الثلاثاء، 13 ديسمبر 2022

إلهامٌ مُدمّر

كتابة : امل شانوحة 

 

تبادل الأرواح


بعد سنواتٍ من الكتابة المتواصلة بمدونته في الإنترنت ، وفوزه بعدّة مسابقاتٍ كتابيّة .. شعر بفقدان شغفه للكتابة .. ولم تعدّ تخطر بباله أفكاراً جديدة .. حيث جلس لساعاتٍ امام حاسوبه ، دون كتابة حرفٍ واحد ! 

مما جعله يتساءل :

- هل حلمي بالفعل أن أصبح كاتباً مشهوراً ؟ هل لديّ موهبة الكتابة ؟! أمّ عليّ إيجاد عملٍ آخر ، بدل تضيّع وقتي بشيءٍ لم ينفعني لسنواتٍ طويلة ؟


واثناء  سرحانه بأفكاره السوداويّة ، ظهر عنوان على صفحته الفارغة بحاسوبه :

((بطولة قرصان))


والذي حصل ، سيجعل أيّ إنسان يفكّر بأمرين : إمّا هاكر إخترق حاسوبه ، او جني يحاول التواصل معه ! 

ومع ذلك لم يرتعب الشاب من غرابة الحدث ، بل وضع يديه على ازرار حاسوبه .. 


وسرعان ما بدأ بطباعة سيناريو قصةٍ بحريّة ، حسب ما يمليه عليه الصوت الذي يسمعه بوضوح في رأسه ! وهو صوتٌ رخيم لرجلٍ يتكلّم الإنجليزيّة ببلاغةٍ قديمة ، كما لو كان بزمن شكسبير ! 

حتى إن معظم الجمل التي دوّنها ، لم يعرف الكاتب المُبتدئ معناها ، لقدمها وقلّة استخدامها بعصره .. 

لكنه تابع الكتابة ، وكأنه في حصة املاءٍ بمدرسةٍ إبتدائيّة ! ظنّاً بأنه الإلهام او ملاكه الحارس الذي يرشده بعد أن ضلّ طريقه 


وتضمّنت القصة الأحداث التالية : ((في القرن الماضي .. تقاعد قرصانٌ عجوز من عمله السابق ، بنهبه للسفن التجاريّة .. راكباً في سفينةٍ أخرى صغيرة ، بعد توديع رفاقه القدامى للعودة الى بلاده وأحفاده .. وفي تلك الليلة بعرض البحر ، إستيقظ العجوز بعد شعوره بالمياه تغمر مقصورته ! وسرعان ما ارتفع صراخ النّسوة والأولاد من المقصورات المجاورة .. فأسرع لسطح السفينة ، ليتفاجأ بالقبطان ومساعديّه يهربون بقارب النجاة الوحيد ، بعد تحطّم القوارب الخمسة المتبقيّة بسبب الأمواج العاتية ! ليجد نفسه مُجبراً على استلام القيادة ، طالباً من الركّاب الشباب مساعدته بتوجيه الشراع حسب توجيهاته .. آمراً النساء والأولاد بالبقاء في غرفهم ، لحين انتهاء العاصفة التي استمرّت طوال الليل .. الى أن هدأت أخيراً مع بزوغ الفجر .. لتظهر مشكلة أخرى بعد تسرّب المياه لقعر السفينة التي بدأت تغرق ببطء .. فأمر الشباب بخلع ابواب المقصورات ، وإحضارها للسطح .. ثم استخدام حبال الأشرع لربطهم سويّاً ، لعمل قاربٍ يكفي ثلاثين راكباً .. ووضع عليها : جرّة خزفيّة من المياه العذبة ، ومعلّبات غذائيّة ، وسنّارتين ، وبعض البطانيات ، وأربعة سكاكين حادّة ، ومقلاتين وطنجرة كبيرة ، وحقيبة إسعافات أوليّة من شاشٍ ومطهّرات .. ثم حشروا انفسهم فوقها ، بعد إنزالها برفق للبحر .. وبدأ الشباب بالتجذيف بناءً على توجيهات القبطان الذي استخدم بوصلته القديمة ، دون علمهم بأنه قرصانٌ قديم .. إلى أن وصلوا لجزيرةٍ نائية .. ولخبرته بالعيش في الأماكن الغير مأهولة اثناء هربه مع رفاقه من رجال القانون ، علّم الشباب بناء الأكواخ من اغصان الشجر .. وكيف يصطادون الأسماك ، بعد إشعاله النار .. بينما تقوم النساء بطبخ الطعام.. اما الأولاد فقضوا اجمل لحظات حياتهم باللعب على الجزيرة ، والتعرّف على الحيوانات البرّية والطيور المتنوّعة .. وأمضوا بالجزيرة شهرين ، قبل استيقاظهم مساءً على صراخ القبطان وهو يلوّح بورقة نخيلٍ مشتعلة ، بعد رؤيته انوار سفينةٍ من بعيد ! فشاركوه الصراخ ، وإشعال المزيد من النيران .. مما جعل السفينة تتوجه اليهم .. وبذلك إنقذهم من الموت ، بسبب خبرته الطويلة.. وفور وصول العجوز للعاصمة ، رفع قضية ضدّ قبطان السفينة الذي تخلّى عنهم اثناء نومهم ، مُخالفاً قانون البحر بالغرق مع سفينته ! لكن القبطان (الذي نجى وحده من العاصفة ، دون مساعديّه) إستعان بمحاميٍ جيد ، إستطاع كشف ماضي العجوز المشين .. وشهّر بجرائمه السابقة ، مع ذكر اسماء السفن التجاريّة التي استولى عليها .. طالباً من القضاء شنقه ، او حبسه لآخر عمره ! مما أثار غضب الناجين وعائلاتهم الذين لم يهتموا لماضيه ، بقدر إنقاذهم من موتٍ محتّم .. وبعد أن ادلى الجميع بشهادته .. حكم القاضي بالعفوّ عن العجوز ، آمراً السلطات المُختصّة بتنظيف سيرته الذاتيّة .. ومُعاقباً القبطان بطرده من وظيفته ، لإهماله مهنته .. ليس هذا فحسب ، بل عيّن العجوز لتعليم الملاّحين الجدّد اصول قيادة السفن بالظروف الصعبة الإستثنائيّة ، وكيفيّة النجاة في حال وصلوا لجزرٍ نائية .. ليهللّ الناجون فرحاً من حكم القاضي العادل الذي لاقى استحسان المجتمع !))


بعد انتهاء الكاتب من قصته .. نشرها ضمن مسابقةٍ كتابيّة ، وهو يشعر بالفخر مما كتبه ..

***


بنهاية الشهر .. ظهرت نتيجة المسابقة ، بفوزه بالجائزة الأولى : وهي طباعة كتابه وتوزيعها على المكتبات .. لتصلّ لناقدٍ سينمائيّ ، قام بترشيحها لصديقه المخرج العالميّ الذي اتفق مع الكاتب المبتدئ بإعطائه نسبة من ارباح الفيلم الذي نجح بجميع دور السينما 

*** 


بعد انتهاء المقابلات الصحفيّة .. عاد الشاب الى حاسوبه ، محاولاً كتابة قصة اخرى ، بناءً على طلب مخرّجين جدّد .. لكنه لم يجد فكرة جديدة لأيامٍ عدّة ! مما اعاد اليه شعور اليأس والقلق ، جعله يصرخ بغرفته بعصبية : 

- اين انت يا إلهامي ؟!! .. لما لا تساعدني ؟! أحتاجك الآن !!


لتظهر جملة على حاسوبه :

- هل ظننت انك كتبت القصة السابقة ؟

فطبع الشاب بيدين مرتجفتين :

- من انت ؟!

فظهرت الإجابة : 

- كاتبٌ من العالم الموازي

- وماذا تريد ؟

- الحصول على التقدير الذي استحقّه.. ومكافئتي عن الشهرة التي منحتها لك 

الشاب بقلق : وما المقابل الذي تريده مني ؟! 

- أغمض عينيك

- لماذا !

- نفّذ طلبي ، دون معارضة !! 


فأغمض الشاب عينيه .. وفتحهما بعد قليل ، ليجد نفسه في زنزانةٍ ضيّقة وقذرة ! فنظر من نافذتها الصغيرة ، ليرى بحراً هائجاً في الخارج !


وقبل أن يصيبه الهلع ، سمع صوتاً في اذنه يقول :

- عشت بهذه الزنزانة لعشرين سنة ، بسبب قصة سخرت بها من الملك .. فعاقبني بالسجن المؤبّد في جزيرةٍ نائية .. ومع الأيام إستطعت تطوير مهارتي بالتخاطر .. لأتفاجأ بقدرتي على التواصل مع كاتبٍ مبتدئ يعيش في المستقبل

الشاب بفزع : المستقبل ! وبأيّ زمنٍ أعيش الآن ؟!

- بعصر الجهل والتخلّف ، في القرن السادس عشر

- 16 ! .. لا رجاءً !! أعدني لعالمي 

الصوت : وهذه موهبة أخرى طوّرتها بنفسي ، وهي تبادل الأرواح 

- تقصد الأجساد ؟

- بل الأرواح .. أنظر لنفسك من زجاج النافذة


فنظر الشاب لانعكاسه على الزجاج ، ليرى وجه عجوزٍ بلحيةٍ وشعرٍ طويل

- هذا ليس انا ! لست قبيحاً لهذه الدرجة

الصوت : وانت ايضاً لست بهذه الوسامة ، لكني سعيد بجسمك الرياضيّ .. وطالما انتقلت لعصرٍ يُقدّر فيه الكتّاب ، ويعطونه حرّية الرأيّ ..سأصبح من المشاهير بعد تدويني عشرات القصص التي ألّفتها في السجن ، بعد حرماني من الأوراق التي طلبتها مراراً من الحرّاس الملاعين !!

- انت جاهل بأمور الحاسوب ، فانقلني اليك .. ويمكنك الإحتفاظ بجسدي .. دعني أعلّمك التكنولوجيا .. لا تجعلني أتعفّن وحدي هنا ، رجاءً سيدي !!

الصوت : جسدك كفيل بتعليمي ما فاتني من حضارات .. اما انت !! فلن تعيش طويلاً ، فطبيب السجن أخبرني بإصابتي بالسلّ بسبب رطوبة السجن

- السلّ !


وفجأة ! بدأ الشاب يسعل بقوة ، الى أن بصق الدماء

- لا !! لا اريد الموت هنا

الصوت : لن يهتم أحد بوفاتك ، فأنت فقدّت موهبة الكتابة بعد نفاذ افكارك المستهلكة البالية .. أما انا ، فلديّ موهبة حقيقة .. وسأدهش العالم بأفكاري الرائعة .. الى اللقاء ايها التافه !! فورائي عملٌ كثير ، ومالٌ وشهرة بانتظاري


ثم انقطع الصوت .. ليعمّ الصمت بزنزانة الشاب الإنفراديّة ، المتواجدة بقبو سجنٍ مهجور !

وترتفع أصوات الفئران وحركتها المزعجة مع غروب الشمس 

بالإضافة لما ينتظر الشاب في الأيام القادمة : من طعامٍ رديء ودورة مياهٍ قذرة ، ومعاملة قاسية من الحرّاس ، وموتٌ بطيء دون علاج في اسوء مكانٍ على الأرض ! 


بينما الكاتب المحترف ينطلق بسرعة نحو الشهرة مع كل كتابٍ يؤلّفه ، يصدم به القرّاء والنقّاد .. ليحصد الجائزة تلوّ الأخرى .. ويصبح من أشهر كتّاب العصر الحديث !


هناك 9 تعليقات:

  1. كنت سأكتب اولاً قصة القبطان القرصان ، ثم خطرت ببالي فكرة التخاطر وتبادل الأرواح .. فقرّرت دمج الفكرتين بقصةٍ واحدة .. أتمنى ان تعجبكم

    ردحذف
    الردود
    1. ما شاء الله تبارك الرحمن الرحيم قصص عبقرية ورائعة..لكن العنولن فضح القصة ومقدمتها..دائما أحب الغموض والختام المفاجئ..لكن بحق استمتعت بالقصة كثيرا

      حذف
    2. سأنتبه على العنوان في المرة القادمة .. تحياتي لك

      حذف
  2. حلوه كالعاده يا امل
    انا معجبه جدا بكتاباتك
    قريت كل القصص عل المدونه بجد موهوبه ما شاء الله ربنا يحرسك

    ردحذف
    الردود
    1. سعيدة ان نوعيّة قصصي تعجبك .. وشكراً لمتابعتك لمدونتي المتواضعة

      حذف
  3. قصة جميلة و ذكية، و عجبتني قدرتك على دمج القصتين، ما شاء الله فعلاً موهبتك مميزة جداً، للاسف مافي ناس كثير يقدروها

    شكراً على كل القصص 🖤

    ردحذف
    الردود
    1. لا بأس ، انا اؤمن بأن لكل مجتهدٍ نصيب ، ولوّ بعد حين .. على أمل أن أصل لمرحلةٍ مرضيّة في المستقبل القريب .. شكراً لك

      حذف
  4. يا سلام كم هي رائعه افكارك
    احمدُ الله كثيرا لأني امتلك هذه المدونه.. فلا امل من قرائة القصص ابدا
    سلمت يداك

    ردحذف
    الردود
    1. تسلم اخي , كلّك ذوق

      حذف

المحطّة الأخيرة

كتابة : امل شانوحة    المصيّدة الدمويّة ركبت الصبيّة الحافلة بعد انتهاء عملها الليليّ في إحدى المطاعم ، وهي تشعر بالإنهاك والتعب الشديد.. وم...