تأليف : امل شانوحة
ذكريات قسّيس
بعد بلوغ القسّيس بطرس 90 عاماً ، إستقال من عمله في الكنيسة ..واستقرّ في منزله لتأليف كتاب عن إعترافات المذنبين
ذاكراً في مقدّمته : ((بعد خمسين سنة من سماعي إعترافات الرعيّة ، استطيع الجزم بأمرين : لا أحد سعيد ، ولا أحد طاهرٌ بيننا ! فجميعنا مذنبين بطريقةٍ او بأخرى ..
البعض ذنوبهم بسيطة ، لكن ضمائرهم الحيّة تُشعرهم بعظمة الذنب وحاجتهم لتوبةٍ عاجلة .. بعكس اصحاب الذنوب الكبيرة : كالقتل والإغتصاب والقمار وغيرها ، والذين يكتفوا بقراءتي لبعض الآيات لإراحة نفوسهم التي لم تصنّف ذنبهم بالكارثيّ !
كما إن الفقراء هم المتميّزون بالضمير الحيّ ، أكثر من الأغنياء والمشاهير ! فأنا استشعرت رجفة قلوبهم من خلف الستار ..
بينما اولئك الوقحين يتكلّمون بنبرة فخرٍ واعتزاز بجرمهم ، كأنهم قدموا اليّ للفت أنظار الصحافة او ارضاءً لأهلهم وازواجهم ، وليس اقتناعاً منهم!
وفي كتابي سأطلعكم على اسوء الذنوب التي سمعتها ، التي لولا واجبي بكتمان سرّهم لأبلغت الشرطة .. فهم يستحقون العقاب بدءاً من السجن ، ووصولاً للإعدام !))
***
ثم قسّم القسّيس كتابه لثلاثة فصول : الذنوب الصغيرة ، الكبيرة ، والشائعة.. وسرد شرحاً ملخّصاً عنهم :
((معظم مرتكبيّ الذنوب الصغيرة من المراهقين والشباب في مقتبل العمر التي تفاوتت بين : الكذب على الأهل ، وسرقة المصروف اليومي ، وقيادة السيارة دون إذن ذويهم ، والتنمّر على زملائهم ..وصولاً لعلاقات عاطفية بريئة ..
وأكثر الذنوب الشائعة هي من النساء المهوسين بالعلاقات ، وخيانة الزوج ، وصولاً للدعارة !
اما الذنوب الكبيرة فارتكبتها شخصياتٌ فاشلة ، او مهمّة ومشهورة .. وهي عبارة عن سرقات وإدمان الخمور والمخدرات .. وصولاً للخطف والإغتصاب والشواذّ والسحر الأسود والقتل والتعذيب !))
ثم ذكر القسّيس في كتابه لأكثر حادثة أخافته ، لدرجة إن جسمه يقشعرّ كلما تذكّر كلام الرجل ذوّ الصوت الأجشّ وهو يعترف من خلف الستار الخشبيّ قائلاً :
- ابونا ، أتيت للإعتراف بذنبي لكيّ استريح .. فأنا لم أنمّ أكثر من ساعتين ، طوال العشرين سنةً الماضية
القسّيس باستغراب : ومالذي فعلته ليعاتبك ضميرك بهذا الشكل ؟!
الرجل بنبرةٍ ساخرة : ضمير ! أظني ولدّت دونه
- جميعنا لدينا ضمير ، وهو من يؤنّبنا على ذنوبنا وإلاّ لما اتيت اليّ
الرجل بلؤم : هل سمعك ضعيف ايها العجوز ؟ قلت أتيت لتتلو آيات تجعلني انام ، ولا يهمّني موضوع التوبة بتاتاً
فكتم القسّيس غيظه لوقاحة الرجل ، وأردف قائلاً :
- حسناً ، إخبرني بذنبك .. انا اسمعك جيداً
فتنهّد الرجل تنهيدةً طويلة ، قبل أن يقول :
- اولاً اريد تنبيهك بأن ما سأقوله يبقى سرّاً بيننا .. فما فعلته في حياتي لا يمكنني البوح به لإنسان ، ولا حتى لطبيبي النفسيّ
القسّيس : تكلّم بنيّ ، فمهمّتي سماع اوجاعكم بسرّيةٍ تامة
- اذاً سأبدأ من ذنبيّ الأول .. كنت بعمر 13 حين أحرقت منزلنا
القسّيس بدهشة : أكان عمداً ؟!
- طبعاً !! وكانت امي بالتبنّي وزوجها وطفلهما الصغير نائمين بالداخل
- يا الهي ! هل ماتوا بالحريق ؟
- بالتأكيد ، فأنا خططّت جيداً لإظهار براءتي امام الشرطة
القسّيس : ولما قتلتهم ؟
- لأن زوج امي يعيّرني دائماً بأني ابن حرام ، فهم وجدوني على باب الميتم التي تعمل فيه امي ، فقرّرت تبنّي لقيطٍ بائسٍ مثلي .. وكانت حنونة عليّ قبل زواجها وإنجابها لأخي الذي لا يكفّ عن البكاء ليل نهار .. فقرّرت التخلّص من عائلتي الكئيبة
القسّيس : واين عشت بعدها ؟
- عدّتُ لدار الأيتام
- الم يكن أفضل لوّ بقيت مع عائلتك ؟
الرجل : انا أكره الناس منذ صغري ، ولا تهمّني العائلة .. اساساً هربت من الدار بعمر 15.. وتشرّدت عاماً في الشوارع ، قبل تعرّفي على عصابة لسرقة السيارات التي اكتشفت براعتي الإجراميّة .. وصرت أترقّى بينهم ، حتى أصبحت معاون الرئيس الذي اعطاني مهمّة جديدة
- وماهي ؟
- خطف الأطفال
القسّيس بقلق : وهل خطفتهم بالفعل ؟!
- بعد تجاوز العدد 70 ، لم أعد أعدّهم .. معظمهم من اولاد الشوارع والشحاذين .. لكني ايضاً خطفت اولاداً مميزين
- ماذا تقصد ؟!
الرجل : الزوهريّن ، الم تسمع عنهم ؟
- تقصد اصحاب الدماء الفاتحة الذين يستخدمون كقرابين لإبليس ؟
- ليس هذا فحسب .. بل دمائهم النادرة قادرة على تجديد البشرة ، لدرجة إعادتك شاباً .. والإبرة الواحدة تكلّفك آلاف الدولارات ، بعنا الكثير منها للمشاهير والأثرياء .. الم تلاحظ بعض الممثلين والمغنيّن الذين لا يكبرون بالعمر ؟ اولئك زبائني الدائمين
القسّيس بخوف : وماذا تفعل بالأطفال ؟ أتسحب دمائهم حتى الموت؟
- الى آخر قطرة .. لكن بعد إخافتهم لعدّة ايام
- ومن اين عرفت بهذه المعلومة الغريبة ؟
الرجل : ابليس بنفسه أخبر رئيس المحفل بخصائص دمائهم النادرة ، وهم وكّلني بمهمّة توفير الحقن المسماة (بإكسير الشباب) للشخصيات الكبيرة في البلد
- وكيف تخيفون الأطفال ؟
الرجل : بعدّة وسائل : نضربهم بقسوة .. نعتدي عليهم مراراً .. نرميهم بالغابة ليلاً ..او نحبسهم في غرفة الفئران .. او داخل اقفاصٍ حديديّة وحولهم الكلاب المسعورة ، ليصلوا لأعلى مشاعر الخوف .. عدا عن رمينا الأطفال الزوهريين في بئرٍ مظلم ، لنعود ونستخرجهم بعد ايام ، ونسارع بسحب دمائهم قبل موتهم ..
القسّيس باشمئزاز : أشعر كأني أحدّث شيطاناً !
- الشياطين لا تعترف بذنوبها يا ابتي ، بل تفتخر بها
- وانا أشعر باعتزازك بنفسك !
الرجل : كنت كذلك في السابق ، لكن بعد مشاهدتي مئات الأطفال يتعذّبون بأبشع الطرق ، لم أعدّ باستطاعتي النوم ! فصراخهم عالقٌ في رأسي
- وهل تظنّ بأن قراءتي آيات الإنجيل ، سيُريح ضميرك لتنام ؟
الرجل : بل اريد تعويذة قوية تجعلني أغفو لساعاتٍ متواصلة
القسّيس بعصبية : تعويذة ! أتظنني مشعوذاً ؟ إذهب لإبليسك ، ودعه يسلّط عليك المزيد من شياطينه !!
وإذّ بالمجرم يفتح الستار الفاصل بينهما ، ويمسك بخناف القسيس مُهدّداً :
- إسمع ايها العجوز الخرف !! بإمكاني قتلك بسهولة ، خاصة بعد رؤيتك وجهي .. فكنّ مطيعاً واستجب لطلبي ، وإلاّ سأخطف اطفال اقاربك ..وأرسل لك فيديوهات تعذيبهم التي سأشرف عليها بنفسي !!
القسّيس بخوف : ليس لديّ اقارب
الرجل بامتعاض : رجل دين وتكذب !
ثم أخرج جوّاله ، ليُري القسّيس صورة لشابة تحمل طفلاً ، وهو يسأله :
- اليست هذه حفيدة اخيك وطفلها ؟
القسّيس بخوفٍ وغضب : إيّاك الإقتراب منهما ؟!!
- اذاً ابدأ بترتيل شعوذاتك ، ودعني انام الليلة .. وإلاّ سأجعلك تعيش في جحيمٍ متواصل
فأُجبر القسّيس على الرضوخ لطلبه .. ووضع يده فوق رأس المجرم ، وهو يتلو بعض آيات الإنجيل ..
وبعد انتهائه ، قال للرجل :
- مهما كانت ذنوبك كبيرة فالربّ يغفر لك ، بشرط توقفك النهائي عنها
الرجل : أتوقف ! أتظنني غبيّ لرفض مليون دولار عن كل طفلٍ يخطفه رجالي .. لا طبعا !! انا فقط اريد النوم بسلام .. وفي حال لم أغفو الليلة ، ستنام قريبتك وطفلها في قبرهما قريباً .. أعدك بذلك
وخرج من الكنيسة ، تاركاً القسّيس يرتجف بخوفٍ شديد .. والذي سارع بالإتصال بقريبته لتحذيرها ، ومنعها من إرسال طفلها للمدرسة في الأيام القادمة
***
في اليوم التالي ..وجد القسّيس رسالة على جواله من مجهول ، يقول فيها :
((بوركت يا ابتي ، هذه اول مرة انام براحة منذ سنوات .. يبدو أن الربّ يحبك ! وطالما هديتني ليلةً مريحة ، لن أقترب من عائلتك.. أعدك بذلك!!))
ولم يرى القسّيس المجرم ثانيةً إلاّ في كوابيسه المتكرّرة ، بعد شعوره بالذنب لعدم إبلاغه الشرطة عن هذا المجرم الخطير الذي يهدّد حياة الأطفال الأبرياء !
***
وبعد ثلاثين سنة من تلك الحادثة ، طبع القسّيس كتابه .. وجلس في المكتبة لتوقيع للقرّاء ، بعد بيعه عدداً من النسخ ..
وكان سعيداً بالإحتفال المقام له ، إلى أن تغيّرت معالم وجهه فور رؤيته المجرم الذي أصبح عجوزاً ! والذي اقترب من طاولته ، واضعاً الكتاب امامه لتوقيعه ، هامساً بصوته المزعج :
- لا ادري إن كان ذكرك لقصتي أسعدني أم أغضبني ، بعد فضحك سرّي
القسّيس بخوف : انا لم اكتب اسمك !
- لأنك لا تعرفه
- لا !! كل الإعترافات المذكورة في كتابي لم اكتب اسمائهم ، رغم تميّزي لصوت بعضهم ..
المجرم : حسناً ، لا بأس .. وقّع الكتاب لوّ سمحت
واثناء توقيع القسّيس للكتاب ، قال للمجرم :
- مرّت سنوات على آخر مرة رأيتك فيها ، أظنّك تخلّيت عن عملك السابق ؟
فهمس بفخر : بل أصبحت رئيس أكبر عصابة في العالم ، ولديّ مخزن يحوي آلاف الحقن السحريّة .. أتفهم ما قلت ؟ ..آلاف !!!
القسّيس بامتعاض : كان عليّ الإبلاغ عنك منذ مدة طويلة
- لوّ فعلت ، لأنقذت مليون طفل
القسّيس بصدمة : مليون !
- على أقل تقدير ، فرجالي منتشرون في معظم الدول الفقيرة .. آه على فكرة .. مبروك !! عرفت إن قريبك أنجب فتاةٍ زوهريّة
القسّيس بخوف : من قال ذلك ؟!
- ممرّضة في حضّانة المستشفى تعمل لصالحي ، إكتشفت ذلك بعد فحصها لكفّها الصغير .. اردّت فقط تحذيرك
- إن اقتربت منها ..
المجرم مقاطعاً : لا تهددّني ايها الخرف !! فأنا وعدّتك سابقاً بعدم أذيّتهم .. لكني أردّت تحذيرك ، فهناك عصابة منافسة لي .. لذا انصحك بإبعاد الطفلة عن الغرباء قدر المستطاع ..
ثم حمل الكتاب الموقّع ، وهو يقول :
- شكراً على التوقيع يا ابتي المبجّل
وخرج من المكتبة تاركاً القسّيس يرتجف خوفاً على اقاربه ، وعلى اطفال العالم من عصابة المجرم الذي لن يتوب ابداً !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق