الأحد، 12 فبراير 2023

جزيرة الشوك

تأليف : امل شانوحة 

المعلّم الصبور


كان من المفترض وصول الطائرة العسكريّة بركّابها 20 سجيناً من المراهقين ، بعد نقلهم بأمرٍ إداريّ من سجن الأحداث في مدينتهم الصغيرة الى سجن العاصمة ، بسبب جرائمهم العنيفة التي تجاوزت أعمارهم التي تراوحت بين 13 و19 سنة .. بحراسة 4 من الشرطة الشباب ، وقائدهم جاك الذي سيتقاعد فور انتهاء هذه المهمّة بعد تجاوزه الستين عاماً .. 


وكانت الرحلة ستمرّ على خير ، لولا وجود المشاغب إريك الذي سيبلغ عامه العشرين بعد شهرين .. وبعدها سينقل الى سجن الكبار لإكمال سنواته الخمسة المتبقية من حكمه ، بعد قتله افراد عائلته (والداه واخوه الأكبر) بحرق منزلهم اثناء نومهم .. مع إصراره على عدم البوح بأسباب الجريمة ، التي قام بها بعمر 12 سنة ! ممّا يؤكّد على عقليّته الإجراميّة الخطيرة


ولعدم رغبته بالإنتقال لسجن البالغين ، قام بحيلةٍ أربكت ركّاب الطائرة : بعد طلبه من الشرطي المُراقب الذهاب الى دورة المياه ، اثناء وجود زميله بالداخل .. مدّعياً آلاماً شديدة في مصرانه .. 

فاضّطر الشرطي لنقله تحت تهديد السلاح الى الحمام الثاني القريب من كابينة الطيّار ، ومنعه من إغلاق بابه ! 


ولأن مدخل الحمام بعيداً عن انظار الركّاب والشرطة ، لوجوده خلف غرفة الطعام .. سارع بغرز مسمارٍ صدئ في رقبة الشرطي (كان وجده على أرضيّة الحافلة التي نقلتهم الى الطائرة ، واحتفظ به في ثيابه) .. 

ثم سحب جثته الى داخل الحمام .. بعد سرقة مفاتيحه ، لفكّ سلّسلة قدميه.. 


ليُفاجئ الطيّار باقتحام كابينته ، مُشهراً السلاح في وجهه ! وهو يأمره بالهبوط على اول يابسة يراها ، قبل وصولهم للعاصمة ..


وبسبب إقفال إريك لباب الكابينة من الداخل ، اضّطر الطيّار لالتزام الصمت وعدم الإجابة على سؤال موظّف المراقبة في المطار بعد رؤيته إنحرافاً في مسار الرحلة! 

كما أجبره على إقفال اللاسلّكي تحت تهديد السلاح .. 


ومن بعدها بدأت عمليّة الهبوط فوق جزيرةٍ بالبحر ، رغم إخبار الخاطف بخطورة الموقف : 

الطيّار بقلق : الجزيرة صغيرة ، والطائرة تحتاج مدرّجاً طويلاً للهبوط بسلام.. دعني ابحث عن مكانٍ أفضل 

أريك بحزم : قلت أهبط هنا ، وإلاّ أطلقت النار على رأسك !!


وسرعان ما علا صراخ المساجين والشرطة بعد هبوطٍ حادّ للطائرة ، وبالكاد استطاعوا ربط أحزمتهم بفزعٍ شديد !

***  


كان القائد جاك اول من جرفته الأمواج نحو الشاطىء ، بعد إنخلاع باب الطائرة القريب من مقعده .. جعلته يطير بالهواء ، عقب تمزّق حزام الأمان الخاصّ به !  


وبعد وقوفه على قدميه فوق الجزيرة النائية ، لاحظ اجسام المساجين تطفوا قرب الطائرة التي اندلعت بها النيران .. 

ولأنه بطل السباحة في فترة شبابه ، تمكّن من إنقاذ تسعة مساجين .. من بينهم إريك الذي تسبّب بقتل بقيّة الركّاب !

***


بعد إسترداد المراهقون التسعة أنفاسهم على الجزيرة ، هلّلوا فرحاً بغرق طائرتهم فور شعورهم بالحرّية .. 

بينما كتم جاك حزنه لموت رفاقه ، كما خوفه من البقاء وحده مع المساجين المشاغبين الذين تميّزوا بتمرّدهم على القوانين ! 


وقطع افكاره ، صوت إريك وهو يقول بلؤم : 

- الم تمتّ بعد ، ايها العجوز ؟!

جاك معاتباً : أهذا جزائي لأني أنقذتك من الغرق ؟

إريك : لا فضل لأحدٍ عليّ !! وكنت سأجد طريقة لإنقاذ نفسي .. اساساً انا من اخترت هذه الجزيرة  

جاك بقلق : ماذا تقصد ؟!


فبدأ يتفاخر امام زملائه بما فعله ، فهجم جاك عليه :

- ايها اللعين !! قتلت الطيّار و 11 مراهقاً و4 شرطة.. أيّ 16 شخصاً لديهم عائلات في انتظارهم 

فدفعه إريك بعيداً عنه ، ليسقط العجوز بقوة على ظهره .. ثم اقترب مهدّداً:

- إسمع ايها الخرف ، انت رهينةٌ هنا.. فنحن من سنحكم جزيرتنا ، وسنجعلك عبداً لنا .. من يوافقني على ذلك ؟!!


فرفع خمسة اشرار يدهم ، وهم يبتسمون بخبث .. بينما التزم الباقون الصمت ، لخوفهم من إريك المعروف بتصرّفاته الغير متزنة !

***


كان الوقت عصراً عندما تفرّق المراهقون لاكتشاف الجزيرة الصغيرة ، بعد تقيّد العجوز بأصفاده في شجرة جوز الهند .. 


وظلّوا يسرحون ويمرحون بحرّية ، حتى قاربت الشمس على المغيب .. فناداهم العجوز :

- عليكم إشعال النار ، وإلاّ ستمرضون من برودة المساء !!

فاقترب منه إريك :

- انت الوحيد الذي سيبرد ايها العجوز .. اما نحن ، فيمكننا تحمّل البرد .. 

جاك : صدّقني ، برد المساء لا يحتمل.. وإن كنت تجهل طريقة إشعال النار ، ففكّ وثاقي لأعلّمكم .. فقد كنت قائد الكشّافة بعمركم ، وأعرف طرق النجاة في البرّية 


إريك : لا تحاول إغرائي بمعلوماتك الهرِمة.. انت تريد إشعال النار ، كيّ ترانا المروحيّات التي تبحث عن طائرتهم المفقودة.. لذلك لن نشعل النار لثلاثة ايام ، الى أن يفقدوا الأمل بنجاتنا .. وهذا قراري النهائيّ !! 

- وماذا عن الطعام ؟ ستحتاجون النار لشواء ما تصطادونه من البحر .. ثم هل بحثتم عن مصدر لمياه الشرب ؟ وهل انتهيتم من بناء مكانٍ تنامون فيه ؟ انتم تحتاجون خبرتي للنجاة من هذا المأزق

- إصمت ايها العجوز !! باستطاعتنا تدبّر امورنا دونك 


وتابع المراهقون تضيّع وقتهم باللعب ، بعد تحويل جورابهم لكرةٍ من صوف !

***


بحلول المساء .. نام كل واحدٍ في مكانٍ بعيدٍ عن الآخر ، تاركين جاك مقيّداً بالشجرة .. مما أجبره على الحفر والطمر كالقطط ، لعدم السماح له بقضاء حاجته بالبحر ، كما فعلوا ! 


اما الطعام ، فاكتفوا بتناول جوز الهند الذي أسقطوه بالحجارة من فوق الأشجار .. ولم يسمحوا لجاك بشرب مائه الذي تقاسموه فيما بينهم ، بعد ارتواء إريك اولاً !


فاكتفى العجوز بمراقبتهم من مكانه على ضوء القمر ، وهم يتقلّبون في اماكنهم من شدّة البرد .. حتى إن بعضهم طمر نفسه بالتراب ، أملاً بالدفء .. وآخرون غطّوا انفسهم بأوراق الشجر الكبيرة ، كيّ لا يتجمّدوا اثناء نومهم ! 


حتى إريك تفاجأ من برودة المساء ، رغم حرارة الجزيرة المعتدلة في الصباح ! لكنه رغب بقيادة زملائه دون حاجته لخبرة جاك ، الذي رغم كبر سنه إلاّ انه متعوّد على برودة الطقس من تدريبات الشرطة القاسية 

***


في الصباح .. إستيقظ العجوز على مشاجرة المراهقين مع إريك بعد شعورهم بالبرد والجوع ، حيث صرخ كبيرهم في وجهه :

- من وضعك رئيساً علينا ؟!! فأنا في مثل سنك ، ولن اسمح لك بحرماننا من خبرات العم جاك

إريك باستنكار : الآن اصبح جاك ، عمّك ؟! الم يكن يقتادكم كالخرفان الى سجن العاصمة ؟ ولولا جرأتي ، لما شعرتم بالحرّية في حياتكم !! فلا تدّعي الأدب والأخلاق ايها المنحرف

زميله : على الأقل ، لم أحرق عائلتي اثناء نومهم ايها العاقّ !!


فسحب أريك المسدس من بنطاله ، ووجّهه نحوه : 

- إسمعني جيداً !! طالما استحوذت على سلاح جاك ، فلن أتردّد بقتل أيّ واحدٍ يتجرّأ على مخالفة اوامري

فحاول مراهقٌ آخر تهدئة الوضع : 

- اهدآ رجاءً .. إريك ، نحن نريد فقط..

إريك مقاطعاً بغرور : السيد إريك ، ايها الصغير !!

فتنّهد بضيق ، قائلاً : حسناً كما تشاء .. يا سيد إريك .. نريد من العم جاك أن يعلّمنا بعض الأمور الأساسيّة للنجاة : كإشعال النار ، وطريقة الصيد دون سنّارة .. وكيفية شواء الطعام 


مراهقٌ آخر : ونريده أن يساعدنا بصنع كوخٍ دافئ ، فهو لديه خبرة بهذه الأمور .. فدعنا نستفيد منه يا رجل !

فقال أصغرهم بخوف : لا اريد الشعور بالبرد كالبارحة ، رجاءً 

مراهقٌ آخر : وانا جائعٌ جداً ، وعطشانٌ ايضاً 

المراهق الكبير : نحن الأكثريّة يا إريك ، ولا يمكنك منعنا من فكّ اصفاد العم جاك .. فهيا هات المفاتيح !!


إريك بلؤم : انا من يقررّ ذلك .. هو يريدنا أن نشعل النار يا اغبياء ، ليعثروا علينا ويقتادونا مجدداً الى سجونهم 

- ومالذي سيمنع مروحيّاتهم من إيجادنا في النهار ؟ هل سنختبئ تحت الحشائش والأحجار ؟ 

- دعنا نشعل النيران الآن ، وسنطفئها ليلاً 

- لا طبعاً !! النار مهمّة مساءً ، فالبارحة كدّنا نتجمّد من البرد 

إريك بحزم : اهدأوا جميعاً !! سنحاول اليوم إشعال النار بأنفسنا .. وكذلك الإصطياد من البحر ، وبناء الكوخ دون مساعدة العجوز ..

- وفي حال فشلنا ؟

إريك : إن قاربت الشمس على المغيب دون إيقادنا النار ، سأفكّ قيود اللعين

- أهذا وعد ؟


إريك بعصبية : لا تتكلّم معي كأني صديقك ، فأنا الرئيس هنا !! وعندما اقول كلمة ، أنفّذها في الوقت المناسب .. والآن !! ليقوم الصغار بجمع الأوراق الكبيرة والأغصان لصنع مكانٍ يصلح للنوم ..واريد من الكبار إشعال النار بكل الطرق الممكنة .. اما انتم ، فعليكم اصطياد السمك 

- وهل نصطادهم بأيدينا ؟

إريك : لا تتغابوا .. جدوا حجارةٍ حادّة ، وحوّلوا غصناً طويلاً الى رمح ، واصطادوا به .. أعليّ تعليمكم كل شيء ؟!

- وفي حال صادفنا سمكة قرش ؟

إريك : القرش لا يقترب كثيراً من الشاطئ ، يا غبي

- وماذا ستفعل انت ؟

إريك : سأبحث عن شجرةٍ ضخمة واقعة على الأرض ، وأحفرها لتصبح صالحة للملاحة 

- أتعني قارب ؟


إريك : طبعاً ، وهل ظننت اننا سنبقى هنا طوال حياتنا ؟ (ثم اشار ليابسة تظهر من بعيد).. اظنها المدينة المجاورة .. وقريباً سنتوجه اليها ، لنعيش فيها بعيداً عن مراقبة الشرطة 

- لا تحلم كثيراً .. فالشرطة ستعلم بنجاتنا ، ويلاحقوننا من جديد 

إريك : وكيف سيعرفون ، إن قتلت جاك قبل هروبنا ؟

ثم نظر لجاك الذي كان قلقاً من كلامه ، قائلاً له :

إريك: أتكلّم عنك ايها العجوز !! فقد خصّصت رصاصة لك ، لكني لن استخدمها الآن .. سأبقيك رهينة ، في حال وجدونا خفر السواحل او مروحيّات الشرطة .. والآن يا شباب !! كلاً الى عمله

***  


وكما توقع المراهقون : فقد فشلوا بإيقاد النار ، ولم يصطادوا سمكةً واحدة .. ولم يستفيدوا من الأوراق والأغصان التي جمّعوها ، لعدم وجود حبالٍ يربطونها معاً لتصبح سقفاً لكوخهم !


بينما انشغل إريك بنحت شجرةٍ صغيرة ، وهو ينوي تحويلها لقاربٍ يكفي لهروبه وحده ، دون اكتراثه بموت رفاقه على الجزيرة 

***


قبيل غروب الشمس ، ثاروا مجدداً ضدّ إريك .. وطالبوه بفكّ العجوز قبل موتهم جوعاً وعطشاً .. فاضّطر إريك للرضوخ لطلبهم  


وبعد إطلاق سراح جاك ، سأله بسخرية :

- والآن إخبرنا ايها العجوز ، كيف ستشعل النار قبل دقائق من حلول الظلام ؟

فأخرج جاك ولاّعته التي أخفاها بحذائه ..


إريك غاضباً : ايها اللعين !! لما لم تعطينا اياها ونحن نجاهد لإشعال النار؟!!

جاك : أردّت أن أفهمك بأن قيادة المجموعة تحتاج الى دهاءٍ وحكمة 

- أعطني الولاّعة !!

- بل سأشعل الأغصان بنفسي

فرفع إريك المسدس في وجهه : قلت !! أعطني الولاّعة 


ليفاجئه جاك بحركةٍ سريعة ، تمكّن بها من سحب المسدس من يد إريك بخفةٍ وبراعة ، وسط دهشة الجميع ! 

وبعدها وجّه المسدس ضدّ إريك ، قائلاً :

- لم أصبح قائد الشرطة عبثاً ، فأنا أملك الحزام الأسود بالأساليب الدفاعيّة 

فسأله احدهم : ولما لم تدافع عن نفسك عندما قيّدناك البارحة بالشجرة ؟!

- لأني رغبت بمراقبتكم عن بعد ، لأقيّم شخصيّاتكم .. 

- وما رأيك بنا ؟

جاك : اولادٌ تائهون ، تحتاجون الكثير من الإرشاد والتوجيه 

إريك : وهل تظن إن المكان والزمان مناسبان لتربيتنا ، ايها الخرف؟!!


فعاد جاك لتهديد إريك بالمسدس ، قائلاً بحزم : 

- انا القائد هنا !! ومن اليوم ستنادونني بالأستاذ جاك

- استاذ ام القائد ؟

جاك : بل استاذ لأني سأعلّمكم الكثير من امور الحياة ، وأولها إشعال النار .. هيا بنا 

***


بعد إشعال جاك شعلةً كبيرة من النار .. إستطاع صيد سمكتين بعد سباحتهما داخل أخدودٍ صغير حفره من الشاطىء ، بعد وضعه بداخله مجموعة من الديدان وجدهم بين الحشائش (كطعم للإسماك) .. ثم قام بشوائهما ، بإعطاء قطعٍ متساوية للجميع .. صحيح انها لم تشبعهم ، لكنها خفّفت من ألم جوعهم ..


وبعد العشاء .. أحضر نوعاً غريباً من النبات ، يمكن تحويل اوراقه الى حبالٍ عن طريق تجديلها معاً ، وهي حيلة تعلّمها بالكشّافة .. 


وعلى ضوء النيران ، إنشغل المراهقون بتجديل مجموعة من الأوراق .. ثم تسليمها لجاك الذي ربط بها السِعف الكبيرة (لإحدى النخلات البرّية) ..وتحويلها كسقف لكوخهم الصغير الذي اسنده على اغصانٍ رفيعة


وبعد انتهائه من الكوخ .. تجمّعوا داخله ، محاولين التدفئة بشعلة النار القريبة منهم  

ماعدا إريك الذي نام بعيداً عنهم ، رافضاً الرضوخ لقيادة جاك الذي تركه وشأنه .. 

***


في اليوم التالي .. تفاجأوا باختفاء العجوز ، وظنوا بهروبه بطريقةٍ ما .. وبحثوا عنه في كل مكان ، الى ان عاد اليهم قبيل العصر وهو يقول :

- الم تخبرونني انكم استكشفتم الجزيرة دون عثوركم على مياهٍ عذبة ؟

- نعم !

جاك معاتباً : وكيف لم تلاحظوا الكهف الصغير في الجهة الخلفيّة للجبل ؟ ففيه ينبوعٍ عذب .. 

- أحقاً ! نكاد نموت عطشاً 

جاك : اذاً دعونا ننتقل للجهة الأخرى من الجزيرة ، ففيها ماءٌ وفير وتوتٌ برّي لذيذ


إريك : إذهبوا انتم !! فأنا اريد البقاء وحدي بهذه الجهة من الجزيرة 

زميله ساخراً : تتكلّم وكأنك ملكت الجزيرة ؟ 

- هو لا يريد الذهاب معنا ، لانشغاله بحفر قاربه  

جاك : إريك .. يمكنك القدوم الى هنا كل صباح لمتابعة الحفر ، لكن تعال معنا للجهة المريحة من الجزيرة

إريك بعصبية : لا اريد التواجد معكم ، الا تفهمون ؟!!

جاك : حسناً ، كما تشاء 

أصغرهم : وماذا عن كوخنا الذي تعبنا في بنائه ؟

جاك : سننام داخل الكهف ، فهو دافئ ويسعنا جميعاً


وذهبوا جميعاً خلف استاذهم .. ماعدا إريك الذي بقيّ قرب شعلة النار الذي اضاءها له جاك بولاّعته ، قبل اخذه الشباب للجهة الأخرى من الجزيرة

***


في الصباح .. شعر إريك بالدفء اخيراً بعد إشعال جاك ناره مجدداً ، التي انطفأت آخر الليل اثناء نومه .. مما أيقظ إريك مرتعباً :

- أخفتني يا رجل !

جاك : لما انت عنيدٌ هكذا ؟ تعال معنا الى الكهف الدافىء.. وسأطلب من رفاقك جرّ شجرتك المحفورة للشاطىء المقابل 

إريك : لا !! فاليابسة التي انوي الرحيل اليها ، قريبة من هذه الجهة.. ثم هذا قاربي وحدي ، ولا اريد مساعدة احد

- حسناً .. طالما لا تعرف طريق كهفنا ، فقد احضرت لك ماءً عذباً وضعته داخل أجواز الهند الفارغة .. وإن كنت جائعاً ، سنشوي السمك بعد قليل .. حاول تسلّق التلّ للوصول الى شاطئنا ، ومشاركتنا الطعام 

فظل إريك صامتاً..

جاك : كما تشاء ، يبدو انك تعشق الوحدة ! 

***


وفي المساء ، شعر إريك بجوعٍ شديد .. فأخذ شعلة النار ، وتتبّع رائحة الشواء القادمة من خلف الجبل .. الى ان وصل لشاطئهم ، ليراهم من بعيد مجتمعين حول شعلة النار ..


لكنه لم يقترب منهم ، بل اخذ يتنصّت على تجارب جاك في سجن الأحداث التي استمع اليها المراهقين باهتمام ، وهم يأكلون السمك المشويّ .. حيث سأله احدهم : 

- كنا نظن إن إريك هو اسوء سجينٍ مرّ عليك ؟! 

جاك : لا .. كان آدم هو الأسوء على الإطلاق ، بعد قتله ثلاثين طفلاً في مدرسته الإبتدائية

- الإبتدائية ! كم كان عمره ؟ 

جاك : 12 سنة ، وكان راسباً مرتين .. وكانت سنته الأخيرة قبل طرده ، لتجاوز عمره الصفّ الرابع .. ليفاجئ الجميع بسرقته سلاح والده وقتله معلّمتين ، وبقيّة رفاقه ! كان يوماً حزيناً على الدولة بأكملها 

- وماذا حصل له ؟

جاك : شنق نفسه بالملاءة ، داخل سجنه الإنفراديّ بعمر 15 .. كان مضّطرباً نفسيّاً ، وطالبت كثيراً لعلاجه بمستشفى الأعصاب .. لكن رئيسي ظنّ أن السجن كفيل بتقويمه ، إلى أن أنهى حياته بالإنتحار ! .. (ثم تنهّد بضيق) .. والآن اريدكم ان تخبرونني بجرائمكم ؟ 

- الا تعرفها ؟!


جاك : سجننا يضمّ اكثر من 300 سجين ، أكيد لن أحفظ جميع القضايا .. كل ما اعرفه إنه صدر قراراً بنقل اسوء 20 سجيناً لسجن العاصمة .. لذلك لديّ الفضول لمعرفة جرائمكم .. وسأبدأ بأصغركم .. ماذا فعلت ليحكموا عليك طوال سنوات مراهقتك ؟

المراهق الصغير : اسمي جيم ، وعمري 13 .. وانا مسجون منذ سنتين .. كلّه بسبب زوج امي الذي خنق قطتي بعد إيقاظه من النوم .. كنت أترّجاه أن يتركها .. لكنه كسر رقبتها امامي ، وأنا بعمر 9 سنوات .. وهذا جعلني أفكّر لياليٍّ طويلة بقتله .. الى ان حققت حلمي بسن 11 ، وضربته بعصا البسيبول على رأسه اثناء سكره حتى قتلته.. ماذا عنك يا صديقي ؟

- انا جون ، وعمري 14 .. شعرت بالغيرة بعد رؤية صديقتي المفضّلة برفقة الطالب الذي اكرهه .. والذي قهرني ، انها تعلم بخصامي معه !.. لهذا رميت حجارةً على درّاجته ، أدّت لسقوطه اسفل عجلات سيارةٍ مسرعة ، ويموت دهساً .. والأسوء ان حبيبتي شهدت ضدّي ، وبسببها عُوقبت ب7 سنوات في سجن الأحداث

 

وصار كل ولدٍ (من الثمانية) يُخبر جريمته التي حصلت بسبب إهمال الأهل وقساوتهم ، او غدر الأصدقاء او صدمةً عاطفيّة .. 


وتعاطف جاك معهم بعد شعورهم بغلطهم ، ورغبتهم بعودة الزمن لتصحيح اخطائهم .. قائلاً لهم : 

- يكفي أن ضمائركم تؤنّبكم ، فهذه اول خطوة لتصحيح مسار حياتكم


فصرخ إريك من فوق التلّ : اما انا فلا لا اشعر بالندم لقتل عائلتي اللعينة!! 

والتفتوا جميعاً نحوه باستغراب .. فناداه جاك :

- تعال يا إريك !! مازالت لدينا سمكةً مشويّة 

- إصطدنا الكثير من الأسماك اليوم 

إريك : أتيت لآخذ حصتي ، والعودة الى كوخي 

جاك : هي لك .. وخذّ ايضاً معك الماء العذب 


فأخذ إريك السمكة والماء وجذوة النار ، قائلاً :

- سأخذ هذه معي ، لربما انطفأت الشعلة التي تركتها هناك

جاك : خذّ كل ما تحتاجه ، وتأكّد بإشعالك حطبةً كبيرة تكفيك طوال الليل


وقبل ذهاب إريك ، سأله جاك :

- مالذي فعلته عائلتك لتحرقهم بحقدٍ شديد ؟ 

إريك : هم ليسوا عائلتي الحقيقة

جاك باستغراب : أأنت طفلٌ بالتبنّي ؟! 

إريك : بل والدي الذي ربّاني ، هو من قتل عائلتي الحقيقية .. سمعت إعترافه اثناء سكره مع صديقه .. فبعد اختلافه مع شريكه بالعمل ، إقتحم منزلي الحقيقيّ وقتل إخوتي الثلاثة ووالدايّ .. وقبل خروجه من المنزل ، وجدني العب بالحديقة .. وكنت في الرابعة ، فأخذني الى زوجته .. مُقترحاً ان اصبح لعبة لإبنه المنحرف الذي اعتدى عليّ طوال طفولتي .. وفور اكتشافي السرّ ، أحرقتهم جميعاً اثناء نومهم .. ولأني لا ارغب بتكرار مأساتي بسجن البالغين ، أوقعت الطائرة .. لهذا  اعمل بجهد لإنهاء سفينتي ، للهرب الى حياةٍ اكثر حرّية ، وبهويّةٍ جديدة 


جاك : لما لم تخبر القضاء بذلك ؟! لكانوا خفّفوا عليك الحكم 

إريك : لا أحب أن ابدو ضعيفاً امام احد .. وايضاً لأنني لا اشعر بالندم لقتلهم.. كل ما اريده الآن ، هو الخروج سالماً من هنا 

جاك : أتمنى أن يوصلك قاربك الى مدينةٍ تعيش فيها حياةً لائقة .. تصبح على خير

ثم شاهدوا إريك وهو يرحل بصمت ..

أصغرهم : لما لم تجبره على البقاء معنا في الكهف الدافئ ؟

جاك : هو يريد أن يثبت رجولته ، فدعوه وشأنه 

*** 


بمرور الأيام ، تغيّرت طباع المراهقين برفقة العم جاك الذي لم يبخل عليهم بنصائحه التي قوّمت الكثير من طباعهم السيئة الناتجة عن إهمال الأهل والمجتمع .. بينما تابع إريك بناء سفينته على الجهة الأخرى من الجزيرة ..


وفي أحد الأيام .. شاهدوا سفينة تقترب من جهتهم من الشاطىء ، فأسرع صغيرهم لخلف الجبل لمناداة إريك .. ليتفاجأ به يجذف مبتعداً عن الجزيرة ، بعد إنهاء قاربه دون توديعهم ! 


فظلّ الصغير يناديه ، لإخباره بوجود سفينةٍ بالجهة الأخرى .. لكن الأمواج باعدت بينهما .. فعاد حزيناً للعم جاك الذي قال :

- هو الآن في طريقه الى القدر المكتوب له ، لا نستطيع فعل شيءٍ لإنقاذه .. دعونا نلوّح بالأوراق المشتعلة ، للفت انظار ربّان السفينة الينا 


وظلّوا يصرخون ويصفّرون ، الى أن وصلت السفينة اليهم ..ليتمّ نقلهم الى العاصمة التي كانوا سيقتادون اليها منذ البداية .. 

***


لم يستطعّ المراهقون الهرب من خفر السواحل الذين انتظروهم عند شاطىء العاصمة ، بعد إبلاغ كابتن السفينة عن إنقاذه لمفقودين على جزيرةٍ نائية ..

وبالطبع لم يتمكّن جاك (الشرطي الصالح) من إخفاء هويّاتهم ، ليتمّ إقتيادهم الى سجن الأحداث بالعاصمة..

***


لاحقاً ، شهد جاك بحسن سلوكهم الذي تغيّر بعد شهرين على الجزيرة .. ليتمّ تقيّمهم من جديد من قبل لجنةٍ مختصّة بإصلاح الأحداث .. وأدّى تقريرهم الإيجابيّ الى تقليل سنوات عقوبتهم للنصف .. 

وبدورهم ، شكروا العم جاك الذي كان بمثابة معلّمٍ ومرشدٍ لهم ، راعاهم بحنانه وصبره عليهم اثناء تعليمهم أسسّ الحياة ..وشكروه ايضاً على قصصه المفيدة التي شاركها معهم كل ليلة .. 

***


اما إريك ، فلم يجدوا أثره على مدى اسابيع في الدولة المجاورة .. فعُدّ ميتاً ، وأغلق ملفّه للأبد ..دون علمهم بأنه وصل الى الشاطئ شبه ميت ، لتنقذه عصابةٌ مختصّة بتهريب المخدرات من الميناء.. 

وبعد إخبارهم بهويّته وبطولاته للهرب من طائرة الشرطة ، مُدّعياً قتله رفاقه والشرطة وبقائه وحيداً على الجزيرة ، إعتبروه بطلاً ووظفّوه معهم  


وبمرور الأيام ، نجح إريك بالمهام الموكّلة اليه ! ليصبح خلال سنوات اليد اليمنى لرئيسهم .. وفرح بالمال الوفير الذي حصل عليه من نقله المخدرات بين المناطق ، وقتله لكل من يخالف اوامره .. ليصبح عدوّ الشرطة الأول بعد تغيّر هويّته .. 


اما جاك المتقاعد فكان الوحيد الذي عرفه (من صوره الملتقطة ، من المخبرين السرّين) والذي تنهّد بحزن :

- لا يمكننا إصلاح الجميع ، فهناك من ولدوا ببذرةٍ شيطانيّة .. حمى الله مدينتنا من شروره وعقليّته المنحرفة !


هناك 7 تعليقات:

  1. هي الفكره مبتكره لو تحولت السجون والاصلاحيات والمياتم لهذا النظام المفتوح ولو جزيره اصطناعيه لكان افضل

    ردحذف
    الردود
    1. الراعية الاجتماعية نظام متحضر لا يميز بين المواطنين لكل مواطن حقوق حتي لو كنت سفاح او قاتل متسلسل . اذا نشرت تغردتك هاذة في توتر او اي وسايط اخري اجنبية حيتم ادنتك بالتميز ضد اصحاب الحالات الخاصة قال جزيرة خاصة قال انه نوع انواع الهروب من رعاية الفاقد التربوي . لماذا لانحقد علي الجيل الاناني الذي تمتع لكل شي ولم يبني لنا شي

      حذف
  2. نحن نحلم فقط يا رفيق ..في تلك الاكوان والعوالم الخياليه يكون الكلب محظوظا بل يلقى رعايه لا يتلقاها البشر عندنا

    ردحذف
  3. قصه واقعيه لرما يتعود /عندما سجن الذي دعس ابني بقي اسبوع وخرج وايضا لم يتعلم الاخرين قيادة السيارات بشكل غير قانوني ابدعتي استاذه امل

    ردحذف
  4. تحيه لك استاذه امل
    حمد الله على كل حال
    عن ابني هو عندو موت خلايا الدماغ حسب الصور
    ولكن الأمل بالله لا يتحرك او يجلس نحن من نطعمه
    وبه بربيج بالمعده وأيضا بربيج بدماغ
    يتألم كثيرا من حوضه ويأتي له شاحنات يكن عدم سيطره ويطلع بعض الأصوات مع العلاج الطبيعي والسحب
    وحمد الله على كل حال

    ردحذف
    الردود
    1. احياناً المدونة تنشر التعليقات دون ان اقرأها .. الآن رأيت تعليقك .. شافاه الله وعافاه .. اكثروا الدعاء له بالصحة في رمضان القادم ، كان الله في عونه وعونكم

      حذف

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...