الخميس، 10 فبراير 2022

إعترافات المذنبون

تأليف : امل شانوحة 

 

ذكريات قسّيس


بعد بلوغ القسّيس بطرس 90 عاماً ، إستقال من عمله في الكنيسة ..واستقرّ في منزله لتأليف كتاب عن إعترافات المذنبين  

ذاكراً في مقدّمته : ((بعد خمسين سنة من سماعي إعترافات الرعيّة ، استطيع الجزم بأمرين : لا أحد سعيد ، ولا أحد طاهرٌ بيننا ! فجميعنا مذنبين بطريقةٍ او بأخرى .. 

البعض ذنوبهم بسيطة ، لكن ضمائرهم الحيّة تُشعرهم بعظمة الذنب وحاجتهم لتوبةٍ عاجلة .. بعكس اصحاب الذنوب الكبيرة : كالقتل والإغتصاب والقمار وغيرها ، والذين يكتفوا بقراءتي لبعض الآيات لإراحة نفوسهم التي لم تصنّف ذنبهم بالكارثيّ ! 


كما إن الفقراء هم المتميّزون بالضمير الحيّ ، أكثر من الأغنياء والمشاهير ! فأنا استشعرت رجفة قلوبهم من خلف الستار .. 

بينما اولئك الوقحين يتكلّمون بنبرة فخرٍ واعتزاز بجرمهم ، كأنهم قدموا اليّ للفت أنظار الصحافة او ارضاءً لأهلهم وازواجهم ، وليس اقتناعاً منهم!


وفي كتابي سأطلعكم على اسوء الذنوب التي سمعتها ، التي لولا واجبي بكتمان سرّهم لأبلغت الشرطة .. فهم يستحقون العقاب بدءاً من السجن ، ووصولاً للإعدام !))

*** 


ثم قسّم القسّيس كتابه لثلاثة فصول : الذنوب الصغيرة ، الكبيرة ، والشائعة.. وسرد شرحاً ملخّصاً عنهم :  

((معظم مرتكبيّ الذنوب الصغيرة من المراهقين والشباب في مقتبل العمر التي تفاوتت بين : الكذب على الأهل ، وسرقة المصروف اليومي ، وقيادة السيارة دون إذن ذويهم ، والتنمّر على زملائهم ..وصولاً لعلاقات عاطفية بريئة ..


وأكثر الذنوب الشائعة هي من النساء المهوسين بالعلاقات ، وخيانة الزوج ، وصولاً للدعارة !


اما الذنوب الكبيرة فارتكبتها شخصياتٌ فاشلة ، او مهمّة ومشهورة .. وهي عبارة عن سرقات وإدمان الخمور والمخدرات .. وصولاً للخطف والإغتصاب والشواذّ والسحر الأسود والقتل والتعذيب !))


ثم ذكر القسّيس في كتابه لأكثر حادثة أخافته ، لدرجة إن جسمه يقشعرّ كلما تذكّر كلام الرجل ذوّ الصوت الأجشّ وهو يعترف من خلف الستار الخشبيّ قائلاً :

- ابونا ، أتيت للإعتراف بذنبي لكيّ استريح .. فأنا لم أنمّ أكثر من ساعتين ، طوال العشرين سنةً الماضية  

القسّيس باستغراب : ومالذي فعلته ليعاتبك ضميرك بهذا الشكل ؟! 

الرجل بنبرةٍ ساخرة : ضمير ! أظني ولدّت دونه 

- جميعنا لدينا ضمير ، وهو من يؤنّبنا على ذنوبنا وإلاّ لما اتيت اليّ

الرجل بلؤم : هل سمعك ضعيف ايها العجوز ؟ قلت أتيت لتتلو آيات تجعلني انام ، ولا يهمّني موضوع التوبة بتاتاً 


فكتم القسّيس غيظه لوقاحة الرجل ، وأردف قائلاً :

- حسناً ، إخبرني بذنبك .. انا اسمعك جيداً

فتنهّد الرجل تنهيدةً طويلة ، قبل أن يقول :

- اولاً اريد تنبيهك بأن ما سأقوله يبقى سرّاً بيننا .. فما فعلته في حياتي لا يمكنني البوح به لإنسان ، ولا حتى لطبيبي النفسيّ  

القسّيس : تكلّم بنيّ ، فمهمّتي سماع اوجاعكم بسرّيةٍ تامة 

- اذاً سأبدأ من ذنبيّ الأول .. كنت بعمر 13 حين أحرقت منزلنا 


القسّيس بدهشة : أكان عمداً ؟!

- طبعاً !! وكانت امي بالتبنّي وزوجها وطفلهما الصغير نائمين بالداخل

- يا الهي ! هل ماتوا بالحريق ؟

- بالتأكيد ، فأنا خططّت جيداً لإظهار براءتي امام الشرطة  

القسّيس : ولما قتلتهم ؟

- لأن زوج امي يعيّرني دائماً بأني ابن حرام ، فهم وجدوني على باب الميتم التي تعمل فيه امي ، فقرّرت تبنّي لقيطٍ بائسٍ مثلي .. وكانت حنونة عليّ قبل زواجها وإنجابها لأخي الذي لا يكفّ عن البكاء ليل نهار .. فقرّرت التخلّص من عائلتي الكئيبة


القسّيس : واين عشت بعدها ؟

- عدّتُ لدار الأيتام  

- الم يكن أفضل لوّ بقيت مع عائلتك ؟

الرجل : انا أكره الناس منذ صغري ، ولا تهمّني العائلة .. اساساً هربت من الدار بعمر 15.. وتشرّدت عاماً في الشوارع ، قبل تعرّفي على عصابة لسرقة السيارات التي اكتشفت براعتي الإجراميّة .. وصرت أترقّى بينهم ، حتى أصبحت معاون الرئيس الذي اعطاني مهمّة جديدة

- وماهي ؟

- خطف الأطفال


القسّيس بقلق : وهل خطفتهم بالفعل ؟!

- بعد تجاوز العدد 70 ، لم أعد أعدّهم .. معظمهم من اولاد الشوارع والشحاذين .. لكني ايضاً خطفت اولاداً مميزين

- ماذا تقصد ؟!

الرجل : الزوهريّن ، الم تسمع عنهم ؟

- تقصد اصحاب الدماء الفاتحة الذين يستخدمون كقرابين لإبليس ؟

- ليس هذا فحسب .. بل دمائهم النادرة قادرة على تجديد البشرة ، لدرجة إعادتك شاباً .. والإبرة الواحدة تكلّفك آلاف الدولارات ، بعنا الكثير منها للمشاهير والأثرياء .. الم تلاحظ بعض الممثلين والمغنيّن الذين لا يكبرون بالعمر ؟ اولئك زبائني الدائمين 


القسّيس بخوف : وماذا تفعل بالأطفال ؟ أتسحب دمائهم حتى الموت؟

- الى آخر قطرة .. لكن بعد إخافتهم لعدّة ايام 

- ومن اين عرفت بهذه المعلومة الغريبة ؟

الرجل : ابليس بنفسه أخبر رئيس المحفل بخصائص دمائهم النادرة ، وهم وكّلني بمهمّة توفير الحقن المسماة (بإكسير الشباب) للشخصيات الكبيرة في البلد  

- وكيف تخيفون الأطفال ؟ 


الرجل : بعدّة وسائل : نضربهم بقسوة .. نعتدي عليهم مراراً .. نرميهم بالغابة ليلاً ..او نحبسهم في غرفة الفئران .. او داخل اقفاصٍ حديديّة وحولهم الكلاب المسعورة ، ليصلوا لأعلى مشاعر الخوف .. عدا عن رمينا الأطفال الزوهريين في بئرٍ مظلم ، لنعود ونستخرجهم بعد ايام ، ونسارع بسحب دمائهم قبل موتهم .. 

القسّيس باشمئزاز : أشعر كأني أحدّث شيطاناً ! 

- الشياطين لا تعترف بذنوبها يا ابتي ، بل تفتخر بها

- وانا أشعر باعتزازك بنفسك ! 


الرجل : كنت كذلك في السابق ، لكن بعد مشاهدتي مئات الأطفال يتعذّبون بأبشع الطرق ، لم أعدّ باستطاعتي النوم ! فصراخهم عالقٌ في رأسي 

- وهل تظنّ بأن قراءتي آيات الإنجيل ، سيُريح ضميرك لتنام ؟

الرجل : بل اريد تعويذة قوية تجعلني أغفو لساعاتٍ متواصلة

القسّيس بعصبية : تعويذة ! أتظنني مشعوذاً ؟ إذهب لإبليسك ، ودعه يسلّط عليك المزيد من شياطينه !!


وإذّ بالمجرم يفتح الستار الفاصل بينهما ، ويمسك بخناف القسيس مُهدّداً :

- إسمع ايها العجوز الخرف !! بإمكاني قتلك بسهولة ، خاصة بعد رؤيتك وجهي .. فكنّ مطيعاً واستجب لطلبي ، وإلاّ سأخطف اطفال اقاربك ..وأرسل لك فيديوهات تعذيبهم التي سأشرف عليها بنفسي !!

القسّيس بخوف : ليس لديّ اقارب 

الرجل بامتعاض : رجل دين وتكذب ! 


ثم أخرج جوّاله ، ليُري القسّيس صورة لشابة تحمل طفلاً ، وهو يسأله :  

- اليست هذه حفيدة اخيك وطفلها ؟

القسّيس بخوفٍ وغضب : إيّاك الإقتراب منهما ؟!!

- اذاً ابدأ بترتيل شعوذاتك ، ودعني انام الليلة .. وإلاّ سأجعلك تعيش في جحيمٍ متواصل


فأُجبر القسّيس على الرضوخ لطلبه .. ووضع يده فوق رأس المجرم ، وهو يتلو بعض آيات الإنجيل .. 


وبعد انتهائه ، قال للرجل :

- مهما كانت ذنوبك كبيرة فالربّ يغفر لك ، بشرط توقفك النهائي عنها

الرجل : أتوقف ! أتظنني غبيّ لرفض مليون دولار عن كل طفلٍ يخطفه رجالي .. لا طبعا !! انا فقط اريد النوم بسلام .. وفي حال لم أغفو الليلة ، ستنام قريبتك وطفلها في قبرهما قريباً .. أعدك بذلك  


وخرج من الكنيسة ، تاركاً القسّيس يرتجف بخوفٍ شديد .. والذي سارع بالإتصال بقريبته لتحذيرها ، ومنعها من إرسال طفلها للمدرسة في الأيام القادمة  

***


في اليوم التالي ..وجد القسّيس رسالة على جواله من مجهول ، يقول فيها :

((بوركت يا ابتي ، هذه اول مرة انام براحة منذ سنوات .. يبدو أن الربّ يحبك ! وطالما هديتني ليلةً مريحة ، لن أقترب من عائلتك.. أعدك بذلك!!))


ولم يرى القسّيس المجرم ثانيةً إلاّ في كوابيسه المتكرّرة ، بعد شعوره بالذنب لعدم إبلاغه الشرطة عن هذا المجرم الخطير الذي يهدّد حياة الأطفال الأبرياء ! 

*** 


وبعد ثلاثين سنة من تلك الحادثة ، طبع القسّيس كتابه .. وجلس في المكتبة لتوقيع للقرّاء ، بعد بيعه عدداً من النسخ .. 

وكان سعيداً بالإحتفال المقام له ، إلى أن تغيّرت معالم وجهه فور رؤيته المجرم الذي أصبح عجوزاً ! والذي اقترب من طاولته ، واضعاً الكتاب امامه لتوقيعه ، هامساً بصوته المزعج :

- لا ادري إن كان ذكرك لقصتي أسعدني أم أغضبني ، بعد فضحك سرّي 


القسّيس بخوف : انا لم اكتب اسمك !

- لأنك لا تعرفه

- لا !! كل الإعترافات المذكورة في كتابي لم اكتب اسمائهم ، رغم تميّزي لصوت بعضهم .. 

المجرم : حسناً ، لا بأس .. وقّع الكتاب لوّ سمحت


واثناء توقيع القسّيس للكتاب ، قال للمجرم :

- مرّت سنوات على آخر مرة رأيتك فيها ، أظنّك تخلّيت عن عملك السابق ؟

فهمس بفخر : بل أصبحت رئيس أكبر عصابة في العالم ، ولديّ مخزن يحوي آلاف الحقن السحريّة .. أتفهم ما قلت ؟ ..آلاف !!! 


القسّيس بامتعاض : كان عليّ الإبلاغ عنك منذ مدة طويلة 

- لوّ فعلت ، لأنقذت مليون طفل

القسّيس بصدمة : مليون !

- على أقل تقدير ، فرجالي منتشرون في معظم الدول الفقيرة .. آه على فكرة .. مبروك !! عرفت إن قريبك أنجب فتاةٍ زوهريّة 

القسّيس بخوف : من قال ذلك ؟!

- ممرّضة في حضّانة المستشفى تعمل لصالحي ، إكتشفت ذلك بعد فحصها لكفّها الصغير .. اردّت فقط تحذيرك 

- إن اقتربت منها ..


المجرم مقاطعاً : لا تهددّني ايها الخرف !! فأنا وعدّتك سابقاً بعدم أذيّتهم .. لكني أردّت تحذيرك ، فهناك عصابة منافسة لي .. لذا انصحك بإبعاد الطفلة عن الغرباء قدر المستطاع .. 

ثم حمل الكتاب الموقّع ، وهو يقول :

- شكراً على التوقيع يا ابتي المبجّل


وخرج من المكتبة تاركاً القسّيس يرتجف خوفاً على اقاربه ، وعلى اطفال العالم من عصابة المجرم الذي لن يتوب ابداً !


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المحطّة الأخيرة

كتابة : امل شانوحة    المصيّدة الدمويّة ركبت الصبيّة الحافلة بعد انتهاء عملها الليليّ في إحدى المطاعم ، وهي تشعر بالإنهاك والتعب الشديد.. وم...