الجمعة، 22 يناير 2021

عجوز الجبال

 تأليف : امل شانوحة

 

الوحدة القاتلة 


((أضعت طريقي ! كيف النزول من هذا الجبل ؟ ... تأخّر الوقت كثيراً ! عليّ العودة قبل حلول المساء .. خسرت الكأس بخطتي الغبيّة !!))


عبارات ردّدها بيأس مُشتركٌ في سباق دراجاتٍ للمسافات الطويلة ، بعد قراره الخاطىء بسلك طريقٍ مختصر للوصول لخط النهاية في البلدة المجاورة 


وكلما تقدّم خطوة للأمام إزدادت وعورة الطريق بحجارته الصغيرة التي تُسبّب الإنزلاق نحو وادٍ سحيق .. لهذا قاد درّاجته بحرص ، محاولاً إيجاد مكانٍ مناسب للهبوط من سفح الجبل الشاهق


بهذه اللحظات العصيبة .. سمع نباحاً من بعيد ، فاستبشر خيراً ..وسار قدماً باتجاه الصوت ، الى ان وجد كوخاً قديماً بُنيّ داخل كهفٍ صغير !


وحين وصل لبوّابته الخشبية : شاهد عجوزاً تُطعم الدجاج ، برفقة كلبها الصغير ..

فسألها باستغراب : يا خالة ! كيف تعيشين وحدك بهذا المكان الموحش ؟


ويبدو انه فاجأها بوجوده ! حيث ارتبكت كثيراً .. وأسرعت بإدخال الطيور للقنّ الصغير .. وحملت كلبها لمنزلها التي أقفلته بإحكام ، دون الإلتفات نحوه او الحديث معه ! 


فأكمل سيره متأمّلاً أن يكون بجانبها طريقٌ سالك يوصله للمدينة .. فعودته من حيث أتى يستغرق وقتاً طويلاً ، خصوصاً بعد أن قاربت الشمس على المغيب


وتابع قيادة دراجته عدّة امتار ، قبل تمزّق إطارها الأماميّ ! وبالكاد تمكّن من تفادي سقوطه فوق الأحجار المدبّبة الحادّة ..

ولم يعد امامه سوى العودة لكوخ العجوز ، لعلّها تشفق عليه وتدعه يبيت عندها ، لإكمال طريقه في الصباح ..


وسار نحوها وهو يحمل دراجته المحطّمة ، مُتتبّعاً النور الخافت من بعيد بعد ان ساد الظلام أرجاء المكان 


وحين سمع عواء قطيع الذئاب في الطرف الآخر من الجبل ! أسرع راكضاً باتجاه الكوخ ، وطرق بابه بفزعٍ شديد :

- سيدتي !! إفتحي الباب ، الذئاب تقترب مني .. أنقذيني ارجوك !!

ففتحت له بوجهٍ عبوس وهي تقول : 

- أترك دراجتك بالخارج وادخل بهدوء ، فكلبي نائم

ففعل ما أمرته به ، بعد خلع حذائه عند الباب .. 


ليتفاجأ بجمال بيتها ، فهو مبني حرفياً داخل الكهف ! حيث أن الجهة الخارجية للكوخ هي الوحيدة المصنوعة من الخشب ، اما الصالة وغرفة النوم والمطبخ ، جميعها نُحتتّ في الجبل !

فسألها باستغراب :

- من صنع هذا الكوخ الرائع ؟!

فأجابته وهي تُكمل طبختها فوق الجمر : 

- هو مبني منذ الأزل

- لم أفهم !


العجوز : هو مكانٌ أثريّ ، إستخدمه الصيادون للإستراحة  

- وهم من نحتوا السرير وخزائن الحائط ومقاعد الجلوس بهذه البراعة؟

- نعم ، استطاعوا تحويل الكهف لمفروشاتٍ صخرية .. وحفروا حجرةً داخلية للنوم ، دون ابوابٍ تفصلها عن الصالة كما تلاحظ

الشاب : وكيف وجدته ؟

- إكتشفته بصغري خلال نزهةٍ عائلية ، وكأن القدر أرشدني اليه لاستخدامه بعد ان طردني زوجي من منزله في تلك الأمسية الباردة 

- ولما فعل ذلك ؟! 

العجوز بحزن : أراد الزواج بأخرى .. وحين اعترضت ، طلّقني ورماني خارجاً .. فمشيت تائهة عدة ساعات ، الى ان تذكّرت الكوخ .. ومن يومها وانا أسكن فيه .. وقبل ان تسألني ، أجيبك .. لم أعد لمنزل عائلتي لأني هربت معه ، بعد أن رفضوا زواجي بغريب عن قريتنا .. وليتني لم اعترض 


فالتزم الصمت بعد تأثّره بقصتها .. الى أن سألته :

- الطعام جاهز ، هل انت جائع ؟

فأومأ برأسه إيجاباً .. فسكبت له بعض الحساء الساخن الذي شربه على عجل..

العجوز : تمهّل !! ستحرق لسانك

- انا جائعٌ حقاً

- يبدو من ملابسك انك متسابق درّاجات

- نعم ، لكني ضلّلت الطريق


العجوز : وهل ستعود للمسابقة غداً ؟

- للأسف تحطّمت دراجتي ، وبجميع الأحوال خسرت المسابقة

- لكن عليك المغادرة صباحاً ، فأنا لا اريد أحداً من اقاربك ان يصل الى بيتي

الشاب : لا تقلقي ، لم أخبر عائلتي بالمسابقة .. كنت أخطّطّ لمفاجأتهم بالكأس 

- جيد انك فعلت ، هكذا لن يشمتوا بخسارتك .. علينا دائماً قضاء حوائجنا بالكتمان 


الشاب : معك حق .. المهم لم تكملي قصتك .. كيف تدبّرت امورك هنا ؟ وكيف اشتريتي الدواجن و.. 

فقاطعته قائلة : سرقتهم

- أحقاً !

- من مزرعة رجلٍ ثريّ ، يملك زريبة كبيرة في الوادي القريب من هنا .. وعلى مدى اسابيع ، نجحت بسرقة 4 دجاجات وديك ، وخروف ونعجة 

الشاب : ماذا عن الكلب ؟

- وجدته تائهاً في الطريق ، فاعتنيت به .. ومن يومها لا يفارقني 


الشاب : ماذا عن مستلزماتك الأخرى ؟

العجوز : ما يزيد عندي من بيضٍ وحليب أبيعه في سوق القرية ، لشراء ما ينقصني من اغراض .. فما تراه حولك ، هو حصيلة عملٍ ومجهود لأربعين سنة

- أبقيت وحدك كل هذه المدة ؟! 

- للأسف !

الشاب : الم تفكّري يوماً بالإعتذار من اهلك والعودة لحياتك القديمة؟

- ماتوا جميعاً ، حضرت جنائزهم من بعيد دون ان يلاحظني احد


الشاب : قصتك حزينة بالفعل .. ماذا عن طليقك ، ماذا حصل له ؟

العجوز بغيظ : يبدو اللعين انتقل مع عروسته لمكانٍ آخر ، لأني وجدت بيتنا القديم مهجوراً .. فاستوليت على بعض مفروشاتي القديمة ونقلتهم الى هنا 

الشاب : أتدرين يا خالة ..أفكّر بإخبار الناس عن قصتك ، لعلّي أجمع التبرّعات لبناء منزلٍ لك في المدينة 

العجوز بحزم : إيّاك أن تفعل !! فأنا اعتدّت الهدوء ، واريد الموت وحدي هنا 

- لكن يا خالة ، ماذا لوّ مرضتي او أصبتِ بكسرٍ ..


فحاولت تغير الموضوع : 

- ستنام الليلة في غرفتي 

الشاب : ماذا عنك ؟ 

- سأنام بالصالة ، انا متعوّدة على ذلك .. إذهب الآن ، فعليك الإستيقاظ باكراً


ودخل حجرة نومها .. واستلقى على السرير الصخريّ قرابة ساعة ، قبل ملاحظته اوراقاً مكدّسة في زاوية الغرفة .. فشعر بالفضول لتصفّحها على ضوء القنديل ، خاصة بعد سماعه شخير العجوز من الصالة


وكانت عبارة عن اوراقٍ مطبوعة بتواريخ قديمة ، وقصاصات جرائد تعود لمئتيّ سنة ! تحدّثت عن غرق التيتانيك ووباء الجدري والحربين العالميتين واحداث قديمة جداً تعود لبدء الطباعة الورقة ، واستغرب بقاء نسخها القديمة بحالةٍ جيدة !


واثناء تعمّقه بقراءة عناوين الصحف ، تفاجأ بالعجوز تقول بنبرةٍ غاضبة: 

- لا شيء يوقف فضول الشباب !

- آسف خالتي ، كنت أقرأ ..

فقاطعته قائلة : سأريك شيئاً أكثر إثارة  


وحاولت إخراج صندوقٍ ثقيل من خزانة الحائط ، فأسرع بمساعدتها .. وكان يحوي منحوتات أثريّة !

وحين قرّب قنديله من الصندوق ، وجد فيه : ريشة وخاتم وقطعة خشبية وصفحات مكتوبة بلغةٍ غريبة واشياء أخرى ! .. وحين رأى قميصاً ملوثاً بالدماء ، تراجع للخلف بفزع 


العجوز : لا تخف ، انها دماء مزيفة 

- ماهذه الأشياء الغريبة ؟! 

- سأشرح لك .. الريشة السوداء هي ريشة الغراب الذي علّم قابيل كيفية دفن اخيه هابيل

- ماذا !

- لا تقاطعني .. وتلك الزخرفة الخشبية الصغيرة إقتطعتها من مقدّمة سفينة نوح .. والقميص الملوّث بالدم هو قميص يوسف الصغير الذي أحضره إخوته لأبيهم بعد رميه بالبئر

- ما هذه الخرافات ؟!


العجوز : دعني أكمل .. وهذا سن الحوت الذي بلع النبي يونس .. وهذه إحدى الواح النبي موسى التي سرقتها من احد اتباعه ، بعد فشلي بإيجاد عصاه السحريّة 

- لم تكن سحريّة ، بل كانت ..

فقاطعته بغضب : إستمع بصمت !! وهذه صفحة من صفحات كتاب الزبور لداوود .. وهذا المسمار الصدىء الطويل الذي ثُبّت به قدميّ عيسى اثناء صلبه

- هو لم يصلب !! بل رُفع الى السماء ..

العجوز : عرفت ذلك لاحقاً .. اما أجمل ما حصلت عليه ، هو خاتم سليمان الذي يبحث اليهود عنه في كل بقعةٍ من فلسطين ، لكني أحتفظ به لصديقي الدجّال


الشاب بصدمةٍ وخوف : الدجّال !.. من انتِ يا امرأة ؟!!

- انا من المخلّدين ، الم تسمع بهم ؟  

- ماذا عن القصة التي أخبرتني بها قبل قليل ؟ 

فقالت بابتسامةٍ ماكرة : ألّفتها خصيصاً لك 

- انت مجنونة ، لا يوجد شيء اسمه المخلّدين  


العجوز بثقة : بلى .. أحلف لك انني جلست في سفينة نوح اثناء الطوفان ، وراقبت نجاة إبراهيم من الحرق .. ومشيت في البحر بعد أن شقّه موسى بالعصا .. وشهدتُ صلب شبيه المسيح .. كما هجرة محمد الى المدينة وحروبه مع أنصاره لرفعة الإسلام  .. وعشت الأزمنة التالية لسقوط الخلافات الإسلامية ، والحربين العالمين والنهضة الصناعية .. وصولاً لعصرنا الحاليّ 

- لا صحة لكلامك !! فلا خلود بالدنيا ، حتى الأنبياء ماتوا ..  


العجوز مقاطعة : ماذا عن الخضر ، معلّم موسى ؟ .. وحوت يونس الذي مازال يسبح لليوم في المحيط .. وهاروت وماروت اللذان تعلّم على يديهما آلاف المشعوذين والسحرة .. حتى ماء زمزم يجري دون مصدرٍ له .. وجميع الأنبياء حذّرهم الله من الدجّال ، هذا يعني انه من المخلّدين ايضاً ..

فقال لها بسخرية : آه حقاً ، نسيتي ابليس ايضاً

- انت أذكى من الفضوليين السابقين


قالتها بصوتٍ رجوليّ أجشّ ، أرعب كيان الشاب .. قبل تحوّلها لمخلوقٍ ضخم ، بأرجل ماعز وقرونٍ عظيمة وجلدٍ أحمر وعيون كعيون القطط .. حتى أوشك الرياضيّ على الإغماء ، بعد معرفته أنه في منزل ابليس الذي جمع بالصندوق تذكارات مهمّة من العصور السابقة ! والذي قال غاضباً :


   -لا ادري ماذا افعل مع نسل آدم الفضوليين ؟!.. لي قرون اعيش في جوٍّ خانق تحت الأرض .. وكلما نويت الإستجمام ، يظهر لي احد البشريين لتعكير مزاجي !.. يعني اين اهرب منكم ؟!.. تحوّلت لمعاق وعجوز وطفل وممسوخ ، وظهرت في اقاصي العالم وفي القطب المتجمّد ومثلث برمودا وعلى رأس الجبال دون فائدة ! دائماً يلاحقني احد المغفلين .. هل عليّ أن أوسّوس بعقل الرئيس الكوري الغبي كيم ، ليفجّر العالم بالنوويّ وارتاح منكم جميعاً !! 

فقال الشاب وهو يرتجف بخوفٍ شديد : 

- آسف ابليس ، ارجوك دعني اذهب ..لن اخبر احداً بمقرّك السرّي ، أعدك بذلك

ابليس بلؤم : لا يا عزيزي ، لا أثق بوعود البشر 


وشدّ مقبضاً خشبياً في جانب الغرفة ، أوقعت الشاب في حفرةٍ عميقة داخل الجبل ، منادياً بعلوّ صوته لجنوده : 

- أرسلت لكم البشريّ رقم (100) إستعبدوه او احرقوه ، هو هديةٌ لكم 

فظهر صوتٌ جماعيّ من باطن الأرض : حاضر سيدي !!


وبعد إغلاقه الحفرة ، قال بامتعاض :

- آه يا آدم ! بليّتني بسلالتك الحمقاء التي أنوي قطع نسلهم بالحروب والفيروسات القاتلة ، وضغطي على الماسون لإجبار حكّام الدول لدعم الشواذّ وتقليص عدد البشر للمليار الذهبي ، بحجّة الدجّال .. ولن يهدأ بالي قبل إرسال احفادك الى الجحيم بكل الطرق الممكنة .. أعدك بذلك يا عدويّ اللدودّ !!!


ثم استلقى على سريره الحجريّ ، مُستمتعاً بصرخات الشاب الأخيرة!


هناك تعليقان (2):


  1. الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)

    ردحذف
  2. وسيدنا إدريس وعيسى عليهما السلام أيضا ... جميله جدا وساحره ..كل الشكر .

    ردحذف

المحطّة الأخيرة

كتابة : امل شانوحة    المصيّدة الدمويّة ركبت الصبيّة الحافلة بعد انتهاء عملها الليليّ في إحدى المطاعم ، وهي تشعر بالإنهاك والتعب الشديد.. وم...