسادة الحمراء المطرّزة وهي تنادي بصوتٍ مسموع :

- هيا تشاك !! خذني الى البقالة ..


فبدأت الوسادة تطفو باتجاه النافذة .. قبل تحليقها فوق الحيّ المظلم ، الخالي من أنوار الشوارع ..


وحين نظرت جاكلين للأسفل : رأت إبنة البوّاب الصغيرة تلعب في الساحة ، وسيارة تراقبها من بعيد !

فعلمت إن السائق ينوي خطفها ، فطلبت من تشاك أن يدنو منه ..


ورغم إن السائق لم يرى الوسادة الطائرة ، الا انه شعر بروحٍ ثقيلة تلاحق سيارته من جميع الأبعاد ! ففرّ هارباً من المنطقة .. بينما عادت الصغيرة الى بيتها بسلام 


جاكلين : أحسنت يا تشاك ، هآ نحن أخفناه .. (وهنا انتبهت على نور شقتها) .. ياه ! إبتعدنا كثيراً عن العمارة .. عدّ الى هناك !! فمازلت ألبس بيجامتي..


وهنا نطقت الوسادة من تحتها ، بصوتٍ رجوليّ أجشّ :

- ظننتك تريدين شراء الحلويات من السوبرماركت ؟

جاكلين : جميع المحلاّت مغلقة الآن ، فيما عدا بقالتنا الصغيرة .. وقد قاربنا على منتصف الليل ، لنذهب اليه قبل إغلاق دكّانه 


الا أن الوسادة انطلقت للأمام بسرعةٍ هائلة ! أوشكت على إيقاع جاكلين  التي تمسّكت بقوة بأطرافها القماشيّة .. مُغلقة عيناها من شدّة الرياح ، وهي تصرخ بخوف : 

- عمارتي بالخلف !! الى اين تأخذني يا مجنون ؟!


وفجأة ! توقفت الوسادة .. 

ففتحت عيناها ، لتجد نفسها امام مفترق طرق لشارعين مظلمين (دون إنارة) يفصلهما جبلٌ شاهق ! 

ولأول مرة شعرت بخوفٍ شديد ، وترجّته بصوتٍ متهدّج : 

- تشاك ارجوك ، أعدّني الى بيتي  


لكن الوسادة عادت للإنطلاق للأمام بسرعةٍ مهولة .. 

وكلما توقفا ، وجدت نفسها بمكانٍ موحشٍ أكثر (وكل ذلك حدث في تلك اللية الطويلة الباردة !) 


فمرة أوقفها تشاك فوق صحراءٍ قافرة مظلمة .. والمرة الثانية : توغلا في أعماق غابةٍ مهملة ، وأصوات الحيوانات والحشرات تحاول الهجوم على وسادتها .. وفي الثالثة : كانا فوق محيطٍ هائج ..والرابعة : في القطب الشمالي ، حتى أوشكت الموت برداً ..

فقال لها ساخراً : 

- لا تقلقي عزيزتي ، سأدفئك في الحال 


وانتقل سريعاً فوق فوهة بركان ، لتشعر جاكلين بالسخونة الحارقة اثناء سيرهما فوق شلاّلات من الحممّ النارية .. 

وما أن بدأت تسعل بقوة ، بسبب الأدخنة المنتشرة هناك .. حتى انطلقت الوسادة لمكانٍ أشدّ رعباً ، لتقف فوق مستنقعٍ لا يضيئه سوى أعين التماسيح الحمراء في الأسفل .. وبدأ يهبط ببطء نحوهم ، وجاكلين تصرخ باكية :

- تشاك ارجوك !! إبعدني عن تلك الوحوش 


فعاد للإرتفاع الى السماء .. فعاتبته غاضبة : 

- تشاك ايها اللعين !! كنّا اتفقنا على تنفذيك اوامري ، في مقابل إعارتك روحي للظهور كبشريّ والخروج من سجنك داخل الوسادة ، فماذا تغيّر اليوم ؟!! 

- هذا صحيح .. لكنك تبخلين عليّ بذلك ، وتكثرين طلباتك بزيارة أجمل الأماكن السياحية في العالم .. وبدوري حملتك فوق ظهري رغم ثقل وزنك ، وأخذتك الى فرنسا وايطاليا واميركا واليونان وتركيا وغيرها .. واليوم قرّرت أن أريك الجانب المظلم من عالمك  ..ومازال هناك مكانٌ أخير اريد زيارته معك 

جاكلين بخوف : لا تشاك ارجوك !


وأخذها لأكبر مقبرة بشريّة مهجورة ، مُنطلقاً على ارتفاعٍ منخفض حيث بإمكانها ملامسة الشواهد المتكسّرة .. 

فصرخت باكية :

- فهمت فهمت !! لن أطلب منك شيئاً بعد اليوم ، ارجوك أعدّني الى بيتي 

- لا ، مازال هناك مكانٌ رائع لم تريه الا في نشرات الأخبار


وانطلق كالصاروخ نحو السماء .. في الوقت الذي تحاول فيه التمسّك بكل قوتها بأطراف الوسادة ، بينما قدميها يحلّقان بالهواء الذي ازداد برودة كلما صعدا الى فوق .. 

وفجأة ! شعرت بجسمها يطفو بخفّة ، كأن لا جاذبية حولها 


فقال لها تشاك :

- إفتحي عينيك ، وانظري لجمال المنظر  

فرأت الكرة الأرضية اسفل منها !

جاكلين بخوف : يا الهي ! أأخرجتني من الدنيا ؟! 


تشاك : نعم عزيزتي .. (ثم تنهّد بضيق) .. أتدرين إن اجدادي القدامى كانوا يتنقلون بين السماء والأرض لاستراق السمع من الملائكة وإبلاغ المشعوذين بها .. لكن المهمّة أصبحت مستحيلة بعد ترصّدهم لنا بالشهب كلما اقتربنا من الجنة .. لهذا لن أرتفع اكثر .. فقط أردّت إختصار طلباتك .. فبدل أن آخذك برحلاتٍ سياحية حول العالم ، هآ انا اريك الأرض بأكملها .. يمكنك الإستمتاع برؤيتها قدر ما تشائين 


جاكلين : حسناً !! فهمت الدرس 

- إسمعيني جيداً .. لم أنسى فضلك بإخراجي من تلك الخرابة ، عقب فكّك السلاسل حول الوسادة التي سُجنت بها لقرون ..وكنت أخبرتك بأن رئيس الجن حكم بذلك ، بسبب طموحي الشاذّ بالتحوّل الى بشري مثلكم .. لكنك لم توفّي وعدك ، وأعرتني روحك لبضعة ساعاتٍ فقط ، خلال السنتين الماضيتين !


جاكلين : لأني شعرت بسكرات الموت بعد أخذك روحي ، وهذا أخافني جداً .. لكني أعدك أن أجدّد شروط إتفاقنا على ساعات تحرّرك ، ولن أضايقك بكثرة طلباتي بعد اليوم 

- وعد يا جاكلين !!

- أحلف بذلك يا تشاك 

- اذاً تمسّكي جيداً ، واغمضي عينيك .. سنعود سريعاً من حيث انطلقنا


وهبطت الوسادة باتجاه الكرة الأرضية .. وأغميّ على جاكلين من قلّة الأكسجين ..


وحين فتحت عيناها ، وجدت نفسها فوق سرير غرفتها ..

واول ما فعلته : هو أنها حملت الوسادة الحمراء بغضب ، متوجّهة نحو النافذة .. وهي تصرخ بعصبية :

- لا اريدك بحياتي بعد اليوم ايها اللعين ، كدّت تقتلني !!

تشاك بفزع : ماذا تفعلين يا جاكلين ؟! هذا ليس اتفاقنا 


جاكلين بعصبية : لم أعدّ أثق بك ، بعد تصرّفك الأرعن هذه الليلة!! 

- كنت أريك فقط الوجه الآخر لعالمكم !

- وتركت كل المناطق الرائعة ، لتأخذني لأرعب الأماكن ! الأفضل أن أتخلّص منك ، وأريح رأسي من همّك

تشاك : لحظة ! الا تريدين رؤية ملاهي والت ديزني ؟ سنصل هناك في الصباح 


فأخذت تفكّر قليلاً ، قبل أن تقول : 

- والت ديزني ! كيف لم تخطر في بالي من قبل ؟! .. حسناً خذني الى هناك ، لكنها آخر رحلة بيننا ..

- كما تشائين عزيزتي .. إجلسي فوق الوسادة ، واغمضي عينيك 


وحين شعرت إنها على وشك الخروج من نافذة غرفتها ، قالت بحماسٍ وغرور :

- هيا حلّق بي الى مدينة الأحلام ، يا عبدي المطيع !! 

- آسف جاكلين ، هذه المرة ستطيرين للأسفل


وألقى بالوسادة الى أسفل المبنى ، لتسقط جاكلين بقوة من الطابق الثالث !


واثناء احتضارها في بركة من دمائها ، خرج تشاك من الوسادة الحمراء وقد تحوّل لرجلٍ ضخم ! إقترب منها قائلاً : 

- إستعبدّتني لسنتين !! انت اسوء من الجن الذين حكموني بالسجن .. لذا قرّرت أنني لن أتذلّل لاستعارة روحك بضعة ساعاتٍ قليلة ، بل سأستولي على روحك للأبد !! وبذلك أستردّ حريتي خارج الوسادة النتنة 


جاكلين وهي ترتجف بقوة : تشاك ساعدني ارجوك ، لا يمكنني التنفّس

فاقترب من وجهها ، وهو يهمس بلؤم : 

- اذاً لا تتنفّسي مطلقاً


وقبل ابتعاده عنها ، تفاجأ بها تمسك قدمه ! جعلته يتعثّر بقوة ، ويسقط على وجهه .. ليتفاجىء بأنفه ينزف بغزارة ! وهي المرة الأولى التي يشعر فيها بالألم بعد تحوّله لبشريّ .. مما أغضبه جداً!! 


وفي ثوانيٍ ، عاد لهيئته القديمة : كماردٍ اسود مخيف بجناحين عملاقين ، وهو يصرخ غاضباً :

- يا حقيرة !! تعاملينني كعبد وانا المارد الطيّار الذي يهابه جميع الجن


وكان رؤيتها له بهيئته الحقيقية لأول مرة ، كافياً لإيقاف قلبها الذي يعاني من نزيفٍ داخلي بعد سقطتها العنيفة .. ففارقت الحياة على الفور !

  

بعد قليل .. سمع تشاك خطوات أناسٍ تركض باتجاه الجثة ، بعد سماعهم صراخه المخيف الذي أيقظهم في هذا الصباح الباكر .. 

فحلّق مُسرعاً نحو السماء ، بعد تخلّصه من سلطة جاكلين عليه طوال الفترة الماضية !  

***


بعد شهرين ، وفي حفلةٍ صاخبة .. إقترب رجلٌ وسيم من سيدةٍ مخمورة قائلاً :

- مارأيك لوّ نتفق على شيء ؟

- ماهو ؟

- علمت مؤخّراً إن ارواح البشر تنتهي صلاحيتها سريعاً .. ولأني لا اريد العودة كشبحٍ هلاميّ ، عليّ الإستيلاء على روحك مقابل خدماتي لك


فضحكت المرأة وهي ترفع كأسها : 

- هل انت كاتب او شاعر ؟ فكلامك غريب .. (وشربت قليلاً) ..دعني أعرّفك بنفسي ، اسمي ديانا .. وأنت ؟

- تشاك الطيّار

المراة بدهشة : طيّار !

- نعم ، يمكنني أخذك لأيّ مكانٍ تريدينه حول العالم

- وانا أعشق السفر 

- اذاً تعالي معي 

***


بعد خروجهما من البار ، سألته :

- اين سيارتك ؟

- هناك

فوجدت وسادة حمراء فوق الدرج ، فضحكت ساخرة :

- هل تنام فوقها كالقطة ؟

تشاك : إجلسي فوقها ، وسأحملك أين ما شئت

المرأة : أخاف أن يضحك الناس علينا 

- لا تقلقي ، لن يراك احد طالما انت برفقتي

- يبدو انني سكرت كثيراً ، فلا أفهم كلمة مما تقوله ! ومع ذلك سأنفّذ طلبك


وبعد جلوسها فوق الوسادة المطرّزة ، قال لها بابتسامةٍ خبيثة :  

- تمسّكي جيداً عزيزتي


ثم تحوّل تشاك الى دخانٍ كثيف ، إمتصّته الوسادة لداخلها .. لتبدأ بالإرتفاع عن الأرض ، قبل تحليقهما بعيداً نحو مصيرٍ مجهول .. والذي سيتكرّر حتماً مع سيدات أخريات ، كلما انتهت صلاحية روحهنّ المسلوبة ..وذلك لتحقيق حلمه الأبدي بالتحوّل لبشريّ طبيعيّ ، رغم احتفاظ تشاك بأفكار الجن الخبيثة التي تبشّر بجرائمٍ مستقبلية ستدوم طويلاً !

هناك 3 تعليقات:

  1. كان هذا حلماً شاهدته قبل ايام ، بأني اجلس فوق وسادة طائرة ، وأمامي مفترق طرق لشارعين مظلمين ، وكنت اقول بخوف : ((تشاك رجّعني بيتي))

    فأردّت تحويل المنام الغريب الى قصة خيالية (فانتازيا) ، أتمنى أن اكون توفّقت في ذلك .. تحياتي للجميع

    ردحذف
  2. بشار سليمان27 مارس 2021 في 8:27 م

    مبدعة كعادتك
    استمرّي
    بارك الله بك

    ردحذف

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...