تأليف : امل شانوحة
المائدة الخيالية
في ليلةٍ ماطرة .. إهتزّت صفائح الألمنيوم لسطح كوخ صغيرٍ عند أطراف المدينة مع كل عصفة ريحٍ هوجاء ! أيقظت قرقعتها صبياً (في العاشرة) يضغط بيده على بطنه الفارغ ، وهو يهزّ أمّه النائمة :
- امي .. الجوح يحرمني النوم
فمسّدت شعره بقهر : الا يمكنك الإنتظار حتى الصباح ؟ لربما تجود علينا الجارة ببقايا فطورها
- استطيع تحمّل الجوع ، لكني لا استطيع النوم بهذا الجوّ البارد
- إذاً خذّ بطانيتي
ابنها : هي ممزّقة اكثر من بطانيّتي المشتركة مع أختي
ثم رفع رأسه ، وهو يقول بمرارة :
- يا الهي ! أيُّ حياةٍ شقيّة كُتبت لنا ؟
فنهرته امه برفق :
- لا تيأس من رحمة الله .. ثم إخفض صوتك ، فأختك مازالت نائمة
وبالفعل استيقظت اخته على صوتهما ، بوجهٍ مُشرق :
- رأيت ملاكاً في منامي ، بشّرني بمائدةٍ سحريّة
ثم سحبت ذراع امها للجلوس على المائدة مع اخيها الذي قال ساخراً:
- كان مجرّد منام .. فالملائكة لا تظهر للبشر
لكن الصغيرة (سبع سنوات) رفعت يدها بالدعاء :
- يارب !! اريد كوب حليبٍ ساخن
وما أن ظهر الكوب امامهم ، حتى كادت الأم والإبن يقعان عن كرسيهما !
الأم بخوف : اعوذ بالله من الشيطان الرجيم !! هل اقتحم الجن كوخنا؟!
ابنتها بسعادة : لم يكن جنياً ، بل ملاكاً يا امي .. هو وعدني بتحقيق احلامنا ، إن لم نخرج من الكوخ .. هيا اخي !! اطلب امنيتك الآن
الأخ : بصراحة انا اشعر بالبرد ، اكثر من الجوع
وفجأة ! اشتعلت مدفأتهم بالنار ، رغم خلوّها من الحطب
الأم بصدمة : مالذي يحصل هذه الليلة ؟!
ابنتها : والآن دورك امي .. اطلبي شيئاً تمنّيته طوال حياتك
الأم بحسرة : لم اذقّ اللحم المشوي منذ طفولتي
وإذّ بصحنٍ مليء بالمشاوي يظهر امامهم على الطاولة !
ومع انهم لم يستوعبوا ما يحصل معهم ، الا انهم إنقضّوا عليه بنهمٍ مسعور..
ورغم امتلاء بطونهم ، الا ان شهيّتهم فُتحت للمزيد من الطعام !
لتبدأ بعدها رحلتهم مع اصناف اكلهم الوطني الذي سمعوا عنه ، دون ان تسمح ظروفهم بتذوّق لقمةٍ منه !
^^^
بعد ساعتين ..
الأم باستغراب : لقد أكلنا كثيراً ، ومع ذلك لم نشعر بالتخمة بعد !
ابنها : ربما هي ليلةً سحريّة واحدة ، فلنطلب كل ما حلمنا تجربته في حياتنا
اخته : هل لديك طلباتٍ اخرى ، يا امي ؟
الأم : ما رأيكم لوّ نتذوّق الطعام التقليدي لكل دولة بالعالم ؟
ابنها : فكرةٌ رائعة !! وأيّة دولةٍ تختارين ؟
الأم : لنبدأ قارةً قارة
ابنتها : وماذا تعني قارة ؟!
فتنهدت الأم بضيق : لوّ لم ينفصل والدكما عني وانتما طفليّن صغيريّن ، لأدخلتكما المدارس
ابنها : وبأيّ صفٍ توقفتي ، امي ؟
- الخامس الإبتدائي ، لهذا مازلت أذكر بعض المعلومات .. والقارّة يا اولادي : هو شيء أشبه بالجزيرة الكبيرة ، فيها عدّة دول
ابنها : وبأيةِ قارةٍ ستبدأين ؟
الأم : اميركا الشمالية
ابنتها : تعنين سنتناول البرجر والهوت دوج التي سمعت عنهما من تلفاز جارتنا ؟
الأم : بل سنبدأ بكندا اولاً ، ثم اميركا ..ونختمها بالمكسيك .. وبعدها ننتقل لقارة اميركا الجنوبية
وبعد تناولهم التاكو المكسيكية ، قالت ابنتها وهي تحاول تبريد لسانها بيدها:
- اكلهم حارٌ جداً !!
الأم : اذاً سنختار الأطعمة التي تناسب ذوقنا .. بشرط ان تُعدّ من أمهر طبّاخين تلك الوصفات ، مع نظافة الأداء وجودة المواد الأوليّة
^^^
وبعدها انتقلوا لشمال افريقيا : متناولين الكشري المصري .. والبازين الليبي .. والكسّكس التونسي .. والطاجين الجزائري .. والبسطيلة المغربية
ثم اختاروا بلاد الشام (منطقة الشرق الأوسط) : متذوّقين التبّولة اللبنانية والمحاشي السورية ، والمسخّن الفلسطيني والمنسف الأردني
وبعدها انتقلوا لأوروبا : حيث أُعجب الولدان بمذاق البيتزا واللازانيا الإيطالية .. والكرواسون الفرنسي .. والسمك المقلي البريطاني..
ثم اختاروا القارة الآسيوية : ليأكلوا الرز البرياني الهندي ، والسوشي الياباني والأندومي الصيني .. وغيرها
وختموا جولتهم بإستراليا : بفطيرة اللحم المشهورة هناك
^^^
وبعد تذوّقهم للأكلات الرسميّة لكل دول العالم .. قالت الصغيرة :
- طالما لم نشعر بالشبع بعد .. ما رأيكم لوّ نعيد اللعبة ، لكن بأشهر حلويات العالم
وبذلك تناولوا لأول مرة : الدونات والكيك والتيراميسو والكنافة والبقلاوة والماكرون والتشيز كيك والبراوني.. ومعظم نكهات الآيس كريم التي خطرت على بالهم
وكذلك لم ينسى الولدان تذوّق افضل العصائر الطبيعية والغازيّة ، والفواكه النادرة حول العالم .. وكذلك اشهر الشوكولا والسناكات والشيبسيات التي خرجت مباشرةً من مصنعها الأصلي الى طاولتهم القديمة !
^^^
الفتاة وهي تمسح فمها بيدها :
- وهآ نحن تناولنا كل طعام العالم .. فماذا سنطلب الآن ؟
ففكّرت الأم قليلاً ، قبل ان تقول :
- اريد تناول اشهر الوصفات القديمة التي اندثرت عبر التاريخ ، ومن يد اشهر طبّاخيها
لتظهر امامهم مأكولاتٍ نادرة : من ايام الفراعنة والرومان والدولة الأمويّة والأندلس والدولة العثمانيّة ، وصولاً الى يومهم هذا !
^^^
الصبي : وهآقد انهينا طعام الماضي .. ما رأيكم لوّ نتذوق المأكولات والحلويات التي ستظهر في المستقبل ؟
لتبدأ اصنافٌ جديدة (لم تُبتكر بعد) بالظهور امامهم الواحدة تلوّ الأخرى !
الى ان امسك الصبي بإحدى السكاكر وهو يقول :
- هذه الحلوى ستُحدث ثورة لدى اطفال المستقبل .. ما رأيك يا امي لوّ نطلب طريقة صنعها ، وبعدها نحوّل كوخنا الى كشك لبيعها .. وسأقوم انا واختي بتوزيعها على اطفال الحيّ .. وسرعان ما تنجح تجارتنا ، ونصبح من الأثرياء
فتنهّدت الأم بقلق : أخشى ان نتعلّق كثيراً بهذه النِعم ، ثم نصحو غداً على بقايا الخبز والجوع.. حينها يكون عذابنا مُضاعفاً !
ابنها : امي رجاءً ، دعينا نستمتع باللحظة
الأم : معك حق ، لن اتشاءم .. (ثم فكّرت قليلً).. ما رأيكم لوّ نطلب امنيّة أخرى غير الطعام ؟
الصغيرة بحماس : اريد تجربة الملاهي !!
^^^
وبالفعل ! ما ان فتحوا اعينهم ، حتى وجدوا انفسهم يركبون الإفعوانية بديزني لاند وهم يلبسون ملابس جديدة !
وبعدها توالت طلباتهم .. ليصبح كوخهم ، بوّابة للنعيم الأرضيّ : حيث زاروا أفخم قصور ومتاجر العالم ..وتنزّهوا بأجمل الحدائق ..وشاهدوا اللوحات النادرة بالمتاحف الأثريّة .. وتسلّوا بأحدث الألعاب الإلكترونيّة .. مع تجربتهم لأشهر ماركات الملابس والدمى .. عدا عن مغامراتهم الجريئة : من تسلّق جبال الألب .. واكتشاف الكهوف .. والقفز بالمظلّة .. وقيادة الطائرات الشراعية .. وغيرها من متع الدنيا التي جربوها بهذه الليلة الخيالية !
^^^
وبعدها عادوا الى كوخهم البارد بعد انطفاء الموقد !
الصبي بضيق : لما تركنا المطعم الفاخر امام شلّالات نياغرا ، للعودة الى هذا المكان الموحش !
اخته بقهر : وهاهي ملابسنا الناعمة اختفت ايضاً !
الأم وهي تمسك بطنها : وعاد جوعنا من جديد ! هل انتهى حلمنا الجميل؟!
وهنا اقتحم رجلان مُلثّمان الكوخ ، وسحبا الأم بعنف من الطاولة .. بينما سارع ولديها لشدّ ثيابها ، لمنعهما من خطفها !
وأخر شيءٍ سمعته الأم ، هو صراخ ولديها الفزعيّن :
- لا تتركينا امي !!
***
لتستيقظ بعدها بغرفة المشفى ، والممرّضة بجانب سريرها تقول :
- الحمد الله على سلامتك
الأم بتعب : مالذي حصل ؟!
- وجدتك جارتك شبه واعية في كوخك البارد ، ونقلتك الى هنا
فالتفتت الأم حولها برعب :
- واين ولدايّ ؟!!
الممرّضة بشفقة : للأسف ، توفيا جوعاً وبرداً .. وبالكاد انقذناك بعد انخفاض حرارة جسمك من الجوّ العاصف
فانهارت الأم باكية ، وهي تلوم الممرّضة :
- لما أنقذتموني ؟! لما لم تدعوني ارحل مع اولادي ؟! كنت اعيش معهما في الجنة ، فلما أعدّتموني للدنيا الكئيبة ؟!!
وبسبب انهيارها العصبيّ ، اضّطرت الممرّضة لحقنها بإبرة مُهدّئ..
وقبل استسلام الأم للنوم .. سمعت رجلاً يدخل غرفتها ، لسؤال الممرّضة :
- هل وجدتهم احداً من اقاربها ؟
الممرّضة : لا سيدي .. هذه المرأة مُطلّقة ، ويتيمة منذ صغرها
- الم تحادثوا طليقها ؟
- بلى .. لكنه متزوّج بأخرى ، في مدينةٍ بعيدة .. حتى انه لم يكترث بموت ولديه !
المدير بعصبية : أفهم من ذلك ، ان المريضة مُشرّدة وفقيرة ؟!
- صحيح سيدي
- الم اخبركم الف مرة الا تنقلوا هذه الأشكال الى مشفايّ الخاصّ ؟!! من سيدفع الآن ثمن المحاليل التي انقذت حياتها ؟
الممرّضة : الجارة نقلتها للطوارىء ، ثم عادت لمنزلها دون اعطائنا رقمها .. اما جثتا الصغيريّن ، فبالمشرحة
- إدفنوهما بقبرٍ واحد .. اما هذه ، فطالما مقطوعة من شجرة .. فاخبري الجرّاح بإزالة جميع اعضائها السليمة ، لبيعها لاحقاً للأثرياء .. ثم ادفنوها بقبر ولديّها .. وإيّاك معرفة احد بالموضوع ، والا دفنتك معهم !!!
***
في العالم الآخر .. عادت الأم الى كوخها ، لتجد ولديها مازالا ينتظرانها امام الطاولة .. واللذين ركضا لاحتضانها ، قبل ابتعادهما عنها بفزع !
ابنها بخوف : امي ! اين عينيك ؟ ولما جسمك مليئاً بالفراغات ؟!
فأجابت الأم بغضبٍ ممزوج بالمرارة :
– سرقوا أعضائي وباعوها للأغنياء ! لكن قلبي وهبوه لفتاةٍ صغيرة ، ستكبر يوماً للدفاع عن الفقراء.. لهذا لم أمُت عبثاً
الإبن بصدمة : اذاً نحن ميتون الآن !
الأم : للأسف .. ولهذا جرّبنا طعام البرزخ
ابنتها : وماذا يعني برزخ ؟!
ليسمعوا الجواب من ملاكٍ مُضيء ، ظهر فجأة في كوخهم :
- هو مكان تجتمع فيه الأرواح الى يوم القيامة.. وبما انكم جرّبتك مُتع الدنيا ، ما رأيكم بتجربة نعيم الجنة ؟
فقفز الولدان بسعادة !!
الصغيرة بحماس : هل يمكننا تذوّق اطعمة الجنة ؟!!
الملاك : الطعام والطيران ، ورؤية احبابكم الذين رحلوا قبلكم
الصبي بفرح : يعني سنُقابل جدتنا الحنونة من جديد ؟!
فأومأ الملك برأسه ايجاباً ..
الصبي بحماس : امي ، هل سمعتي ؟ ستلتقين بوالدتك المرحومة .. الستِ سعيدة ؟
امه وهي تمسح دموعها بشوق : لا اطيق صبراً حتى ارتمي بأحضانها الدافئة
الملاك : اذاً تعالوا معي !! ستكون تجربةً جميلة وطويلة الأمد ، لحين قيام يوم الحساب
الصبي بتردّد : وهل تسمح بجلوسي انا وأختي فوق جناحك ؟
الملاك : لكن حاولا التمسّك بي جيداً
الأم : وانا يكفيني مسك يدك ، ايها الملاك الطاهر
وحلّقوا معاً للسماء السابعة حيث لا جوعٍ ولا برد ، مُتجهين للأماني الخياليّة الأبديّة!
قصة تلامس الواقع فنحن نعيش بشعوب مجرمه لاخير فيها
ردحذفواذا احد عمل خير فانه يعمل شي فقط ويترك الباقي مثل الجارة التي اكتفت بنقل الام للمستشفى وتركتها لهم
لا شيء اجمل من الجار الذي يمدّ لك العون وقت الضيق .. ولا شيء ينغّص الحياة قدر الجار السيء .. وكما يقال (الجار قبل الدار) ..
حذفلكن في هذه القصة ، وان كانت الجارة اكتفت بايصالهم للمستشفى .. لكن طبع الإنسان يخاف من المساءلة او دفع التكاليف .. لهذا طبيعي ان تهرب بعدها ، خاصة ان كانت فقيرة مثلهم ..
سعيدة ان القصة اعجبتك ، استاذ عدنان
مايحدث بغزة نموذج يوضح ماذا تعني الشعوب والجيران
ردحذفجيران يقدمون اهل غزة قربان لكي ترضى عنهم الشعوب