الأحد، 22 نوفمبر 2020

رحلة الشقاء

 كتابة : امل شانوحة

قطار اولاد الشوارع


في مدينة نيويورك 1854 .. إجتمع (تشارلز لورينغ بريس) مع افراد جمعيته (مساعدة الأطفال) لإيجاد حلٍّ سريع ونهائيّ لتخلّص من أولاد الشوارع الذين انتشروا في مدينته ، مُسبّبين قلقاً للسكّان لاعتمادهم على التسوّل والسرقة كقوت يومهم ..

وكان الحل : هو جمعهم داخل قطار يعبر كافة الولايات الأمريكية ، وصولاً لأقصى الشرق .. وعرضهم للتبني او البيع لمن يحتاجهم للعمل

وقد أعجب إقتراحه كبار المسؤولين في البلد ، وطلبوا تنفيذه على الفور

*** 


من جهةٍ اخرى ، وفي زقاق منطقةٍ فقيرة قرب ميناء نيويورك .. عاش الأخوان اليتيمان (فريد 12 سنة ، وهاورد 7 سنوات) مع والدتهما المريضة التي طلبت من ابنها الكبير في ذلك النهار ان يتسوّل في الشوارع لإحضار المال الكافي لشراء دوائها .. 

فاستأذنها بأخذ اخيه معه لأول مرة ، لعلّ المارّة يشفقون على الصغير ويعطوه المزيد من المال .. ووعدها بإعادته سالماً الى المنزل قبل حلول المساء .. فقبلت بتردّد وهي تشعر بالقلق 

***


توجه الأخوان الى منطقةٍ مزدحمة بالسكّان .. وأخذا يستعطفان الناس الى ان سمعا جرساً من بعيد ، قادماً من محطة سكّة الحديد .. 

وهناك تفاجئا بوجود عددٍ كبير من اولاد الشوارع !


حيث أخبرهما أحدهم عن الإعلان الذي ألقاه موظف الدولة قبل قليل ، قائلاً بحماس :

- لقد قرّر رئيس البلدية الإهتمام بالفقراء الصغار .. واستأجر لنا رحلة مجانية بقطارٍ مليء بملابس جديدة وطعامٍ وحلويات تكفينا جميعاً

فريد باستغراب : أحقاً ! وما سرّ اهتمامه المفاجىء بنا ؟ بالعادة الأغنياء يجلدونا بالسياط كلما إقتربنا من عرباتهم ! 

الولد : لا ادري ، ربما حنّ قلبهم علينا اخيراً


وهنا خرج عامل القطار ، مُنادياً بصوتٍ عالي :

- سيدخل الأولاد دون سن 18 من هذا الباب !! والبنات الصغار من الباب الآخر !! هيا إسرعوا ، فالأماكن محدودة 


فأسرع الأولاد بدخول القطار وهم يشعرون بحماسٍ شديد .. وكان من بينهم فريد الذي أمسك بإحكام بيد اخيه ، خوفاً من ضياعه بين مئات الأولاد المشرّدين الآخرين 

***


الغريب ان إعلان رئيس البلدية لم يكن كاذباً ! حيث وجدوا بالداخل ملابس جديدة من كافة الأحجام ولجميع الأعمار .. لكنهم مُنعوا من لبسها قبل الإستحمام ..

وكان الموضوع محرجاً .. حيث قمن سيدات (تم تعينهم من الدولة لهذه المهمة) بتحميم الأطفال (فور تحرّك القطار) داخل احواض حديدية صغيرة ، بها ماء وصابون .. 


وبدأن بالأطفال دون سن 8 .. وبعد الإستحمام ، ألبسوهم ملابس جميلة تناسب مقاسهم .. وقامت الأخريات بتمشيط شعرهم وإلباسهم الأحذية التي يجرّبونها لأول مرة في حياتهم القصيرة 


وحين حان دور الأولاد الكبار (دون سن 14) .. رفض معظمهم الإستحمام على مرأى الجميع .. 

فاضّطرت المسؤولة لوضع حاجز من الستائر القماشية .. وتركهم يستحمون وحدهم ، بعد رمي ملابسهم المتسخة جانباً .. والتي جمعتها النسوة لرميها خارج القطار !

***  


بعد الإنتهاء من هذه الخطوة .. بدأن بتقديم شطائر الخبز والجبن للأولاد الذين تناولوها بنهمٍ شديد ، فبعضهم لم يأكل شيئاً منذ ايام ..

بعد ذلك أخبروهم أنهم سيحظون بحياةٍ جميلة ستبدأ فور توقفهم في المحطة القادمة .. وأن عليهم إلتزام الهدوء اثناء فحصهم من قبل العائلات المستعدة لتبنّيهم ..


وحين سمع فريد ذلك ، إقترب من احداهن قائلاً :

- عفواً سيدتي .. هل قلت تبنّي ؟

- نعم 

فريد : لكن انا واخي لدينا ام مريضة ، وهي تنتظر عودتنا لإحضار الدواء.. فمتى سنعود الى نيويورك ؟


وهنا اقترب احد مسؤليّ الدولة (الذي رافقهم بالرحلة) ليجيبه بلؤم ، وبصوتٍ عالي سمعه كل اطفال القطار :

- لن يعود احد منكم الى نيويورك بعد اليوم !!


وما ان سمعوا ذلك ، حتى ضجّ القطار بالصراخ والبكاء .. فجميعهم ولدوا هناك وتربّوا في شوارعها وزقاقها .. وإنتقالهم الجبريّ والفوريّ لمدينة أخرى أربكهم وأخافهم جداً ..


فأكمل المسؤول قائلاً بنبرة عتاب :

- هذا بدل ان تشكرونا لأنا سنوفّر لكم بيتاً وطعاماً وعائلات تقبل بتبنّيكم ، ايها المشرّدين القذرين !! 

فريد بخوف : سيدي ارجوك ، اريد العودة الى امي في الحال

فدفعه بقوة ، أسقطته ارضاً .. قائلاً له :

- عدّ الى مقعدك فوراً ايها التافه !! فليس امام امك الا الشفاء وحدها ، او الموت لترتاح من حياتها البائسة

 

فعاد فريد مصدوماً الى مقعده ، ليواسي اخيه الصغير بعد يقينهما أنهما لن يريا امهما ثانيةً !

***


بعد ساعتين ، توقف القطار عند اول محطة .. 

وطلب المسؤول من الأطفال الإصطفاف بجانب القطار .. 

حيث كانت العائلات في انتظارهم ، بعد الإعلان عن قدوم القطار قبل ساعة 


من بعدها .. بدأ الرجال بفحص الأولاد ، والسيدات بفحص البنات الصغار .. وكان فحصاً سريعاً للعيون لتأكّد أنها غير مُصفرّة بداء الكبد ..كما الأسنان والعضلات .. وكذلك خلوهم من الأمراض الجلدية المعدية 

وفي حال أعجبهم الولد ، يدفعون مالاً زهيداً للمسؤول الذي يقوم بتسليمه لهم ! 


وسارت الأمور بهدوء ، قبل أن تضجّ المحطة بصرخات فريد الغاضبة بعد شراء سيدة عجوز لإخيه الصغير .. 

حيث حاول تخليصه منها ، قبل قيام المسؤول بصفعه وإعادته بعنف الى الطابور ..

بينما هاورد يبكي بحرقة ، بعد إجلاسه بالقوة في عربة العجوز التي قادتها بعيداً عن المحطة

ولم يهدأ فريد الا بعد جلده بالسوط ، ليقف مرتعشاً وهو خائف على مصير اخيه المجهول ..


وهنا سأل أحد الرجال المسؤول :

- ما اسم هذا المشاغب ؟

فأجابه : فريد .. إشتريه إن أعجبك 

- مستحيل ان تقبل أيّ عائلة تبني ولداً عصبياً مثله .. الأفضل ان تبيعه لأصحاب الحقول والمناجم .. فهناك يستفيدون من قوته وعناده 

المسؤول : لا تقلق ، سيعود القطار الى نيويورك فارغاً بعد بيعهم جميعاً .. حتى لوّ اضّطررت لتسليمهم لرجال العصابات بنهاية الرحلة


وضحكا غير آبهين بخوف الأولاد من كلامهما القاسي عن مصيرهم المرعب في حال لم يتبناهم أحد من العائلات الأسريّة ..

***  


بعد ساعة .. بيع عشرة أولاد من صغار السن للعائلات المتبناة .. وطُلب من البقية العودة الى القطار ، لإكمال رحلتهم المجهولة ! 


وبالقوة قام الموظف بإدخال فريد الى القطار ، لرفضه التخلّي عن اخيه الصغير .. وترجّاهم كثيراً أن يتركوه في تلك المدينة للبحث عنه ، لكن المسؤول رفض ذلك .. 

وأمر بتقيده في مقعده لحين ابتعاد القطار عن المنطقة ، دون الإكتراث ببكائه المرير لفقدان عائلته ..

***


حلّ المساء .. ونام الأولاد بتعب فوق مقاعد القطار الخشبية ، بعد تناولهم العشاء الذي كان عبارة عن عصيدة رديئة .. بينما حُرم فريد من الطعام عقاباً له على سوء افعاله .. 

***


إستيقظ فريد فجراً قبل الجميع ، بعد شعوره بجوعٍ شديد .. وتسلّل لمقطورة المطبخ لسرقة قطعة خبز .. أكلها على الفور ، قبل عودته الى مكانه .. 


وأكمل رحلته صامتاً .. والدموع تنساب على خديه ، كلما تذكّر امه واخاه اللذان قد لا يراهما ثانية ..

***


بعد ساعة .. أيقظه عامل القطار للنزول الى المحطة الثانية مع بقية الأولاد الذين إصّطفوا هناك ، في انتظار شرائهم من قبل المزارعين واصحاب الحقول ..


وهناك اقترب منه رجلٌ ضخم ، قام بفحصه بنظراتٍ غير مريحة .. وكانت هيئته تدل على انه رجلٌ سيء .. ففريد تعلّم من سنوات حياته التي قضاها في شوارع نيويورك على التفريق بين الإنسان الطيب واللئيم من النظرة الأولى .. 


وأخذ يدعو ربه ان لا يشتريه ذلك الرجل المخيف .. لكن للأسف ، دفع مبلغاً زهيداً للمسؤول ، قبل إقترابه منه قائلاً :

- تعال معي يا ولد ، فأمامك عملٌ كثير في مزرعتي

 

وكان فريد متعباً من الرحلة الطويلة ومن قلّة الطعام ، لهذا لم يملك الطاقة للرفض والإحتجاج .. وانساق معه طواعيّةً ، لجلوس بجانبه في العربة التي قادها بعيداً عن محطة القطار ..

وظلّ فريد ينظر لبقية الأولاد ، الى ان اختفوا عن انظاره ..


وفي الطريق .. قال الرجل :

- إسمي السيد جاك .. ولديّ ارضٌ كبيرة للقطن .. ستعمل مع بقية العبيد على قطف المحصول .. ورئيس عمّالي سيعلّمك الطريقة  ..هل فهمت ؟

فأومأ فريد برأسه إيجاباً..

السيد : هل انت أخرس ؟

فأجابه بحزن : لا سيدي

- جيد ، فأنا لا اريد عاملاً معاقاً ..


وأكمل فريد رحلته صامتاً .. الى ان وصلا للمزرعة ..

وكان فيها عشرات العمّال من البشرة الداكنة .. 


وبعد دخول جاك الى بيته .. اراه رئيس العمّال طريقة العمل .. وبعد انتهائه ، قال له : 

- هل فهمت يا فريد ؟ كل ما عليك فعله : هو قطفها بهدوء ، وجمعها في شوال الخيش الذي ستضعه على رأسك.. وبعد امتلائه بالكامل ، تصفّه بجانب الشوالات الأخرى فوق العربة .. الأمر سهل ، هل يمكنك البدء العمل الآن ؟

فريد بتعب : سأفعل بعد تناولي شيئاً 

 

وهنا سمعته زوجة رئيس العمّال ، فخرجت من الحقل لتسأله :

- الم يطعموك في القطار ؟ 

فريد : لا ، عاقبني المسؤول بمنعي يوماً كاملاً من الطعام

- ولماذا ؟


فأخبرهم وهو يبكي عن امه وأخيه الصغير ..

المرأة : لا تحزن يا صغير ، فمعظمنا خُطف من عائلته لاستعبادنا في المزارع والمصانع .. انها حياة الفقراء

فريد وهو يمسح دموعه : انا خائف ان يزداد مرض امي بعد علمها برحيلنا .. وقلقٌ ايضاً على مصير أخي مع العجوز الشمطاء 

المرأة : ليس امامك سوى الدعاء لهما 


فريد بحزم : لا لن أقف مكتوف الأيديّ !! سأستعيد اخي لنعود معاً الى أمي في نيويورك

رئيس العمّال : لقد ابتعدت كثيراً عن نيويورك يا بنيّ .. والأفضل ان تتقبّل واقعك يا صغير

المرأة : وانا أنصحك أن لا تخبر أحداً بما تفكر به ، فهناك جواسيس بيننا..  على كلٍ ، معي قطعة خبز يابسة .. هل تريدها ؟

فريد : نعم ارجوك


وأعطته اياه ، ليأكلها بسرعة كادت تخنقه .. فأشربته الماء لمساعدته في بلع قطعة الخبز العالقة في حلقه .. 


من بعدها .. وقف معهم ، بعد سماعه سوّاط جاك الذي عاد لمراقبة عمّاله 

فوضع فريد الشوال على رأسه ، وبدأ بقطف القطن ..محاولاً تجاهل نظرات جاك الحادة وهو يراقبه .. قبل اقترابه منه ليقول :

- أحسنت يا صغير .. 

ثم ابتعد عنه ، لمراقبة الآخرين .. 

***


ومضت شهور وفريد عالق في الحقول .. حيث انتهى فصل الصيف والخريف .. وبدأ فصل الشتاء وهو مازال يكدّ في العمل ، بأجرٍ زهيد عبارة عن صحن أرز مسلوق بلا ملح ..

وكان مجبراً على متابعة العمل ، بعد تعرّضه لعدّة جلدات مؤلمة من السيد جاك كلما حاول الإستراحة قليلاً 

عدا عن عمله الآخر في إطعام الثيران ، وقيادتها في حراثة الأرض 

***


مع مرور الأيام .. أصبح فريد مُقرّباً من رئيس العمّال وزوجته اللذان اهتما به .. وفي نفس الوقت منعاه من الهروب ، بعد إخباره بقصة العبد الشاب الذي أحرقه جاك حياً امامهم حين حاول الفرار !

ومع ذلك ظلّ فريد يخطّط للهرب لإنقاذ اخيه الذي رآه في مناماته وهو يترجّاه لتخليصه من جحيم العجوز 

*** 


ولم تكن كوابيس فريد أضغاث احلام ، فهاورد تعذّب بالفعل في منزل العجوز البخيلة التي لم ترحم سنه الصغيرة .. وكانت تضربه بالعصا دون سبب .. وتحرمه لأيام من الأكل ، او تجبره على تناول الطعام الفاسد .. وحين حاول الهرب ، حبسته في قبوٍ مظلم لعدة ليالي دون بطانية تدفئه في الجوّ البارد .. فلم يكن امامه سوى الدعاء بأن ينقذه اخوه الكبير من سجنه المرعب 

*** 


وفي الحقول ، وفي إحدى الليالي الماطرة .. إستغلّ فريد نوم جاك في غرفته العلوية بالمنزل ، للتسلّل الى مطبخه وسرقة بعض الخبز والجبن ،  وضعهما في قماشة حملها على ظهره .. 

ثم خرج بهدوء ، متوجهاً للحقول الموحلة ..

تاركاً العمّال نائمين في الحظيرة مع الحيوانات ..


وأكمل سيره ، مُستغلاً نور البرق الذي أضاء طريقه من وقتٍ لآخر .. الى ان وصل اخيراً لسكّة الحديد .. 

وكانت خطة هروبه سهلة :

((سيمشي اولاً فوق السكّة ، لحين وصوله الى المحطة التي تمّ فيها شراءه.. وسيكمل منها طريقه باتجاه المحطة الأولى التي بيع فيها اخيه .. وهناك سيسأل عن منزل العجوز المشوّهة لاستعادة هاورد للهرب معاً ، متتبعان السكّة الحديدية للعودة ثانية الى نيويورك .. ومنها الى الميناء حيث يوجد منزل والدتهما))


لكن فريد لم يدرك انه يبعد اميال كثيرة عن هدفه .. وان قطعتيّ الخبز والجبن لن تكفيه طيلة الرحلة ، خاصة مع ثيابه المبلّلة في جوٍّ ماطرٍ وبارد

لكن حماسه لملاقاة اخيه وامه جعله يمشي فوق سكّة الحديد بنشاطٍ وأمل ، غير آبه بالظلام الحالك والحيوانات البرّية المتوحشة المتواجدة هناك ..

***


لكن فرحته لم تدم ساعات .. حيث استيقظ صباحاً على يدٍ تشدّه بعنف من قميصه ! 

وحين فتح عيناه .. رأى جاك يصفعه بقوة ، وهو يقول بعد رؤيته بقايا الخبز والجبن :

- ايها السارق الصغير !! ستُعاقب لهروبك دون إذني 


فأجابه فريد برعبٍ شديد : آسف سيدي ، ارجوك لا تحرقني 

- أحرقك ! اذاً أخبرك العمّال عمّا فعلته بالعبد الأسود قبل سنوات ، ومع ذلك تجرّأت على مخالفة اوامري  

- فعلت ذلك لأنقاذ اخي وإعادته لأمي كما وعدتها

فصفعه ثانية بقوة :

- الم تفهم بعد انك لن ترى نيويورك ثانيةً ؟!!

ثم أشار لرجاله لتقيده في العربة ، وإعادته الى المزرعة 

***


وفي وسط الحقل .. شاهد عمّال جاك وهو يجلده بقسوة ، عقاباً على هروبه .. ولم يتوقف ، الى ان أغميّ على الصغير ! 

ثم تركه وعاد الى منزله ، ليقوم بعض العبيد بحمله الى الحظيرة ..

حيث قامت زوجة رئيس العمّال بتضميد جروحه باكية ، وهي تعاتبه على عدم سماع نصيحتها ..

فردّ فريد بتعبٍ وألم :

- لا تقلقي يا خالة ، سأنجح في المرة القادمة 

ثم أغميّ عليه مجدداً !

***


إنتهى فصل الشتاء بصعوبة على فريد بعد تضاعف عمله كعقوبةٍ له .. وبحلول الربيع ، عاد للتخطيط لهروبه ثانيةً !

وحانت الفرصة مع قدوم صديق جاك من نيويورك .. حيث تنصّت فريد (من خلف نافذة الصالة) على حديثهما باهتمام .. 

واستطاع حفظ إسماء المحطات التي مرّ بها الرجل قبل وصوله الى المزرعة .. فأخوه موجود في المحطة الأولى..


لكن لسوء حظه ! أمسكه خادم جاك وهو يتنصّت عليهما .. 

فضاق صدر جاك من مشاغبته ، وعرضه على صديقه بثمنٍ بخس .. ووافق الأخير بأخذه معه برحلة القطار .. مما أسعد فريد لظنه أنه سيعود اخيراً الى نيويورك ..وقام بتوديع العمّال الذين أخفوا قلقهم ، فصديق جاك اسوء اخلاقاً منه ! لكنهم لم يرغبوا بإحباطه 

***


في القطار .. جلس فريد قرب النافذة وهو ينظر للطريق بسعادةٍ وحماس.. 

لكنه بعد ساعتين ، لاحظ اماكن جديدة لم يرها من قبل !

فسأل صديق جاك بقلق :

- سيد اريك .. القطار الذي أتيت فيه ، لم يمرّ من هذا الطريق؟!

- تقصد القطار الذي جمعوا فيه اولاد الشوارع ؟

- نعم 

- هذا لأننا ذاهبون لأقصى الغرب

فريد بقلق : ماذا ! ألسنا ذاهبين الى نيويورك ؟

- لا 

- ولماذا لم تخبرني بذلك ؟ 


اريك بعصبية : ومن انت لأخبرك بخططي !! انا اشتريتك من جاك  ، وسأبيعك كعامل منجم في المدينة الحديثة لاس فيغاس .. فهناك بيع الأولاد المشاغبين بعد رفض العائلات وأصحاب المزارع شرائهم ..

فترجّاه فريد باكياً : ارجوك سيد اريك .. اريد العودة الى نيويورك لإنقاذ اخي ورؤية امي

- إنسى أمرهما ، فعائلتك تفكّكت للأبد


وبعد بكاءٍ طويل ، صمت فريد بقهر وهو ينظر بعينين دامعتين الى الطريق .. مُتمنياً لوّ بإمكانه القفز من النافذة لإكمال طريقه عكس سير القطار ، لكنه يعلم ايضاً إن حلم نيويورك أصبح صعب المنال .. وشعر بيأسٍ شديد بعد يقينه التام بخسارة عائلته

***


في صباح اليوم التالي ، وصل القطار الى لاس فيغاس .. 

وعلى الفور باعه اريك لصاحب منجم الفحم !


حيث شعر فريد بخوفٍ شديد وهو ينزل لأول مرة الى باطن الأرض الذي لا يضيء عتمته الموحشة سوى قناديل العمّال البائسين مثله.. 


وبعد قيام أحدهم بتعليمه طريقة إستخراج الفحم .. أخذ فريد يضرب مطرقته بكل قوته في الجدار ، مما أعجب رئيس العمّال بنشاط العامل الجديد ! وهو بالحقيقة يحاول إخراج حزنه وغضبه من خلال عمله الشاقّ 

*** 


مرّت ثلاثة اشهر طويلة ، وفريد عالق بعمله المرهق .. حيث اختفت معالم وجهه بسواد الفحم الذي لطّخ ثيابه الملوثة .. لكنه لم يعد يكترث لشيء بعد يأسه من الحياة ، رغم صغر سنه !


لكن كل شيء تغير بقدوم عاملٍ جديد .. الذي علم فريد منه : إنه عمل في منزل العجوز الشمطاء التي باعته لاحقاً للمنجم بسبب شقاوته 

فسأله فريد باهتمام :

- أحقاً عشت في منزل العجوز صاحبة الندبة القبيحة ، المتواجد في اول محطة قطار بعد مدينة نيويورك ؟

- نعم ، فهي تملك عشرات العبيد الصغار .. لكني لم أتحمّل قساوتها وبخلها الشديد ، فبدأت أضايقها الى ان تخلّت عني اخيراً


فريد : وهل رأيت اخي هاورد ؟

- تقصد هاورد الصغير ؟

- نعم 

- بالطبع فهو أصغرنا ، والمسكين تعذّب كثيراً معها

فريد وهو يكتم غيظه : إخبرني ما فعلته الملعونة به ؟ 


فأخبره بمعاناة هاورد ، مما زاده تصميماً على الهرب من المنجم لإنقاذ اخيه 

***


وسنحت له الفرصة بعد ايام ، بقدوم موظف الدولة لمعاينة سكّة الحديد في المنطقة .. 

حيث استطاع فريد سرقة حقيبة عمله التي وجد فيها : مخطّط سكّة الحديد بجميع محطّاته ، وصولاً الى نيويورك .. بالإضافة الى بوصلة صغيرة وبعض المال ..وسكينٌ حادّ صغير ، وعلبة كبريت .. وقِربة من الجلد لحفظ الماء ..وقنديلٌ صغير


كما سرق فريد بعض الطعام المخصّص للعمّال ووضعه في حقيبة الموظف التي حملها مُتوجهاً لسكّة الحديد في منتصف الليل ، مُستعيناً بنور القنديل


وبدأ السير فوق السكّة بطريقٍ عكسي ، عائداً الى نيويورك .. رغم علمه انه سيحتاج شهوراً طويلة للوصول الى هناك .. لكنه مستعد للموت في محاولته لاستعادة عائلته من جديد 

***


ولم يكن الموضوع سهلاً بعد ابتعاده عن المنازل السكنية ، ووصوله لأرضٍ قاحلة مع القليل من الطعام المعلّب .. 

اما الماء ، فكان يحاول تعبة القربة كلما هطل المطر او صادف بئراً او جدولاً صغيراً في الطريق 

كما استخدم السكين في قتل ارنبٍ صغير ، وشوائه مستخدماً علبة الكبريت 


وفي حال تعب من المشي .. كان ينام ورأسه فوق السكّة ، لسماع القطار قبل قدومه 

وهذا ما حصل بعد اسابيع ، حين مرّ قطار متوجهاً للشرق .. فأسرع فريد للحاق به ، فهذا سيوفر عليه الكثير من الوقت .. 


وبعد عدة محاولات فاشلة ، أوشكت الفرصة على الضياع .. مما أجبره على التخلّي عن حقيبته ومعطفه القذر للقفز بكل قوته اتجاه المقطورة الأخيرة التي من حسن حظه انه أمسك بها ..

فصعد اليها وهو يتنفّس الصعداء لركوبه القطار اخيراً ..


لكنه علم ايضاً إنه فور دخوله القطار ، سيُرمى خارجاً ما ان يراه موظف القطار بملابسه القذرة ، خاصة انه لا يملك تذكرة الركوب 

لهذا تسلّل بهدوء بين الممرّات ، اثناء نوم المسافرين في مقطوراتهم الخاصة ..

ودخل الحمام الذي وجد فيه صابونة صغيرة .. ليقوم بغسل وجهه ويديه جيداً التي لم يغسلهما منذ شهور .. لكن ظلّت امامه مشكلة الملابس 


وقبل خروجه من الحمام ، سمع صوت ولدين في الخارج 

فأطلّ برأسه .. ليرى عائلة تترك مقصورتها ، بعد إلحاح الصبيين لتناول الطعام في مطعم القطار .. 

فاستغلّ رحيلهم لدخول مقصورتهم والبحث في حقائب الولدين الى ان وجد ملابس تناسبه .. فلبسهم على الفور ، وأعاد كل شيء مكانه 

..وبذلك لم يعد يلفت أنظار موظفيّ القطار والمسافرين اثناء مروره بجانبهم 


وحين رأى عجوزاً تجلس وحدها في مقطورتها ، دخل للسلام عليها .. فردّت السلام بابتسامةٍ حنونة تدلّ على طيبتها .. فسألها إن كان بإمكانه البقاء معها ، بحجة ان مقصورة عائلته مكتظّة .. فقبلت ذلك برحابة صدر

وأخبرته ان القطار متوجهاً بالفعل الى نيويورك ، مما اسعده كثيراً 


ثم بدأت تحدّثه عن ذكريات طفولتها ، وكأنها تتوق للفضفضة لأحدهم .. واستمع فريد اليها وهو منشغل بتناول الحلوى اللذيذة التي قدمتها له ، والتي لم يتذوق مثلها في حياته

*** 


وتوقف القطار في عدة محطات .. لكن فريد في انتظار المحطة الأولى التي بيع فيه اخيه ..والتي ما ان نادى عليها الموظف ، حتى أسرع بالنزول اليها بعد توديعه العجوز الطيبة .. 


ولأنه يلبس ملابس راقية ، لم يتضايق منه الشرطي حين سأله عن العجوز الثرية صاحبة الندبة القبيحة في وجهها ، المعروفة في المدينة ببخلها وقساوتها على العبيد .. لهذا دلّه على عنوان منزلها ..

***


إنتظر فريد بفارغ الصبر حلول المساء لاقتحام بيتها الضخم ، مستخدماً السكين الحاد الصغير الذي مازال يحتفظ به ..


وفي غرفة نوم العبيد .. أطبق يده على فم اخيه النائم كي لا يصرخ .. والذي ما ان رآه ، حتى نهض لاحتضانه باكياً وهو يهمس له :

- كنت متأكداً انك ستنقذني يا اخي

فريد : وعدت امي ان أعيدك اليها سالماً ، وسأفعل مهما كلفني الأمر

- وكيف سنعود الى نيويورك ؟

- دعنا نخرج بهدوء من هذا البيت الكئيب ، ثم نفكّر بالأمر ..


واثناء تسلّلهما من الغرفة ، إستفاق ولدٌ آخر ليسأل فريد باستغراب :

- من انت ؟!

وكاد هاورد يخبره بكل شيء ، قبل إسراع فريد بالإجابة :

- انا موظفٌ جديد .. أتيت لإدخال الصغير الى الحمام ، عدّ فوراً الى النوم

- حاضر


وخرج الولدان من الغرفة الكبيرة باتجاه الردهة .. حيث رأيا نور المطبخ مضاءً ، والعجوز تشرب الماء هناك .. 

فاضّطرا للنزول من النافذة ، مستعينان بأغصان الشجرة القريبة للهروب من المنزل ..


ثم قطعا الشارع الخالي من المارّة بعد تأخر الوقت ، باتجاه محطة القطار 

وهناك حضن فريد اخاه بشوقٍ كبير ، ليغرقا بالدموع والبكاء المرير 


وبعد ان هدِئا .. قال له فريد :

- سنتبع سكّة الحديد بهذا الإتجاه ، للوصول الى نيويورك ..

- سنحتاج اسابيع للوصول الى بيتنا

- أعرف هذا

هاورد بقلق : وماذا سنأكل ؟

فريد : معي سكين ، سأصطاد أيّ شيء في طريقنا.. لا تقلق ، سيساعدنا الرب .. والآن لنسرع قبل بزوغ الفجر وإبلاغ العجوز عن إختفائك 

***  


وبالفعل مشيا مسافة طويلة ، مستعينان بنور القمر .. الى ان ابتعدا عن المدينة ..


وناما ظهر اليوم التالي .. ورأس فريد فوق سكّة الحديد الذي ما ان ارتجّ ، حتى استفاق من نومه .. وأيقظ اخاه فور رؤيته دخان القطار من بعيد ..

- إسمع يا هاورد .. اريدك ان تركض بأسرع ما يمكنك لركوب القطار 

- انا خائف يا أخي ، وجائعٌ ايضاً

فريد : تخيّل ان امي تنتظرنا في المحطة القادمة ، وهذا سيعطيك القوة للإسراع بالركض ..هيا !! القطار يقترب منا .. إستعد !!


وبعد محاولاتٍ جاهدة من الولدين ..إستطاع فريد القفز اولاً لإحدى عربات قطار البضائع ، والإمساك بذراع اخيه وشدّه بقوة ناحية عربة ..


وبعد تنفّسهما الصعداء .. تسلّقا السلم الصغير للوصول الى بضاعة العربة التي وجداها مليئة بالطماطم .. فأخذا يتناولان الواحدة تلوّ الأخرى بنهمٍ شديد الى ان شبعا .. 

وناما فوقهم بتعبٍ شديد ، بانتظار توقف القطار في نيويورك .. محطتهم الأخيرة 

*** 


وبالفعل .. أسرعا بنزول القطار قبل لحظات من توقفه في المحطة ، خوفاً من القبض عليهم بتهمة أكل جزءاً من البضاعة .. 

وكان فريد سعيداً جداً برؤية ميناء نيويورك في الجهة المقابلة ، التي فيها منزل امه .. 


فأمسك يد اخيه ، وأخذا يتنقلا من شارعٍ لآخر وقلبهما يخفق بحماسٍ شديد ..الى ان وصلا اخيراً لمنزلهم القديم مع حلول المساء .. 

لكن للأسف وجداه فارغاً !

فانهارا بالبكاء لاختفاء امهما .. ولشدة تعبهما ، ناما فوق فراشهم القديم بحزنٍ شديد ..

***


في الصباح الباكر .. خرج فريد مع اخيه للبحث عن امه .. وسأل الجيران  دون علمهم بمصيرها ! 


الى ان وجدا صديقة امهما التي اخبرتهما بأن والدتهما حاولت الإنتحار بعد معرفتها ببيعهما كعبيد .. 

لكن من حسن حظها ان رجلاً ثرياً أمسكها قبل قفزها من الجسر .. وهي تعمل الآن طباخة في قصره .. ثم دلّتهما على مكان القصر الذي يتواجد في الجهة المقابلة للميناء ..


ووصلا الى هناك في اليوم التالي ، بعد ان تسوّلا الطعام من المارّة 

***


وحين وصلا .. سألا حارس القصر عن امهما ..

فطلب منهما الإنتظار في الخارج لحين منادتها .. والتي ما ان رأتهما ، حتى حضنتهما بشوقٍ كبير .. لينهاروا جميعاً في بكاءٍ مرير بعد فراقهم عن بعضهم لسنةٍ ونصف ! 


وبالصدفة وصلت عربة الرجل الثري الذي رأى المشهد المؤثر .. فطلب من خدمه الإهتمام بالصبيين .. 

وبعد الاستحمام ولبس ملابس نظيفة وتناولهما غداءً لذيذاً .. جلس الثريّ يستمع لقصة فريد المثيرة عن كفاحه في إنقاذ اخيه ، وعودته الى نيويورك بعد مروره بعدة ولايات أمريكية..


ولشدة إعجابه بإصرار فريد وشجاعته وشفقته على معاناة الأخوين قرّر بقائهما في قصره ، ووعد امهما التكفّل بتعليمهما .. 

***


بعد سنوات .. أصبح فريد قائداً مهماً في الجيش ، وهاورد مهندساً معمارياً مشهوراً .. وصارا من رجال نيويورك المحترمين 


ونُشرت قصتهما في كتاب أثّر على الرأيّ العام وغيرت نظرتهم بالطبقة الكادحة ، وتداوله الناس لأعوام بطبعاتٍ متكرّرة تحت عنوان : (قطار اولاد الشوارع) !


******

ملاحظة :

هذه القصة مستوحاة من احداثٍ حقيقية تاريخية ، ذُكرت في مقال نُشر بموقع كابوس بعنوان : (قطار الأيتام)

الرابط :

https://www.kabbos.com/index.php?darck=9615


هناك 3 تعليقات:

  1. أعجبتني واستمتعت بقراءتها كثيرا ، رغم ما تحمله من معاناة وألم

    ردحذف
  2. من افضل القصص التي قرأتها كنت خائف من نهاية سوداوية متوقعة لكني سعدت عندما قرأت النهاية للقصك.

    ردحذف
  3. رائعة حقا

    ردحذف

مسابقة الجدارة

تأليف : امل شانوحة منصبٌ رفيع إستوفى خمسة شباب شروط الوظيفة في شركةٍ مرموقة .. واجتمعوا في مكتب المدير العام (أغنى تجّار البلد) الذي قال لهم...