الثلاثاء، 26 يناير 2021

الوهج المزيّف

 فكرة : أختي أسمى
كتابة : أمل شانوحة

حياة الأثرياء


لطالما أُعجبت (سما) بحياة الأثرياء التي تراقبها على الدوام من خلال مواقعهم للتواصل الإجتماعي .. حيث لم تمضي ليلة دون تخيّلها أنها تعيش  مثلهم ، فهم برأيها محظوظين بكل شيء : الحب والمال والعائلة .. 


اما هي فيتيمة فقيرة ، لم ترث من والديها سوى منزلٍ متآكل بالرطوبة والعفن .. تعيش على مبلغٍ بسيط من عمها كل شهر ، لعدم إنهاء تعليمها او إيجادها عمل .. 

***


في ذلك اليوم .. مرّت الحافلة التي تركبها من حيّ الأغنياء ، فأخذت تراقب فلّلهم الفخمة من النافذة ، وهي تتمنى تجربة حياتهم ولوّ مرة واحدة 

ولكثرة هوسها بالموضوع ! وجدت نفسها توقف الحافلة للنزول هناك ، رغم بُعد منزلها عن منطقتهم السّاحلية الفاخرة ..


وأخذت تمشي في شوارعهم النظيفة ، مُسترقةً النظر لحدائقهم الخارجية وهي سارحة بخيالها ..


الى ان توقفت ، بعد سماعها رجلاً ينادي زوجته :

- بسرعة يا نجوى !! تأخرنا على رحلتنا البحرية

- لا ادري لما تصرّ على الذهاب بهذا الجوّ الغائم ! 

فقال لها بنبرةٍ غاضبة : كم مرة سنتناقش الموضوع ؟!!

زوجته بارتباك : حسناً فهمت ، إنتظرني لحظة .. آه اللعنة ! نسيت الرقم السرّي ثانيةً 

- لا داعي لذلك ، سنعود سريعاً

- الحرص واجب ، إخبرني الرقم يا فارس


فأعطاها رقم قفل الباب الإلكترونيّ ، دون أن يلاحظ وقوف سما خلف شجرة حديقتهم .. 


وبعد ذهابهم باتجاه الشاطىء ، تجرّأت سما على ضغط الأرقام (التي حفظتها بذاكرتها القوية) ، لينفتح الباب الرئيسيّ دون إنطلاق جهاز الإنذار

 

ودخلت بحذر خوفاً من وجود خدم ، لكنها تفاجأت انها وحدها هناك ! فأخذت تتجوّل مذهولة في أرجاء المنزل الضخم ، كأنها في حلم .. فهو يشبه المنازل المصوّرة على تطبيق ((التيك توك)) وبقية وسائل التواصل الإجتماعي ، حيث يتباهى الأثرياء بممتلكاتهم دون المبالاة بمشاعر الآخرين ..

وأخرجت جوّالها القديم من جيبها لنشر صورها في موقعها الجديد ، وهي تنوي إدّعاء الثراء ..


ودخلت المطبخ اولاً ، حيث تفاجأت بالمأكولات الجاهزة التي تملأ الثّلاجة .. قامت بوضعهم جميعاً على الطاولة ، ونشرت الصورة بعنوان : 

((لا أدري ما سأتناوله على الغداء ، هل لديكم إقتراح ؟))


وبدأت تأكل من كل صنفٍ بشهية ونهم ، وهي مندهشةً من مذاقها الخياليّ 

والأجمل انها وجدت الكثير من علب الشوكولا الفاخرة والبطاطس بجميع انواعها تملأ الأدراج .. فأخذت تأكل منها حتى التخمة .. 


ثم أعادت الأطباق مكانها .. وصعدت للطابق العلويّ ، ودخلت غرفة نوم الزوجين .. 

وتمدّدت على سريرهم الضخم ، وأخذت تتقلّب فيه وهي مستمتعة بنعومة غطائه ووساداته المريحة 


وحين فتحت الخزانة ، رأت جميع انواع الفساتين بألوانها المختلفة وأقمشتها الناعمة المزركشة .. فاختارت منها : فستاناً لامعاً ومعطفاً من الفروّ ، ووصلة شعرٍ ناعمة وطويلة .. كما وجدت عشرات الأحذية المصفوفة في خزانةٍ خاصة ، إختارت منها : حذاءً عالياً برّاقاً .. لبستهم على عجل .. 


ثم أخذت تصبغ وجهها بأدوات الزينة بماركاتٍ فخمة مصنوعة من موادٍ طبيعية لا تسبّب تهيّج البشرة ، مثل زينتها الرخيصة منتهية الصّلاحية ..


وبعد تجميل مظهرها .. أخذت تصوّر نفسها في كل غرفة ، وتنشرها لمتابعيها الذين تضاعف عددهم خلال ساعة .. وهي تحدّثهم بصوتٍ ناعم ، وتتمايل كالمشاهير التي تعوّدت على مشاهدتهم .. 


وحين وصلت للمسبح الكبير الموجود في صالةٍ داخلية مزوّدة بتدفئةٍ دائمة ، بجانبها العديد من الأجهزة الرياضية .. أسرعت بتفتيش خزانة الحائط ، لتجد فيها ملابس سباحة .. لبستهم دون تردّد ، ونزلت المسبح وهي تتذكّر نزهة البحر في طفولتها مع والديها..


وأخذت تسبح دون انتباهها للوقت ، الى أن سمعت صوتاً رجوليّاً يصرخ خلفها بنبرةٍ غاضبة :

- أمسكتك ايتها الّلصة !!


وإذّ بصاحب المنزل يُشهر مسدسه نحوها ! فرفعت يديها بخوفٍ شديد :

- سيد فارس ! ارجوك لا تقتلني

- كيف عرفتي اسمي ؟!

- سمعت زوجتك تناديك به .. أرجوك دعني أرتدي ملابسي ، وأخبرك بكل شيء


فأخرج روب الحمام من الخزانة ، ومدّه نحوها : 

- هيا إصعدي من المسبح !!

- سأفعل بعد ان تدير ظهرك

- لصّة وخجولة ايضاً 

- ارجوك سيدي 


فأدار ظهره ، لحين لبسها المعطف .. ثم سألها : 

- كيف تسلّلتِ الى بيتي ؟ وماذا سرقتي منه ؟


فأخبرته بموجز ما فعلته في المنزل .. وبدوره تأكّد من كلامها بعد مراجعته كاميرات المراقبة

سما : ارأيت ، لم أسرق شيئاً 

فارس : أمعقول ان هوسك ب((التيك توك)) جعلك تغامرين بحياتك ! .. أتدرين لوّ رأتك زوجتي لظنّتك عشيقتي

- اين هي الآن ؟

فتنهّد بضيق : كالعادة .. تشاجرنا بالنّزهة بعد خوفها من الأمواج المضّطربة ، وأصرّت ان أوصلها للمطار لقضاء عطلتها مع اهلها

- هل طلّقتها ؟!

- بصراحة أفكّر بالموضوع فهي صعبة الإرضاء ، وشجارها الدائم أرهق روحي .. ماذا عنكِ ؟ ماذا ستفعلين الآن ؟


سما : سأعود الى بيتي ، بعد إعادتي كل شيء مكانه .. اما ثوب السباحة وروب الحمام وضعتهما في الغسّالة .. وكما ترى ، ليس في جيبي سوى جوّالي القديم .. فهل تسمح لي بالذهاب ؟ فالشمس على وشك المغيب 

- أظن عائلتك ستعاقبك على التأخير

- انا يتيمة 

- أتعيشين وحدك ؟

سما : يزورني عمي من وقتٍ لآخر


ففكّر فارس قليلاً ، قبل ان يفاجأها بالسؤال : 

- هل تتزوجينني يا سما ؟

بدهشة : ماذا !

- قبل عودتي الى المنزل ، إتصل سكرتير رئيس النقابة لإخباري عن حفلٍ عائلي لرجال الأعمال .. وبما أنني لا أحب إطلاع الآخرين بمشاكلي العائلية ، وزوجتي تكره تلك المناسبات ، أقترح عليك الذهاب معي بصفتك زوجتي .. في المقابل سأدفع لك 1000 دولار إن أتقنتي التمثيلية

- مبلغٌ كبير !

- ماذا قلت ؟


سما : وكم ساعة ستدوم الحفلة ؟

- تقصدين كم يوم ..فالمؤتمر يستمر ثلاثة ايام ، نجتمع فيه كل مساء ، يعني 3 حفلات عائلية .. ولا تقلقي ، سأحجز غرفة مستقلّة لك في الفندق 

- لكني لا أملك ملابس تليق بالمناسبة

فارس : ستهتم مساعدتي بكل شيء : الشعر والثياب والمكياج ايضاً 

سما بسعادة : أحقاً !

- الم يكن حلمك أن تعيشي حياة الأثرياء ، سأحقّق مرادك ..الآن عودي الى منزلك ، وغداً صباحاً تأتين الى هنا 

سما بحماس شديد : سأكون على الموعد !!

وخرجت من الفلة وهي تطير من الفرح

*** 


في اليوم التالي .. وصل فارس وسما الى فندق العاصمة المقام فيه المؤتمر..  

وأرسل مساعدته الى غرفتها لتحضيرها لحفلة المساء ، والتي قدمت مع إختصاصية بشرة وكوافيرة شعر وخبيرة ازياء .. 

وبعد ساعاتٍ طويلة ، إنتهوا من تجهيز سما للموعد ..

***


بعد خروج المساعدين .. دخل فارس غرفتها مندهشاً من جمالها ، فسألته بقلق : 

- كيف أبدو ؟!

- أجمل من زوجتي السابقة 

سما : لا تتكلّم كأنها طليقتك ، حاول مصالحتها بعد انتهاء المؤتمر

- سأحاول .. لحظة ، مازال ينقصك شيء

- ماهو ؟

- العقد 


وأخرج علبةً مخملية من حقيبته ، وألبسها العقد الماسيّ الذي أصابها بالذهول ! فأسرعت لتصويره بجوالها القديم .. لكن فارس سحبه من يدها ، ورماه بسلّة النفايات ..ثم أعطاها جوالاً آخر وهو يقول : 

- هذا هاتفك الجديد ، هو هديةٌ مني 

سما مستفسرة : يعني يمكنني الإحتفاظ به بعد انتهاء الحفل ؟ 

- نعم .. الآن أخبريني ، هل درّبتك مساعدتي على اسلوب حديثك مع الآخرين ، وكيفية اختيارك الطعام من البوفيه ، وطريقة.. 

سما مقاطعة : نعم أعطتني مئات التوجيهات ، أتمنى ان لا أنساها لاحقاً 

- المهم لا تتكلّمي إلاّ اذا سألك أحد ، وإجابتك تكون مختصرة ولبقة .. وإيّاك أن يشعروا أنك من مستوى آخر 


فقالت بامتعاض : لا تقلق ، أجيد تقمّص الشخصيات ، فمخيّلتي واسعة .. حتى أنظر !!

ورفعت رأسها بغرور وهي تقول :

- هيا عزيزي فارس ، الجميع بانتظارنا

 

فابتسم لخفّة ظلّها ، ولفّ يدها برفق تحت ذراعه ..وخرجا سوياً من الغرفة باتجاه الحفل الكبير في الصّالة

***


لكن الأمر لم يكن سهلاً كما تصوّرته سما .. فتحرّكها بالكعب العالي أتعب قدميها وظهرها ، كما كان عليها تناول كميات قليلة من الطعام رغم جوعها .. وقد حاولت جاهدة الإندماج مع زوجات رجال الإعمال .. 


لكن بعد مرور الوقت .. بدأ يضايقها حديثهنّ المصطنع ، وكذبهنّ الواضح عن عشقهنّ لأزواجهم وتفوّق ابنائهم بالدراسة وحياتهنّ السعيدة ! حتى ضحكاتهنّ المستفزة تُخفين خلفها حقدهنّ وخبثهنّ ، كأنهن يحاولن إخفاء مللهنّ وتعاستهن بابتساماتٍ زائفة ! 

وكلما رحلت إحداهن ، تكلّمن عنها بسوء وسارعن بفضح اسرارها ، على عكس ما أظهروه لها قبل قليل !

حتى لم يخجلن من قول خططهنّ للايقاع بالأخريات ، ورغبتهن بتفريقهن عن ازواجهن ! كما اشمئزّت من مزاحهنّ الجريء حول علاقاتهن العابرة! 


وقد حاولت سما التهرّب من اسئلتهن حول كيفية لقائها بفارس المعروف بزير النساء .. إلاّ أن بعضهن علمن انها ليست زوجته ، بل إحدى حبيباته لمعرفتهن بزوجته نجوى التي وصفوها بالنّكدية المتكبرة ..

***


ومرّ الوقت ببطءٍ شديد على سما التي شعرت برغبةٍ شديدة للعودة الى غرفتها ، لكن فارس كان منهمكاً بالحديث مع رفاقه .. فلم تجد حلاً سوى الجلوس بعيداً واللعب بجوالها الجديد التي انبهرت بجمال صوره .. فأخذت تصوّر نفسها بالقاعة وامام البوفيه ، ونشرها بموقعها تحت عنوان : 

((إحدى حفلاتي الكثيرة))

***


بآخر الليل .. تنفّست سما الصعداء بعد انتهاء الحفل الذي دام ثلاث ساعات ، وعادت الى غرفتها برفقة فارس الذي قال لها : 

- لديّ ملاحظات عن تصرّفاتك هذه الليلة

سما بتعب : رجاءً أجّلها للغد ، فرأسي يؤلمني من صوت الموسيقى المزعج 

- تلك أفخم فرقة جاز في البلد

- لا يهم ، عزفهم أزعجني كثيراً واريد النوم .. غداً نكمل كلامنا 

فارس : حسناً ، تصبحين على خير 


وتركها ترتاح في غرفتها ، وهي تشعر بثقلٍ في قلبها لكثرة الإدّعاءات الكاذبة التي سمعتها هذه الليلة

***


ومرّت الأيام الثلاثة بصعوبة ، الى أن انتهى المؤتمر أخيراً ..

وعادا سوياً الى المنطقة الساحلية ..


في الطريق ، سألها فارس :

- ما رأيك أن تبيتي الليلة في فلتي ؟

سما : مستحيل !! أوصلني لمحطة الباصات لأعود الى بيتي

- وهل ستذهبين الى هناك بهذه الملابس الفخمة ؟

- آه معك حق ! ملابسي تركتها بفلتك

- اذاً نذهب الى بيتي اولاً ، ثم أوصلك للمحطة 


بعد قليل ، توقفا عند الإشارة .. فرأت عجوزاً متشرّداً يجلس على الرّصيف وهو يرتجف برداً .. وكان معها قهوة ساخنة .. 

وحين فتحت باب السيارة ، أوقفها فارس :

- الى اين تذهبين ؟

سما : سأعطي قهوتي للعجوز ليتدفأ قليلاً

- لا تشجّعي هؤلاء الحثالة ، دعيه يبحث عن عمل للصرف على نفسه

- هو كبير بالسن ، الا ترى ؟!

فارس بلؤم : اذاً ليمتّ ويريح الناس من قذارته !!


فنظرت اليه بصدمةٍ كبيرة ! لكنه لم يكترث ، وأكمل طريقه الى فلته

***


حين وصلا هناك ، غيّرت ملابسها على عجل .. ونزلت الصالة لتوديعه :

- شكراً على الألف دولار ، بصراحة إستحقيتها بجدارة !! فحياة الأثرياء صعبة ومعقّدة للغاية 

- أحقاً !

سما : نعم ، كان عليّ الإنتباه على كل شي .. طريقة مشيّ وأكلي وكلامي ، حتى رمشة عيني وكأني روبوت .. بينما حياتنا أسهل بكثير : نقول ما نعنيه ، ولا نجامل احداً .. ولا نخفي مشاعرنا 


فارس : لكنك تخفين حبك لي 

سما بدهشة : ماذا !.. سيد فارس ، كنت بالغرفة المجاورة لغرفتك بالفندق ، ورأيت النسوة الرخيصات التي استأجرتهنّ كل ليلة ، فعن أيّ حبٍ تتكلّم ؟! الآن فهمت سبب شجاراتك المتكرّرة مع زوجتك ، فلا احد يتحمّل الخيانة

- ليست خيانة .. هي علاقات عابرة ، مجرّد روتين في حياة الأثرياء

- يبدو عالمكم ليس برّاقاً كما ظننت ، ففي البساطة جمالٌ لا تعرفونه ..المهم ، عليّ الذهاب الآن .. 


وحين حاولت فتح الباب الخارجيّ ، وجدته مقفلاً ! فقال لها : 

- عليك وضع الرقم السرّي

- آه نسيته ، ماهو ؟

فارس : اساساً غيّرته بعد اقتحامك بيتي ذلك النهار 

- اذاً تعال واكتبه ، فقد تأخر الوقت

- ومن قال اني سأسمح لك بالرحيل


سما بصدمة : سيد فارس ! إتفقنا على ثلاثة ايام فقط 

- انت ستبقين هنا لحين عودة زوجتي ، وهذا قراري النهائيّ .. ولا تقلقي ، يمكنك إقفال باب غرفتك إن كنت تخافين مني

- هذا اختطاف !  

فارس : ليس تماماً ، لكني أكره الوحدة .. لذا ستكونين ونيستي .. بهذا الوقت يمكنك تصوير نفسك بأرجاء منزلي وعرضها على موقعك الإلكترونيّ .. الطعام تجدينه في الثلاجة .. كما ترين لا يوجد خدمٌ هنا ، فأنا أكره الغرباء .. 


سما بعصبية : وأنت غريبٌ عني !! ولا استطيع البقاء معك

- لم يكن هذا كلامك بالفندق ، حين ناديتني بحبيبي وروحي 

سما بغضب : كان تمثيلاً !! الا تفهم ؟! 

- سأنام قليلاً ، انا متعب من الرحلة


وصعد الى غرفته ، تاركاً سما في حيرةٍ وقلق ..

***


وبالفعل أصبحت رهينة منزله ! حيث أقفل باب فلته كلما خرج للعمل ، لتمضي ساعاتٍ طويلة وحدها بالفلة .. تدخل الغرفة تلوّ الأخرى وهي تصوّر سعادتها الزائفة بالفيديوهات .. وتسبح وتأكل ما تشتهيه ، ومع ذلك شعرت بمللٍ شديد ، فالهدوء قاتلٌ هنا .. بينما في منطقتها حتى لوّ ظلّت وحدها في المنزل ، كانت اصوات الناس في الشارع وصرخات الباعة والجيران ولعب الأطفال يُشعرها بالحياة .. فقلوب الناس على بعضها دون نفاقٍ او تعالي .. اما هنا ، كأنها تعيش في مقبرة .. لا شيء ممتع ، والوقت يمضي ببطٍ شديد ..


وكانت تقضي جلّ وقتها على جوالها ، وهي تقرأ تعليقات متابعيها : حيث حسدها الكثيرون على رفاهية حياتها ، بينما الحاقدين تمنّوا زوالها !

***


وفي إحدى الأمسيات .. عاد فارس الى منزله برفقة سيدة قالت لسما:

- لم يتوقف عن الشرب ، فاضّطررت لإعادته بسيارتي .. إخبريه حين يستيقظ ، ان سيارته مازالت في موقف المطعم


وبعد ذهابها ، حاولت سما إسناده وتوصيله لغرفته .. لكنه تقيّأ على نفسه ملوّثاً ثيابه والدرج ..

فبدّلت ملابسه ووضعته في سريره .. ثم أمضت ساعة في تنظيف المكان 


من بعدها عادت الى غرفتها وهي تقول :

- كان الله في عونك يا نجوى ، فزوجك خائن وسكّير ايضاً .. وانا  ظننت أن حياتك جميلة !

*** 


في آخر الليل .. إستيقظت مرعوبة على طرقاتٍ قوية على بابها ، وصرخات فارس : 

- إفتحي يا سما !! اريد النوم بجانبك

سما بفزع : سيد فارس ! مازلت مخموراً ، عدّ الى سريرك

- هيا حبيبتي إدخليني الغرفة ، انا أخاف النوم وحدي

سما بغضبٍ شديد : عدّ الى غرفتك حالاً ، والا اتصلت بالشرطة !!

فاختفى صوته فجأة !


بعد قليل .. إرتجفت سما بفزعٍ شديد عند محاولته كسر بابها بالمطرقة ، وهو يصرخ بهستيريا :

- كلكم متشابهات !! تصرفون اموالنا ، ولا يرضيكم شيء .. لتموتوا جميعاً !! 


فتجمّدت في مكانها من شدة الخوف ، الى ان سمعت تعثّره على الدرج ..ويبدو انه فقد وعيه ، لكنها لم تجرأ على الخروج من غرفتها ..

***


إستيقظت في اليوم التالي ظهراً ، لعدم نومها طوال الليل .. وخرجت بحذرٍ شديد ، لتجد ورقة إعتذار معلّقة على باب الغرفة : 

((سأصلح الباب لاحقاً ، سامحيني .... )) 

 

ويبدو انه خرج لعمله وهو مازال يعاني من السكر ، لأنه نسيّ محوّ الرقم السرّي عن جهاز الإنذار ..

فأسرعت سما بالخروج من سجنها التي بقيت فيه لأسابيع


وانطلقت مسرعة باتجاه الشاطىء.. 

واثناء انتظارها الحافلة .. مرّ بجانبها صيادين يتحدثان بصوتٍ عالي:

- لماذا لم تبلّغ الشرطة ؟

العجوز : وماذا أقول لهم ، لا أعرف إسم الرجل الثريّ الذي ألقى بزوجته في البحر اثناء العاصفة .. كل ما أعرفه انه باع سفينته قبل ايام 


فشعرت سما بالخوف ! لأن فارس تهرّب دائماً من سؤالها عن موعد رجوع زوجته ، فهل قتلها ذلك اليوم ؟!


ثم وضعت شريحة جوالها القديم (التي احتفظت به دون علمه) داخل جوالها الجديد ..وكتبت للشرطة :

((فارس نجيب ، رجل اعمال مشهور .. قتل زوجته بهذا التاريخ (#) عن طريق رميها ببحرٍ هائج .. هناك صياد عجوز أعرج ، شاهدٌ على الجريمة .. إبحثوا عن جثتها .. ستجدون اغراضها في صندوق بقبو فلتها ، فيه دفتر مذكراتها ، أظنها كتبت عن مخاوفها منه .. فهو زير نساء وسكّير ، ولديه نوبات غضبٍ مفاجئة وعنيفة.. رجاءً تحقّقوا من الأمر .. فاعل خير))


وبعد إرسالها الرسالة ، كسرت الشريحة خوفاً من تورّطها بالأمر .. وعادت بسيارة الأجرة الى منطقتها الشعبيّة ..

***


فور نزولها من السيارة ، إقتربت منها ابنة عمها معاتبة :

- أتصرفين مال ابي على سيارات الأجرة ، لما لا تأتين بالحافلة؟ 

سما : لم ألحق الباص هذه المرة


فابتعدت قريبتها وهي مازالت غاضبة ، بينما عادت سما الى شقتها القديمة التي اشتاقت اليها كثيراً رغم رائحة الرطوبة المُعبّقة في المكان ..

وفتحت جميع النوافذ لتهوية المنزل المغلق منذ اسابيع .. وأخذت جوالها لتصوير كل ركنٍ في بيتها .. ثم نشرت المقطع وهي تقول بنبرةٍ حزينة ونادمة : 


((مرحباً انا هيام .. إسمي الحقيقي هو سما .. وهذا المنزل المتواضع هو بيتي الحقيقي .. اما الفلة الفخمة فهي لصديقتي .. انا واحدة مثلكم ، إنبهرت بحياة الأثرياء .. لكن اريد إخباركم إنه وهجٌ زائف .. فحياتهم مملّة للغاية .. هم محرومين من حب الناس وفرحة العطاء وشفافيّة المشاعر .. معظمهم ماكرون ولديهم دسائس وأحقاد دفينة .. كلامهم نفاق ومجاملاتٍ كاذبة .. صدّقوني ، انا عشت التجربة كاملة .. حياة البسطاء أجمل بكثير ..أتسمعون تلك الضجّة بالخارج ، هي أجمل من عزف أفخم فرقةٍ موسيقية بالبلد ..أنصحكم ان تحبوا حياتكم وأنفسكم ، وأن ترضوا بما كتبه الله لكم .. حاولوا مساعدة من هم أقل منكم ، ولا تنظروا لمن هو فوقكم .. ولا تنخدعوا مثلي بالمظاهر الزائفة ، فعيشتنا الشريفة أجمل بكثير ..(ثم مسحت دموعها).. في الختام أريد الإعلان إن هذا المقطع هو آخر فيديو أنشره بموقعي .. ارجوكم سامحوني ، دمتم بخير))


وقد أحدث الفيديو ضجّة بين المراهقين والشباب الذين تناقلوه بينهم ، مع  الكثير من تعليقاتهم الغاضبة : فمعظمهم وصفوها بالكاذبة المصطنعة التي أوهمتهم بثرائها الزائف ، وأن دموعها دموع تماسيح .. بينما القلّة منهم فهموا مغزى تجربتها ... 


بجميع الأحوال أقفلت سما موقعها نهائياً بعد فهمها درساً عميقاً ، على إثره تغيّرت حياتها بعد إنتقالها لمنطقةٍ بعيدة ، للعمل في مشغل خياطة والإعتماد على نفسها مادياً ..

*** 


بعد سنوات .. سألها ابنها فارس :

- لما نحن فقراء يا امي ؟

سما : صدّقني حبيبي ، حياتنا البسيطة أجمل من ثراء الأغنياء


قالتها بابتسامةٍ مصطنعة وهي تُخفي سرّاً حزيناً لا يعلمه أحد : 

وهو أن السيد فارس الهائج إستطاع اقتحام غرفتها تلك الليلة !


هناك 3 تعليقات:

  1. الله ما اروع قصصك يا اخت أسمى فهذه القصة تحفة فنية بكل المقايسس عشت القصة كأني اشاهد فيلما هادفا واتمنى ان اقراء قصصا أخرى من خيالك الغزير سلمت يدك أيتها الكاتبة الرائعة

    ردحذف

المحطّة الأخيرة

كتابة : امل شانوحة    المصيّدة الدمويّة ركبت الصبيّة الحافلة بعد انتهاء عملها الليليّ في إحدى المطاعم ، وهي تشعر بالإنهاك والتعب الشديد.. وم...