الأربعاء، 2 سبتمبر 2020

معاً للأبد

 تأليف : اختي اسما 
صورة القصة : رسمة اسما للبطلين
كتابة : امل شانوحة

 

القلب وما يهوى


  في ذات زمان ماضٍ ، وفي ليلةٍ باردة ..استيقظ "حكيم الطبّ الشعبي عمّار" على صوت تأوّهاتٍ وأنين خارج كوخه الموجود في الغابة ...

وحين خرج ، رآى شيئاً يتخبّط في الطين ... فقرّب قنديله نحوه بحذر , خوفاً أن يكون حيواناً برّياً .. فإذا هي صبيةٌ مُصابة ، ولا تعي ما حولها ! ويبدو أنه اختلّ توازنها فسقطت نحو الجرف ...

فحملها إلى كوخه ...

***

 

  قام في البداية بتغير ملابسها المتّسخة ، ومسح الطين عن وجهها ... ليلاحظ أن شعرها مقصوص بشكلٍ عشوائيّ ، كأن شخصاً انتقم منها !

كما اهتم بمداواة جروحها ، وتطهير خدوش ظهرها التي يبدو أنها تعرّضت لجلدٍ مبرح !

ثم تركها ترتاح في الصّالة ، وأكمل نومه في غرفته ...

***

  

  في الصباح .. ذهب إليها ، ليجدها تنظر إلى السّقف بذهول ! 

فسألها : هل استيقظتِ ؟

فارتبعت كثيراً ، وصارت تحرّك يديها بفزع : 

- مَنْ هناك ؟!! ولِما الظّلام حالكٌ هنا ؟


فأخبرها عما حصل البارحة , لكنها لم تتذكّر شيئاً .. فعلِم أن إصابة رأسها تسبّبت في عمى مؤقت وفقدان ذاكرتها... 

فصار يهتم بها طوال النّهار ، ويضع قطرة في عينيها صنعها خصيصاً لها... ووعدها بالبحث عن اهلها فور شفائها ، رغم أنّها لم تعطه أيّة معلوماتٍ عنهم .

***

  

  مع مرور الأيام .. أصرّت الصبيّة (التي أسماها سمر) على مساعدته في أعمال المنزل رغم مشاكلها الصحيّة ... فبدأ بتعليمها كيفيّة عجن الخبز وتنظيف الغسيل وتقطيع الخضار وغيرها ...


فقال الطّبيب ممازحاً : غريب انه ليس لديك خبرة بهذه الأمور رغم كونك متزوجة !

- وهل انا متزوجة بالفعل ؟!

- نعم .. كان الخاتم محشوراً في أصبعك المتورّم , سأردّه لك حين تعودين لأهلك .

الصبيّة : لا أشعر أن لديّ عائلة ! ربما انا يتيمة .

- ستتذكّرين كل شيء بمرور الوقت , لا تقلقي

- لم اسألك بعد ، كيف يبدو شكلي ؟

- جميلةُ جداً .. (ثم تنهّد بغيظ) .. ليتني أعرف من ضربك بهذه القسوة ! هل هو زوجك ، أم شخصٌ غريب قابلته في طريقك ؟ ولِمَ مشيتِ في الغابة وحدك لمسافةٍ طويلة حتى تقرّحت قدميك ! هل كنت تهربين من شيءٍ ما ؟

- قلت لك لا أذكر شيئاً .

- حسناً لن أضغط عليك .. (ثم سكت قليلاً) .. آه صحيح ، عليّ الذهاب للسوق لشراء فستان لك , بدل ثيابي الفضفاضة ..

سمر مقاطعة : لا هي مريحة , ولا أريد إتعابك ... 


وهنا سمِعا عصف الرياح في الخارج ..

- هل بدأت العاصفة ؟ 

الطبيب : يبدو ذلك ! سأطمئن على حصاني في الإسطبل ، إبقي هنا.


وبعد خروجه بقليل .. إنفتحت النافذة على مصراعيها ، فبدأت سمر تتلمّس طريقها للوصول إليها وإغلاقها بعد إحساسها بالبرد .. لكن إحدى النافذتين الخشبيتين إرتدّت بقوة لتطرق رأسها ، فسقطت أرضاً وفقدت وعيها .


بعد عودة الطبيب .. شاهد الدماء تسيل من جبهتها ، فأسعفها على الفور .. 

وحين استفاقت ، بدأت رؤيتها تتوضّح شيئاً فشيئاً إلى أن استطاعت رؤية وجه الطبيب الوسيم الذي أربكها لدرجة أنها لم تخبره باسترداد بصرها ، واكتفت بالنظر إلى عينيه الحنونتين تجاهها !


بعد هدوء العاصفة .. سألته عن حياته ، فأخبرها بأن زوجته توفيت مع طفله أثناء الولادة قبل خمس سنوات .. ومن يومها يعيش وحيداً في الغابة ، لكن من وقتٍ لآخر يذهب إلى السوق لبيع أدويته ...

وكانت تريد معرفة المزيد عن تفاصيل حياته لكنها شعرت بضيقه ، فإضّطرت لتغير الموضوع !

***

  

  في صباح اليوم التالي ، إستيقظت سمر باكراً .. فقرّرت الخروج وإستنشاق الهواء بجوار الكوخ . 


بعد قليل .. دخلت غرفته وهي ترتجف بقوة ، وتطالبه بتخبأتها قبل وصول جنود الأمير (كاظم) للقبض عليها .

وقبل فهمه ما حصل ! أنزلها الى قبوه المخصّص لتركيب الأدوية ، فور سماعه لعدو الخيول تقترب من منزله .


وفور إخفائه باب القبو بالحصيرة ، سمع طرقاً على بابه !

حين فتح ، سأله قائد الجنود عن فتاةٍ تحمل مواصفات سمر ... ورغم إنكاره رؤيتها ، إلا أنّه أصرّ على تفتيش المنزل .

بعد قليل .. خرج الجنديان ليخبرا قائدهم : أن الكوخ يحوي مطبخاً وصالة وغرفة نومٍ واحد , جميعها خالية ... ولا أثر لأغراضٍ نسائية في الداخل .

فتنفّس عمّار الصعداء لأنه دفن ملابس سمر الممزّقة بعد إصرارها على ذلك .


فأمر القائد عمّار تبليغهم في حال رآها تتجوّل في الأنحاء ، ووعده بجائزةٍ مالية إن سلّمها للأمير .

فأراد الطبيب الإستفسار أكثر عن هويّة الفتاة ... لكن القائد رفض إطلاعه المزيد من المعلومات ، وابتعد مع جنده لتفتيش الغابة للمرة ثانية .

***

 

  بعد ذهابهم ، نزل الطبيب إلى القبو ليسألها بغضب :

- سمر !! أريد إجاباتٍ واضحة منك ... طالما هربتِ منهم فهذا يعني أنك تذكرين ماضيك جيداً ، كما لاحظت نزولك الأدراج بسرعة كأنك ترينها .. فلما كذبتِ عليّ بشأن فقدانك البصر والذاكرة ؟ أهذا ذنبي لأني ساعدتك؟!!

- عمّار أرجوك اهدأ قليلاً , وسأخبرك بكل شيء .


وأخبرته انها استعادت بصرها يوم العاصفة ... وانها كذبت عليه بشأن فقدان الذاكرة خوفاً من إعادتها إلى قصر الأمير الذي تعمل في مطبخه ، والتي هربت منه بعد قتلها ببغاء الأمير عن طريق الخطأ .

الطبيب : ببغاء ! ألهذا هربتِ في منتصف الليل ، مُتوغّلة بغابةٍ موحشة ؟ 

- لا أحد يعرف الأمير كاظم جيداً سوى خدمه الذين عانوا من وحشيّته وجبروته ... ولوّ عرف أنني قتلت حيوانه المفضّل ، سيتفنّن في تعذيبي ... فهو أمر بجلدي أكثر من مرة ، لأنه لم يعجبه مذاق طعامه .

- كل ما أعرفه عن الأمير : أنه وقّع هدنة مع الملك صالح (حاكم مدينة الرّحمة) عقب إغتيال والده ، لإنهاء حربٍ دامت سنواتٍ طويلة .

فأومأت برأسها إيجاباً بحزن ، وهي تتمّتم :

- نعم ، أذكر يوم توقيع الهدنة اللعينة الذي دفعت ثمنه غالياً 

وذهبت باكية إلى المطبخ دون فهم الطبيب ما قصدته !

***


  بعد أسابيع ، سمِعا طرقاً عنيفاً على الباب .

الطبيب : لا تخافي ، إختبئي في غرفتي .

فأسرعت للإختباء تحت سريره ..


وهذه المرة كان مرسال الملك صالح يطلب منه القدوم إلى القلعة ، بعد أن ساءت حالة زوجته الصحيّة ... فوعده الطبيب باللحاق به فور تحضيره الأدوية .


وبعد ذهاب المرسال .. أمسكت سمر يد عمّار وهي تترجّاه أن ترافقه في الرحلة 

عمّار : سمر ، الحرّاس لن يسمحوا بدخول أيّ شخص الى غرفة الملكة .

- إذاً سألبس ملابس المرحومة زوجتك التي وجدتها صدفة في صندوق القبو ...لما لم تخبرني انها ممرّضة ؟ هل عرّضت عليها الزواج بعد عملكما سوياً ؟ 


فحاول كتمان غضبه لتفتيشها أغراضه دون إذنه :

- لا وقت للحديث الآن !! عليّ تحضير علاج الملكة حسب أعراض مرضها المكتوبة في رسالة الملك .

فأسرعت قائلة :

- انا خائفة من بقائي وحدي هنا ، ماذا لوّ عاد جنود الأمير كاظم لتفتيش المكان ؟


ففكّر قليلاً قبل أن يقول :

- حسناً .. إرتدي زيّ الممرضة ، واتبعيني ... سنتشارك الحصان لحين وصولنا القلعة .

سمر بحماس : سأعود في الحال !!

***


  قبل وصولهما إلى بوّابة قلعة مدينة الرّحمة ، تفاجأ بها تتلثّم بوشاحٍ يُخفي معظم وجهها !

- ماذا تفعلين ؟!

سمر : أخاف ان يكون أحدهم شاهدني في قصر الأمير كاظم ، فيبلّغ عني .

عمّار : معك حق ، الحرص واجب . 

***


  فور دخولهما غرفة نوم الملكة .. همست سمر في أذن عمّار ليطلب من الجواري الخروج من الغرفة .

وما ان أغلقنّ الباب خلفهنّ , حتى أسرعت بقفله بالمفتاح !

عمّار : سمر ، لا ضرورة لذلك !


وهنا أزالت اللثام عن وجهها ، وأسرعت إلى سرير الملكة النائمة لتحضنها بشوقٍ كبير !

ففتحت الملكة عينيها المتعبتين وهي لا تصدّق ما تراه ! واحتضنت سمر بقوة  لتنهارا ببكاءٍ مرير ..

الملكة : ياسمين حبيبتي ، اخيراً عدتِ إليّ يا ابنتي .

- سامحيني امي .. فزوجي اللعين حبسني في قصره ثلاث سنوات ، قبل تمكّني من الهرب ... (ثم اشارت الى عمّار الذي وقف مذهولاً أمامهما)... والطبيب أحضرني اليك 


فنظرت الملكة نحوه :

- شكراً بنيّ ، أنت أعدّت روحي إليّ .

الطبيب بصدمةٍ وارتباك : سمر ! أقصد سموّ الأميرة .. أنا لا أفهم شيئاً !

فاقتربت ياسمين منه وهي تقول :

- كان من شروط الهدنة لوقف الحرب بين المدينتين : أن أتزوج كاظم الذي كان ينوي الإنتقام لوالده ! لهذا عاملني كأسيرة ، ورماني في سجنٍ رطب بقبو قصره ... لكني استغلّيت نسيان سجّانه قفل البوّابة للهرب الى الغابة  ... وكما رأيت بنفسك ، ذلك البغيض مازال يبحث عني لإعتقالي من جديد  أو قتلي هذه المرة .

الملكة : والدك لن يسمح بذلك .

ياسمين بقلق : أمي رجاءً لا تخبري أبي بعودتي ..أنت تعرفين إلتزامه بشروط الهدنة ، ولوّ دفعت ابنته الوحيدة حياتها ثمناً لذلك !


وقبل ان تكمل كلامها .. إقتحم والدها الغرفة (بعد كسره الباب بركلةٍ غاضبةٍ منه) فور إطلاعه الجارية بقدوم ابنته (إثر إنصاتها إلى حديثهم من خلف الباب المقفل)..

الملك بعصبية : كيف تجرأين على الرجوع إلينا دون إذن زوجك؟!!

ياسمين باكية : أبي أرجوك لا تعيدني الى ذلك الجحيم مرة أخرى .

الملكة بقلق : صالح حبيبي ..كاظم ليس إنساناً سويّاً ، ولا يستحق ان يكون صهرنا .

الملك بعصبية : ألا تفهمان !! إن نقضنا شروط الهدنة ستندلع الحرب من جديد .. ما ذنب خمسمائة عائلة ان يقتّلوا ويشرّدوا بسبب دلال ابنتك ؟!!

ياسمين بقهر : دلال يا أبي !! ظهري مشوّه من كثرة الجلد ! وكدّتُ أصاب بالعمى ، لولا اللطف الإلهي ومساعدة هذا الطبيب لي .


وأشارت الى عمّار الذي ظلّ متجمداً اثناء نقاشهم العائلي الحادّ .. فتوجه الملك اليه غاضباً :

- هل ساعدتها بالهروب ؟!!

عمّار متلعثماً : لا ابداً .. وجدتها مصابة قرب كوخي ، فعالجتها دون معرفتي من تكون !

ياسمين : هو يقول الحقيقة يا أبي ، فأنا لم اخبره بشيء .

الملك بحزم : المهم الآن !! عليكِ العودة إلى زوجك قبل معرفته بوجودك هنا .

ابنته بإصرار : لن أفعل !! فهو طلّقني منذ شهور إثر مشادةٍ كلاميّة بيننا ، وأنا الآن زوجة عمّار .

الملكة بدهشة : ماذا !


وكاد الطبيب يسقط من هول الصدمة ، مع توجّه أنظار الوالدين الغاضبة اليه ! لكنه لم يستطع تكذيب سمر التي يكنّ لها بعض المشاعر .. فأومأ برأسه ايجاباً وهو يرتعش خوفاً من ردّة فعل والدها الذي فاجأه بمصافحته وهو يقول :

- إذاً انت صهرنا الجديد ؟ 

عمّار بارتباك : يبدو ذلك !

الملك : سمعت انك طبيبٌ ماهر ، لهذا طلبت منك علاج زوجتي التي يبدو أن حالتها تحسّنت برؤية ابنتها المدلّلة .

الملكة وهي تحتضن ياسمين : نعم كأن روحي رُدّت اليّ ، فقد أوشكت على الموت بعد أن وصلتني اخبار عن عذاب ابنتي في قصر كاظم .. لكني الآن بخير والحمد لله .. 

ياسمين بقلق : الآن ماذا سنفعل يا أبي ؟

الملك : لا شيء .. ستبقيان معنا , لحين معرفة ردّة فعل كاظم على خبر زواجكما .. لجدران آذان كما تعلمون ..

الملكة بقلق : هل ستندلع الحرب من جديد ؟ 

الملك : طالما اللعين طلّقها فهذا ذنبه .. وياسمين حرّة باختيار زوجٍ آخر بعد انتهاء عدّتها ، ولا شيء له عندنا ..

فنظر عمّار بعتاب إلى ياسمين التي كتمت خوفها من إنفضاح كذبتها.


في هذه الأثناء ، نادت الملكة رئيسة الجواري لتوصيل الزوجين إلى غرفتهما الجديدة .

***


  داخل الغرفة .. إنفجر الطبيب غاضباً منها :

- لما كذبتي عليّ ؟!! لما ورّطتني بأمورٍ سياسيّة انا في غنى عنها ؟

ياسمين : أرجوك عمّار لا تتخلّى عني ، فأنا بأمسّ الحاجة اليك .

- علاقتنا صعبة ، انت اميرة وانا طبيبٌ شعبي فقير .. سامحيني ، لست من مقامك .

- ماذا يعني هذا ؟!

- سأعود إلى كوخي .

ياسمين بقلق : لا يمكنك ذلك ، فنحن متزوجان أمام الجميع .


فاقترب منها وهو يقول بحزم :

- أجيبني بصدق : هل مازلت زوجة الأمير كاظم ؟

فسكتت بامتعاض ..

عمّار بعصبية : يعني نعم ! أتدرين لوّ علم بخيانتك ما سيفعله بنا نحن الأثنين ؟!!

- لا تقلق , جيشنا سيقاومه حتى آخر رجل .

- ومن قال انني أرضى ان تُسال الدماء بسببي !

- وهل تقبل عودتي لذلك السافل ليجلدني ويحبسني ويجوّعني ؟ هذا إن لم يقطّعني إرباً بعد علمه بزواجنا .

فسكت بضيق .. فأمسكت يده وهي تترجّاه :

- أنت رجلٌ شهم يا عمّار ، ومتأكدة إنك لن تتخلّى عني في هذه الظروف العصيبة .


ففكّر طويلاً , قبل ان يتلّفت حوله بالغرفة وهو يقول :

- واين سأنام ؟ 

- هل يضايقك أن تفترش الأرض ؟

- لا مشكلة لديّ..

قائلاً في نفسه بقلق :(أتمنى ان لا يستغلّ الشيطان ضعفي اتجاهها)


وهنا سمعا طرقاً على الباب , والحارس يقول من خلفه :

- الطبيب عمّار !! الملك يريد تعريفك بأقاربه واصدقائه

ياسمين بصوتٍ عالي : سيخرج حالاً !!

عمّار بضيق : جميلٌ جداً , أصبحت رسمياً صهر الملك !

ياسمين بقلق : ألا أعجبك يا عمّار ؟!  

- لم اقصد ذلك ، لكنّي لا احب الكذب والطرق الملتوية ..(ثم تنهّد بضيق) .. سأذهب الآن ، أراك وقت العشاء يا سمر .. أقصد يا سموّ الأميرة ياسمين.

- ياسمين فقط , يا عمّار .

وخرج وهو مازال قلقاً لما سيحصل في الأيام المقبلة .

***


  بعد مقابلته حاشية الملك وأقاربه ... اجتمع معهم على المائدة لتناول العشاء ، ليتفاجى بياسمين وهي تنزل مع وصيفاتها بزيّ الأميرة التي تشبه القصص الخرافية وجنّيات العالم الآخر ، بتاجها الذي يخطف بريقه الأبصار !

وبينما كان الجميع منهمكاً بتناول الطعام ، كانت عينا عمّار مُتسمّرة على ياسمين التي تجلس مقابله ، وكأنه يخاف ان ترمش عيناه فيستيقظ من حلمه الجميل الذي مازال قلقاً من تداعياته في المستقبل القريب .

***


  مرّت الليالي .. قضاها الطبيب وهو يتسامر مع ياسمين ، مُفترشاً أرضيّة غرفة زوجته التي زاد حبها له لحسن تصرّفه ورفعة أخلاقه.

ووالداها أحبّاه ايضاً بعد علاجه عدداً من المرضى في مدينتهم


ومرّ كل شيءٍ على خير ، إلى أن جاء اليوم المشؤوم الذي أرعب سكّان مدينة الرّحمة بعد رؤيتهم لجيش الأمير كاظم يتقدّم بعتاده العسكري باتجاه قلعتهم !


ووصل قبلهم المرسال الذي معه طلبات الأمير من الملك الصالح ، مُهدّداً في رسالته :

((أعيدوا زوجتي في الحال !! وإلاّ سأحاصر قلعتكم حتى موت آخر فردٍ فيها , ولوّ استغرق الأمر سنواتٍ عديدة .. وإن لم تسلّموها خلال اسبوع ، سأبدأ بهجومٍ عسكريّ عنيف للغاية .. وقد أعذر من أنذر))


ثم نصحهم المرسال بنبرةٍ هادئة : 

- فور خروجي من هنا ، سيأمر الأمير بإقفال بوّابتكم بالسلاسل الحديدية .. لذا إسرعوا بإعادة زوجته اليه ، فهو أحضر مؤونة تكفي جيشه لسنةٍ على الأقل ، ولا أظنه سيفكّ الحصار قبل تحقيق مطالبه.


الملك بقلق : يا لِهذه المصيبة ! خمسمائة عائلة تواجه الموت إن لم نجد حلاً مستعجلاً لهذه المشكلة .

الملكة : مهما حصل لن أسلّم ابنتي لذلك الوحش !!

ياسمين بحزن : أمي ، لا اقبل أن يموت أحد بسببي ..أعيدوني إليه .

فردّ عليها الطبيب بحزم : 

- ومن سمح لك ان تأخذي هذا القرار لوحدك ؟ أنسيتي أنني زوجك !!

الملك : لكن كاظم يؤكّد برسالته أنه لم يطلّقها ، فهل كذبتما عليّ ؟!!

ابنته بارتباك : آسفة أبي ، كنت خائفة أن تردّني إليه .

الطبيب بخوف : سيدي .. أحلف انني نمت طوال الفترة الماضية على الأرض , فأنا لا أقبل الحرام

الملكة بغيظ : سأطلب من حرسي نقل أغراضك الى غرفةٍ ثانية , مفهوم !!

الطبيب بخجل : بالطبع ، كما تشائين سيدتي .

الملك بخيبة أمل : 

- بعد الذي سمعته ، لا الوم كاظم على جنونه ! فابنتي خائنة بالنسبة له ، حتى لوّ لم يحصل شيءٌ بينكما .


وكان شيخ المدينة واقفاً مع حاشية الملك ، فاقترب قائلاً : 

- جلالة الملك ، هل تسمح لي بالكلام ؟

الملك : تفضّل مولانا .

الشيخ : ابنتك يحقّ لها تطليق زوجها إن عاملها بوحشيّة .

الملك : أحقاً يا شيخ ! هل يمكنك تطليق ابنتي دون إذن ورضى كاظم ؟

الشيخ : نعم في حالةٍ واحدة ، أن تبرَئُه من حقوقها .

الملكة باهتمام : ماذا تعني ؟

الشيخ : أن تردّ له مهره وهداياه .

ياسمين : هو لم يعطني سوى خاتم الزواج .

الطبيب : آه ! نسيت .. (وفتح سرّة نقوده ، وأخرج الخاتم).. تفضّل يا شيخ 


فأعطى الشيخ الخاتم للمرسال , وهو يقول :

- قلّ لأميرك أن ياسمين تطلّقت منه شرعاً ، ولا شيء له عندنا

فأخذه المرسال وخرج من القلعة .. 

***


  وكما توقع الجميع ، جنّ جنون كاظم لما حصل .. وأمر جنوده بإطلاق قاذفات المنجنيق الناريّة على القلعة ، والتي أصابت سكّان المدينة بالهلع الشديد .. حيث ركضوا في جميع الإتجاهات لتجنّب القذائف التي أحرقت أكواخهم ومحلاّتهم التجارية .


وحاول جنود الملك صالح الدفاع عن القلعة برميّ السهام على جنود الأمير ، التي أصابت عدداً لا بأس منهم .


وظلّت الحرب ثلاثة ايامٍ متتالية ، إختبأ فيها النّسوة والعجائز والأطفال في قبو قصر الملك الذي اكتظّ بهم .. بينما رجال المدينة اشتركوا مع جنود الملك للدفاع عن قلعتهم بكل الوسائل الممكنة : ومنها رميّ الزيت والقطران الساخن فوق جنود الأمير وإحراقهم ..


وبعد تضرّر الفريقين .. طلب الملك هدنة من الأمير ، مُقترحاً عليه إختيار أيّةِ فتاة تعجبه من مدينة الرّحمة .

لكن كاظم أصرّ على عودة ياسمين اليه ... ومع ذلك وافق على إيقاف الحرب فترةٍ قصيرة لمداواة جنوده ، مُبقياً على حصاره بعد منعه قافلة طعام من دخول القلعة وسرقة بضائعها كمؤونةٍ إضافية لجنوده ..

***


  بعد مرور أربعة أشهر على الحصار الخانق : أكل فيها السكّان الخبز اليابس , واكتفى الملك وحاشيته بالبقوليات فقط .. حينها أتى الحلّ الإلهي ، عندما أرسل كاظم مرساله الى الملك يُطالب فيه قدوم الطبيب عمّار الى خيمته في الحال ، بعد إصابة ابنه البكر بالحمّى (من زوجته الأولى) .. 


فأسرع عمّار الى غرفته الخاصة .. ولحقته الأميرة وهي تسأله بقلق:

- ماذا تفعل ؟!

- أرتّب ادويتي كما ترين .

- لا !! لن اسمح لك بتسليم نفسك للشيطان .

- هذا هو الحلّ الوحيد .. ولا تقلقي لن أعالج ابنه قبل كتابته تعهداً بفكّ الحصار عن قلعة والدك .

- وهل تظنه سيقبل ؟ أنا عشت معه سنواتٍ عديدة , وفي حياتي كلها لم أرى رجلاً مخادعاً مثله .. وأظنه كمين ، فليس منطقياً إحضار ابنه ذوّ الثلاثة عشر عاماً الى المعركة !

الطبيب : اتركي يدي رجاءً .

ياسمين وهي تشدّ ذراعه بقوة : لن أفعل !!

- أعدك فور عودتي ، سنتزوج بعرسٍ اسطوري .. فعدّتك انتهت منذ قيام الشيخ بتطليقك من ذلك الحقير .

ياسمين بفرح : أحقاً ما تقول !

- هذا وعد حبيبتي .


فأفلتتّ يديه بتردّد ، ليسرع مع المرسال الى خارج القلعة .. 

وظلّت تراقبه من النافذة وهو يدخل خيمة طليقها كاظم ، وهي تشعر بوخزٍ في قلبها !

***


  بعد دخوله ، شاهد عمّار بطانية مكوّمة فوق السرير .. فاقترب من المريض الصغير .. وحين ازال الغطاء ، كانت مجرّد وسادتين !  

فالتفت خلفه , ليرى كاظم يحمل سكيناً حادّاً .. قائلاً بغيظ : 

- كيف تجرّأت على سرقة زوجتي يا حقير !!

ثم هجم عليه , ليغرز سكينه بعنف في قلب الطبيب !


من بعدها أرسل مرساله : مُطالباً الأميرة القدوم الى خيمته لرؤية زوجها .. وفي حال رفضت ، سيقتله بأسوء وسائل التعذيب المؤلمة! 


فأسرعت فزعة إلى هناك ، رغم محاولة والديها إيقافها ... لكنها أصرّت على إنقاذ حبيبها عمّار مهما كلّفها الأمر .


وحين دخلت الخيمة ، وجدته مقتولاً فوق الفراش !

فانفجرت باكية بغضبٍ شديد ، حتى أوشكت على ضرب كاظم وصفعه لشدّة قهرها وحزنها .. لكنها وجدته يلوّح بسيفه , قائلاً بنبرة تهديد : 

- ستعودين معي الى القصر رغماً عنك !! وإلا قتلت كل سكّان القلعة بما فيهم والديك ، وأنت تعرفين جنوني جيداً .


فإذّ بها تفاجئه بسحب السكين من صدر عمّار ، وهي تقول :

- الموت أرحم من عيشي معك .. (ووجّهت السكين الى قلبها ، صارخةً بعلوّ صوتها).. أنا وحبيبي معاً للأبد !!!!!!


وطعنت نفسها بقوة , لتقع جثةً هامدة فوق جثمان الطبيب .. ويسقط الأمير مذهولاً امام جثتيّ الحبيبن !

لتصبح إحدى قصص الحب الحزينة المتداولة بين الناس عبر العصور !

هناك 7 تعليقات:

  1. ملاحظة :
    معظم القصص الرومنسية في مدونتي من تأليف اختي الكبرى : اسما .. وهي من رسمت صورة البطلين .. فشكراً لها ولتدقيقها اللغوي للقصة .. أتمنى ان تعجبكم

    ردحذف
  2. قصـة رائـعة،

    ردحذف
  3. قصة رائعة ومؤثرة، شكرا لك أستاذة أمل ولأختك اسما جزيل الشكر

    ردحذف
  4. شكراً لك ولاختك على هذه القصة الرائعة

    ردحذف
  5. قصص رومنسية رائعة اتمنى ان تنشرو المزيد منها واشكرك جزيل الشكر لكي ولاختك والله يكون بعونك ولكي كل التقدير والاحترام على المجهودات التي تبذلينها من اجل اسعادنا جزاك الله بكل خير

    ردحذف
  6. روعة وأروع من هذا كله تلك الصورة فأنت يا أسماءلست كاتبة فقط بل فنانة تشكيلية مبدعة فمن النادر أن تجتمع المواهب في قلب واحد ولكن الله سبحانه هو الواهب والوهاب فقد وهبك يا اخت اسماء روح جميلة ومشاعر واحاسيس نبيلة تجود بالرومانسية والابداع ماشاء الله عليك اتمنى أن اقرأ لك المزيد من هذه القصص الجميلة

    ردحذف
    الردود
    1. اختي سعيدة بتعليقك الجميل , وتضعه حالة على الواتس آب ليقرأوها صديقاتها المعلمات ..فشكراً لك

      حذف

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...