تأليف : امل شانوحة
العامل العاشر
تم قبول العامل الجديد (جاك) للإهتمام وحده بالملاهي بعد اغلاقها .. حيث يتوجب عليه حراستها من منتصف الليل ، لحين عودة زملائه لإدارة الألعاب للزوّار صباحاً
وفي يوم عمله الأول .. قدم باكراً عند الساعة 10 مساءً.. وجلس يراقب ضجّة الملاهي المكتظة بضحكات الزوّار اثناء تنقلهم من لعبةٍ لأخرى.
وعند الساعة 11 ونصف مساءً .. شعر بتوتّر زملائه الذين سارعوا بإيقاف الألعاب ، قبل انتهاء دورتها ! مُطالبين الجميع عبر مكبّرات الصوت ، بمغادرة الملاهي دون مماطلة ..
فاستغرب جاك من اهتمامهم بدقة التوقيت ! فالليل مازال في بدايته ، خصوصاً انهم بعطلة الهالوين ! كما انها الملاهي الوحيدة على اطراف مدينتهم الصغيرة..
لكنّ زملاءه بدوا مستعجلين على الرحيل ، كأن الساعة 12 ليست موعد اغلاق بل موعد نجاة !
^^^
وبالفعل قبل سبع دقائق على منتصف الليل ، كانت الملاهي فارغة تماماً بعد اطفاء جميع الأنوار .. ماعدا المصابيح الخافتة بين ممرّات الألعاب !
وبعد تسليم العامل الأخير المفاتيح لجاك ، ربت على كتفه وهو يقول بشفقة:
- اتمنى ان تكون أصلب ممن سبقوك لهذه المهمّة الصعبة
جاك باستغراب : كل ما عليّ فعله هو ابقاء البوّابة مغلقة حتى الصباح ، وفي المقابل احصل على الف دولار كل ليلة .. وهو مبلغٌ خياليّ
زميله : هذا إن قبضته ، فعملك يقتضي مجهوداً نفسياً جباراً.. خصوصاً الليلة التي تصادف عيد الهالوين .. لا يمكنني تخيّل اولئك الملاعين بزيّهم المخيف ..
ثم نظر لساعته ، قائلاً بفزع :
- يا الهي ! بقيت دقيقتان على منتصف الليل ، عليّ الإبتعاد من هنا سريعاً !!
^^^
وبعد رحيله..
جاك باستنكار : هل يظنني سأخاف من ملاهي مظلمة ؟!
وبعد تأكّده من إقفال البوّابة ، وجميع أجهزة التحكّم ومحلاّت الدمى وأكشاك الطعام السريع .. توجّه الى مكتبه الصغير..
لكن قبل الدخول اليه ، لاحظ شيئاً يتحرّك من بعيد !
فأضاء كشّافه .. ليرى فتاةً صغيرة تنظر إلى الإفعوانية بشرود ، كأنها تنتظر دورها منذ زمنٍ بعيد !
فنادها بقلق :
- يا صغيرة !! هل نسيّك اهلك هنا ؟!
لكنها تجاهلت سؤاله ، مُكتفية بالإشارة للعبة المطفأة .. وهي تقول بحماس:
- ادرها فوراً !! فهو دوري لركوبها
فاقترب منها :
- غداً يديرها زملائي لك .. الآن إخبريني بعنوان منزلك ؟ وإن كنت لا تذكرينه ، سأضّطر لأخذك للشرطة لإعادتك لأهلك
وحين حاول سحبها من المكان ، شعر بيدها باردة كالمعدن .. ولم تتحرّك مطلقاً ، كأنها مُثبتة بالأرض !
وهنا تغيرت ملامحها البريئة ، وهي تقول بحزم :
- اريد اللعب بالإفعوانية.. الآن يا جاك !!
فانصدم من معرفتها اسمه ! وقبل استيعابه الموقف ، سمع اصوات اولادٍ خلفه .. ليجد اكثر من مئة طفلٍ منتشرين بين الألعاب ، كلهم ينادوه بإسمه لتشغيلها لهم !
وكأنهم ارواحٌ عالقة في محيط الملاهي !
حينها فهم انهم غير بشريين .. وعرف سبب راتبه الضخم الذي يبدو انه لن يقبضه ابداً !
ورغم تسارع قلبه ، الا انه تمالك اعصابه ..وهو يسأل الفتاة بحذر :
- هل ادير العابهم اولاً ، ام الإفعوانية ؟
- بل هم !! فأنا المسؤولة عنهم .. لكن عندما يحين دوري ، ستركب معي
فلم يستطع الإعتراض ، لأنه لا يعلم من تكون : أهي شبحٌ ام جنية ام شيطانةٌ خبيثة؟
وذهب طواعيةً لإجلاس كل مجموعة من الأولاد (بوجوههم الشاحبة) داخل اللعبة التي اختاروها .. ثم تنقّل بين غرف التحكّم لإدارة الألعاب .. وسرعان ما ضجّت الملاهي المضاءة بضحكاتهم الصادحة !
ثم سار متثاقلاً نحو الفتاة ، وهو يحاول التملّص من ركوب الإفعوانية معها:
- صغيرتي .. إن ركبت معك ، فمن سيُطفئ بقية الألعاب ؟ سأبقى عالقاً معك بالإفعوانية ، لحين قدوم زملائي صباحاً .. ولا أظن من الحكمة ان يروك تتجوّلين هنا مع اصدقائك ، اليس كذلك ؟!
الفتاة : استطيع التحكّم بإيقاف ايّة لعبة مؤقتاً ، لحين نزولنا منها .. لكن لا استطيع ادارة اللعب دون مساعدة عمّال الملاهي الذين هرب 7 منهم بعد رؤيتنا ، ومات اثنان بسكتةٍ قلبية ! فأنت املنا الأخير .. ويبدو انك اجرأهم ، لهذا اريد اللعب معك .. لأني اشعر بالملّل وحدي
جاك : ولما لا تلعبين مع بقية اصحابك ؟
- لأنهم يكرهونني .. فوالدي المُتسبّب بموتهم
جاك بخوف : رجاءً إفهميني الموضوع ؟!
فتنهّدت بضيق : قبل سنوات ، تواجد بهذا المكان مبنى مهجور .. إستخدمه والدي لإجتماعات عبّاد الشياطين الذين خطفوا الأولاد ، لحرقهم كقرابين لإبليس .. ومعظم اولئك الأطفال (وأشارت لأصحابها) هم مشرّدين واولاد شوارع او باعة متجوّلين .. وفي يوم ، فشل المنضمّون لتلك الجمعية السرّية من إختطاف ايّ طفل .. فقدّمني والدي قرباناً لإبليس !
جاك بصدمة : وكيف وافقت امك على ذلك ؟!
الفتاة : امي مُتشرّدة مدمنة ، سلّمتني لوالدي بعد ولادتي .. وبعد بلوغي سن الرابعة ، ماتت بجرعة مخدراتٍ زائدة .. لهذا تعودت ان يحبسني ابي بإحدى غرف المبنى المهجور ، لحين انتهاء احتفاله مع زملائه .. قبل ان يقرّر جعلي ضحيةً اخرى ! وقد انتحر لاحقاً قبل خضوعه للمحاكمة .. ولليوم لم التقي بروح والدي اللعينة !
جاك : سمعت من زملائي ان مالك الملاهي طلب من البلديّة هدم المبنى المهجور بعد شرائه الأرض ؟
- هو الوحيد الذي علم أن المكان ملعون بأرواح الأطفال الغاضبة ، لكنه استغلّ سعره الرخيص .. ولهذا هددّته بإفزاع زوّاره ، إن لم يغلق الملاهي عند منتصف الليل .. اما شرطي الثاني : هو السماح لي ولبقية الأشباح باللعب حتى الفجر ، فالحياة بالعالم السفليّ مملّة للغاية .. (ثم أشارت للأطفال) .. وطالما جميعهم ضحايا والدي ، فمن واجبي إسعادهم .. لكن المشكلة أننا لم نجد عاملاً جريئاً ، للبقاء معنا حتى الصباح .. فهل ستنجح انت ؟
جاك بتردّد : بصراحة .. انا بحاجة للألف دولار يومياً ، لهذا لا ارى مشكلة من ملاعبتكم
الفتاة بحماس : ممتاز !! وطالما اليوم هو عيد الهالوين ، فلدينا سببٌ آخر للإحتفال .. والآن لنصعد للعبة معاً !!
وما ان أدار الإفعوانية ، حتى سارع الركوب بجانبها .. ثم طلب منها رفع يديها عند الهبوط ، لجعل اللعبة اكثر حماساً
ولأول مرة يسمع الأشباح الصغار ، ضحكة رئيستهم التي كانت تقضي وقتاً رائعاً مع جاك الشجّاع !
^^^
ومضت الساعات سريعة على الأشباح ، بينما بطيئةٌ جداً على جاك الذي امضى الليل كله وهو يدير لهم اللعبة تلوّ الأخرى .. فهم اولاد لا يفزعون من خطورة الألعاب ، او يمتنعون على اللعب بعد شعورهم بالغثيان !
ولم يتوقف عمله على ادارة الألعاب فحسب ، بل ايضاً تحضير الوجبات الخفيفة لهم : من الفشار والعصائر والآيس كريم .. وكذلك مطالبتهم بالدمى بعد ربحهم مسابقات الأكشاك الترفيهية !
^^^
قبل بزوغ الفجر ، بدأت الأشباح تتلاشى الواحدة تلوّ الأخرى .. الى ان اختفت جميع ارواحهم الصغيرة ..
بعدها تقدّمت الفتاة نحو جاك ، لشكره على سعادتهم..
جاك : هناك مشكلةٌ صغيرة.. فالأكشاك خالية من الألعاب والحلوى ، فكيف سأبرّر للمدير ..
الفتاة مقاطعة : انا وبقية الأشباح علقنا بعالم الجن ، وهم كرماءٌ معنا .. لهذا سمحوا لنا بأخذ ما نريد من الكنوز البشريّة المدفونة .. وكنت اتفقت مسبقاً مع مالك الملاهي على اعطائه شوالاً من الذهب كل شهر ، إن سمح لنا اللعب هنا كل ليلة.. يمكنه بواسطة ذلك الكنز ، شراء ما استهلكناه في الملاهي
جاك بصدمة : هو يأخذ شوالاً من الذهب كل شهر ، ويعطيني فقط الف دولار باليوم!
- ان اردّت ، أنقلك معي لعالم الجن .. فلديهم جبال من الذهب ، يمكنك أخذ ما تريد إن عملت لديهم
جاك بخوف : لا شكراً .. الف دولار تكفيني ، لست طمّاعاً لهذه الدرجة !
ثم ودّعته على عجل قبل شروق الشمس ، واختفت تحت الأرض
أما جاك : فبقي وحده وسط صمتٍ ثقيل ، لا يعلم إن كان ما حدث حلماً أم كابوساً !
^^^
بالساعة السابعة صباحاً ، قدم المدير اولاً .. ليتفاجأ بانتظار جاك في مكتبه!
- أمازلت هنا ؟!
فردّ جاك بوضوح : نعم !! وقد لاعبت الأشباح الصغار ، وانتهى الأمر .. رجاءً أعطني الألف دولار ، فأنا مُنهك واحتاج لنومٍ عميق
لكنه لم يدرك أن المدير الذي وعده بالراتب ، لم يكن ينوي دفعه !
فهو ينتظر فشله ، كونه العامل الليلي العاشر .. وهو ما نصّ باتفاقية رحيل الأشباح عن الملاهي ، الذين اتعبوه لعامٍ كامل ..
فرغم شوالات الذهب التي حصل عليها شهرياً .. لكنه لم يجرؤ على صرفها ، خوفاً من لعنتها !
لهذا اكتفى بإعطاء جاك ثمن طعامه .. والذي خرج غاضباً من الملاهي التي سيعود للعمل فيها مساءً
***
وتكرّر لعب الأشباح الصغار كل ليلة .. الى ان لاحظت رئيستهم حزن جاك الذي اخبرها بأن المدير لم يعطه اجرته طوال عشرين يوماً ، بعد تحجّجه بأسبابٍ واهية
فردّت غاضبة : اذاً سنربيه قريباً !!
***
وفي صباحٍ مشؤوم.. تحرّكت الألعاب وحدها ، وضحكت الدمى ، وقطرت المرايا دماً.. فهرب الزوّار فزعين دون رجعة !
وأُغلقت الملاهي بالشمع الأحمر .. لتُلقّب لاحقاً بـ"الملاهي المسكونة" التي خاف أهل المدينة الإقتراب من محيطها ليلاً !
***
بعد شهور .. وقف جاك حزيناً امام بوّابتها المغلقة ، وهو يشعر بالذنب بعد إفلاس المدير ، والتسببّ ببطالته هو وزملائه !
وفجأة ! فُتحت البوّابة وحدها ، وبدأت انوار الملاهي تُضاء الواحدة تلوّ الأخرى .. ثم تعالت اصوات الأولاد داخلها !
فعلم جاك بعودة الأشباح المتشوّقين للعب من جديد
فدخل الى هناك حذراً .. ليسمع الفتاة تقول خلفه :
- اخيراً تجرّأت على القدوم يا جاك ، كنا بانتظارك .. فقد شعرنا بالملّل طوال الشهور الماضية
فعاتبها عما فعلته ، لأنه خسر عمله بسببها..
لكن الفتاة رمت له المفاتيح الخاصة بالبوّابة وبقية الأكشاك ، وهي تقول :
- شوال الذهب كل شهر ، أصبح من نصيبك .. ولا تقلق !! فالشرطة لن تقبض عليك ، لأن لا احد يجرؤ على الإقتراب من هنا .. (ثم ابتسمت بارتياح) ..من حسن حظنا ان الملاهي اصبحت مهجورة ، هكذا لن يضايقنا احد
جاك : اذاً لتظهروا صباحاً ؟
الفتاة : لا ، ذاك وقت نومنا .. ثم انوار الملاهي بالليل ، اكثر جاذبية وحماساً.. هيا جاك ، إبدأ عملك .. ماذا تنتظر ؟
وقد أغراه راتبه الجديد ، دون إدراكه أنه لا يملك خياراً آخر..
حيث سارع بإدارة الألعاب ، وهو يشارك الصغار سعادتهم بعودة ملاهيهم المفضلة من جديد !
***
ومنذ ذلك اليوم .. تعوّد أهل المدينة على سماع موسيقى الملاهي كل ليلة ، رغم كونها مغلقة بالشمع الأحمر ، بألعابها المُعطّلة المغبرّة ..
أما جاك : فصار الحارس الأبديّ لملاهي الأشباح ، بزوّارها المشاغبين من العالم الآخر !

 
 
 
 
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق