الخميس، 26 يناير 2023

العمارة الطَبقيّة

تأليف : امل شانوحة 

الجزيرة المأهولة


سمعت جنيفر صوت طائرة درون الصغيرة خارج نافذة غرفتها ، التي تُستخدم في توصيل طعامها الذي طلبته من جزيرة المطاعم الفاخرة ، القريبة من بلدتهم المسمّاة بجزيرة المروج لاحتوائها على سهولٍ واسعة تمّ تحويلها لمزارع ومراعي ، بعكس الجزر الأخرى ذات التضاريس الصعبة! 


وبعد تناول طعامها ، وصلها إتصال من خطيبها الذي يسكن في الطوابق العليا لعمارتها ، ليُخبرها بفسخ خطوبته لها ! 

مما أزعجها ، لدرجة رميها الجوال من نافذتها المفتوحة .. ويبدو أن إشعاعات جوالها أضرّت بنظام الحماية الإلكتروني المحيط بالعمارة ، الذي يحجب الأصوات من الخارج ! 


فاقتربت من نافذتها وهي منصدمة لسماعها للمرة الأولى أصوات الناس في الشارع الذين يعيشون في اكواخٍ محيطة بعمارتهم (ذات الثلاثين طابقاً) ..وهو المبنى الوحيد في جزيرة المروج !


لكن التعتيم الإلكتروني الموجود اسفل العمارة مازال يمنعها من رؤيتهم جيداً ، فهم يبدون كملابس متحرّكة بوجوهٍ قاتمة ! 

فهل صحيح ما سمعته : بأنهم غير بشريين ! لهذا يمنع سكّان عمارتها العجائز (من كبار الأثرياء) شبابهم ونسائهم الخروج من المبنى الذي يتوفّر به كل ما يحتاجونه ؟!


ورغم إن تلك الإشاعة المخيفة ردّدها الأهالي والمعلّمين (في صفوف التعليم داخل العمارة) على مدار سنوات ، إلاّ أن جنيفر لم تقتنع بها يوماً ! فهي خرّيجة صحافة بعد حصولها على شهادتها من الإنترنت ، من مثقفي الجزيرة المجاورة التي يسكنها الأساتذة القدامى للمعاهد والجامعات الذين تجمّعوا هناك.. 

بعكس الإقطاعيين الذين بنوا عمارتها ، للسيطرة على المزراعين من خلال رواتبهم الزهيدة !


وهنا خطرت ببالها فكرةً مجنونة ، وهي النزول للشارع عن طريق سلالم الحريق الغير مستخدمة طوال عشرين سنة من عيشها في المبنى الكئيب ..

ولحسن حظها إن عاملة النظافة نست إقفال الباب التابع لطابقها .. فتمكّنت النزول ، حتى وصلت للطابق الأول .. لتجد أن السلالم غير موصولة بالأرض ، منعاً من تسلّق الفقراء اليهم .. 


فخرجت من إحدى النوافذ وهي تحاول النزول بحذر ، مُستعينةً بالقضبان الحديديّة المحيطة بالمبنى من كل جانب .. 


ليلاحظها ولدٌ في الشارع ، أشار اليها بحماس .. لتعلو صرخات الناس وهم يطالبونها بالعودة للداخل قبل إيذاء نفسها .. مما أربكها وجعلها تسقط بقوة على الأرض ، أفقدتها الوعيّ !

***  


إستيقظت بعد قليل في عيادة المُجبّر الشاب (جيمس) الذي رأت وجهه لأول مرة .. وأخبرته عن نظام التعتيم الذي منع سكّان عمارتها من رؤية الفقراء بوضوح لسنواتٍ طويلة ! عدا عن نظام التعليم الذي أرعبهم منذ الصغر : بأنهم أشباح تسكن الجزيرة !


فأجابها جيمس بقهر : كبار الأثرياء لا يريدونكم أن تشفقوا علينا ، فهم تعمّدوا الفصل العنصري بين افراد الشعب 

جنيفر بغيظ : كل هذا بسبب الحرب العالمية الثالثة ، والقنابل النوويّة التي رمتها الدول العظمى بحكّامها الحمقى ، الذين حوّلوا دول العالم الى جزرٍ عائمة في المحيطات !

- ولهذا حُشرت جميع الطبقات الإجتماعيّة في اماكن محدودة .. (ثم تنهّد بضيق) ..لنحمد الربّ أنهم سمحوا للفقراء ممّن نجى من التسونامي الكبير ببناء اكواخهم المتهالكة حول عمارتكم الوحيدة التي استحوذ فيها الأثرياء على طوابقها العليا ، بينما سكن المثقفون والتجّار طوابقها السفلى ! ..ولا أدري كم ستدوم العنصريّة بين الناس .. وما فائدة جمع الأثرياء لأموالهم ، طالما تغرق الجزر كل عام ؟!

- أحقاً ما تقوله !


جيمس : نعم ، الم تسمعي بغرق الجزيرة العسكريّة قبل سنتين ؟

- لا ! فالأخبار محصورة برجال عمارتنا الذين تجاوزوا سن الستين .. فهل ستغرق جزيرتنا ايضاً ؟

- إن حصل ذلك ، فستحصل مجاعة كبيرة .. فنحن من نمدّ بقيّة الجزر بالمزروعات واللحوم ، عدا عن الأسماك التي سمح لنا الأثرياء بتناولها .. فبقيّة المنتجات مخصّصة لاستهلاك سكّان عمارتكم ، او لتصديرها لتجّار الجزر الأخرى !

جنيفر : كنت أشعر دائماً أنهم ظلموا ابناء جيلي بسجنا في العمارة ، ولم اكن اعلم انكم تعانون  اكثر منا !  

- عمارتكم بها كل شيء .. مول صغير ومدارس ونادي رياضي وملاهي ترفيهية على السطح ..ويمكنكم السفر للجزر المجاورة متى شئتم

- لا تصدّق كل ما تسمعه ..فنحن كالعصافير داخل قفص .. صحيح انه ذهبيّ ، لكنه يبقى قيداً لحرّيتنا .. ثم المروحيات والسفن الفخمة تخصّ كبار الأثرياء ، اما نحن فممنوع علينا الخروج من غرفنا ..


جيمس : وكيف تقضون وقتكم ؟

-على الإنترنت

جيمس بصدمة : أمازال يعمل ؟!

-نعم ، لكنه محدود بشقّق العمارة  

المجبّر بقهر : الحياة ليست عادلة ! .. المهم ، أنهيت ربط ذراعك .. ومن حسن حظك انه التواءٌ بسيط .. رجاءً عودي لعمارتك ، فلا أريد مشاكل مع المسؤولين 


لكنها أصرّت على القيام بجولة في المناطق الشعبيّة ، وتصوير سكّانها بكاميرتها التي مازالت سليمة ..

***


بعد جلوسها خلفه على درّاجته الناريّة ، بدأت بتصوير الحياة الصعبة التي يعانيها المزارعون والصيادون بسبب إهمال الأثرياء لهم .. فشوارعهم بلا انوار .. ووسائل مواصلاتهم تعتمد على شاحنات نقل البضاعة ، او الدرّاجات الهوائيّة والناريّة مع القليل من الدواب.. كما منعوا عنهم الدراسة ، فمعظمهم جهلاء وأمّيين.. لكن رغم فقرهم إلاّ انهم كرماء ، حيث دعوها لتناول الطعام معهم .. ورغم خلوّه من اللحوم ، لكن طبخهم للخضراوات لذيذٌ للغاية .. 


وقضت الصبيّة نهارها بالتحدّث مع النساء والشيوخ عن المشاكل التي يعانون منها ، وهي تنوي مشاركة الفيديوهات مع الشباب الأثرياء 


وفي نهاية رحلتها المشوّقة .. شاهدت غروب الشمس امام البحر برفقة المجبّر ، بعيونٍ دامعة وهي تقول بحسرة :

-لا يحقّ لهم منعنا من النزول للشاطىء ، والشعور بالنسمات المنعشة


وقبل أن يجيبها جيمس .. شاهدت المروحيّة وهي تنثر رماد احد الأثرياء بالبحر ، بعد حرق رفاته بالمحرقة الموجودة في قبو العمارة .. 

لتعلو صرخات الناس على الشاطىء :

- لتذهب الى الجحيم ايها الملعون !!


جنيفر بضيق : انتم تكرهوننا بالفعل !

جيمس بيأس : ضعي نفسك مكاننا ..نعمل ليل نهار لنحصل على رواتب بالكاد تكفي لشراء طعامنا المكوّن من بقايا الخضروات واللحوم الفاسدة ..لكن ماذا نفعل ؟ هذا مصيرنا ، وعلينا تقبّل الأمر

جنيفر بحزم : مُحال !! سأقوم بثورة على قوانينهم الجائرة .. أعدك بذلك

***


قبل حلول المساء .. عادت لعمارتها ، بعد إرشائها الحارس العجوز بضعف راتبه الشهريّ .. وصعدت الى غرفتها دون شعور والديها باختفائها ، لانشغالهما بأعمالهما على الإنترنت !


بينما تواصلت جنيفر هاتفياً مع زملائها واصدقائها الأثرياء ، للإلتقاء غداً في نادي العمارة ، لمناقشة أمرٍ ضروريّ

***


وفي اليوم التالي ، وداخل النادي الذي لا يدخله العجائز المتزمّتين .. أرتهم ما صوّرته بحيّ الفقراء..


فقال أحدهم بدهشة : لا أصدّق انك تجرّأتي على مخالفة قوانين العمارة الصارمة !

جنيفر : كان على أحدنا المجازفة .. المهم ، ما رأيكم بما شاهدتموه؟ 

- كنت أظنهم اشباحاً !

جنيفر : لم نعدّ صغاراً لنصدّق تلك الخرافات

- مهما يكن !! يبقون غوغائيّن وجهلاء ، والأفضل عدم الإقتراب منهم 


جنيفر بعصبية : ومن نكون لنمنع عنهم المال الذي يجنونه بتعب ، من رعايتهم المتواصلة للمزروعات والمواشي ؟ وعلى أيّ اساس نستحوذّ على أرباح محاصيلهم ، وفي المقابل نحرمهم الكهرباء والإنترنت والتعليم وبناء مستشفى خاصّ بهم ؟! من نحن لنقرّر مصير آلاف البشر ؟!  


ثم صارت تكلّمهم عن روعة العيش بحرّية خارج مبناهم الكئيب

فسألها أحدهم باهتمام : أحقاً منظر البحر جميل ؟ 

جنيفر : هو اجمل بكثير مما رأيناه بنظّارات الواقع الإفتراضي .. صدّقوني ، حياتنا تضيع هنا .. فلا فائدة من وجودنا إن لم نحسّن مجتمعنا ، بما تعلّمناه على أيدي علماء العالم 

فوافقوا على إقامة ثورة شبابية مفاجئة ، ظهر الغد.. 

***


في الموعد المحدّد .. نزل الشباب والمراهقين عبر سلالم الحريق بعد كسر بابه .. ولم يستطع الأهالي وكبار المسؤولين ، ولا حتى الحارس العجوز منعهم الوصول للشارع لأول مرة في حياتهم ..


وعلى الفور !! تجمّع الناس حولهم ، لتعلن جنيفر بمكبّر الصوت الذي معها:

-يمكنكم الصعود لعمارتنا لاكتشافها من الداخل !!


وسرعان ما هجم الفقراء ، صعوداً على الأدراج (بعد إيقاف المسؤول للمصاعد) ليبدأوا باستكشاف الشقق الفخمة بعد خلع بابها 

 

مما ارعب كبار الأثرياء الذين هربوا نحو السطح .. لتتمكّن عدّة مروحيات من نقلهم سريعاً لجزيرةٍ قيد الإنشاء ..

***


بعد هروبهم .. هلّل الفقراء فرحاً من قرار الشباب الأثرياء بالسماح لأولادهم بالتعلّم بمدرسة العمارة .. وكذلك إستخدام العيادة المتطوّرة داخلها ، بالإضافة لوسائل الترفيه .. ووعدوهم بإصلاح شوارعم ، وإعمار منازلهم باستخدام خبراتهم العلمية التي سيشاركونها معهم .. وبشّروهم بزيادة رواتبهم ، حيث تمكّن كبار الأثرياء من تهريب ذهبهم دون نقودهم التي تركوها في خزنات شققهم ، بإرقامٍ سرّية يعرفها ابنائهم المشاركين بالثورة الفجائية ، والتي سيستخدمونها لنشر العدالة الإجتماعية بين طبقات الشعب في جزيرة المروج

***


لم يمضي شهر .. حتى شعر الأثرياء (داخل قصورهم بالجزيرة الحديثة) بالفزع ، بعد عطلٍ مفاجىء لإنترنتهم ، قطع تواصلهم مع العالم ! 

وبذلك حرموا من طلب الطعام الجاهز من جزيرة المطاعم .. مما أجبرهم على زراعة ارضهم والصيد لحين انتهاء ازمتهم التي أشعرتهم بأهمية الفقراء ، لكن بعد فوات الأوان !

***


لم تنتهي السنة ، حتى احتفل الشعب بزواج جنيفر الثريّة من جيمس (المجبّر المتواضع) بحفلٍ حضره الجميع ، كونه اول زواج بين طبقتين مختلفتين ، لكنه حتماً لن يكون الأخير

***


في إحدى الأيام ، وقبل صعود الصيّاد الى قاربه .. شاهد قارورة قرب الشاطىء ، بداخلها رسالة مكتوبة :

((نحن اثرياء العالم المحتجزين بالجزيرة الحديثة ، أصابنا عطلٌ بالإنترنت لم نتمكّن إصلاحه حتى الآن .. نشعر بالجوع معظم الوقت ، فلا خبرة لنا بالزراعة والصيد .. رجاءً لمن يجد رسالتي : أن يرسل لنا سفينة او عبّارة تُعيدنا الى عمارتنا الفخمة بجزيرة المروج ، كيّ نحكم الفقراء بحسن إدارتنا وحكمتنا الفريدة))


فمزّق الصيّاد الرسالة ، وهو يتمّتم بضيق :

-مازال المتغطرسين يظنون انهم يملكوننا ! 


ثم نظر للجزيرة البعيدة (التي هربوا اليها الأثرياء) ، قائلاً في نفسه: 

- فلتنفعكم اموالكم التي أذّليتمونا بها لسنواتٍ طويلة .. موتوا جوعاً ايها الملاعين !!


ونثر القصاصات الممزّقة بالهواء ، وهو مُمتنّ للعدالة الإلهيّة التي سادت اخيراً بجزيرة المروج بعد طول ظلمٍ وعناء !


هناك 3 تعليقات:

  1. آسفة على التأخير بالنشر بسبب عطل في حاسوبي ، أدّى لحذف بعض الملفات المهمّة منه ! الحمد الله على كل شيء

    ردحذف
  2. قصة وعبرة يااعباد النفط ازرعوا صحاريكم فان الحرب الاكرونيا حتدوم حتى تصبحت حرب عالمية ثالثة ودوام الحال من الحال

    ردحذف
  3. جربي برنامج استعادة الملفات .
    بالنسبة لمواطنين الدرجه العاشره الفقراء هؤلاء فلا ادري ماذا يريدون هؤلاء الرعاع الهمج حثالة البشريه ونخالة الكره الارضيه ..لما لا يموتون في صمت ..ان اي مواطن عربي لا ينتحر مره كل شهر على الاقل لهو مواطن قليل الادب حقا ..وعديم التربيه ..وحقيق به ان يلقى للكلاب ..

    ردحذف

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...