الأحد، 14 يوليو 2019

سمعةٌ مُدمّرة

كتابة : امل شانوحة


المخدرات في المدارس

كان أحمد (المدير السابق لمدرسة الثانوية المختلطة) يقود سيارته مع ابنته الجامعية , وهو مازال مغتاظاً من المدير الجديد .. 
حيث قال غاضباً :
- لا أصدّق انهم أجبروني على التقاعد المُبكّر , لكي يضعوا سمير مكاني ! لطالما كان ناظراً بليداً ومهملاً , وسيُفسد نظام مدرستي  الذي بنيته في 30 سنة ؟!
- ابي اهدأ رجاءً , لا اريد ان تصيبك نوبة قلبية جديدة .. انت قمت بواجبك على أتممّ وجه , والجميع يعلم بسمعتك النظيفة .. لكنه حان الوقت لترتاح من هذا العناء , فأنا وامي بالكاد كنّا نراك لإنشغالك الدائم بحلّ مشاكل الطلاّب داخل وخارج المدرسة 

في هذه الأثناء .. مرّت امامهما سيارة جديدة , فلمح أحمد سائقها .. فقال لإبنته باستغراب :
- ارأيت ذلك الرجل , انه يشبه بوّاب مدرستي !
- العم نجيب ! مستحيل ابي .. فهو رجلٌ فقير يعيش مع امه , فمن اين له المال لشراء هذه السيارة الفخمة .. ربما شخصٌ يشبهه
الأب : أمعقول ان لديه أخاً توأماً ميسور الحال ؟! 
- بدأت تهلوّس بالمدرسة يا ابي , رجاءً حاول نسيانها ..ودعنا نعود سريعاً الى البيت , فخطيبي قادمٌ للغداء معنا 
***

في إحدى الليالي .. شعر احمد بالأرق , رغم تعوّده على النوم باكراً .. الا انه في الفترة الأخيرة صار يتضايق من الإستيقاظ صباحاً دون الذهاب للعمل .. 
فقام من سريره ولبس ثيابه .. 

وقبل خروجه من المنزل , سألته ابنته التي كانت تسهر لدراسة امتحانات السنة الأخيرة الجامعية ..
- ابي ! الى اين انت ذاهب في هذا الوقت المتأخّر ؟!
- جافاني النوم مجدّداً ! لهذا سأقود في الأرجاء , فالطرقات هادئة في هذا الوقت ..
ابنته بقلق : أخاف ان تتعب وحدك بالطريق , دعني أذهب معك
- لا يا نجوى , إكملي دراستك .. لن اتأخّر بالعودة 
وخرج من البيت ..
***

ومع الأيام .. صار معتاداً على التنزّه في آخر الليل وحده , وأمضاء النهار بالنوم لتمضية الوقت ..

وفي إحدى الليالي .. وجد نفسه يقود قرب مدرسته القديمة , ليلاحظ نور الملعب مضاءً !
- غريب ! الساعة الواحدة مساءً , فلما ترك الحارس نجيب الأنوار مضاءة هكذا ؟ هذا تسيّب وصرف للكهرباء ..
فأوقف أحمد سيارته بجانب المدرسة .. 
وحين اقترب من الباب , لم يجده موصداً بإحكام ! وبدفعةٍ بسيطة منه , إستطاع الدخول اليها 

وحين وصل الى الملعب .. رأى مراهقيّن يتجوّلان هناك , وهما يترنّحان  وينفثان دخان سيجارتهما التي لا تبدو من النوع العادي ! حتى انهما لم يلاحظا وقوفه خلفهم .. وفضّل أحمد تجاهلهما والصعود الى مكتبه القديم الذي كان الوحيد مُضاء من بين الصفوف .. 

وكان باب الغرفة مشقوقاً , فتلصّص منه : ليرى المدير الجديد مع حارسه يقومان بإخراج لفافاتٍ صغيرة تبدو كالسجائر من الصندوق , ويصفّانها بترتيب فوق الطاولة .. 
وسمع المدير سمير يقول لنجيب :
- بعد ساعة سيحضر الطلاّب الفاسدون لشراء المخدّرات , لهذا دعنا نستعجل في العمل لنبيعها كلّها قبل طلوع الفجر 
الحارس : جيد انك حللّت مكان الأستاذ احمد , فذلك المدير المتسلّط لم يكن يسمح لنا بمخالفة الأوامر .. والآن بفضلك إشتريت سيارة وبيت جديد لأمي , بأقل من سنة 
سمير : وسنحصل على المزيد من الأموال في المستقبل , فالشرطة لن تشكّ ابداً باستخدامنا المدرسة ك (وكر) للمدمنين 
نجيب : ولا تنسى دوري , فأنا أوزّع السجائر السامّة على الطلاّب الجدّد كيّ أجعلهم زبائن لنا .. 

وهنا لم يعدّ باستطاعة احمد تحمّل ما سمعه , ودخل عليهما غاضباً:
- ايها اللعينان !!
سمير بارتباك : من ؟ الاستاذ احمد !
- نعم ايها الخبيث , أتستغلّ إدارة مدرستي لإفساد الأولاد ؟ أقسم انني سأجعلكما تتعفّنان بالسجن ..

وأسرع ناحية هاتف المكتب للإتصال بالشرطة .. فعاجله الحارس بلكمةٍ قوية على وجهه أوقعته ارضاً , غائباً عن الوعيّ
سمير معاتباً : ماذا فعلت يا مجنون ؟!
نجيب : لا تخف , لم أقتله بعد
- ومالعمل الآن بهذه المصيبة ؟ فهذا الرجل سيفضحنا حتماً ! 
- لحظة , سأبحث في جيببه
سمير : عن ماذا ؟!
الحارس : نعم وجدتها !! دواء القلب .. هل لديك المزيد من الحقن؟
- هل ستحقنه بالمخدرات ؟ 
- لا , سأذوّب كل دوائه بالماء وأحقنه بها .. ونتركه على مكتبه ليموت بهدوء

سمير بخبث : يالها من فكرةٍ عبقرية ! وانا سأكتب رسالة إنتحاره مُتضمّناً كلاماً كئيباً عن حياته المملّة بعد التقاعد , ولهذا تناول كل دواءه ليموت في مكتبه القديم
الحارس بقلق : وماذا عن ذلك الولد الأحمق الذي أخبر اهله انه اشترى المخدرات من المدرسة ؟ فنحن نحتاج لمعجزة للخروج من هذا المأزق , قبل تنفيذ والده التهديد وإرساله الشرطة غداً صباحاً 
ففكّر سمير قليلاً قبل ان يقول : 
- إذاً سألصق التهمة بأحمد , بعد ان أضيف على رسالة الإنتحار : شعوره بالذنب لتدمير مستقبل تلاميذه بالمخدرات , طمعاً في المال .. وبذلك لن يحزن أحد لموته .. وفي الوقت ذاته , أكون دمّرت سمعة هذا المغرور المتسلّط للأبد !! 
***  

في صباح اليوم التالي .. تفاجأ الطلاّب بإغلاق السلطات للمدرسة , ومطالبتهم بالعودة الى بيوتهم ! 
في الوقت الذي نشر الحارس الإشاعة بينهم : عن محتوى رسالة الإنتحار لمديرهم السابق .. 
ولم يمضي وقتٌ طويل حتى تجمّعت الأهالي الغاضبة امام المدرسة , مُطالبين بفتح تحقيقٍ شامل بجرائم المدير أحمد الذي لم يحفظ امانة اولادهم 

وانطلت الحيلة على الجميع .. فيما عدا زوجته وابنته نجوى التي أخبرت الشرطة مراراً : بأن خط الرسالة لا يطابق خط والدها ! وبأنه من سابع المستحيلات ان يقدم على الإنتحار او المتاجرة بالمخدرات .. 

لكن جميع الأدلّة ضدّه .. فسيارته متوقفة قرب المدرسة .. 
كما ساهمت شهادة الحارس نجيب بإدانته , حين قال لهم : بأن الأستاذ أحمد طالبه في الفترة الأخيرة بترك المدرسة مفتوحة مساءً للقيام ببعض الأعمال الإدارية , رغم تقاعده !

ومع نشر الخبر في الصحافة , توسّخت سمعة المدير احمد بين الناس الذين انهالوا عليه باللعنات ..عدا عن شماتة الأقرباء !
***

بعد سنة .. ومع بداية السنة الجديدة ..
الأم : لا ادري لما تصرّين على العمل كناظرة في مدرسة أبيك ؟ فنحن لم نصدّق متى تناست الناس امر الحادثة
نجوى : ابي لم يفعل شيئاً خاطئاً يا امي , وأنا متأكدة من ذلك
- ابوك كان غامضاً بآخر حياته , وكان دائماً يخرج مساءً ولا يعود الا مع تباشير الصباح 
- حتى انت يا امي صدّقت تهمتهم ! لكني سأثبت براءته للجميع
الأم بقلق : أخاف ان تتورّطي مع تلك العصابة يا نجوى
- لا تقلقي .. فأنا تسجّلت كناظرة بإسم عائلة زوجي , ولن يعرف احد انني ابنة المدير أحمد .. واثناء وجودي هناك , سأراقب الوضع بدقة , لأني متأكدة ان المتورّطين سيعاودون توزيع الممنوعات هناك .. وحينها أقوم بكشفهم , وحلّ هذا اللغز اللعين!! 
***

وبالفعل وعلى مدى اربعة اشهر من عملها الجديد , راقبت نجوى بقية الأساتذة والإداريّن والطلاّب المشاغبين .. وخاصة أحد المراهقين الذي كان واضحاً من تصرّفاته الرعناء انه يتعاطى الممنوعات .. 

وذات يوم , أخبرت زوجها انها ستنام عند امها .. وذهبت لمراقبة المدرسة ليلاً .. وكانت شكوكها في محلها , حين رأت الطالب المشاغب يدخل المدرسة بعد ان فتح له الحارس الباب.. 

واستطاعت التسللّ الى الداخل , اثناء انشغال نجيب بالكلام معه 
وصعدت الى فوق , لتختبأ في الغرفة المجاورة لغرفة المدير .. 

وفور دخول الحارس مع الطالب الى هناك .. قامت بتصوير كل شيء بجوالها , وكيف قام المدير سمير ببيع المخدرات له ..حتى انها سجّلت كلامه وهو يطلب منه : إخبار بقيّة اصدقائه بمعاودة بيعهم للمخدرات 

فردّ المراهق بارتياح : 
- وأخيراً استاذ , والله تعبنا من الذهاب الى فرعكم الآخر البعيد عن المنطقة , ولمدة سنة كاملة .. فهنا أأمن لنا
سمير : كان علينا التوقف لبعض الوقت , الى ان تهدأ العاصفة وتنتهي المراقبة الأمنية المشدّدة .. والآن بعد ان استعدنا ثقة الأهالي , عُدنا للعمل .. فهيا خذّ سجارتك وأخرج من المدرسة بهدوء كيّ لا تثير الشبهات 

فأسرعت نجوى بالخروج من المدرسة قبل ان يروها .. وابتعدت بسيارتها وهي ترتجف وتبكي بعد تأكّدها من براءة والدها , وتمّتمت غاضبة :
- ايها الملاعيين , سأكشفكم جميعاً !! 

الا انها فضّلت عدم الذهاب الى الشرطة , وقامت بنشر الفيديو بوسائل التواصل الإجتماعي التي أثارت ضجّة اعلامية , مُترافقة مع غضب الأهالي الذين طالبوا بقفل المدرسة نهائياً , وحبس المدير سمير وحارسه الذين إعترفا لاحقاً بالجرم .. 

كما قامت نجوى بتقديم شهادتها للشرطة والمطالبة بالتحقيق معهما في ملابسات وفاة والدها الغامضة , فاعترفا بعد شهور بما حصل في ذلك اليوم .. لتظهر أخيراً براءة المدير أحمد ..حينها قام الأقارب والأصدقاء بالإعتذار من نجوى وامها لشكّهم بسمعته بعد انتحاره المزعوم
***

بعد إغلاق المدرسة بالشمع الأحمر .. ذهبت نجوى الى قبر والدها لتخبره بما حصل , وكيف قامت بتنظيف سمعته من جديد ..
لكنها تفاجأت بشاب يلعنه امام قبره , فاقتربت منه غاضبة : 
- لا تشتم والدي !!
- أأنت ابنته ؟ اللعنة عليه , لقد أفسد حياتي
- والدي شريف , الم تشاهد الأخبار ؟ الأستاذ سمير وحارسه هما اللذان باعا المخدرات للطلّاب
الشاب : انا لم أتعاطى يوماً الممنوعات , لكن والدك الحقير إعتدى عليّ حين كنت مراهقاً

فتراجعت نجوى للخلف بصدمة : ماذا قلت ؟! لا انت تهذي , فوالدي ليس شاذاً 
- انا لم اكن الوحيد الذي آذاني .. واستطيع ان أعطيك ارقام اثنين من اصدقائي القدامى , اللذان كانا من ضحاياه ايضاً 
- هذا مستحيل !!
- إذاً تكلّمي معهما

واتصل على الشابين , التي تكلّمت معهما نجوى كلاً على حدة .. واللذان أكّدا وحشية والدها , وحياته السرّية المشبوهة 
وبعد ان أعادت له الجوال , قال لها الشاب : 
- هل صدّقتني الآن ؟ .. (ثم تنهّد بضيق).. كان الأستاذ احمد يهدّدنا بالرسوب ان لم نوافق على طلبه اللعين .. وبرأيّ اسألي امك عن علاقته بها 

فأسرعت نجوى الى بيت امها لتسألها عن ذلك 
الأم بارتباك وعصبية : وما دخلك انت بعلاقتي مع والدك ؟! ثم لماذا هذا السؤال بعد وفاته ؟
نجوى بقلقٍ شديد : رجاءً أجيبني يا امي 
- انت تعلمين ان والدك ينام في غرفته الخاصة .. فمنذ ان كنتِ صغيرة , بدأ يتحجّج بالأرهاق وشعوره بوخزاتٍ في قلبه .. حتى قبل ان تصيبه نوبته الأولى !
فأخفت نجوى وجهها بيديها , وهي تشعر بالعار : يا الهي !
- ماذا هناك ؟!
- يبدو ان ابي لم يكن نظيفاً كما ظننته دائماً !
وانهارت بالبكاء , دون ان تفهم امها السبب !
***

في السجن .. زار (شاب المقبرة) المدير سمير الذي قال له :
- أحسنت !! الشيك سيصلك غداً انت وصاحبيك لتنفيذكما المهمّة بنجاح
الشاب : كنت أراقبها كما طلبت مني , ولحقت بها الى المقبرة ..واستغليت إنشغالها بالكلام مع الحارس لأسبقها الى قبر والدها .. وقمت بما طلبته مني لتشويه سمعته .. لكني لا أفهم غايتك من ذلك بعد وفاة الرجل ؟! 

سمير بلؤم : للإنتقام من السيدة نجوى التي تسبّبت في حبسي .. كما ان والدها كان يغيظني دائماً بالتزامه المقزّز .. لكني تمكّنت من زرع الشكّ في نفوس الجميع بطهارة سمعته , واليوم دمّرتها تماماً في نظر ابنته المحبّة , وهذا الإنتقام يكفيني ..  
وضحك بخبث وبعلوّ صوته بعد ان نال مراده ! 

هناك تعليق واحد:

  1. ملاحظة : هذه القصة مستوحاة من احداث حقيقية حصلت في إحدى مدارس الثانوية للأولاد في بيروت , حيث قتل المدير اثناء عراكه مع تجّار المخدرات الذين استغلّوا مدرسته لبيع الممنوعات مساءً .. ويعدّ المدير بطلاً وشهيداً في نظر الجميع

    ردحذف

المحطّة الأخيرة

كتابة : امل شانوحة    المصيّدة الدمويّة ركبت الصبيّة الحافلة بعد انتهاء عملها الليليّ في إحدى المطاعم ، وهي تشعر بالإنهاك والتعب الشديد.. وم...