فكرة : محمد بيومي آل غلاب
كتابة : امل شانوحة
السحاحير
في (ناوا) شمال السودان ، وقبيل غروب الشمس .. إشتمّ عثمان رائحة دخان قادمة من الجزيرة القريبة من قريته ..
واثناء تجذّيف قاربه في النيل ، رأى صبية تركض فزعة بمحاذاة النهر .. فناداها بصوتٍ عالي :
- هل هناك حريق ؟!!
وفور سماعها صوته ، لوّحت له بيديها ..
وما أن اقترب منها ، حتى قفزت الى مركبته وهي تلهث بصعوبة .. فأعطاها شربه ماء ، وأكمل تجذيفه باتجاه قريته دون اعتراضها !
وحين نزلا من القارب ، سألها :
- هل انت جائعة ؟
فأومأت برأسها إيجاباً ..فقال لها :
- بيتي هناك .. سأحضر شيئاً تأكليه
وأسرع الى منزله ، لجلب الخبز والجبن .. وحين عاد الى قاربه ، لم يجدها في أيّ مكان !
لكن حيرته تلاشت فور إنشغاله مع اهل قريته في مراقبة الحريق الهائل المشتعل بتلك الجزيرة ..والذي أُخمد وحده بعد ساعة !
***
في الأيام التالية .. إلتقى عثمان بالصبية (آسيا) من وقتٍ لآخر : اثناء غسلها الخضار او تنظيفها الملابس في مياه النيل .. والتي اعتادت السلام عليه بابتسامةٍ حنونة كلما مرّ قاربه بجانبها ، وأحياناً تشاركهُ الطعام والأحاديث العامة..
وهذا جعله يفكّر بها كثيراً ، لكنه طبعه الخجول منعه الحديث معها عن الحب والزواج ، وانتظر الوقت المناسب لمفاتحتها بالموضوع
***
في أحد الأيام .. طلب منه والده توصيل السماد الى مزرعة صديقه .. وأصرّ أن يقوم بالمهمة رغم حلول المساء
وقبل وصول عثمان لتلك المزرعة ، صادف آسيا برفقة رجالٍ يحملون الحطب !
وحين وضع يده على كتفه ، شهقت بخوف :
- عثمان ! أخفتني يا رجل
عثمان باستغراب : ماذا تفعلين بهذا الوقت المتأخر ؟!
- قدمت مع عائلتي الى مزرعتنا
بهذه اللحظة .. لمح رجلاً يوقد ناراً في الأرض ، فسألها بدهشة :
- لما يحرق اخوكِ أرضكم ؟!
آسيا : ذاك والدي ، يُشعل الأعشاب اليابسة بعد تكاثر الأفاعي فيها
عثمان : ولما في الليل ؟
- لأنها تتجمّع بهذا الوقت ، وبذلك نزرع صباحاً دون الخوف منها.. والآن إذهب رجاءً ، قبل ان تراك عائلتي
عثمان : كما تشائين
وذهب لإكمال عمله ، ثم عاد الى بيته
***
في الصباح .. إستيقظ على صرخات خارج منزله ! ليعلم بأن حريقاً اندلع في إحدى المزراع ..
فأسرع بتجذيف قاربه الى الضفّة المقابلة من النيل ، خوفاً ان تكون النيران أحرقت ارض آسيا بالكامل ..
وحين وصل هناك ، وجدها تغسل شعرها بالنيل وهي تغني بسعادة .. فاقترب منها ليسألها بقلق :
- هل خرجت الأمور عن السيطرة البارحة ؟
آسيا : أتقصد الحريق الضخم الذي اندلع قبيل الفجر ؟
- نعم
- الحريق من جهتكم انتم .. نحن أطفأنا نارنا بسرعة .. ولا تقلق ، اهلي بخير
عثمان : الحرائق تتزايد هذه الفترة ، وأظنها مُفتعلة !
آسيا : دعك من هذه المواضيع الكئيبة .. هل فطرت يا عثمان ؟ ام أتيت على عجل للإطمئنان على حبيبتك ؟
فتفاجأ من كلامها الجريّء الذي أعجبه ! وللمرة الأولى تحدّثا عن مستقبلهما سويّاً
***
بعد شهر .. أخبر عثمان عائلته عن نيّته الزواج من آسيا ، فسألته جدته بقلق :
- أقلت انها تعيش مع عائلتها في الجزيرة الخالية ؟
عثمان : رجاءً جدتي ، ليس خرافة السحاحير ثانيةً
فسألها ابن اخته الصغير : ماهي السحاحير يا جدتي ؟
عثمان : مجرّد اسطورة لإخافتنا ونحن صغار
الجدة بحزم : ليست اسطورة ، بل حقيقية !! السحاحير هو انسان له ذيل يُظهره عند الضرورة ، برمائيّ يعيش في النيل ، يخرج ليلاً ويأكل الصغار .. الشيء الوحيد الذي يكشفه هو كرههُ للبن
عثمان : جدتي .. تلك الخرافة اخترعها ثريّ تعمّد إيقاد النار في الجزيرة مع كل غروب ، لنشر إشاعته عن رؤيته مخلوقات مخيفة تشعل النيران في الجزيرة المهجورة .. كيّ يهجر الناس قُراهم ، ويستحوذّ على منطقتنا
الجدة بعصبية : ليس صحيحاً !! الكثير منّا رأوا السحاحير ، وربما حبيبتك واحدة منهم
عثمان : لا تقلقي .. رأيتها بأوقات مختلفة ، وليس في الليل كما تقول الخرافة .. وهي أجمل صبية رأتها عينايّ .. وانا مصرّ على الزواج منها .. وعرسنا سيكون قريباً
***
في يوم عرسه ، وبعد ذهاب اهل العروس .. إقتربت الجدة من آسيا وهي تحمل كأس اللبن ، وتقول :
- شرب العروس للبن هو فأل خير ، ومن عاداتنا المتوارثة .. إشربي قليلاً ، قبل دخولكما الغرفة
فارتبكت العروس قائلةً :
- لديّ حساسية من الألبان ، فهي تشعرني بالغثيان
عثمان : إشربي قليلاً يا آسيا ، فجدتي تظنك من السحاحير
العروس بدهشة : ماذا !
عثمان بابتسامة : هيا إثبتي لها العكس
فرشفت آسيا القليل بترددّ .. قبل وقوع الكأس منها وانكساره ، بعد ضغطتها على معدتها بألم ..
وقبل ان يفهم احد ما حصل ! تغيّر شكلها فجأة .. وتحوّلت لمخلوقٍ مرعب ، بذيلٍ طويل هاجمت به الجدة وبقيّة المعازيم ..
ثم حملت العريس بيديها الضخمتين ، وقفزت من النافذة باتجاه النيل
فأسرع الناس بملاحقتها وهم يحملون المصابيح ، لكنها اختفت فور وصولها الى الجزيرة ..
***
بمرور الأيام .. بحثت عائلة عثمان واهالي القرية عنه في كل مكان دون جدوى .. الى ان تفاجأ راعي بصرخاتٍ قادمة من البئر .. فأخرجوا عثمان من هناك ، وهو فاقداً للذاكرة والنطق ايضاً !
***
بعد شهر .. رأته اخته وهو يحاول إشعال كبريت في أرضهم الزراعية ، فسحبت العلبة منه وهي تعاتبه :
- عثمان ماذا تفعل ؟! إشعال النار بهذا الجوّ العاصف خطرٌ على الجميع
فأشار الى ابريق الشايّ ..
اخته : نحن لا نغلي الماء فوق الأعشاب الجافة ، بل على موقدٍ مخصصّ له .. الا تذكر ؟
فأشار برأسه بالنفيّ..
- لا عليك اخي ، سأغلي الشايّ لك
وابتعدت سريعاً قبل ان يرى دموعها ، حزناً على مصابه الذي أفقده رشده
***
في إحدى الليالي .. اقترب منه ابن اخته الصغير وهو يحمل كوب اللبن الساخن ..
- خالي ، أتريد ان تشرب معي ؟
فهزّ عثمان رأسه بالنفيّ ، وهو يتابع مباراة كرة القدم باندماج ..
ففاجأه الصغير بوضع الكأس على شفّته ، لتتساقط قطرات اللبن في فمه ، والتي جعلت عثمان يصرخ بهستيريا بعد فقده أعصابه !
وأسرع اهل بيته الى الصالة لمعرفة ما حصل ، ليصعقوا برؤيته يأكل دماغ الطفل .. فأغميّ على اخته (ام الولد) ! بينما سارع الجد بتوجيه بندقيته الى ابنه صارخاً :
- أترك حفيدي يا عثمان !!
وهنا تحوّل ابنه لهيئة آسيا المخيفة !
فقال الأب بذهول : أهذا انتِ يا ملعونة ! اين عثمان ؟!!
فأجابته بابتسامةٍ صفراء :
- أكله اهلي يوم عرسي في مأدبةٍ ضخمة ، واحتلّلت جلده المسلوخ لتجربة حياته المملّة .. سأرحل الآن ، وسآخذ جثة الصغير معي
وقفزت من النافذة وهي تحمل بأسنانها جسد الطفل الهامد ، متمكّنة من الهرب رغم إفراغ الجد الرصاصات عليها ، لكنها لم تصبّ بأذى ! واختفت تماماً بعد قفزها بالنيل
***
بعد تلك الحادثة ، رحل الجميع عن قريتهم القريبة من الجزيرة المرعبة ..
كما صار تقديم اللبن في يوم الخطبة من العادات المتوارثة ، زيادةً في الحرص
***
بعد سنوات .. حاولت ام تنويم طفلها الصغير بعد تأخّر الوقت ، لكنه مصرّ على مقاومة نعاسه ..
فاضّطرت لإخباره بقصة السحاحير .. ليردّ بابتسامةٍ طفولية :
- امي تلك خرافة ، لا يوجد شيء اسمه السحاحير
وهنا ظهرت آسيا خلف نافذته بشكلها البشريّ (دون ان تراها امه) وهي ترفع ذيلها ، وتضع اصبعها على فمها (كيّ يصمت)
فقال الصغير لأمه فزعاً ، بعد تغطية وجهه باللحاف :
- سأنام فوراً !! ارجوكِ أغلقي الستارة .. انا خائفٌ جداً
وحين التفتت الأم ، لم تجد شيئاً خلف النافذة ! ومع ذلك أغلقت الستارة ، وهي تكتم سعادتها بنجاح قصتها لتخويفه ..
وأطفأت نور غرفته ، وهي تتمنّى له احلاماً سعيدة .. دون علمها أنها لن تجده في سريره صباحاً ، ولا في أيّ مكانٍ آخر !
*****
ملاحظة :
إستعنت بمقال في موقع كابوس يتحدّث عن هذه الأسطورة
رابط المقال :
https://www.kabbos.com/index.php?darck=8776
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق