السبت، 7 يناير 2023

سكّان البحر

تأليف : امل شانوحة 

 

جزيرة المفقودين


إجتمع الناس للأحتفال السنويّ على جزيرة وسط البحر ، من مختلف الأعمار والأجناس .. 

وبعد تنظيف شاطئهم من الأسحار البحريّة التي تقذفها الأمواج اليهم كل عام ، تبادلوا اطراف الحديث امام شعلة النار المتوهجة التي رآها صيّادٌ تائهٌ في البحر .. فأخذ يُجذف بحماس باتجاه الجزيرة التي لم يرها في النهار !


فلمحه احد الشباب على الشاطىء ، وصرخ مناديّاً :

- يا رجال !! هناك قاربٌ يتجه نحونا 

فأسرع الجميع لمراقبة الزائر الغامض !

فقال العجوز (بزيّ قبطان) بعد رؤيته القارب من منظاره القديم :

- لا يوجد عليه سوى رجلٍ خمسينيّ ! أعتقد انه صيّاد سمك أضاع طريق العودة ، وأوصلته الأمواج الينا 


فسألته امرأة (تلبس فستاناً منتفخاً) بقلق :

- هل علينا تغيّر ملابسنا ؟ لا نريد إثارة ريبته بأزيائنا الغريبة

فردّ عجوز بعينٍ مفقودة ورجلٍ خشبيّة :

- سنخبره اننا نحتفل بعيد الهالوين على طريقتنا.. فقط إبعدوا الأطفال عن ضيفنا ، لا نريدهم إخباره عن ميزة جزيرتنا  


فأسرعت النساء بإخفائهم داخل اكواخٍ بعيدة عن الشاطىء.. بينما انتظر الرجال وصول قارب الصيّاد الى جزيرتهم .. والذي ما ان رآهم مجتمعين  ، حتى حمد ربه على نجاته من العاصفة قبل ايام .. ووقع مُنهكاً فور وطء قدميه الشاطىء ..

فطلب القبطان من الشباب نقله لمكان الإحتفال وسط الجزيرة

***  


إستفاق الصيّاد بعد ساعة على رائحة الطعام .. فهجم نحوها وهو يأكل بكلتا يديه ، رغم سخونة السمك المشويّ !  

كما أخذ يتجرّع قوارير الخمر المُعتّقة .. والجميع يراقبه بصمت .. 


وبعد أن شبع وارتوى ، قال لهم معتذراً :

- آسف على عدم لباقتي ، فأن لم آكل شيئاً منذ يومين 

إمرأة بحنان : لا بأس عليك

الصيّاد : رجاءً شاركوني الطعام 

مراهق : نحن نحب رائحة الشواء ، فهي تذكّرنا باحتفالاتنا الجميلة

القبطان مقاطعاً : هو يقصد .. اننا تناولنا طعامنا قبل مجيئك

الصيّاد : لكن هناك عشرات الأسماك المشويّة ، فلمن هي ؟!

سيدة : كلّها جميعاً إن اردّت .. فبالعادة نرمي الفائض من طعامنا في البحر

الصيّاد : حرامٌ أن يرمى هذا الأكل اللذيذ  


وعاد لتناول بعضها ، دون اقتراب احد لمشاركته الطعام ! مما أثار ريبته ، فسألهم :

- مرّت ساعة على احتفالي معكم ، ولم ارى احدكم يشرب قطرة ماء او الخمر الفاخر ، فهل تشمئزون مني ؟

فقال العجوز ذوّ القدم الخشبيّة ، بعصبية :

- يكفي هذا القدر من الضيافة !! إربطوه لنخبره الحقيقة


وفجأة ! هجم الشباب عليه ، لتقيّد يديه وقديمه بالحبال السميكة .. والصيّاد منصدماً من فعلهم الغير لائق ! فصرخ معترضاً :

- أهكذا تكرمون الضيف ؟!!


فاقترب العجوز المشوّه ، مُشهراً سيفه بوجه الصيّاد :

- أتدري من نكون ؟

الصيّاد : لا

- نحن سكّان البحر

- لم أفهم !

العجوز : أتعلم إن جثث البحر أضعاف المدفونين بالتراب حول العالم ؟

- ماذا تقصد ؟!

العجوز صارخاً : هيا إظهروا جميعاً !!


فخرج آلاف البشر من اكواخهم الخشبيّة : منهم مراهقات فاتنات واطفال صغار ، ونساء تحمل رضّعاً .. ومراهقون ورجال وعجائز ، كل واحدٍ يلبس ثياباً تعود لحقبةٍ زمنية مغايرة : منها العصور القديمة ، وبعضها بالزمن الحديث


الصيّاد بخوف : من انتم ؟! 

العجوز : سأعرّفك بنفسي اولاً .. انا القرصان ادوارد ، أشهر قراصنة العصر القديم .. كنت وحش البحر .. وكان التجّار والجيوش تهابني كلما مرّت سفنهم من مضيق البحر الذي سيّطرت عليه مع ربابنة سفينتي العملاقة ..قبل رميّ جنودهم الأسهم الناريّة عليها ، ويحرقونها بالكامل ! لهذا تراني مشوّه الوجه ، بالإضافة لفقدان اجزاء من جسدي بمعارك قديمة

الصيّاد برعب : تتكلّم عن حادثة حصلت في القرن الماضي ؟!

- بل الف سنة

- لا يعقل أن تعيش طوال هذه المدة !

القرصان بهدوء : ومن قال انني حيّ .. فجميعنا موتى 

الصيّاد بصدمة : ماذا !

- نحن جثث البحر ، نجتمع في هذه الجزيرة المخفيّة داخل مثلث برمودا ..

الصيّاد مقاطعاً : وهل العاصفة سحبت سفينتي لجزيرة الشيطان ؟!


القرصان : نحن لا ننكر بوجود الجن والشياطين في هذه المنطقة بالذات ، لكن هذه الجزيرة تخصّنا وحدنا : الأشباح البشريّة .. ونحن مُقسّمين لعدّة انواع : فمنّا القراصنة القدامى ، مع جثث أسرانا الذين رميناهم بالبحر مُقيّدين بالسلال او داخل أقفاصٍ حديدية .. وهناك ايضاً قتلة المعارك البحريّة الحديثة والقديمة.. والجنود الذين رُميت جثثهم بالبحر ، كنوعٍ من الدفن اللائق ! وإعدامات ملوك العصور الوسطى بإغراق قادة أعدائهم .. كما موت منافسين الملك ، بخرق سفنهم بالغدر والمكيدة .. ولا ننسى من غرق بعصر النبي نوح .. وكذلك فرعون وجنوده ، وغيرهم من الأقوام الذين أُبيدوا لمخالفتهم الأنبياء .. بالإضافة لركّاب السفن الغارقة السياحيّة او الخاصة بالبضائع .. وجثث القرابين من الفتيات الجميلات اللآتي أُغرقن عمداً ، إرضاءً للآلهة ! وجثث الأطفال من علاقاتٍ غير شرعيّة.. ..والصيادون وتجّار النقل البحريّ .. وضحايا السيول والفيضانات والأعاصير البحريّة والزوابع وتسونامي والمدّ والجزر ..وضحايا اسماك القرش.. وموتى الأنهر والصرف الصحيّ الذين سحب التيّار جثثهم للبحر.. ولا تنسى طقوس بعض الهنود مع جثث موتاهم .. عدا عن الموتى الذين وصّوا أقاربهم بنثر رمادهم بالبحر.. وجثث الإنتحار من فوق الجسور البحريّة .. اما في عصركم : فهناك الغارقين من المهاجرين الغير شرعيين.. وركّاب الطائرات التي غرقت في البحر .. بالإضافة لغرق كل وسائل النقل التي خاطرت بتجاوز مثلث برمودا.. عدا عن الجثث المقطّعة التي يُرمى بها في البحر لإخفاء جرائم القتل والإعتداء الجسدي.. والغواصون الذين غرقوا بعد انتهاء اكسجينهم..وعلماء البحر الذين خاطروا بأنفسهم لدراسة اعماق البحار .. كما مستكشفيّ الكهوف البحريّة الذين علقوا داخلها ..عدا عن موتى وقتلى الجن والشياطين.. بالإضافة لبقايا الأسحار البحريّة التي تلوّث شاطئنا كل عام .. جميعنا نجتمع هنا مرة في السنة لتذكّر حياتنا ..خصوصاً الحادثة التي أخرجت أجسادنا من الدنيا ، وحبست ارواحنا في أعماق البحار .. 


وطوال حديثه ، ظلّ الصيّاد صامتاً وهو يرتجف رعباً بعد تحوّل كل نوع من الموتى (فور تحدّث القرصان عنهم) الى هياكل عظميّة ، وهم ينظرون اليه بحنق !

 

وكان آخرهم القرصان الذي تحوّل ايضاً لهيكلٍ عظمّي دون ذراعٍ او قدم وهو يقول : 

- هذه هي هيئتنا الحاليّة ، لكننا نحب الإلتقاء على الجزيرة بأشكالنا قبل الموت .. ويوماً ما سنجتمع مع موتى اليابسة في الآخرة ، للمحاسبة عن اخطائنا السابقة .. (ثم تنهد بارتياح).. هذه حكايتنا باختصار ، فهل تريد إخبارنا بما تفكّر به الآن ؟ 

فقال الصيّاد باكياً :

- رجاءً لا تقتلونني !


فاقترب منه القرصان بعظامه التي نمى عليها الطحالب البحريّة :

- يا عزيزي .. طالما ترانا ، فأنت ميتٌ مثلنا.. وروحك انضمّت لاحتفالنا السنويّ .. حيث اعتدنا على جلب الخمور من سفننا الغارقة التي شربتها انت وأكلت طعامنا ، بعكسنا ..لأن جسدك لم يتحلّل بعد .. وفي العام القادم سترى عظامك لأول مرة .. سيرعبك الأمر ، لكنك ستتعوّد مع مرور القرون .. أمّا الشيء الذي سيصدمك فعلاً ، فهو إحتفال ابليس وجنوده معنا قبيل الفجر .. فأهلاً بك بين ضحايا البحر !! 


وضحك الجميع بسعادة ، وهم يرقصون على الحان الموسيقى القديمة .. والصيّاد منهارٌ بالبكاء بعد تذكّره انقلاب قاربه بالعاصفة ، والتقاط انفاسه الأخيرة قبل غرقه في الأعماق المظلمة !


هناك 6 تعليقات:

  1. ينبغي الآن أن نغير الاسم من مدونة الكاتبه امل شانوحه الى مقبرة المغفور لهم باذن الله وكشك صغير لطيف ظريف كده في الركن لبيع الاكفان والحنوط ولوازم الغسل
    بعض قصصك تتفرد بأن جميع أبطالها موتى
    البقاء لله وانتم اللاحقون وانا انشاء الله بقراءة قصصكم لمقبورون ومفجوعون
    اخبرينا فقط بموعد ومكان العزاء كي نقدم واجب النحيب والعويل والصهيل وكل هاته
    الافعال البدعيه والسوداويه

    ردحذف
    الردود
    1. القصة كتبتها بعد قراءتي عنوان بجوجل : ((جثث البحر اضعاف جثث اليابسة)) .. ففكّرت بأنواع الموتى الذين غرقوا في البحر ، لينتج عنها هذه القصة التشاؤمية .. تحياتي لك

      حذف
  2. اجواء الموتى مرعبة و مميزة، حكاياتهم لها طابع خاص و انتي كتبتي القصة بشكل جميل و ممتع. 🖤🌌

    ردحذف
    الردود
    1. أعجبني تعليقك ، شكراً لك

      حذف
  3. لافيكيا سنيورا

    يا عزيزي، طالما ترانا، فأنت ميت مثلنا.

    الصراحه القصه رائعه ، جعلتني افكر ياترى كم عدد اللي ماتو في البحار والمحيطات والانهار وابتلعتهم الكائنات البحريه ! اتسائل هل يشكلون ربع الميتين في المقابر حول العالم! اذا كان كذالك فالأمر مروّع.
    ولكن هل يعقل ان يكون عددهم نصف اللي مدفونين بالمقابر حول العالم!
    اما جثث البحر اضعاف جثث اليابسه فهذا المستحيل بذاته.

    ياترى هل توجد دراسات او كتب او مقالات تتحدث عن هذا الامر!

    يا عزيزتي طالما ترينا ونحن نراك وتردين علينا اذا فنحن اموات وارواحنا عالقه في مدونتك.ولكن يا ترى كم عددنا!! !!!!

    اتمنا ان تكتبي قصص ذات افكار مميزه مثل هذه القصه غير القصص السائده والمتعارف عليها

    لافيكيا سنيورا

    ردحذف
    الردود
    1. سعيدة ان القصة أعجبتك .. سأحاول قدر المستطاع ايجاد افكار غير تقليدية ..لافيكيا سنيورا ، ابن اليمن

      حذف

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...