السبت، 30 يناير 2021

أسطورة السودان

فكرة : محمد بيومي آل غلاب
كتابة : امل شانوحة

السحاحير


في (ناوا) شمال السودان ، وقبيل غروب الشمس .. إشتمّ عثمان رائحة دخان قادمة من الجزيرة القريبة من قريته .. 


واثناء تجذّيف قاربه في النيل ، رأى صبية تركض فزعة بمحاذاة النهر .. فناداها بصوتٍ عالي :

- هل هناك حريق ؟!!

وفور سماعها صوته ، لوّحت له بيديها .. 


وما أن اقترب منها ، حتى قفزت الى مركبته وهي تلهث بصعوبة .. فأعطاها شربه ماء ، وأكمل تجذيفه باتجاه قريته دون اعتراضها ! 


وحين نزلا من القارب ، سألها :

- هل انت جائعة ؟

فأومأت برأسها إيجاباً ..فقال لها :

- بيتي هناك .. سأحضر شيئاً تأكليه 


وأسرع الى منزله ، لجلب الخبز والجبن .. وحين عاد الى قاربه ، لم يجدها في أيّ مكان !  

لكن حيرته تلاشت فور إنشغاله مع اهل قريته في مراقبة الحريق الهائل المشتعل بتلك الجزيرة ..والذي أُخمد وحده بعد ساعة !

*** 


في الأيام التالية .. إلتقى عثمان بالصبية (آسيا) من وقتٍ لآخر : اثناء غسلها الخضار او تنظيفها الملابس في مياه النيل .. والتي اعتادت السلام عليه بابتسامةٍ حنونة كلما مرّ قاربه بجانبها ، وأحياناً تشاركهُ الطعام والأحاديث العامة.. 

وهذا جعله يفكّر بها كثيراً ، لكنه طبعه الخجول منعه الحديث معها عن الحب والزواج ، وانتظر الوقت المناسب لمفاتحتها بالموضوع

***


في أحد الأيام .. طلب منه والده توصيل السماد الى مزرعة صديقه .. وأصرّ أن يقوم بالمهمة رغم حلول المساء


وقبل وصول عثمان لتلك المزرعة ، صادف آسيا برفقة رجالٍ يحملون الحطب ! 

وحين وضع يده على كتفه ، شهقت بخوف :

- عثمان ! أخفتني يا رجل

عثمان باستغراب : ماذا تفعلين بهذا الوقت المتأخر ؟!

- قدمت مع عائلتي الى مزرعتنا 


بهذه اللحظة .. لمح رجلاً يوقد ناراً في الأرض ، فسألها بدهشة :

- لما يحرق اخوكِ أرضكم ؟!

آسيا : ذاك والدي ، يُشعل الأعشاب اليابسة بعد تكاثر الأفاعي فيها 

عثمان : ولما في الليل ؟

- لأنها تتجمّع بهذا الوقت ، وبذلك نزرع صباحاً دون الخوف منها.. والآن إذهب رجاءً ، قبل ان تراك عائلتي

عثمان : كما تشائين 

وذهب لإكمال عمله ، ثم عاد الى بيته

***


في الصباح .. إستيقظ على صرخات خارج منزله ! ليعلم بأن حريقاً اندلع في إحدى المزراع ..

فأسرع بتجذيف قاربه الى الضفّة المقابلة من النيل ، خوفاً ان تكون النيران أحرقت ارض آسيا بالكامل ..


وحين وصل هناك ، وجدها تغسل شعرها بالنيل وهي تغني بسعادة .. فاقترب منها ليسألها بقلق :

- هل خرجت الأمور عن السيطرة البارحة ؟

آسيا : أتقصد الحريق الضخم الذي اندلع قبيل الفجر ؟ 

- نعم

- الحريق من جهتكم انتم .. نحن أطفأنا نارنا بسرعة .. ولا تقلق ، اهلي بخير 

عثمان : الحرائق تتزايد هذه الفترة ، وأظنها مُفتعلة !

آسيا : دعك من هذه المواضيع الكئيبة .. هل فطرت يا عثمان ؟ ام أتيت على عجل للإطمئنان على حبيبتك ؟ 


فتفاجأ من كلامها الجريّء الذي أعجبه ! وللمرة الأولى تحدّثا عن مستقبلهما سويّاً 

***


بعد شهر .. أخبر عثمان عائلته عن نيّته الزواج من آسيا ، فسألته جدته بقلق :

- أقلت انها تعيش مع عائلتها في الجزيرة الخالية ؟

عثمان : رجاءً جدتي ، ليس خرافة السحاحير ثانيةً 

فسألها ابن اخته الصغير : ماهي السحاحير يا جدتي ؟

عثمان : مجرّد اسطورة لإخافتنا ونحن صغار


الجدة بحزم : ليست اسطورة ، بل حقيقية !! السحاحير هو انسان له ذيل يُظهره عند الضرورة ، برمائيّ يعيش في النيل ، يخرج ليلاً ويأكل الصغار .. الشيء الوحيد الذي يكشفه هو كرههُ للبن

عثمان : جدتي .. تلك الخرافة اخترعها ثريّ تعمّد إيقاد النار في الجزيرة مع كل غروب ، لنشر إشاعته عن رؤيته مخلوقات مخيفة تشعل النيران في الجزيرة المهجورة .. كيّ يهجر الناس قُراهم ، ويستحوذّ على منطقتنا 


الجدة بعصبية : ليس صحيحاً !! الكثير منّا رأوا السحاحير ، وربما حبيبتك واحدة منهم 

عثمان : لا تقلقي .. رأيتها بأوقات مختلفة ، وليس في الليل كما تقول الخرافة .. وهي أجمل صبية رأتها عينايّ .. وانا مصرّ على الزواج منها .. وعرسنا سيكون قريباً

***


في يوم عرسه ، وبعد ذهاب اهل العروس .. إقتربت الجدة من آسيا وهي تحمل كأس اللبن ، وتقول :

- شرب العروس للبن هو فأل خير ، ومن عاداتنا المتوارثة .. إشربي قليلاً ، قبل دخولكما الغرفة


فارتبكت العروس قائلةً :

- لديّ حساسية من الألبان ، فهي تشعرني بالغثيان

عثمان : إشربي قليلاً يا آسيا ، فجدتي تظنك من السحاحير

العروس بدهشة : ماذا !

عثمان بابتسامة : هيا إثبتي لها العكس


فرشفت آسيا القليل بترددّ .. قبل وقوع الكأس منها وانكساره ، بعد ضغطتها على معدتها بألم ..

وقبل ان يفهم احد ما حصل ! تغيّر شكلها فجأة .. وتحوّلت لمخلوقٍ مرعب ، بذيلٍ طويل هاجمت به الجدة وبقيّة المعازيم .. 

ثم حملت العريس بيديها الضخمتين ، وقفزت من النافذة باتجاه النيل 


فأسرع الناس بملاحقتها وهم يحملون المصابيح ، لكنها اختفت فور وصولها الى الجزيرة ..

***


بمرور الأيام .. بحثت عائلة عثمان واهالي القرية عنه في كل مكان دون جدوى .. الى ان تفاجأ راعي بصرخاتٍ قادمة من البئر .. فأخرجوا عثمان من هناك ، وهو فاقداً للذاكرة والنطق ايضاً !

***


بعد شهر .. رأته اخته وهو يحاول إشعال كبريت في أرضهم الزراعية ، فسحبت العلبة منه وهي تعاتبه :

- عثمان ماذا تفعل ؟! إشعال النار بهذا الجوّ العاصف خطرٌ على الجميع 

فأشار الى ابريق الشايّ ..


اخته : نحن لا نغلي الماء فوق الأعشاب الجافة ، بل على موقدٍ مخصصّ له .. الا تذكر ؟

فأشار برأسه بالنفيّ..

- لا عليك اخي ، سأغلي الشايّ لك

وابتعدت سريعاً قبل ان يرى دموعها ، حزناً على مصابه الذي أفقده رشده

***


في إحدى الليالي .. اقترب منه ابن اخته الصغير وهو يحمل كوب اللبن الساخن ..

- خالي ، أتريد ان تشرب معي ؟

فهزّ عثمان رأسه بالنفيّ ، وهو يتابع مباراة كرة القدم باندماج ..


ففاجأه الصغير بوضع الكأس على شفّته ، لتتساقط قطرات اللبن في فمه ، والتي جعلت عثمان يصرخ بهستيريا بعد فقده أعصابه !


وأسرع اهل بيته الى الصالة لمعرفة ما حصل ، ليصعقوا برؤيته يأكل دماغ الطفل .. فأغميّ على اخته (ام الولد) ! بينما سارع الجد بتوجيه بندقيته الى ابنه صارخاً :

- أترك حفيدي يا عثمان !!


وهنا تحوّل ابنه لهيئة آسيا المخيفة !

فقال الأب بذهول : أهذا انتِ يا ملعونة ! اين عثمان ؟!!

فأجابته بابتسامةٍ صفراء : 

- أكله اهلي يوم عرسي في مأدبةٍ ضخمة ، واحتلّلت جلده المسلوخ لتجربة حياته المملّة .. سأرحل الآن ، وسآخذ جثة الصغير معي 


وقفزت من النافذة وهي تحمل بأسنانها جسد الطفل الهامد ، متمكّنة من الهرب رغم إفراغ الجد الرصاصات عليها ، لكنها لم تصبّ بأذى ! واختفت تماماً بعد قفزها بالنيل

***


بعد تلك الحادثة ، رحل الجميع عن قريتهم القريبة من الجزيرة المرعبة .. 

كما صار تقديم اللبن في يوم الخطبة من العادات المتوارثة ، زيادةً في الحرص 

***


بعد سنوات .. حاولت ام تنويم طفلها الصغير بعد تأخّر الوقت ، لكنه مصرّ على مقاومة نعاسه .. 

فاضّطرت لإخباره بقصة السحاحير .. ليردّ بابتسامةٍ طفولية :

- امي تلك خرافة ، لا يوجد شيء اسمه السحاحير


وهنا ظهرت آسيا خلف نافذته بشكلها البشريّ (دون ان تراها امه) وهي ترفع ذيلها ، وتضع اصبعها على فمها (كيّ يصمت) 

فقال الصغير لأمه فزعاً ، بعد تغطية وجهه باللحاف :

- سأنام فوراً !! ارجوكِ أغلقي الستارة .. انا خائفٌ جداً


وحين التفتت الأم ، لم تجد شيئاً خلف النافذة ! ومع ذلك أغلقت الستارة ، وهي تكتم سعادتها بنجاح قصتها لتخويفه .. 

وأطفأت نور غرفته ، وهي تتمنّى له احلاماً سعيدة .. دون علمها أنها لن تجده في سريره صباحاً ، ولا في أيّ مكانٍ آخر !

*****

ملاحظة :

إستعنت بمقال في موقع كابوس يتحدّث عن هذه الأسطورة

رابط المقال :

https://www.kabbos.com/index.php?darck=8776


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عالمي الخاصّ

تأليف : امل شانوحة  مرض العصر في فترة الغداء .. نظر جيم (7 سنوات) تارةً الى صحنه ، وتارةً الى والديه (الّلذين أنجباه بعد سنوات من علاج العقم...