الأحد، 20 ديسمبر 2020

السرقة الأدبيّة

 تأليف : امل شانوحة

الموهبة المزيّفة !


في خمسينات القرن الماضي ، إنتشرت طباعة الكتب والمجلات .. وذاع صيت الكتّاب الأدبيين الذين ازدادوا ثراءً وسمعة ، مما أثار غيرة المصحّح اللغويّ (جيم اندرسون) دكتور الأدب الإنجليزي الذي لجأ اليه الكتّاب المبتدئين لتنقيح قصصهم قبل نشرها بأعدادٍ هائلة ! ليحصل هو على أجرٍ زهيد ، مقابل ثروة الكتّاب التي تضاعفت مع كل قصة نشروها .. وهو ما أشعره بالغبن ، فقصصهم الركيكة ما كانت لتنجح لولا تنقيحه المحترف الذي رفع كثيراً من قيمتها اللغوية .. 

مما زاده رغبة في تجربة التأليف لإتقانه قوانين اللغة والوصف التعبيري ، ولا ينقصه سوى الفكرة المبتكرة لبدء قصته الأولى ..


وعلى مدى شهور .. حاول جيم كتابة قصة قصيرة تُرضي الناشر اولاً ، والذي رفض له العديد من مسودّات القصص رغم لغتها القوية ، لأنها برأيه تفتقر للإبداع التي يشدّ انتباه القارىء المتلهفّ لأفكارٍ غير مستهلكة 

وقد حاول الدكتور في جميع المجالات : الدرامية والمخيفة والخيالية والبوليسية والرومنسية وحتى قصص الأطفال ، لكنه فشل في إيجاد فكرة تناسب ذوق القرّاء .. 


ونصحه كاتبٌ بريطاني مشهور (إيريك آمبلر) بالإكتفاء بعمله كمدقّقٍ لغوي ، قائلاً بغرور : 

- أيّ شخص يمكنه تعلّم تقنيات الكتابة , لكنه لا ينجح سوى الموهوب بالفطرة .. فموهبة الكتابة تولد مع الإنسان مثل المواهب الأخرى كالغناء والرسم والنحت والرقص وغيرها ، فلا ترهق نفسك بالمحاولة  

الا ان جيم أصرّ إن إجتهاده وإصراره كافيان لمنافسة أهم الكتّاب الأدبيين!

***


وبعد فشله بالطرق العادية لكتابة قصة ناجحة ، فكّر بطرقٍ ملتوية .. فحاول إرشاء كاتبة مبتدئة لنسب قصتها له مقابل مبلغاً مغرياً ، مُوهماً إيّاها بأن القرّاء لن يتقبّلوا قصصاً من تأليف سيدة .. 

لكنها رفضت طلبه وسحبت قصتها التي أعطتها لمدقٍّقٍ لغويّ آخر بعد ان آثار ريبتها !


فبدأ بخطته التالية ..وهي الإتفاق مع خادم الكاتب الإنجليزي (جورج أورويل) لإحضار قصاصاته المرمية في سلّة نفايات مكتبه ، مقابل مبلغاً من المال

وبالفعل أعطاه الخادم مجموعة من الورق المُجعّد التي فيها رؤوس اقلام لأفكار جورج العابرة , وهو ما ينقص جيم لبدء قصته الأولى ..حيث أسهب في طرح الفكرة الى أن تجاوزت 50 صفحة ، قام بكتابتها بلغةٍ قوية ومعبّرة.. كانت كفيلة بقبول الناشر طباعتها أخيراً  

***


إحتفل الدكتور مع اصدقائه بإصدار نسخته الأولى في المكاتب .. الا انه بعد اسابيع ظلّت نسبة مبيعها منخفضة ، لكونه كاتباً غير معروف !

لهذا كان عليه إيجاد افكاراً اخرى لقصصٍ إضافية ، فقام بإرشاء خادمين لكاتبين آخرين حصلا على المال مقابل النفايات الورقية لسيدهما ..والذي استطاع جيم بواسطتهما إصدار مجموعته الأولى المتنوعة


ولحسن حظه ، لاحظ احد النقّاد الأدبيبن قصته الأخيرة التي مدحها في الجريدة المحلية ، مما رفع نسبة مبيعاتها بشكلٍ ملحوظ .. 

وهذا شجّع الناشر على طباعة المزيد من النسخ ، ومطالبة جيم بأفكارٍ جديدة بأسرع وقتٍ ممكن ! 

***


من جهةٍ أخرى .. وصلت مجموعته القصصية لجمعية الكتّاب المحترفين ، الذي لاحظ أحدهم التشابه بين قصص جيم وأفكاره القديمة ! وأخبر زملائه بشكّه بحدوث سرقةٍ أدبيّة 


وحين تطفّل جيم على إحدى ندواتهم الفكرية ، سأله أحدهم عن سرّ ذاك التشابه .. فتظاهر جيم بثقة ، مُخفياً ارتباكه : 

- مجرّد توارد خواطر .. فالأفكار هي سرب من الطيور ، إن أطلقتها من يدك (تخلّيت عنها) فستصل حتماً لمخيّلة كاتبٍ آخر.. ويبدو انها وصلت لي 


فردّ عليه الكاتب العجوز : كلامك وإن كان خياليّ الا انه منطقي ، ولا أنكر إعجابي بكيفية تحويل فكرتي البسيطة الى قصةٍ متكاملة

جيم : عفواً سيدي ، تتكلّم وكأنني سرقت فكرتك بالفعل

- لم أقصد ذلك ، لكني تخلّيت عن تلك الفكرة بعد عجزي عن إيجاد خاتمة تليق بها .. فهنيئا لك بها

***


وبعد تزايد شهرة جيم وثروته ، إزداد ضغط الناشر عليه لتأليف المزيد من القصص ، مما أشعره بالضيق بعد نفاذ جميع افكار الكشاكيل المهملة .. خاصة بعض رفض الخادمين سرقة سيدهما اللذان شكّا بالأمر ، فأصبحا يمزّقان مسودّاتهما وأفكارهما العابرة زيادةً في الحرص ..


اما خادم الكاتب (جورج أورويل) فطمع بالمزيد من المال ، وحين رفض جيم زيادة أجره ..أخبر سيده بأنه رأى الدكتور يأخذ شيئاً من سلّة نفايات مكتبه حين زاره المرة الماضية .. 


وعلى الفور !! إنتشرت الإشاعة بين الناس مُتهمين الدكتور بالسرقة الأدبية .. حيث انتقده الكتّاب والقرّاء على حدٍ سواء .. ومزّق الناس قصصه ورموها في وجهه بالشارع .. 


فصرخ مدافعاً عن نفسه :

- لا تنظروا اليّ كأنني مجرم !! فمعظم كتّابكم المحبوبين لم يكن لينشهروا لولا تنقيحي المحترف لأخطائهم اللغوية على مدار سنوات .. وانا كاتبٌ مثلهم ، بل أفضل منهم !! كل ذنبي انني استعرت مخلّفات أفكارهم 

فردّ أحدهم : طالما أخذتها دون إذنهم ، فأنت لا تختلف عن بقية اللصوص ايها التافه !!

***


وبعد تزايد المضايقات ، إستقال جيم من الجامعة وانزوى في بيته .. لكن الأمر لم يتوقف هنا .. فالخادم الطمّاع إستغلّ الفضيحة لسرقة أغراضٍ ثمينة من القصر ..

وحين اكتشف سيده المفقودات ، أبلغ الشرطة التي حقّقت مع جميع العاملين .. وحين وصلت للخادم الطمّاع ، أخبرهم بأن الدكتور بعد سرقته الأوراق من سلّة النفايات تجوّل في غرف المنزل ..وخرج من القصر وهو يحمل حقيبة يدٍ ثقيلة !


ولأن صيت جيم أصبح سيئاً ، فلم تشكّ الشرطة والناس بمزاعم الخادم ..وتمّ القبض عليه بتهمة السرقة .. 

حيث رمى المارّة الخضراوات الفاسدة عليه اثناء اعتقاله ، ووضعه بعربة الشرطة باتجاه الزنزانة التي ظلّ فيها لشهورٍ عديدة ، إمتنعت فيها عائلته واصدقائه عن زيارته ! وعانى كثيراً من قسوة الحرس والمساجين .. 


الى ان حدثت سرقة ثانية مشابهة في قصر سيدٍ آخر ..القاسم المشترك بينهما هو الخادم الذي انتقل للعمل هناك .. 

فتمّ القبض عليه ، والذي اعترف لاحقاً بكل شيء ..وبذلك ظهرت براءة الدكتور جيم الذي عاد الى منزله منكسراً وحزيناً 

**


ولاحقاً إتفق كبار الكتّاب على زيارته ومواسته في محنته ..

وحين فتح لهم الباب ، قال متفاجئاً وبعصبية :

- انتم ! ماذا تريدون مني ؟ انا لم اسرق افكاركم هذه المرة ؟

وبعد دخولهم الصالة ، قال (صامويل باركلى بيكيت) :

- نريدك ان تعود للكتابة

جيم بحسرة : انا مجرّد استاذ لغة ، ولست كاتباً

إيريك آمبلر :  بلى ، نحن قرأنا قصصك المنشورة .. صحيح انها أفكارنا القديمة ، لكن طريقة سردك للأحداث وحوارات شخصياتك مثيرة للإعجاب  

جيم بدهشة : أحقاً !

أجاثا كريستي : نعم ، عدا عن براعتك في اختيار الصيغ البلاغية ! ولوّ لم أتخلّى عن فكرتي ، لما كتبتها بهذا البراعة


جيم بيأس : لم يعد الأمر يهم ، فلا احد سيشتري قصصي ثانية

جورج أورويل : نحن سندعمك ، ونغيّر رأيهم اتجاهك .. لكن بشرط!!

جيم : ماهو ؟

جورج : ان تكون قصتك التالية من تأليفك وحدك

جيم : لا املك أفكاراً ادبية

صامويل : إسمعني جيداً .. الكتابة مثل أيّ وظيفة اخرى .. 20 بالمئة موهبة ، و80 بالمئة جهد ..وهي عبارة عن تجارب الحياة التي مرّرنا بها جميعاً

- معه حق ..فأنا مثلاً مشهور بالقصص الرومنسية ..والسبب الحقيقي وراء براعتي ، هي كسرة قلبي ايام شبابي بعد ان هجرتني ابنة الجيران التي تزوجت غيري


جيم باستغراب : لم اكن أعرف هذا !

- وانا أصبحت كاتبة قصص بوليسية بعد مقتل قريبي من مجرمٍ إحتال على القضاء للهرب من العقاب 

- وانا أصبحت كاتب قصصٍ خيالية ، بسبب قسوة والدي التي جعلتني أهرب لعالم الخيال كيّ أنسى كلماته الجارحة .. 

- ماذا عنك ؟

جيم : انا حياتي روتينية ، قضيتها بين التدريس في الجامعة وتنقيح الكتب والقصص

- أنسيت تجربتك الأخيرة بعد التشهير بك ، وحياتك في السجن؟


جيم بحزن : كانت تجربة قاسية بحق !

- اذاً أكتب عنها ، ولتكن روايتك الأولى 

- وإن كانت جيدة ، سنمدحك في مؤتمرٍ صحفيّ 

- وسيدعمك اصدقاءنا النقّاد لتنشهر من جديد 

جيم بتردّد : لا ادري ان كنت..

- لا تتردّد يا دكتور ، فنحن ككتّاب لا نتوقف من اول محاولة فاشلة ..فالكتابة مهنة شاقة ، وعليك المتابعة حتى النهاية ..

- حتى لوّ فرضنا انك لم تنشهر بحياتك ، فقصصك ستظلّ موجودة لأجيالٍ من بعدك ، وسيكون هذا إرثك 

- ولا تنسى ان تضفّ الى روايتك آرائك الخاصة لحلّ المشكلة ..ونصائحك للقارىء في حال واجهته ذات المحنة .. فأفكارنا تؤثّر على الرأيّ العام 

- هذا صحيح ..فهناك حروب ومعاهدات سلام وعادات وتقاليد إختلفت بعد اصدار كتابٍ واحد غيّر مفاهيم العالم ، فلا تستهين بموهبتك .. 

- إكتب يا بنيّ !! ونحن معك


وخرجوا من عنده بعد ان أعطوه دافعاً قوياً للكتابة ، جعله يسهر طوال الليل امام آلة الكاتبة لطباعة مسودّة عن قصة حياته .. 

***


بعد شهر ..أنهى تصحيحها اللغوي ، وعرضها على مدير النشر الذي قال بلؤم :

- لولا دعمك من نقابة الأدباء ، لما نشرت لك شيئاً.. لكني بالنهاية تهمّني الأرباح ، وسأراهن عليك هذه المرة

***


وبالفعل لم تنشهر روايته الا بعد حصوله على دعمٍ قويّ من الكتّاب القدامى وأصدقائهم النقّاد ، لتباع آلاف النسخ من قصته التي تُرجمت لاحقاً للعديد من اللغات حول العالم ، تحت عنوان : (السرقة الأدبيّة) 


ومع استمرار جيم بالكتابة ، صار من أشهر الكتّاب الإنجليز المحترفين .. وأصبحت تجربته دافعاً للكتّاب المبتدئين للإستمرار بالمحاولة حتى النجاح

*****


ملاحظة :

خطرت ببالي هذه الفكرة بعد سرقة قصتي (الحافلة المظلمة) التي حُوّلت الى فيديو باليوتيوب بعنوان (رحلة الإنتقام) .. وللأسف لم يعرض صاحب الموقع إسمي كصاحبة القصة

رابط الفيديو :

https://www.youtube.com/watch?v=Bm6ZwKuO3PY

رابط قصتي الأصلية المنشورة في كابوس :

https://www.kabbos.com/index.php?darck=1418

هناك 3 تعليقات:


  1. الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)

    ردحذف
  2. أدخل تعليقك...لله درك اخت امل...صرت كل يوم ادخل مدونتك واتابع مقالاتك

    ردحذف
  3. هذا مزعج
    كيف نحمي انفسنا من السرقه الأدبية
    لاأجد في هذا حلاً
    الله لا سامح من سرق تعب الآخرين
    وتحياتي

    ردحذف

الكنز البحريّ

تأليف : امل شانوحة    الصندوق الثمين   أطلّت من نافذة المنارة المهجورة وهي تنظر للبحر بحزن ، وتتذكّر خطيبها وهو ينطلق بقارب العجوز الشمطاء ب...