الجمعة، 8 مارس 2019

الحب والحرب

تأليف : امل شانوحة


أَحبّي عدوّك !

خرج الجندي الإلماني أوليفر من خيمته صباحاً بعد هدوء العاصفة الثلجيّة التي استمرّت ليومين متتابعين في روسيا , ليتفاجأ بتجمّد ضابطه ورفاق فرقته العشرة ! بعد موت بقيّة الجنود إِثر معركةٍ ضارية بين الطرفين أبّان الحرب العالمية الثانية .. 

ورغم ان أوليفر كان مترجم الفرقة , الا انه لم يحظى باحترام أصدقائه الذين حرصوا على إخفاء أسرارهم العسكريّة , خوفاً من انحيازه لأصوله الروسية من جهة امه المتوفاة 

ولم يكن امامه الا متابعة السير وحده , محاولاً إجتياز الثلوج الكثيفة أثناء مروره من بعض القرى الروسية المهدّمة والمهجورة وهو يرتجف برداً , حتى أوشك على الموت جوعاً .. 

وحين رأى أدخنة المنازل لقريةٍ روسية في واديٍ قريب منه , كان على إستعداد لتسليم نفسه من أجل كسرة خبز ! 

لكن قبل نزوله الى هناك , جمعه القدر بجثة جندي روسي متجمّد قرب شجرةٍ ضخمة ! فأسرع بالبحث بين أغراضه , ليجد بعض البسكوت في جيبه , فأكلهم بنهمٍ شديد ..وشرب الكحول من قنينته لتدفئة جسمه .. 

وأثناء تفتيشه لحقيبة الميت , وجد عدّة رسائل غرامية .. كما وجد صورة فتاةٌ جميلة داخل خوذته الحديدية , كتب خلفها : ((حبيبتي ساشا))

ولمعرفة أوليفر باللغة الروسية جلس يقرأ رسائل الفتاة بعد إشعاله الحطب , مُستعيناً بعلبة كبريت للجندي الميت 

وظلّ يقرأ رسائلها حتى عمّ الظلام .. وقد أُعجب بكلامها الرومنسي الحنون , وشوقها الكبير لرؤية حبيبها من جديد .. 

وكان من بين الرسائل : رسالةٌ أخيرة للجندي الروسي , التي يظهر من تاريخها انه كتبها قبل اسبوعين من موته .. ويبدو انه كان يسير باتجاه قرية الوادي لإرسالها عبر بريدهم , قبل وفاته بسبب العاصفة ..

لكن الغريب ان رسالته تضمّنت الكثير من العبارات القاسية , حيث أمرها بأن تنساه وتُبعد عنه بعد تعرّفه على ممرّضة تعمل في مستشفى الثكنة , والتي ينوي الزواج بها قريباً .. كما أخبر ساشا بأنه كان يتلاعب بمشاعرها الطفولية الغبية منذ البداية ! 

فتمّتم أوليفر بضيق : جيد انك متّ ايها الحقير قبل ارسالك هذه الرسالة التي قد تقتل المسيكنة ساشا .. كم أشفق على مشاعر تلك الفتاة الجميلة الرقيقة ! 
***

وفي صباح اليوم التالي .. إستيقظ أوليفر مع إنطفاء آخر شعلة النار ..وقرّر التوجه نحو قرية الوادي , بعد ان لبس بذلة الجندي الروسي الذي دفنه تحت الشجرة , بجانب حقيبته التي فيها هويته وبذلته العسكرية الإلمانية .. كما احتفظ معه برسائل وصورة الفتاة , دون ان يعلم السبب !
***

واحتاج لساعاتٍ طويلة للنزول بحذر الى اسفل الجبل باتجاه القرية , خوفاً من الإنزلاق فوق الجليد .. 

ووصل هناك عصراً وهو في قمّة التعب ..وطرق على اول منزل صادفه من الأكواخ القروية .. ففتحت له امراة في نهاية الخمسينات من عمرها , والتي ما ان رأت بذلته العسكرية الروسية حتى أدخلته بيتها وأجلسته قرب الموقد ..وسألته :
- هل انت جائع ايها الشاب ؟
فأجابها بلغتها التي يتقنها : جداً يا خالة 
فأسرعت بتسخين الحساء , ليشربها على عجل من شدّة جوعه .. ثم قال :
- أشكرك سيدتي , فقد أوشكت على الموت من البرد والجوع
- الحمد لله على سلامتك .. ما اسمك ايها الشاب ؟

فلم يجد نفسه الا وهو يقول اسم الجندي الروسي الميت , الذي ذُكر في الرسائل الغرامية ..
- اسمي سيرجي 
- واين بقية افراد كتيبتك ؟
- تجمّدوا جميعاً بالعاصفة السابقة , ولم يبقى أحدٌ سوايّ
السيدة : كم هذا محزن .. ومن أيّ مدينة أنت ؟  
فأخبرها أوليفر عن قرية امه..
- آه يعني انت قرويٌّ مثلنا ! ..وهل اهلك احياء ؟
- لا ابي مات وانا طفل , وامي توفيت قبل عام من التحاقي بالجيش ..ولست متزوجاً
السيدة بابتسامة : وهل لديك حبيبة ؟
- نعم 
- أمعك صورتها ؟

فأراها صورة الفتاة الروسية..
- كم هي جميلة , ما اسمها ؟
- ساشا
- وهل تنوي الزواج بها بعد انتهاء الحرب ؟
فأجابها بنبرةٍ حزينة : هذا ان بقينا احياءً
- لا تكن متشائماً , فمازلت شاباً .. كما سمعت بأن الحرب على وشك الإنتهاء , لأن الملاعين الإلمان لن يتمكّنوا من تحمّل شتاءنا القاسي الذي بدء منذ اسابيع 
أوليفر : معك حق , فالبرد هنا لا يطاق
- تتكلّم وكأنك لا تعيش هنا !
- عشت فترةً طويلة في سويسرا قبل عودتي بعد وفاة امي للإلتحاق بجيش بلادي , والجوّ هناك أدفأ بقليل من هنا .. على الأقل ليس فيها عواصفاً مرعبة كتلك التي قتلت جميع أفراد فرقتي! 
- هذا صحيح .. وماذا كان دورك بالفرقة ؟ 

أوليفر : انا المترجم .. لأني أتقن اللغة الإلمانية والإنجليزية وبعض الفرنسية , بالإضافة للغتي الروسية 
- ممتاز , فاللغات تنفع في الحروب العالمية .. (ثم أخذت طبقه)..هل تريد المزيد من الحساء ؟
- لا شربت الكثير , أخاف ان لا يبقى شيء لعائلتك
فتنهّدت بحزن : انا أسكن لوحدي بعد مقتل زوجي بالحرب , وابني الوحيد يقاتل الآن في الجبهة .. سأريك صورته 

وبعد ان رأى الصورة , سألته :
- هل صادفته بإحدى المعسكرات او الثكنات العسكريّة ؟
أوليفر : لا يا خالة , انا آسف 
- ما يحزنني انه انقطع منذ شهرين عن مراستلي , ولا اعرف ان كان حياً ام ميتاً !
فسألها باهتمام : هل هذا يعني ان لديكم بريداً هنا ؟!
السيدة : بالطبع , في وسط الساحة .. أظنك ترغب في مراسلة حبيبتك , اليس كذلك ؟
فأجابها بارتباك : ربما أفعل 
- طمّأنها يا بنيّ , فأنت لا تعرف كم نعاني نحن النسوة من ألم الفراق.. 

ثم لاحظت إرهاقه , فسألته : 
- آسفة لم اسألك , أتريد النوم ؟
- نمت البارحة فوق الثلوج لكن لم أهنأ بالنوم , لأني استيقظت مع كل حركة خوفاً من هجوم الدببة او جنود العدو 
فقالت بعصبية : لا تخف , لن يجرأ الملاعين الإلمان على اقتحام قريتي , فجميعنا نتقن استخدام الأسلحة , وسنحاربهم حتى الموت .. (ثم وقفت) ..هيا تعال معي ..  

وأدخلته غرفة ابنها بعد ان أعطته بيجامة نظيفة , وأخذت بذلته العسكرية الروسية لتغسلها .. وذلك بعد إشعالها لموقد الغرفة :  
- ستصبح الغرفة دافئة بعد قليل , إسترح قليلاً فالشمس أوشكت على المغيب ..

وبعد ان استلقى أوليفر في الفراش الدافىء , أخذ يتأمّل صورة ساشا وجمالها البريء .. وأعاد قراءة رسائلها الغرامية وهو يتخيّل بأنها كتبتها له .. وظلّت تراوده أفكاراً رومنسية , الى ان غفى من التعب 

وفي المنام : ((رأى نفسه بمنزل أهله فوق جبال سويسرا .. وعند خروجه : شاهد ساشا تلعب مع طفلة فوق المراعي الخضراء .. وحين رأته الصغيرة , ركضت باتجاهه وهي تناديه : ابي !!))

فاستيقظ أوليفر صباحاً وهو يفكّر : هل يُعقل ان تصبح ساشا زوجتي , وأُنجب منها طفلةً جميلة ؟.. لكن كيف سيحدث ذلك ؟!

وهنا دخلت السيدة غرفته وهي تقول :
- طالما استيقظت , فتعال لتناول فطورك 
- قادمٌ يا خالة
***

وفي ظهر ذلك اليوم .. تجوّل معها في ارجاء القرية بملابس ابنها السميكة , وبدورها عرّفته على اصحاب المحال الذين رحّبوا به كجندي سابق في الجيش الروسي .. حتى ان بعضهم سأله عن اولاده المجندين , لكنه أخبرهم بأنه من كتيبةٍ مختلفة .. 
***

بعد يومين , جفّت بذلته المغسولة .. فأراد لبسها والخروج من القرية , لكن السيدة رفضت ذلك :
- ولما يا سيرجي تريد العودة الى المعارك الدامية ؟! اساساً رؤسائك يظنونك ميتاً مع رفاقك .. وكما لاحظت , قريتي خالية من الشباب بعد ان قامت الحكومة الروسية بتجنيدهم إجبارياً , ونحن العجائز بحاجة الى شاب يساعدنا بأعمالنا اليومية

فسكت أوليفر بتردّد , فأردفت قائلة :
- ان كنت قلقاً على حبيبتك , فاحضرها معك الى هنا .. وسيقوم راهبنا بتزويجكما .. ويمكنكما البقاء معي , او استجار بيت جاري المسافر .. ما رأيك ؟
- سأقبل البقاء عندك , بشرط ان تأخذي مني الأجرة  
السيدة : انا لا اريد مالاً , فوجودك يؤنس وحدتي  
أوليفر بإصرار : اذاً لن أقبل الا اذا سمحتي لي بمساعدتك بأعمال الزريبة 
السيدة بابتسامة : حسناً , غداً صباحاً أعلّمك كل شيء 
- إتفقنا
***

وبقي أوليفر عدة أسابيع في القرية , عرِفَه الجميع كشابٍ روسي نشيط وشهم .. وهو لم يجد صعوبة بالتأقلم مع نمط حياتهم , لأنه بالنهاية تربّى على العادات الروسية من والدته .. لهذا لم يكتشفوا إنه إلماني الجنسية بعد نجاحه بإخفاء مشاعره الوطنية عنهم , خاصة بعد ان استشعر غضبهم العارم اتجاه بلاده , والتي تتأججّ كلما سمعوا نشرات الأخبار من المذياع
***

وفي أحد الأيام .. وقبل ذهابه للنوم , سأل السيدة :
- يا خالة , هل يمكنني طلب أوراقاً وقلم ؟
فقالت بابتسامة : أتريد ظرفاً أيضاً ؟
- نعم لوّ سمحتي
فأجابته : سأحضرهم لك , ولا تنسى ان تسلّم لي على حبيبتك ساشا  
***

وتردّد طوال المساء في كتابة رسالته الأولى لها , لأن عليه كتابتها بإسم حبيبها الروسي سيرجي .. 

وبعد ان تمعّن في صورتها مطوّلاً , أخذ نفساً عميقاً وبدأ بكتابة الرسالة .. ولم يشعر بنفسه الا وعواطفه تفيض شوقاً لها , حتى كادت أشبه برسائل الشعراء .. حتى هو لم يصدّق ما كتبه ! وكان على وشك تمزيق الرسالة , قبل ان تدخل عليه السيدة وهي تقول :
- آسفة على المقاطعة , لكن جارتي أخبرتني بأن زوجها موظف البريد سيسافر غداً صباحاً الى المدينة .. فإن كنت انتهيت من كتابة الرسالة , فدعني أعطيها إيّاها
- دقيقة واحدة لوّ سمحتي

وكان على وشك ان يوقع بإسمه , الا انه عاد ووقعها بإسم : سيرجي (حبيب ساشا الروسي) .. 
ثم أخذ ينقل عنوانها من الرسالة الأخيرة للجندي الميت .. فضحكت السيدة قائلةً :
- الم تحفظ العنوان بعد ؟!
فابتسم بارتباك :
- انه عنوانها الجديد , فبيتهم القديم تدمّر بالصواريخ
- آسفة لسماع ذلك .. لا تنسى ان تغلق الظرف جيداً 
أوليفر : وهآقد انتهيت , تفضلي .. واشكري الجار بالنيابة عني  

وخرجت السيدة من الغرفة , تاركةً قلب أوليفر يدقّ بسرعة وكأنه ينبض لأول مرة في حياته !
***

ومرّت الأيام ببطءٍ شديد على أوليفر الذي أتعب السيدة بسؤاله المتكرّر عن موعد رجوع زوج الجارة (موظف البريد) من المدينة التي تعيش فيها ساشا 

وفي صباح يومٍ باكر ..أيقظته السيدة وهي تحمل ظرفاً , وتقول له بابتسامةٍ حنونة :
- هيا استيقظ ايها العاشق , فقد وصلت رسالة حبيبتك
فقفز أوليفر من سريره , ليأخذ منها الرسالة على عجل .. 
فضحكت وهي تغلق الباب خلفها , لتدعه يقرأها على راحته .. 

وكان بالرسالة :  
((حبيبي سيرجي .. وأخيراً رقّ قلبك وكتبت لي رسالة .. قلبي كان يتفطّر على الأيام التي ابتعدّت بها عني .. ولا أنكر ان كلامك الأخير فاجأني كثيراً ! فمنذ متى تُخبىء كل هذه المشاعر ؟ وطالما انك تحبني لهذه الدرجة , فلما قسيت عليّ في رسالتك السابقة ؟! الا تدري كم بكيت بسببها ؟ أتظن انه من السهل على الفتيات نسيان حبهنّ الأول .. كم كنت غاضبة منك , لكن رسالتك الأخيرة أصلحت كل شيء .. وأتمنى ان لا تقسو عليّ ثانيةً , وتُثير غيرتي بتقرّبك من ممرّضات الثكنة .. فأنا لا أبالغ ان قلت : ان خسارتك أرعب لي من ويلات الحرب .. لهذا عدّني حبيبي بأن لا تفقد الأمل بنا , وان تحلم دائماً ببيتٍ صغيرٍ دافىء يجمعنا مع اولادنا العشرة .. الم يكن هذا كلامك قبل التحاقك بالجيش ؟ .. في انتظار رسالتك التالية على أحرّ من الجمر .. وإلى ان نلتقي , لك محبتي وإخلاصي : حبيبتك ساشا))

وبعد انتهاء أوليفر من قراءة الرسالة , أحسّ بشعورٍ متناقض : بين السعادة لإراحة قلبها المشتاق , والحزن لعدم إخبارها بموت حبيبها .. أمّا الشعور الأسوء فهو سرقته لمشاعرٍ لم تكن يوماً له ! 

وبترددٍ كبير , كتب لها رسالة جديدة يقول فيها :
((عزيزتي ساشا .. اريد توضيح سبب قسوتي عليك الفترة الماضي , فقد كنّا نواجه معركةً مصيرية .. وخفت ان أموت وقلبك متعلّقاً بي , لذا أردّت ان أشعرك بأنني لست مخلصاً لك لتكرهينني , فلا تحزنين كثيراً على موتي .. لكن أوضاعنا العسكريّة تحسّنت الآن , وبدأ جنود العدو بالتقهقر , وقريباً نطردهم من بلادنا .. وحينها أعود اليك لأنفّذ وعودي اتجاهك .. لأني أيقنت تماماً بأنني لا استطيع العيش دونك .. حبيبك الدائم : سيرجي))

ثم خرج من البيت لتسليم الرسالة لجاره (موظف البريد) .. 

وعاد , وهو يقول في نفسه بحزن : 
((تُرى هل ستُسامح كذبي عليها ؟ وهل ستتقبّل عواطفي الجيّاشة اتجاهها إن عرفت بأنني إلماني ؟!.. (ثم تنهّد بضيق) .. يا الهي ! لما ورّطّت نفسي بحبٍ مستحيل ؟ .. وكيف أقنع قلبي بالتوقف عن عشقها ؟!))
***

ومرّت الأيام .. أصبح فيها أوليفر محبوباً لدى الجميع بسبب مساعدته للعجائز بأعمال الزراعة ورعاية الماشية , ومشاركتهم بالصيد البرّي بعد إعجابهم ببراعته في الرماية .. 

حتى انهم في إحدى الأيام قاموا بتخبأته بقوٍ سرّي عند مرور كتيبةٌ , عملها : تجميع شباب القرى لتجنيدهم إجبارياً في الجيش الروسي.. 
لكن بعد تفتيشهم الدقيق لجميع الأكواخ , لم يعودوا يمرّون بقرية الوادي بعد تأكّدهم من خلّوها من الشباب والرجال المناسبين لخوض المعارك..

اما قصته مع ساشا فانتشرت بين افراد القرية , حتى ان بعضهم أخبره باستعداده لإحضارها له من مدينتها .. لكنه طمّأنهم بأنه سيذهب اليها في الوقت المناسب .. 
وقد أثار حبه لها غيرة صبايا القرية اللآتي حاولنّ مغازلته , لكنه ظلّ مخلصاً لحبيبته ساشا ممّا زاد احترام اهالي القرية له.. 
***

وفي أحد الأيام .. أخبره موظف البريد بأنه لم يستطع إيصال رسالته لساشا لأن مدينتها تحت حصار العدو .. فحزم أمتعته سريعاً بعد ان ودّع الجميع .. لكن قبل رحيله عن القرية , تفاجأ بالجيش الإلماني يتجه صوبهم ! 
فأسرع الأهالي بتخبئة بناتهم بأماكنٍ سرّية تحت زرائبهم , خوفاً من الإعتداء عليهنّ .. 

بينما أخفى أوليفر وجهه بالشال كي لا يعرفه جنود الإلمان , فهو المترجم الملقّب بينهم : بإبن الروسية .. 
وقامت السيدة بإعطائه رشّاش زوجها المتوفي الذي أخرجته من علّية بيتها .. ثم أسرع مع بعض العجائز الصيادين للإختباء في الغابة القريبة , وهم يصوّبون اسلحتهم اتجاه الجيش الإلماني الذي ينزل بعتاده لقريتهم .. 

ولأن أوليفر لم يكن يرغب بقتل جنود بلاده , قال للروسيين :
- رجاءً لا تقتلوا أحداً منهم , فقط صوّبوا الرصاص نحو مركباتهم 
فسأله أحدهم باستغراب : ولما لا نقتل الملاعيين ؟!
أوليفر : لأننا لوّ قتلنا او أصبنا بعض جنودهم , فسيطول بقائهم بالقرية وهم يسحبون الجثث والمصابين .. ونحن نريد إفزاعهم ليرحلوا بأسرع وقتٍ ممكن.. لهذا اريدكم ان تتوزّعوا بالغابة , وتطلقوا نيراناً عشوائية لنوهمهم بكثرتنا , فيخافون ويهربون ..
فقال كبيرهم : إسمعوا كلام أوليفر , فهو مجندٌ سابق ويعرف ما يقوله .. هيا لنتوزّع بسرعة في الغابة !!

وبالفعل نفّذوا ما قاله لهم , ليُسرع الجنود الإلمان بالرحيل .. 
بهذه الأثناء , قال أوليفر لجاره الذي كان يطلق النار بجانبه :
- ان رأيت السيدة الطيبة , فاشكرها بالنيابة عني على كرم ضيافتها
- والى اين انت ذاهب ؟!
أوليفر : الى حبيبتي ساشا .. فأنا قلقٌ عليها من الحصار  
- إذاً إذهب وانقذها يا بطل .. 
أوليفر : سلّم لي على الجميع.. الوداع 

وأسرع أوليفر راكضاً الى أعلى الجبل .. وحين وصل للشجرة الضخمة , حفر تحتها ليخرج حقيبته التي بها بذلته الإلمانية , فلبسها وهو يقول : 
- اللعنة ! انها باردة جداً .. لكن عليّ الإسراع للحاق برفاقي ..

ثم ركض بكل ما أوتي من قوة خلف مركباتهم , وهو يناديهم صارخاً بعلوّ صوته ليتوقفوا .. 
وحين سمع الضابط الإلماني صفيره وصراخه , وهو يناديهم بالإلمانية :
أوليفر : ارجوكم توقفوا !!!
أمر حينها سائق حافلة الجنود بالتوقف حالاً , خاصة بعد ان رآه من النافذة يلبس بذلته العسكرية الإلمانية ..

وحين رأوه الجنود يقترب منهم , قال أحدهم بدهشة :
- يا الهي ! انه المترجم .. إبن الروسية .. ظننته ميتاً 
ثم أدخلوه الحافلة التي أكملت طريقها نحو المعسكر الإلماني .. 

وفي الداخل , سأله الضابط :
- الم تتجمّد كتيبتك كلها بالعاصفة ؟
- نعم سيدي .. انا المترجم أوليفر , الناجي الوحيد بينهم 
الضابط باستغراب : وكيف بقيت حياً طوال الفترة الماضية , خاصة انك تلبس البذلة الإلمانية في وسط القرى الروسية ؟! 
فألّف أوليفر كذبةً سريعة , قائلاً : 
- وجدّت كوخاً مهجوراً بالغابة , وعشت على صيد الأرانب .. وحين سمعت صوت دبّاباتكم , أسرعت باللحاق بكم 
الضابط بفخر : انت تستحق نيشان على هذه البطولة .. أعطوه بعض الطعام !!

وبينما كان يأكل أوليفر البسكوت , نظر نظرةً أخيرة اتجاه القرية الروسية .. قائلاً في نفسه بحزن : 
((سأشتاق اليكم يا اصدقاء .. وبالذات لحنان السيدة الطيبة))  
*** 

وحين وصل الى معسكره السابق , استقبلوه إستقبال الأبطال .. وهنّأه القادة على شجاعته وقوته باجتياز محنته الصعبة .. 
وكمُكافأةً له : أخذوه الى سجن الأسرى المكتظّ بالفتيات الروسيات , وطلبوا منه اختيار إحداهنّ للإستمتاع بها هذه الليلة ..  

وقد صعق حين رأى ساشا من بينهن ! والتي انزوت في ركن السجن وهي ترتجف من الخوف ..
فأسرع بالقول للضابط :
- اريد هذه !!
لتنهار باكية بعد إختياره لها (فهي لا تعرفه) ..
الضابط بابتسامة : حسناً هي لك , يا بطل
فقال أوليفر بحزم : اريدها لي وحدي , سيدي !!
- ماذا تقصد ؟!
- انا لا احب مشاركة فتاتي مع بقية الجنود
الضابط : هذه أنانية منك يا أوليفر .. فهي وصلتنا هذا الصباح , وهي أجمل الأسيرات  

أوليفر : أتقصد انه لم يلمسها أحد ؟!
الضابط : نعم , فنحن لم نوزّعهنّ بعد على جداول الجنود  
أوليفر بارتياح : جيد , إذاً اريدها ان تكون جائزتي بدل الأوسمة التكريميّة 
ففكّر الضابط قليلاً , قبل ان يقول : 
- حسناً , أظنك يا بطل تستحق هذا النوع من الإمتياز .. وسأعلم البقية أنها ملكٌ لك  
أوليفر بارتياح وسعادة : شكراً لك سيدي
***

ثم دخلا سويّاً الى غرفةٍ خاصة بها سريرٌ حديديّ .. 
وقام أوليفر بقفل الباب , بينما تجمّدت هي في مكانها من الخوف.. 
فقال لها : لا تقلقي يا ساشا , أنا لن أؤذيك 
فردّت بدهشة : كيف عرفت بإسمي ؟ فأنا لم أخبر به أحد !
- انا أعرفك جيداً , وأعرف حبيبك سيرجي

وما ان قال اسمه , حتى أمسكت بيده تترجّاه ..
- اين سيرجي ؟ وكيف عرفت بأمره ؟ هل هو بخير ؟ هل أذيتموه ؟
أوليفر : اهدأي قليلاً لأخبرك بالقصة كاملة , لكن عديني ان لا تخبري أحداً بسرّي , والا قتلونا نحن الأثنين

وأخذت تستمع له .. وما أن عرفت بوفاة حبيبها , حتى انهارت بالبكاء .. 
فأصابته الغيرة , وقال بعصبية :
- ذلك الخائن لا يستحق منك كل هذه الدموع يا ساشا !!
- لا تتكلّم بالسوء عن حبيبي
أوليفر بعصبية : اذاً اقرأي بنفسك ما كتبه لك في رسالته الأخيرة , أظنك تعرفين خطّه جيداً

فجلست على السرير تقرأ شتائمه القذرة بحقها , وكيف ملّ من مشاعرها الفيّاضة اتجاهه .. ويُطالبها بعدم إرسال المزيد من الرسائل لأنه ينوي الزواج من حبيبته الممرّضة .. 

فمسحت دموعها وهي تقول : هو كتب ذلك لأنه علم بقرب أجله
أوليفر : هذا ما قلته انا على لسانه , في إحدى رسائلي لك .. ولا أظن ما قاله بهذه الرسالة كذباً ..وانت تدركين ذلك جيداً , ولا أعتقد انها المرة الأولى التي يقسو بها عليك 
فصرخت غاضبة : انت كاذب !! تقول ذلك لأنك تريدني لنفسك يا حقير , لكني لن أصدّقك ابداً , فهو حبّي الوحيد !!
وبكت بمرارة .. فقال لها :
- حسناً اهدأي , انا آسف .. بصراحة يا ساشا ..انا أحبتتك أكثر منه , بعد قراءتي لرسائلك الحنونة ..
مقاطعة بعصبية : أسكت !! فمن سابع المستحيلات ان أحب عدوي , فأنا لست خائنة لوطني

أوليفر : لكني لم أقتل احداً من شعبك , فعملي هو الترجمة فقط .. كما ان امي روسية .. ولم أكن يوماً مؤيّداً للحرب .. ساشا عزيزتي , أتمنى لوّ تعطيني فرصة كيّ ..
- إبعد يدك عني !! وأيّاك ان تلمسني مجدداً والا قتلتك , هل سمعت؟!!
- حسناً لن أفعل , ولن يؤذيك أحد طالما انا موجود
ساشا بغضب : لا تتظاهر بالقوّة امامي !! فأنت لن تستطيع حمايتي من رفاقك الوحوش 
- بل سأفعل !! حتى لوّ دفعت روحي ثمناً لذلك .. وأعدك ان تبقي عذراء الى ان أتزوجك
ساشا : ولما كل هذا ؟ 
- لأنني أحبك .. صدّقيني , أنا لم أشعر بهذا الشعور من قبل مع أيّة فتاةٍ قابلتها بحياتي 
فقالت بلؤم : الأفضل ان لا تتأمّل مني ان أحبك يوماً 
فأجابها بحنان : سأنتظرك يا ساشا حتى آخر يومٍ في حياتي

وهنا سمعا طرقاً على الباب , لجندي إلماني بصحبة فتاةٍ أسيرة روسية , يظهر بكائها الخائف من خلف الباب .. قائلاً لهما :
- هل انتهيتم ؟!! أريد استخدام الغرفة 
فأجابه أوليفر من الداخل : 
- نعم , سنخرج حالاً .. 
ثم قال لساشا بصوتٍ منخفض :
أوليفر : حين نخرج , تظاهري بأنك منهارة بعد اعتدائي عليك
فأومأت برأسها إيجاباً ..

وخرجت وهي تبكي , مُتظاهرةً بالتعب .. بينما كان أوليفر يمسك ذراعها بقسوة .. 
فقال له المجنّد : 
- أحسنت يا بطل !! دوري الآن ..هيا ادخلي ايتها الساقطة !!
***

ومرّت ثلاثة شهور .. إهتم أوليفر بساشا قدر الإمكان دون ان يلفت الأنظار اليه .. حيث عاملها بجفاء امام اصدقائه , وبكل حنان في غرفتهما الخاصة , لكنه لم يلمسها قطّ .. حتى بدأت تُعجب بشهامته ! فهي الوحيدة من بين الأسيرات التي احتفظت بشرفها بسبب نخوته .. بينما ظهر على بعضهنّ آثار الحمل .. امّا الأخريات فأسقطنّ جنينهنّ بسبب عنف الإعتداءات المتكرّرة من الجنود والضبّاط , كلاّ حسب دوره ! 
*** 

وفي إحدى الليالي .. أيقظه صديقه وهو يقول : 
- قمّ والحق بحبيبتك!!  
أوليفر بقلق : مابها ساشا ؟!
- رأيت قائدنا سكراناً , ويسحبها بعنف الى غرفته .. أظنه سيعتدي عليها

فأسرع أوليفر الى هناك .. وخلع الباب , ليجدها تقاوم الضابط بكل قوتها بعد ان مزّق ملابسها .. فعاجله بضربةٍ قوية , أوقعته على الأرض مغشيّاً عليه .. 

بينما أسرع هو بتغطية ساشا بمعطفه والتي كانت ترتجف بقوة ..
- ساشا عزيزتي يجب ان تتمالكي أعصابك , لأني سأقوم بتهريبك من المعسكر الآن 
فسألته وهي مازالت تحاول إلتقاط انفاسها المرتعبة : وكيف ؟
- كنت خبّأت قبل ايام سلّماً خلف حافلة الجنود ..سأقوم بوضعه على الجدار , لتهربي من فوق السور .. وفور خروجك من هنا , عليك الركض بأسرع ما يمكنك بين الأدغال , الى ان تصلي لأقرب قريةٍ روسية .. هل فهمتني ؟

فسألته بقلق : وماذا عنك يا أوليفر ؟
- سأواجه مصيري , والأرجح انهم سيسجنونني بسبب ضربي للضابط ..هذا ان لم يقتلوني بتهمة الخيانة بسبب تهريبي لك
ساشا بقلق : لا اريدك ان تجازف لوحدك .. سأبقى وأتحمّل العواقب معك
أوليفر بحزم : لن أسمح لك بذلك !! فالموت أهون عليّ من ان يلمسك أحد .. فهيا تعالي معي ..ولنستفدّ من ظلام الليل , كيّ تبتعدي لأطول مسافةٍ ممكنة عن المعسكر .. 
*** 

وبعد نجاحه بتهريبها .. تحمّل أوليفر بشجاعة في اليوم التالي , ضربات ولكمات الضابط الغاضب الذي حكم عليه بالسجن الإنفرادي , ولمدةٍ غير محدودة !
ورغم كل آلام أوليفر الا انه كان سعيداً بإنقاذ حبيبته .. 

كما انه تنفّس الصعداء بعد محاكمته من القادة العسكريين الذين اعتبروا عمله المتهوّر بتهريب الأسيره انما كان بدافع العشق والغيرة , لهذا لم يتهموه بالخيانة التي عقابها الإعدام رمياً بالرصاص ! 
*** 

ومرّ الشهر ببطءٍ شديد على أوليفر داخل السجن الإنفرادي , الى ان استطاع زميله (المسؤول عن اطعام المساجين) بإيصال رسالة له , رماها من تحت الباب الموصد بالأقفال ..
فسأله أوليفر من خلف الباب : ممّن هذه الرسالة ؟
فهمس له : من حبيبتك ساشا 
أوليفر بدهشةٍ وفرح : أحقاً ! كيف ؟

صديقه : ما لا تعرفه انني كنت خارج المعسكر لإحضار المؤنة , حين رأيت ساشا تقفز من فوق السور .. ولمعرفتي بحبك الشديد لها , أوصلتها لأقرب قريةٍ روسية  .. وقد ترجّتني بأن أوصل لك رسائلها.. واتفقنا بأن تضعهم بين أغصان الشجرة الضخمة في أعلى القرية ..وآخذهم انا , مرة كل اسبوع .. وهذه هي رسالتها الأولى 
- انا شاكرٌ لك يا صديقي , واريدك ان تعطيها رسائلي ان أمكنك ذلك 
صديقه : يبدو انني سأعمل ساعي بريد للعاشقيّن ..على كلٍ , علمت بأنك ستطلب مني ذلك , لذا أحضرت لك ورقاً وظرفاً وقلم .. سآتي بعد قليل لآخذ الرسالة
***

وفي داخل الزنزانة .. جلس أوليفر يقرأ رسالتها بشوقٍ كبير وبعيونٍ دامعة , حيث شكرته فيها على عمله البطولي بإنقاذ شرفها وحياتها ..كما أخبرته عن مدى قلقها عليه..
فمسح دموعه وهو يتمّتم بفرح :
- أخيراً بدأ قلبها يلين لي 

ثم أخذ يكتب لها رسالةً غرامية , تجرّأ فيها على تصوّر حياتهما معاً كعائلة لديها الكثير من الأولاد .. قائلاً بالسطور الأخيرة : 
((أعرف انني تسرّعت بهذه الخطوة , لكني خائف ان تكون رسالتي الأخيرة لك , وأردّتك ان تعرفي نيّتي الحقيقية اتجاهك .. حبيبك المخلص : أوليفر))
***

بعد اسبوع , وصله الردّ.. حيث قالت في رسالتها : 
((وكيف تريدنا ان نتزوج ؟! واين سنعيش ؟ ..ان بقيت معي في روسيا , ربما يقتلوك شعبي ..وان ذهبت معك الى المانيا , فحتماً سيؤذينني ..فأين تريدنا ان نبني عائلتنا الخيالية ؟))

وقد أسعده جوابها لأنها لم ترفض فكرة الزواج منه , بل إستصعبتها فقط.. 
فكتب لها برسالته الجديدة , قائلاً بحماس :
((ما رأيك ان نذهب لسويسرا ؟ فهي بلدةً محايدة عن أحداث الحرب اللعينة .. وفيها بيت عائلتي القديم , فما رأيك حبيبتي ؟)) 

فأتاه الردّ بعد ايام : ((لطالما حلمت بالعيش هناك , عزيزي أوليفر))
وما ان قرأ اسمه لأول مرة في رسائلها , حتى صرخ بعلوّ صوته من داخل الزنزانة , وبفرحٍ شديد : 
- أخيراً وافقت !!!!!

فأسرع صديقه اليه , هامساً له من خلف الباب الموصد ..
- يا غبي !! إخفض صوتك .. أتريد ان تفضحنا !
فأجابه من داخل الزنزانة بسعادة : 
- لقد قبلت الزواج بي يا صديقي
- مبروك , سنزفّك في حال خرجت من هنا حيّاً .. رجاءً , حاول ان تمسك نفسك قليلاً 
أوليفر : اريد ان أكلّم الضابط فوراً
صديقه بقلقٍ شديد : لوّ عرف بموضوع الرسائل سيتهمونني بالخيانة والجاسوسية مع العدو , وربما أُعدم بسببك !
- لا تقلق , اريد فقط الإعتذار منه
صديقه بارتياح : وأخيراً قبلت ايها العنيد .. حسناً سأطلب من الحارس فتح الباب لك.. 
***

ثم أخذه الحارس لغرفة الضابط (الذي ضربه سابقاً) .. ليقوم على الفور بالإعتذار منه 
الضابط بلؤم : لا يكفي إعتذارك , أريدك ان تزيل فكرة الروسية ساشا من رأسك , فهي تبقى امرأة من أعدائنا
فقام أوليفر بتمثيل دور العاشق المخدوع , قائلاً بقهر : 
- نسيت أمر تلك الخائنة , وأتمنى لها الموت هي وعشيقها الجديد
الضابط باستغراب : وكيف عرفت ذلك ؟! 
- رأيتها تتزوج قريبها الروسي في منامي , وأحلامي لا تكذب ابداً

فضحك الضابط ساخراً ..
- يبدو ان السجن الإنفرادي أثّر على اتزانك العقلي ! ..على كلٍ , سأعفو عنك لأننا قبضنا البارحة على جندي روسي استطاع التسلّل ليلاً الى معسكرنا , وتمكّن الحرس من القبض عليه قبل تفجير نفسه .. واريدك ان تستجوبه , فمترجمنا الآخر ذهب في مهمةٍ خارجية .. 
أوليفر : وماذا تريد ان تعرف منه ؟ 
- كل شيء .. من أرسله ؟ واين تتمركز فرقته ؟ وماذا ينوّون فعله ؟ وماهي خططهم واعداد جيشهم ؟ وهل بيننا خونة ساعدوه للدخول الى هنا؟
- كما تشاء سيدي 
الضابط : اذاً تعال معي .. أعتقد ان الروسي تلقّى ما يكفي من التعذيب  طوال ليلة أمس ليعترف لنا بسهولة عن كل شيء
***

ودخل أوليفر غرفة التحقيق , ليجد آثار التعذيب واضحة على وجه وجسم الجندي الروسي الذي بالكاد استطاع الجلوس على الكرسي من شدة الألم 
فسأله أوليفر (باللغة الروسية) عن طريقة تسلّسله الى المعسكر شديد الحراسة ؟ 
فأخبره عن حفره في الجدار الخلفيّ للمعسكر ..
فسأله أوليفر باهتمام : وهل مازالت الفتحة موجودة ؟
الروسي بتعبٍ وألم : نعم , خبّأتها بالأعشاب والأغصان اليابسة 

وهنا سأل الضابط الإلماني أوليفر : هيا ترجم لي ما يقوله هذا اللعين !!
أوليفر : كان يترجّانا ان نطلق سراحه
الضابط بلؤم : قلّ له انه ميتٌ لا محالة .. لكن ان اراد الموت السريع فليعترف بكل شيء , والا سيُقتل بأعنف وأسوء وسائل التعذيب النازيّة 

وبعد ساعتين .. أنهى أوليفر التحقيق معه , ليعود الى ثكنته .. منتظراً حلول المساء , بعد ان رتّب أغراضه داخل حقيبته ..
***

وفي آخر الليل وبعد ان نام الجنود .. إستغلّ أوليفر إنشغال حارسيّ المراقبة بالكلام مع بعضهما فوق برج المراقبة , ليُسرع الى الجدار الخلفي للمعسكر , للبحث عن تلك الحفرة التي حفرها الفدائي الروسي ..

وبالفعل وجدها بعد ان أزال عنها الأغصان , وهرب منها سريعاً نحو الأدغال .. وهناك بدّل ملابسه بملابسٍ رياضية , ودفن بذلته العسكرية تحت الشجرة .. ثم أسرع نحو القرية التي أخبره صديقه بأن ساشا تختبىء فيها ..
***

ووصل هناك عصر اليوم التالي .. لينهار من التعب امام إحدى بيوت القرية .. 

وحين استيقظ , وجد ساشا امامه تقول له :
- الحمد الله على السلامة .. كنت خائفة ان ..
وقبل ان تكمل كلامها , حضنها بشوقٍ كبير .. 
فلم تجد نفسها الا وهي تحضنه بدورها .. 
ثم قال لها :
- عليك ان تتجهزي بسرعة , كيّ نهرب الى سويسرا في الحال
ساشا بقلق : وكيف سنصل الى هناك ؟ المسافة طويلةٌ جداً ! 
- لا تقلقي , فقد إتفقت مُسبقاً مع تاجرٍ لإخراجنا من روسيا 
- وكيف تعرّفت عليه ؟

أوليفر : هو من أقارب امي .. الآن عليك الإسراع بحزم حاجياتك المهمّة فقط , قبل ان يلاحظ المعسكر غيابي ويبدأون بالبحث عني .. هيا بنا
ساشا : أتدري .. جيد انه حلّ فصل الربيع , والا لكانت المغامرة مستحيلة .. لكن مع هذا لا استطيع الذهاب معك , فأنت مازلت رجلاً غريباً عني ..
*** 

بعد ساعة .. تجمّع اهالي القرية بحضور الراهب لتزويجهما على عجل .. وأهدتها إحدى النساء خاتم الزواج , بعد عقد قرانهما .. 

ومع حلول المساء .. ركبا ظهر البغلتين باتجاه القرية التي بها التاجر ..  وهناك بقيا اسبوعاً , الى ان استخرجا هويتين جديدتين لهما ..  
*** 

وكانت الرحلة طويلةً ومرهقة , إستغرقت شهرين متعبين ومتوتّرين للغاية , إستخدما فيها البغال والشاحنات والحافلات لتنقّلهما ضمن رحلةٍ محفوفة بالمخاطر بين الدول المتحاربة .. 
وقد تعلّمت ساشا بعد الكلمات الإلمانية من أوليفر للمرور بسلام من مراكز التفتيش الإلماني .. بينما استخدم زوجها هويته الروسية التي استخرجها من مكتب المسؤول في قرية امه , للخروج من مقاطعة أوكرانيا التابعة للإتحاد السوفيتي.. وبدورها استخدمت ساشا هويتها المزوّرة الإلمانية لاجتياز حدود دولة المجر وكذلك النمسا التابعة لدول المحور .. وظلاّ على أعصابهما , الى ان وصلا لسويسرا بشقّ الأنفس !
***

وكان نومهما في السرير الدافىء لبيت أهله القديم فوق جبال سويسرا هو أجمل يومٍ في حياتهما , وكأنهما ولدا من جديد ! 

وهناك تابعا حياتهما بهدوء بعيداً عن ويلات الحروب .. واشتريا بنقودهما المتبقية بعض الدواجن والخراف .. وأنتجا سويّاً جبناً فاخراً حصل على إعجاب المتسوقين , مما حسّن من أوضاعهما المالية .. 
ولاحقاً أنجبا طفلةً جميلة أسموها : ريمي 
***

وفي صباح يومٍ جميل  .. رأى أوليفر زوجته خارج الكوخ تلاعب ابنتهما فوق المروج الخضراء , ثم ركضت ريمي نحوه وهي تناديه بعلوّ صوتها : ابي !!  
فقال في نفسه بسعادة : 
- هذا تأويل منامي !

وعاشوا كعائلةٍ سعيدة , بعد ان نجح حبهما بتجاهل العداوة والصراعات الدامية بين دولتيهما المُتحاربة , في أسوء حربٍ عرفها التاريخ ! 

هناك 5 تعليقات:

  1. قصة مميزة جدا ورائعة, في إنتظار المزيد من قصصك.

    ردحذف
  2. ابدعتي ايتها السيدة الطيبة في تناغم الاحداث...شكراً لكِ من القلب💗❤❤

    ردحذف
  3. شكراَ... ساشا.. امتعتينا بحق استاذة/ أمل ما أجمل هذا الإسم أمل باعث التفاؤل.

    ردحذف
  4. جميلة جدًا.. لكن الغريب أن حبيبته ساشا لم تعترف له بحبها ولو لمرة.. فهل يعقل أن يتزوجا ويعيشا كل هذه الفترة وأنتِ لم تذكري أنها أحبته؟!

    ردحذف

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...