الخميس، 26 يونيو 2025

النجومية الصعبة

تأليف : امل شانوحة 

بين الظلام والنور


((هاهو الكابوس اللعين يُعاد من جديد ! ذات المنزل المظلم المُعبّق برائحة البخور الخانقة ! الن تنتهي لعنتي ابداً ؟! سنواتٌ طويلة وانا اهرب من هذا الحلم المزعج .. لكن هذه المرة لن اخاف ، سأستجمع قوايّ لاستكشاف المنزل الكئيب))


وفي المنام : تجرّأت رؤى لأول مرة على الصعود للطابق العلويّ من المنزل المجهول ! وكما توقعت ، الأمر يزداد رعباً كلما اقتربت من ممرّه الطويل ، بغرفه المتعددة .. والمُغلقة بأقفالٍ حديديّة من الخارج ، كأنها زنزاناتٍ نتنة !

حيث تناهى الى سمعها ، انفاس المساجين المضّطربة وهي تنساب بين الجدران وشقوق الأبواب المُعتمة ، كأنها ارواحٌ عالقة داخل سجونها منذ اعوامٍ طويلة !

وفجأة ! بدأت الغرف تُفتح الواحدة تلوّ الأخرى ، ليخرج اشخاصٌ مُكبّلة اقدامهم العارية بالسلاسل الصدئة الطويلة .. جميعهم ينظرون لها بعيونٍ دامعة ، كأنهم فرحوا بصعودها نحوهم لأول مرة منذ طفولتها !


قبل ان تقول صبيّة بوجهٍ مشوّه بمرضٍ جلديّ ، وبنبرةٍ معاتبة :

- كنا نصرخ بإسمك لشهورٍ وأعوام ، الم تسمعي توسّلاتنا كل هذه المدة ؟!

رؤى بدهشة : هل تعرفونني ؟!

فأجاب شيخٌ كبير :

- لا ، لكن مصيرنا مرتبطٌ بك 

رؤى باستغراب : لم أفهم قصدك ، يا عم ! .. إشرح اكثر

فاقترب منها شابٌ اعرج ، وهو يقول :

- إنظري الى قدمك ، وستعرفين أنك سبب معاناتنا 


فتراجعت رؤى للخلف بصدمة ، بعد انتباهها بأن سلاسل المساجين الثلاثين مرتبطة بقدمها !

رؤى باستغراب : لا افهم شيئاً ! متى حصل الإرتباط بيني وبينكم ؟!

فأجابت امرأة بملامح كئيبة :

- انت الذنب الأول لخالتك التي عصت ربها لتدميرك ، قبل إتقانها مهنة السحر التي أذتنا به جميعاً 

رؤى : أتقصدين انه في حال فككّت سحري.. 

فأكمل الشاب قائلاً : 

- نتحرّر جميعاً !! فأنت مركز شبكة العنكبوت او العقدة الأولى في كنزةٍ صوفيّة .. انت سبب إنحراف خالتك ، ومصيرنا مُرتبطٌ بك 

العجوز : طوال سنوات تعذّبنا معك .. فعندما تفقدين الأمل وتتمنّين الموت ، تُشدّ السلاسل على اقدامنا وتُدميها .. ليزداد معها تعسّر حياتنا  

الصبية : وعندما تتفائلين ، وهو شيءٌ تفعلينه نادراً ! ترتخي السلاسل ، ونتنفّس الصعداء ببعض الأمور المُيّسرة في حياتنا الصعبة 


رؤى وهي تمسح دموعها :

- ظننت انني اعاني بصمتٍ وحدي ! فأنا لم اشارك خيبات املي مع احد ، ولم يعرف حتى المقرّبون بدموعي التي سالت كل ليلة من اموري المُعسّرة .. لكن لمَ خالتي تحاول إيذائي لهذه الدرجة ؟!

الرجل : عليك إيجاد الإجابة بنفسك ، والتي ستكون اول الخيط لفكّ مُعضلتنا الصعبة

الفتاة : رجاءً واجهي مخاوفك ، وحاربي عدوّتك .. فتحرّرك ، سيفكّ اسحارنا تِباعاً.. فأنا لم اعد أحتمل مرضي الجلديّ الذي يشمئزّ الناس منه .. فنفسيّتي مُحطّمة تماماً ، وانت املنا الأخير .. رجاءً حاربي لأجلنا !!

فسكتت رؤى مطوّلاً ، قبل ان تقول بقهر :

- ربما لا استحق الغفران ، لكنكم حتماً تستحقون الحياة 


ومشت نحو منتصف الصالة .. وجميع المسحورين يتبعونها مُجبرين ، بسبب السلاسل المُتصلة بها .. 

ثم راقبوها وهي تغمض عيناها .. وتأخذ نفساً عميقاً ، قبل ان تُحدّث نفسها بصوتٍ مسموع :

- روحيّ المسكينة ، لن أخذلك مجدداً .. سأسامح نفسي عن فشلي السابق ، فهو ليس ذنبي .. وسأسامح كل من أذاني ، فيما عدا خالتي الساحرة التي سأحاربها لنصرة المظلومين 


وما ان قالت هذا ، حتى ارتجّت السلاسل بصوتٍ مُهيب ! وإذّ بالأقفال تُفتح الواحدة تلوّ الأخرى ، وسط تهليل المسحورين الذين تحرّروا من قيّدهم الذي دام لسنواتٍ طويلة !


العجوز بفخر : أحسنت يا ابنتي !! فنحن بحاجة لثقتك بنفسك .. انت املنا الوحيد للنجاة

رؤى : هآ انتم تحرّرتم من السلاسل ، لكنّا مازلنا عالقين بمنزل الساحرة ! ترى اين هي الآن ؟!

السيدة : تتبّعي صوتها وهي تتلوّ تعويذاتها اللعينة 

الصبية بغضب : إن وجدتها ، فعليك قتلها.. فأرواحنا لن تتحرّر بشكلٍ تام إلاّ بموتها!!

الرجل : الأمر ليس بهذه السهولة يا اصدقاء .. فعلى رؤى مواجهة جميع خيباتها السابقة ، قبل تمكّنها الوصول لغرفة الساحرة .. وهذا ليس سهلاً ، لأنها ستتذكّر كل آلامها السابقة


فتنهّدت رؤى بضيق :

- لوّ أن الأمر مُرتبطاً بمصيري وحدي ، لهربت من الكابوس كما فعلت سابقاً .. لكن طالما مصيركم مُرتبطاً بي ، سأتحمّل اوجاع قلبي لأجلكم .. هي مجرّد مواجهة أخيرة مع ماضيّ الحزين ، قبل شروق مستقبلنا الزاهر .. وجميعنا نستحق ذلك !!  

فصفّقوا لها ، تشجيعاً على خطوتها الجريئة القادمة

^^^


ثم نزلت الأدراج .. وهي تخترق دخان البخور الكثيف ، برائحته غير مُستحبّة ! 

وأغلقت رؤى انفها وهي تتابع النزول .. الى ان اعترض طريقها ، بابٌ خشبيّ قديم .. فسمّت الله ، وفتحته بيدٍ مرتجفة

^^^


وكانت الغرفة عبارة عن صفّ الإذاعة المدرسيّة .. حيث شاهدت نسختها بعمر الثامنة ، تُغني للطلاّب (فهي تميّزت بصوتها القويّ العذب)


وفجأة ! إختفى صوتها .. وظهرت لثغة في لسانها ، جعلت الطلّاب يضحكون سخريةً منها .. مما اربكها ، وجعلها تترك الغناء نهائياً 


فاقتربت رؤى من الفتاة التي كانت تأكل وحدها بزاوية الصفّ ، وربتتّ على كتفها بحنان :

- رجاءً لا تحزني ، فما حصل ليس ذنبك

فنظرت الفتاة اليها بعيونٍ دامعة :

- اين اختفى صوتيّ الجميل ؟! ولمَ صار كلامي صعباً ؟! الجميع يسخر مني ، حتى صديقتايّ المقرّبتان .. ووالدايّ يظنان إختلاقي لثغة لساني دلعاً ودلالاً !

ثم فتحت الصغيرة فمها :

- وقع سنّان آخران لي ، فهل هما السبب ؟


وهنا انتبهت رؤى على وجود حبلٍ غليظّ يربط لسان الفتاة .. وقبل إستيعاب ما شاهدته ! إمتدّ الحبل حتى خرج من فم نسختها الصغيرة ، الى ان وصل لأسفل باب الصفّ الدراسيّ .. لينفتح الباب ، وتجد خالتها تمسك بالطرف الآخر للحبل وهي تبتسم بلؤم !


رؤى بغيظ : أأنت ايضاً ؟! لما فعلتِ ذلك ؟!

الخالة : لأني عرفت بمستقبلك الزاهر .. وظننت ان صوتك العذب سيوصلك للنجوميّة ، فطمست موهبتك الغنائيّة مُبكّراً

رؤى معاتبة : ولمَ ربطتِّ لساني ، واختلقتي عقدته الصعبة ؟!

- لأن تلعثمك ، سيخفّف من إنطلاقتك .. كما سيحُدّ من علاقاتك الإجتماعيّة 

رؤى غاضبة : كنت مجرّد طفلة ، يا عديمة الرحمة !! أتدرين كم واجهت مُتنمّرين في حياتي الدراسيّة بسببك ؟!!

الخالة بلؤم : سأفعل ايّ شيء لطمس نورك 

وبعدها اختفت !


فأمسكت رؤى ذراع نسختها الصغيرة ، ووضعتها امام الميكروفون الموجود في غرفة الإذاعة المدرسيّة :

- هيا غنّي يا صغيرتي .. يمكنك فعل ذلك 

الفتاة بخوف : 

- لا !! سيسخرون مني الطلاّب مجدّداً

رؤى : لا تهتمي لأحد .. انا معك !! غنّي بكل قوتك ، فأنا اثق بموهبتك الفريدة


وفعلاً غنّت الفتاة بصوتٍ عذب ، جعلت جدران الغرفة تتساقط كعلبة كرتون ! ليظهر ملعب المدرسة مع تصفيقٍ حادّ من الطلّاب ، بعد استعادة موهبتها الغنائيّة

فنظرت الى رؤى بامتنان : 

- أعدّتِ ثقتي بنفسي ، لكن لثغتنا لم تختفي !

- ربما يحصل ذلك ، بعد تحرّري من منزل الساحرة اللعينة 

الفتاة : اذاً سأصبر حتى انتهائك من جميع الغرف

رؤى بقلق : وهل يوجد غير هذه الغرفة ؟! 


فأشارت الفتاة للأمام .. لتنتبه رؤى على وجود بابٍ آخرٍ ضخم ! 

الفتاة : طالما تجرّأت على الغناء ثانيةً امام الساخرين والحاقدين ، فعليك مواجهة مرحلة اخرى من حياتك الماضية .. (ثم شدّت على يدها) .. هيا توجّهي الى هناك .. وكان الله في عونك ، يا نسختي الكبيرة

^^^


فتنفّست رؤى بثقل ، وهي تخطو بتردّد نحو الغرفة الثانية .. وهي عبارة عن صفّها بالمرحلة الثانويّة التي فاحت منه رائحة الطباشير .. بلوحٍ خشبيّ مكسور ، كُتب عليه :

((رؤى ، لا مستقبل لها))


فاقتربت ببطء من طاولتها القديمة .. لتجد ورقة امتحان الرياضيات ، نصفها فارغٌ من الإجابات !

فتذكّرت تلك اللحظة ! بعد ان أمضت ليلتها بدراسةٍ جادة .. وعندما قرأت اسئلة الإمتحان ، عرفت إجاباتها جميعاً .. لكن شيئاً ما حصل يوم الإمتحان ، جعل كتابتها بطيئة للغاية .. حتى انها صُدمت بانتهاء الوقت ، قبل إنهائها نصف الأسئلة !


وهنا تراجعت رؤى للخلف ، بعد ظهور نسختها المراهقة وهي تسند رأسها على الطاولة بقهر .. وصوت معلمتها المفضّلة ، يتردّد صداه داخل الصف:

((للأسف ، خيّبت املي !))


فشعرت رؤى بوخزةٍ قوية في قلبها ، تُشابه ما شعرت به في مراهقتها بعد رؤية علامتها المنخفضة .. رغم تفوّقها بالرياضيات بجميع مراحلها الدراسيّة ! 


وفجأة ! ظهرت خالتها عند باب الصفّ ، وهي تضحك ساخرة .. فصرخت رؤى غاضبة :

- لما فعلتِ ذلك ؟! كنت تعرفين حلمي أن اصبح معلّمة رياضيات .. لما شللّتِ يدي ، وحرمتني من الإجابة ؟!!

فأجابت خالتها بحقد :

- انت بعمر ابني الصغير الذي كان يُرسب دائماً بالرياضيات .. وانت بكل وقاحة أريّتني علاماتك الكاملة على عشرات الإمتحانات .. لهذا لم أتردّد ثانية ، لتحطيم حلمك

رؤى : أعصيّتِ ربك وخسرتِ الجنة ، فقط لتدمير حلم مراهقةٍ بريئة؟!

- انت تحظين بكل المواهب والإمكانيّات التي تمنيّتها لنفسي وأولادي ، لذا توجّب عليّ تدميرك بشتّى الطرق

ثم ضحكت مجدداً ، قبل إغلاقها باب الصفّ خلفها 


فاقتربت رؤى من نسختها المراهقة التي كانت منهارة بالبكاء .. ومسدّت شعرها بحنان :

- لم يكن ذنبك .. انت لست فاشلة ، كما تظنين .. انت درستِ بجهد طوال السنة للحصول على المركز الأول ، كما فعلتِ دائماً.. واستحقّيتِ شهادة التفوّق بكل جدارة ، فلا تعاتبي نفسك .. رجاءً لا ترتكبي الخطأ الذي كرّرته لسنواتٍ طويلة


فرفعت المراهقة وجهها وهي تمسح دمعتها ، قائلةً :

- معك حق ، لن اؤذي قلبي اكثر من ذلك 

وبعدها اختفت المراهقة ..

 

لتجد رؤى الأربعينيّة نفسها ، امام بابٍ آخر .. فتساءلت بقلق :

- تُرى أيّةِ مرحلة من حياتي ، سيكون عليّ مواجهتها بالغرفة التالية ؟

^^^


ليظهر مكتبٌ حكوميّ .. اوراقٌ رسميّة لرؤى تتطاير بالهواء .. شهاداتها بقسم الحقوق تتمزّق لقطعٍٍ صغيرة .. ومقابلاتها الوظيفيّة الثلاثة تُعاد بسرعة امام عينيها ، شريطاً قديماً مُهترئاً.. مدراء مختلفون بوجوهٍ مُستشبرة وهم يستمعون اليها ، اثناء إجابتها على اسئلتهم بثقةٍ وحماس  .. لتراهم بعدها يردّدون الإجابة نفسها :

- نعتذر منك ، فقد اخترنا غيرك

ثم يطبعون على ورقة توظيفها ، العبارة ذاتها :

((مؤهّلة علميّاً وفكريّاً .. لكنها مرفوضة !))


وقبل ان تفهم سبب رفضهم الغير مبرّر ، سمعت صوت خالتها يقول ساخراً :

- كم كنت واثقة من نجاحك ، وانت تلبسين طقمك الرسميّ بحقيبتك المليئة بشهاداتك واوراقك الرسميّة ، قبل تدميري غرورك بوسّوستي لهم برفضك .. فقد استعنت بكبار الجن ، لإشعارهم بالضيق من فكرة قبولك في شركة المحاماة 

فصرخت رؤى غاضبة :

- وهل توظيفي سيضرّك لهذه الدرجة ؟!!

فأجابت بلؤم :

- الأمر لا يتوقف عند التوظيف .. فرغبتي هي تدميرك ، لأنك سرقتي الحياة التي تمنّيتها لنفسي .. وقد نجحت فعلاً بجعلك تتخلّين عن فكرة العمل بشهادة الحقوق التي تفاخرت عائلتك بحصولك عليها


ثم ضحكت مجدداً ، قبل إختفائها كدخانٍ اسود إنتشر داخل المكتب ! 

رؤى : يبدو انني لن اخرج من هذه الغرفة ، قبل إثبات جدارتي بالعمل 


وتوجّهت لخزانة المكتب ، مُخرجةً ملف توظيفها .. ثم حذفت كلمة ((مرفوضة)) لتكتب بدالها :

((مؤهّلة ، وبجدارة))

وما ان فعلت ذلك ، حتى اختفى المكتب .. ليظهر بداله بابٌ جديد !

^^^


فشعرت رؤى بضعف الإرادة ، لمواجهة ما تبقى من ماضيها الكئيب .. ومع ذلك قالت وهي تحاول تشجيع نفسها :

- هيا يا رؤى ، عليك المتابعة .. ليس لأجلك ، بل لأجل الأرواح العالقة في منزل الساحرة اللعينة .. مع ان قلبي يؤلمني مع كل ذكرى سيئة من ماضيّ ، لكن عليّ المتابعة حتى النهاية


وفتحت الباب الجديد ، لتظهر غرفة مليئة بالمرايا !

فبدأت رؤى بعدّها :

- ثلاثة عشر مرآة ! تُرى ما سبب تعدّدها ؟!


وما ان اقتربت رؤى من اول مرآة ، حتى فهمت الحكاية .. حينما رأت نفسها بثوبٍ جميل ، ووجه محمّر خجلاً وهي بعمر التاسعة عشر.. بعد تزينّها لأول مرة ، لمقابلة خطيبها الأول :

- يا الهي ! الآن فهمت .. ثلاثة عشر عريساً تحدثوا معي بحماس ، قبل اختفائهم المُفاجئ ! 


وبخطى متثاقلة ، تنقّلت من مرآةٍ لأخرى .. وهي تحاول حبس دموعها ، وهي ترى نفسها في كل مرة تزيّنت بها ، لمقابلة خطيبٍ جديد ! الحماس نفسه والخجل والآمال العالية .. وإن كان وجهها يكبر في كل مرآة .. وعيونها تذبل مع قلّة حماسها لمقابلة عريسٍ جديد ، كأنها باتت تعرف بأنه غير مُقدّرٌ لها الزواج ! 

ليظهر صوت امها تواسيها ، في كل خيبة امل : 

((كان مُنجذباً لك ، حتى انه تكلّم مع والدك عن تفاصيل العرس .. ولا اعرف سبب إعتذاره الغير مبرّر ! ربما نصيبك لم يأتِ بعد ، فلا تحزني على التأخير يا ابنتي))


وهنا فقدت رؤى اعصابها ، وصرخت بالمرايا الثلاثة عشر التي ظهرت فيها وجوه خطّابها السابقين :

- لمَ رفضتموني ؟! مالذي لم يعجبكم في شخصيّتي ؟!!

لتجدهم جميعاً يشيرون بفزع لشيءٍ خلفها !


وحين التفتتّ ، وجدت مارداً شيطانيّ يقف خلفها كظلٍّ اسود يصل للسقف ! قبل إختفائه مع ضحكات خالتها التي ظهرت بآخر الغرفة وهي تقول : 

- هم لم يروك ، بل رأوا الجني الذي ربطّته خصيصاً لك .. شاهدوه بمناماتهم قبل إتمامهم الخطوبة ، مما أفزعهم وجعلهم ينهون الموضوع سريعاً !

رؤى بغيظ : انت متزوجة ولديك اولاد وأحفاد ايضاً .. لما تحرمينني من متع الحياة ؟ الم يؤنّبك ضميرك على جمالي الذي ذبل مع سنوات الخذلان ؟ فأنت بالنهاية خالتي ، كيف هُنت عليك لهذه الدرجة ؟!

- كما قلت سابقاً .. انت تملكين كل شيءٍ حلمت به ، وأردّت السيطرة على حياتك المُبهرة ..


رؤى مقاطعة بعصبية : قاربت على سن الخمسين دون عملٍ او زوجٍ واولاد ، حتى موهبتي الكتابيّة لم تنفعني حتى الآن .. فعن أيّة حياةٍ تتكلّمين؟!!

- اثناء دراستي السحر ، علمت من نقاشي مع ملك الجن عن مستقبلك الزاهر .. مما أغاظني ، وزادني حقداً عليك

رؤى : الجني الذي أخبرك بذلك ، كاذب !! فأنا فتاةٌ عاديّة بأحلامٍ بسيطة

- لكن القدر رسم لك مستقبلاً يتمنّاه الجميع ! ستعرفين ذلك في حال استطعت الخروج من منزلي ، وأشكّ بقدرتك على ذلك

ثم اختفت من جديد !


ولشدّة غضب رؤى ، صرخت امام المرايا الثلاثة عشر :

- لا يهمّني رفضكم ، فأنا اعرف من اكون !! انا فتاةٌ ، ذات اخلاقٍ ودين .. حنونة ، وأهتم بكل من حولي .. ومن سيكون نصيبي هو المحظوظ !! هل سمعتم جميعاً !! انا استحق الحب والإحترام !!

فتحطّمت جميع المرايا ! 

^^^


لتجد نفسها وقد عادت الى غرفة نومها :

- ماذا ! هل انتهى الكابوس ؟ كيف حصل هذا ؟ فأنا لم أشهد تحرّر المسحورين بعد !


لكن فور رؤية نسختها القديمة وهي منهارة بالبكاء فوق سريرها (الذي شهد كل خيبات املها السابقة) حتى فهمت انها مازالت داخل الحلم !


وقبل إقترابها من نسختها .. دخل والداها الغرفة ، لمواساتها بعد رفض العريس الأخير لها ..

لترى نسختها تصرخ غاضبة :

- لا مزيد من العرسان !! أفهمتهما ؟!! ابنتكما قُدّر لها العنوسة ، لا تكسرا قلبي اكثر من ذلك !! وفي حال سألوا عني ، إخبروهم بموتي قهراً!! 

فخرج والداها حزينان من الغرفة .. بينما تابعت نسختها البكاء فوق وسادتها.. 


فجلست رؤى الأربعينيّة على طرف السرير ، واضعةً يدها على ظهر نسختها وهي تواسيها :

- ما حصل لم يكن ذنبك ، فلا تؤذي قلبك بلوم نفسك.. كان سحراً لعيناً ، وعليك مساعدتي بفكّه


فالتفتتّ نسختها اليها ، بعيونٍ محمرّة من البكاء :

- وكيف أفعل ذلك ؟!

رؤى : 

- عليك اولاً مسح دموعك .. وثانياً : إفتحي حاسوبك ، لبدء تأليف قصصٍ جديدة 

نسختها الثلاثينية : لكني توقفت منذ مدة !

رؤى : ستعودين للكتابة ، فموهبتك هي خلاصك

- وهل نجحتي انت ، طالما تكبرينني بعشر سنوات ؟ رجاءً إخبريني ببيعك قصصك ، وتحويلها لأفلامٍ ناجحة

فتنهّدت رؤى بحزن : 

- سيحدث ذلك قريباً ، اعدك بذلك .. فلكل مجتهدٍ نصيب

^^^


وهنا تسارع الزمن .. لترى نفسها تكبر سريعاً على السرير نفسه ، وجمالها يذبل مع الوقت .. لتزداد سمنةً واكتئاباً !


فتقول رؤى بحزن :

- هذا لم يكن سريري فحسب ، بل الشاهد الوحيد على آلامي .. فلا احد يعرف كم بكيت بصمتٍ عليه .. وانا أراقب حياتي تُهدر دون تطوّرٍ ملحوظ ، كأن الزمن توقف عندي !


ثم خرجت من غرفتها ، لتجد ادراجٍ تصل لقبوٍ مظلم : 

- لكيّ أتحرّر انا وبقيّة المسحورين ، لابد لنوري ان يمرّ بعمق الظلام

^^^


واستجمعت قواها لنزول القبو ، وصوت تعويذات خالتها تزداد وضوحاً :

- اخيراً وصلت لغرفتها .. ومهما سيحصل في الداخل ، لن اسمح لها بإخافتي .. فهي أخذت من حياتي اربعين سنة : طفولتي ومراهقتي وشبابي ، ولن اسمح لها بالمزيد !!


وفتحت باب القبوّ بقوةٍ وثبات .. لتجد دائرة على ارضيّة الغرفة ، مرسوماً عليها النجمة الشيطانية ، المحاطة بالشموع .. وخالتها تجلس في الوسط وهي تتلوّ التعويذات .. مُمسكةً بكتاب الطلاسم السحريّة ، قبل وقوعه من يدها بعد اندهاشها من اقتحام رؤى لمقرّها السرّي !

- مستحيل ! كيف وصلتي الى هنا ؟!

رؤى : وصلت بعد مسامحة نفسي عن خيباتي الماضيّة .. فقط إخبريني لمَ فعلتِ ذلك ؟

خالتها بغيظ : لأنك من عمّال النور .. عرفت ذلك ، فور رؤيتك وانت طفلة .. فنورك كاد يُعمي بصيرتي .. فأنا الفرد الشرير بهذه العائلة ، وولادتك يعني دماري .. لهذا أخفيت نورك وسط ظلامي الدائم 

- أخبروني بأني ذنبك الأول ، فهل هذا صحيح ؟  


الخالة بقهر : انا خسرت الجنة بسببك .. لذا لم يعدّ يهمني إكمال طريقي المشين.. وسأحرص بأن تظلّي عالقة هنا ، لآخر عمرك

- بل سأقاومك ، وسأحارب شرورك .. ليس لأجلي فقط ، بل لجميع الأرواح العالقة هنا .. فتحرّري يعني إطلاق سراحهم من جحيمك اللعين !!

الخالة بصدمة : ماذا ! من أخبرك بهذه المعلومة ؟!

- لم يكن صعباً ملاحظة قيّدهم المرتبط بي.. وطالما انا العقدة الأولى ، فسأفكّها رغماً عنك !!

- لن اسمح بذلك !! فبتحرّرك يضيع تعبي لأربعين سنة ! هل تظنين ان سحرهم كان مجانيّاً ؟ فقد بعت كل املاكي ، لتعلّم السحر وأذيّتهم .. لن اسمح بتحرّرهم ابداً !!


ثم امتدّت يد الساحرة كثعبانٍ طويل ، خنق رقبة رؤى بكل قوة .. ليظهر صوتها الداخلي وهو يُخيّرها بين أمريّن :

- رؤى !! اما ان تستيقظي من منامك ، وتنقذي حياتك .. او تقاومي ، وتحرّري الجميع معك 

فصرخت رؤى بما تبقّى من قوتها : 

- لن اهرب هذه المرة !! فأنا من عمّال النور .. انا من عباد الله الصالحين .. لن اسمح لظلام خالتي ان يطمس نوري وإيماني !!


وإذّ بجناحيّن مضيئيّن يخرجان من جسم رؤى ، ليضغطا بقوة على وجه الساحرة الذي كان يذوب تحت حرارةٍ صادرة من ضوء الجناحيّن ! 

فلم يكن امامها الا إبعاد يدها عن رؤى التي فاجأتها بالقفز عليها ، وخنقها بكل قوتها.. حتى أغميّ على خالتها !

رؤى باشمئزاز : لن اقتلك بيديّ ، وأوسّخ نفسي .. سأدع النيران تطهّر ذنبك


وأخذت إحدى الشمعات ، ورمتها فوق الكتب السحريّة .. ثم أقفلت باب القبوّ خلفها .. وأسرعت بصعود الأدراج

^^^


وما ان وصلت الى المسحورين ، حتى سمع الجميع صرخات الساحرة وهي تنادي اسماء الجن ليساعدوها بفتح باب القبوّ ، قبل إحتراقها مع اعمالها الشيطانيّة


فسألت الصبيّة المشوّهة ، رؤى بدهشة :

- هل فعلاً تمكّنتِ منها ؟!

رؤى بقلق : لا وقت الآن للشرح ، عليكم اللحاق بي !! يجب الخروج من هنا ، قبل احتراقنا مع منزلها اللعين !!

^^^


فنزلوا خلفها على الأدراج ، الى ان وصلوا للباب الرئيسِ للمنزل .. فحاولت رؤى فتحه ، لكنه كان مغلقاً بإحكام .. فنظرت اليهم ، معاتبة: 

- صحيح انكم قُيّدتم بالسلاسل بسببي ، لكني حرّرتكم من اسحاركم.. وعليكم مساعدتي لفتح الباب ، قبل وصول النيران الينا!!


فتعاونوا جميعاً ، بدفع الباب الخشبيّ حتى كسروه .. ليتفاجأوا بمنظرٍ جميل بالخارج .. فالمنزل المحترق كان مبنياً فوق جبلٍ اخضر مليئاً بالزهور !

وبالجبل الملاصق ، ينزل شلال كبير نحو بركةٍ صافية !


واول شيءٍ لاحظته رؤى ان لثغة لسانها إختفت اخيراً ، بعد اربعين سنة من التحدّث بصعوبة .. وبعدها أخبرت بقيّة المسحورين بضرورة التوجّه للبركة .. لكنها لاحظت ان ملابسهم جميعاً ضيّقة (فهي مقاساتهم الصغيرة قبل سنوات) والتي ظهرت وساختها جليّاً مع نور الشمس (دون عتمة المنزل) والملوّثة بالفضلات والدماء القذرة ، او رماد الدخان الذي استُخدم بتلويث آثارهم بأعمالٍ سحريّة!

رؤى : إقفزوا جميعاً في البركة ، لتطهيرٍ نهائيّ من قذارة السحر


وبالفعل سبح الثلاثون مسحوراً بسعادة بعد شعورهم بالنظافة ، والتحرّر من السحر الذي طال انتظاره !

^^^


وبعد خروجهم من البركة ، ظهر سلّمٌ مضيء يصل للسماء !

فاقترحت رؤى صعودهم معاً ، لربما الأدراج توصلهم للجنة

فقال الرجل : لا !! هذا درج النجوميّة ، وهو مقدّرٌ لك فقط .. هيا إصعدي عليه ، ونحن سنشجّعك من هنا


بهذه اللحظة ، فهمت رؤى سبب إصرار خالتها على تجديد سحرها لأربعين سنة ! ويبدو ان الجن أخبروها بأن موهبتها الكتابيّة ستوصلها للعالميّة ، مما أثار غيرتها وحقدها !


فبدأت بصعود الأدراج بثقةٍ وثبات ، مع تصفيق المحرّرين الثلاثين وهم يشعرون بالفخر من شجاعتها النادرة !

***


لتستيقظ بعدها على صوت أمها تُخبرها بوفاة خالتها مُحترقة في منزلها ، وأن عليها التجهّز لحضور الجنازة ! 


وبالوقت الذي ارتعب فيه المعزّون ، فور خروج نارٍ من قبر الساحرة (عقب دفنها) كانت رؤى الوحيدة التي تعرف السبب ، لكنها فضّلت عدم إخبار احد بمنامها الغريب .. 


وعادت الى منزلها لترتيب اوراقها ، للبحث مجدّداً عن عملٍ في مجال موهبتها .. لكن هذه المرة تعلم جيداً أنها لن تنجح فحسب ، بل ستصل للعالميّة بموهبتهما الكتابيّة الجيدة

***


بعد سنوات ، وبقاعة حفل الأوسكار..

صعدت رؤى فوق السجّاد الأحمر ، وصولاً لمنّصة تسليم الجوائز ..وسط تصفيق الممثلين والمخرجين الأجانب ، بعد نجاح اول افلامها الذي تُرجم لأكثر من لغة ! 


فتكلّمت بالميكروفون بابتسامةٍ فخورة ، وهي تُخفي دمعتها وقهر السنين :

- شكراً لكل من آمن بموهبتي ، بالوقت الذي فقدت فيه الثقة بنفسي .. وشكراً لمن أعطاني الدافع ، لإكمال مسيرتي الطويلة والمتعبة .. هذه ليست مجرّد جائزة ، هذه شهادة صمود وبقاءٍ للأقوى .. فشكراً لكم جميعاً ‍!!


واثناء نزولها من المنصّة ، ورغم صوت التصفيق العالي .. الا انها سمعت بوضوح في إذنها ، نبرة صوتٍ مألوفة لروح خالتها وهي تصرخ غاضبة :

- لاااا .. ضاع كل تعبي !! ضاعت دنيايّ وآخرتي سدى !!!!

فقالت رؤى بنفسها :

((شاهدي نجاحي من الجحيم ، أيتها الحقودة الشريرة)) 

لتعلو وجهها إبتسامة النصر والإعتزاز ! 


هناك 8 تعليقات:

  1. هذه من القصص الفخورة بها ، اتمنى ان تعجبكم

    ردحذف
  2. .رؤى تصعد المنصه...اخيرا...القصه مؤلمه تقرض الجلد والروح معا
    لكل من عانى مثل رؤى..قصة معبره حقا..وحقا قلت..
    آمل ان تكون رؤى ارتوت اخيرا بعد الهجير
    احسنت امل ..هذه بعتقد درة التاج وسنام جملك ايتها الاميره 💐

    ردحذف
  3. ما شاء الله، موهبة كتابية رائعة، جمعت فيه بين الألم والأمل، وهكذا حال المؤمن لا استسلام عنده طالما أنه يؤمن برب قادر على كل شيء، فالألم لا يذهب سدى، بل يُصقل صاحبه حتى يرفعه إلى أعلى الدرجات،
    أقول بصراحة لقد عشت أجواء هذه القصة وأثَّرت فيَّ، فلقد أعطيت للألم صوتاً حقيقيًّا وجعلته جسراً عبرته إلى طريق النجاة.
    لا تتوقفي عن الكتابة، فلديك موهبة نادرة، وإبداعك يلمس الأرواح ويحررها، فاستمري، فأنت جديرة بذلك وأكثر.

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً استاذتنا ، الدكتورة اروى على كلامك المشجّع الجميل

      حذف
  4. جميلة جدا خالتو
    ربي يعطيك الرضا كله والتوفيق والسعد والسرور دنيا وآخرة

    ردحذف
    الردود
    1. سلّمك الله يا خالتي ، سأحاول تصحيح الأخطاء الإعرابيّة التي ارسلتها لي

      حذف
    2. اصلحت الأخطاء خالتي .. شكراً لك .. ونفعنا الله بعلمك

      حذف

النجومية الصعبة

تأليف : امل شانوحة  بين الظلام والنور ((هاهو الكابوس اللعين يُعاد من جديد ! ذات المنزل المظلم المُعبّق برائحة البخور الخانقة ! الن تنتهي لعن...