الخميس، 24 يوليو 2025

طفلٌ بعقليّة ملك

تأليف : امل شانوحة 

 

نار الجهل


في العصر القديم ، ببريطانيا .. طلب جاك (رجلٌ ثريّ ، والداعم الأول لدار الأيتام) من الأطفال كتابة امنياتهم لربهم بعيد الميلاد.. دون علمهم بأنه سيقرأها بنفسه ، لتنفيذ طلباتهم..


فكانت معظم طلبات ٢٠٠ يتيم : هي حلويات او ملابس وألعاب.. 

ما عدا رسالة من احدهم ، كتب فيها بالتفصيل : عن مسؤولي الدار الذين يقومون بسرقة تبرّعاته ! 

فالطبّاخ يشوي نصف اللحوم المُرسلة للدار ، بينما يبيع الباقي لحسابه.. 

والأساتذة لا يعلّمونهم كافة الصفوف ، بل يرسلوهم لساحة الدار باكراً ..رغم أخذهم رواتبهم كاملة  

كما يُجبر المدير الأهالي (القادمين للتبنّي) بدفع المال له ، دون علم جاك الثريّ ! 


كما وضّح الولد : قلّة الأدوية وغيارات الملابس ..والمياه الباردة للإستحمام.. والضرب المُبرح عند كل خطأ من الأولاد ، رغم سياسة جاك الواضحة بالرحمة المُلزمة في داره.


وهذه الرسالة أقلقت جاك الذي قام ببحثٍ مُكثّف عن مصاريف الدار مع استجواب عمّالها ، الى ان ثبتّت لديه السرقات والتجاوزات ! مما استدعى طرد العديد من مسؤولي الدار واستبدالهم بآخرين كفوئين..


وأراد جاك تكريم الولد الذي ارسل التنبيه له.. لكن لا احد من الأولاد رفع يده عند سؤاله لهم ! حتى عندما وعد بمكافئة لصاحب الرسالة ، لم يظهر الولد الحكيم ! 

***


فقرّر جاك أخذهم برحلة الى قصره .. وبنهاية الرحلة المليئة بالطعام والألعاب التي ملأت حديقته ، طلب من الأولاد كتابة رأيهم بالرحلة  

ليجد ورقة من بينهم ، يوضّح فيها الولد : خيانة زوجة جاك التي شاهدها تُقبّل حارسه في زريبة القصر ! كما شكّكه بأن حملها ليس منه ، لأن من خلال حديثها مع الحارس : أن علاقتهما تجاوزت السنتيّن.


مما افقد جاك اعصابه .. وهدّد الحارس بالسلاح ، الى أن اعترف مع زوجته بالخيانة ! فقام بطرد الحارس وتطليق زوجته..


وللمرة الثانية لم يعرف من الولد الذي كشف بدايةً : سرقات الدار ، ثم خيانة زوجته ! فالأولاد الأيتام لا يتجاوز اعمارهن ١٣ عاماً .. والذي كتب الرسالتيّن لديه فهم الرجال ! 

***


واستمرّ الغموض للسنة الثانية ، بعد أن وصلته طلبات الأولاد بعيد الميلاد التالي.. ليجد رسالة اخرى من الولد المجهول عن الخطوات التي عليه تتبّعها ، لنجاحه بانتخابات رئيس البلديّة التي رشّح جاك نفسه اليها ! 

وكانت خطواتٌ دقيقة تدل على خبرة الولد بأحوال البلد والمُرشحيّن المنافسيّن ، مُتضمناً رسالته الآتي : 

((سيد جاك .. انت تطمح لمنصبٍ يتنافس عليه الطامعون .. لكنك بخلافهم ، تمتلك الرحمة والإنسانيّة .. اليك خطّة للنجاح على منافسيّك :


1- اللورد جيمس 

رغم قوّته السياسيّة الا ان لديه عثرات يمكنك الإستفادة منها ، للإطاحة به بالإنتخابات القادمة .. اولاً : غروره الذي يمنعه التواصل مع الفقراء ، بينما انت الداعم الأول للأيتام .. ثانياً : ثروّته اتت من البنوك المرابية ، بينما انت من بيع محصول حقولك الزراعيّة ، مما يُثبت نقاء تمويلك .. وثالثاً والأهم : تشجيعه للعبوديّة ، بينما انت تطالب بالحرّية للجميع .. وهذه تكفي لفوزك بالإنتخابات القادمة ، في حال ركّزت عليها بخطابات إنتخابك 


2- المنافسة الثانية : اليزابيث كارتر 

خطاباتها المؤثرة هي بالحقيقة من كتابات مستشارها ، لهذا أحرجها امام الجميع بأن تُلقي كلمة دون تحضير .. حينها سيكون إرتباكها ، سبباً بفوزك .. ثانياً : هي تُعارض التبني ، وانت مؤسسّ فكرة العائلة السعيدة للولد اليتيم .. يمكنك إثارة هذه النقطة بالإنتخابات القادمة ، وستحصل على تأييد الأهالي .. ثالثاً : هي تكره الريفيين ، وقد وضّحت ذلك بأكثر من خطاب عن إشمئزازها من جهلهم وتخلّفهم .. لذلك ركّز انت على أهميّتهم بمجال الزراعة والرعيّ ، وستحصل حتماً على تأييدهم .. فهم اكثر من نصف الشعب البريطانيّ .. 


ختاماً : لا تشتم احداً ، فقط إظهر بمظهر السيد اللبق المحترم .. والناس ستشعر بصدق نواياك .. بالتوفيق لك 

ابنك صغير البنيّة ، كبير الرؤية))

                 

فجمع جاك اساتذة الدار ، وأعطاهم الرسائل الثلاثة (سرقات الدار ، وخيانة زوجته ، وخطّة الإنتخابات) ليسألهم عن خط يد الولد.. لكن لا احد ميّزه او استطاع تحديد احد من تلامذته بهذا الذكاء ! 

***


وبعد نجاح جاك بانتخابات البلديّة .. وصلته رسالة رابعة من اليتيم المجهول ، يبارك فوزه ويخبره الحقيقة :

((انا طالب في دارك للأيتام .. وعمري الحقيقي : اربعين سنة.. انا قزم دون تشوّهات جسديّة.. أقصد ان نموي توقف بعمر العشر سنوات.. وكنت اعيش بإحدى القرى .. وعندما لم اكبر لسنوات ، ظنّوني شيطاناً او جنيّاً مُتلبّساً بهيئة ولد ! وحاولوا حرقي حيّاً.. فهربت منهم ، وقدمت الى مدينتك .. وأصبحات شحاذاً بالشوارع لسنتيّن .. الى ان اتت الشرطة ورمتني بالدار .. ولأني لم اردّ لفت انظاركم اليّ .. كتبت دروسي بيد اليسار ، لأشابه خطوط الصغار الغير مفهومة .. كما لم أُظهر ذكائي لأساتذة الميتم الذين بدأوا يشكّون بي ، لأني لم اطول منذ ثلاث سنوات.. لهذا قرّرت الهرب من الدار ، ومن المدينة كلها .. كيّ لا يحاولوا إحراقي ، كما فعل اهل قريتي.. هذه رسالة وداع.. ورجاءً لا تبحث عني.. سعيد انك سمعت نصائح رجلٍ ، عالق بجسم ولدٍ صغير))


ورغم صدمة جاك بما قرأه ، خاصة ان هذا النوع من التقزّم لم يكن معروفاً في عصره ! لكنه كان مُمّتناً لذلك الرجل الصغير الذي ساعده بالحصول على منصبه الجديد

***


ومرّت السنوات ، إستطاع جاك الحصول على تأييد اهالي منطقته الفرحين بمشاريعه الإنمائيّة ، خصوصاً القرويين .. لكن منافساه القدامى ، لم يكونا سعيدان بسمعة جاك العطرة بين الناس .. فخطّطا معاً للإطاحة به .. وتمكنا من تلفيق تهمة تعامله مع السفير الفرنسي ، بزمن اضّطراب العلاقة بين البلديّن .. مما اغضب الناس الذين طالبوا باستقالته !


ومن شدة حزن جاك من تصديق شعبه لهذه التهمة الباطلة ! رغم مشاريع الإعمار في عهده ، لصالحهم .. إستقال مُرغماً .. مما تسبّب بمرضه الذي تزايد كل يوم 

***


وعلى فراش الموت ، كتب جاك رسالته التالية :

((الى من يقرأ رسالتي بعد موتي .. لم اكن يوماً رجلاً حكيماً .. بل ظننت ان الإهتمام بالفضائل يكفي لرفع مستوايّ بين الناس ، دون الإكتراث لما يجري بالكواليس من دسائس وخيانة .. الى ان وصلتني رسالة طفوليّة من يتيمٍ في داري ، جعلتني اكثر نضجاً وفهماً للواقع والحياة .. وتتابعت رسائله ، كنورٍ وسط عتمة جهلي.. وبنصائح ذلك الولد المجهول ، أوصلني للقمّة ثم رحل .. وبغيابه ، تخبّطت وحدي بقراراتي التي كان بعضها سيئاً ، والتي اوصلتني للإنحدار .. ذلك الولد كان رجل بجسم قزم دون تشوهاتٍ جسديّة .. وهي حالة نادرة ، لم تُعرف حتى الآن ! لذلك اطلب من اطباء وعلماء بلدي دراستها ، في حال وجدوه .. وليخبروه ان كل ثروّتي له .. فهو استحقّها بجدارة بسبب افكاره النيّرة الحكيمة .. فعقله يفوق تاج الملك ، وإن كان مُحتجزاً بجسم طفلٍ صغير))

***  


ووصل الخبر للقزم الذي قدم من القرية المجاورة للحصول على ثروّته ، بعد ان عاش مُشرّداً طوال خمس سنوات هروبه من الدار.. ليحصل ما كان يخشاه ، فمنافسا جاك الطامعيّن بتحويل ثروّته لخزينة البلديّة .. تمكنا من إخافة الشعب بأن القزم هو مرسال الشيطان .. وتمّ تحديد يوم اعدامه حرقاً ، امام الجمهور الغفير الذي تجمّع بساحة العاصمة

 

وقبل إشعال الحطب تحت الصليب المُعلّق عليه ، قال بصوتٍ جهوريّ :

((إبقوا دائماً في عتمة الجهل والتخلّف !! أنا لم اسعى يوماً للملك ، بل وجّهت سياسيّاً طيباً لخدمتكم .. بينما تكترثون انتم بالشكل دون المضمون .. اليوم تحرقونني ، فقط لأن جسمي لم ينمو ! .. الشيطان الحقيقي هو جهلكم !! كم من موهوب سحقتموه بغبائكم .. وكم من طفل قتلتم مستقبله بتمسكّكم بتقاليدكم البالية .. انا كنت الشمعة في حياتكم ، أوجّههكم نحو الأفضل .. لكنكم قرّرتم إطفائها اليوم .. لهذا تستحقون اليأس الذي انتم فيه !! .. انا الطفل الرجل .. ورسائلي ستُدرّس يوماً للأجيال القادمة .. ليعرفوا مدى جهلكم وتخلّفكم .. رسائلي هي صرخة عقلٍ ناضج في زمن الطلاسم والشعوذات .. إحرقوني الآن ، لكنكم لن تطفؤا شعلة الفكر ابداً!!))

***


بعد سنواتٍ طويلة .. تم اكتشاف حالات مشابهة للقزم المُعجزة ، التي تمّ دراستها علميّاً في جامعات الطب ببريطانيا والعالم : وهي حالة توقف النمو الجسدي للطفل ، بينما عقله يستمر كرجلٍ طبيعيّ .. اما رسائل اليتيم : فمازالت تُدرّس بكتب التاريخ ، على انه العبقريّ الذي حوكم كشيطان ! والذي لُقّبه العلماء ب(طفلٌ بعقليّة ملك) !             

هناك 4 تعليقات:

  1. قصه شيقه وفكره جديده تسلمين

    ردحذف
    الردود
    1. يعني فكرت بأول قزم من هذا النوع ، ما كان مصيره ؟ وكيف تعامل الناس معه بزمن الجهل والتخلّف ؟
      فخطرت ببالي هذه القصة.. سعيدة انها اعجبتك

      حذف
  2. رائعة 🌹

    ردحذف

العقوبة المتأخرة

تأليف : امل شانوحة  الماضي الأسود دفعه الحارس الى زنزانته ، وهو يقول : - هذه هي الضربة القاضية يا جاك ، ستبقى في ضيافتنا حتى مماتك فردّ جا...