تأليف : امل شانوحة
عُقد الماضي
في مكتب العيادة النفسيّة للطبيب هاني (الرجل الأربعيني) دخلت صبيّة (عشرينيّة) بملابسها الذكوريّة ومشيتها المُسترجلة ، محاولةً تضخيم صوتها :
- هل نبدأ العلاج فوراً ؟!!
الطبيب : نعم .. إستلقي على هذه الكنبة ، وحاولي الإسترخاء
ثم جلس على الكرسي بجانبها ، وهو يحمل ملفّها :
- إخبريني اولاً بإسمك ؟
الصبيّة : فهد
الطبيب باستغراب : ماذا قلتِ ؟!
فأجابت بعدم مبالاة : او فاديا ، ايهما تختار
- وهل تريدين ان اناديك فهد ام فاديا ؟
الصبيّة : فاديا هو إسمي على الهويّة.. وفهد هو الأسم الذي ناداني به والدي منذ ولادتي ، لحين وفاته قبل اشهر
- وما سبب هذه الإزدواجيّة ؟
- ربما بسبب امي التي هربت مع عشيقها ، وانا بعمر الثالثة .. فلم يرد والدي ان اكون نسخةً عنها
الطبيب : اذاً انتِ..
مقاطعة : لا !! لست ابنة حرام ..فوالدي قام بالفحصوصات اللازمة بطفولتي ، وتأكّد من إبوّته لي..
الطبيب : وبسبب كرهه للنساء ، حرمك انوثتك ؟!
فتنهّدت بضيق : هو احب امي بجنون ، لكنها كسرت قلبه بخيانتها له ! لذلك لا ألومه على تربيّتي كولدٍ قويّ
معاناة فاديا الغريبة ، أشعرت هاني برغبة غامضة لسماع المزيد عن ماضيها ! والتي جعلته يطلب من سكرتيرته إلغاء بقيّة المواعيد ، لأن حالتها تتطلّب وقتاً لشفائها
ثم عاد للجلوس بجانب فاديا ، لسؤالها مجدداً عن والدها ؟
فأخبرته انه اجبرها بعمر المراهقة على تناول دواءٍ طبّي لتأخير بلوغها ، حتى يُبعدها تماماً عن عالم النساء ! ولم يكتفي بذلك .. بل ادخلها نادي الكاراتيه ، لجعلها ذكراً قويّاً لا تكسره أيّةِ امرأة !
الى ان وصلت لذكرى مؤلمة بطفولتها : عندما منعها البكاء لأنها صفة المُخنّثين .. ثم وضعها امام المرآة ، وهو يأمرها بترديد الجملة التالية :
((انا فهد !! اقوى ولدٌ بالعالم !! لا يمكن ايذائي بأيّة طريقة !!))
وما ان قالت ذلك ! حتى استعاد الطبيب ذكرى من طفولته : بعد ان اجبرته امه على لبس فستان اميرة ديزني ، بشعره الطويل المُجدّل التي ترفض قصّه ! ثم أوقفته امام المرآة ، لترديد الجملة التالية :
((انا الأميرة الفاتنة !! الفتاة التي لا يمكن ايذائها !!))
ورغم معالجته مئات المرضى ، الا انه اخفى جرحاً كبيراً في قلبه.. وكلما سمع المزيد من معاناة فاديا ، كلما هدمت جدراناً بينه وبين ماضيه !
الى ان أخبرته :
- ابي وصّاني قبل وفاته بأخذ ابر هرمونات ، لتحوّلي لرجلٍ حقيقيّ.. (ثم قالت بسخرية) .. أتدري دكتور .. لا امانع ذلك .. فجميع النساء خائنات ، ولا يمكن الوثوق بهنّ
لينفجر غاضباً :
- وهل الرجال ملائكة ؟!! من اعطاهم الإذن للإعتداء على النساء ، وزرع بذرتهم اللعينة في ارحامهنّ ؟! ما ذنب الأطفال ليعاقبوا بجريمتهم القذرة ؟!!
ليتفاجأ بفاديا تمسك يده المرتجفة ، وهي تقول بدهشة :
- هل تعاني من العقدة ذاتها ؟!
فسقط ملفّها من يده .. بعد ان عاد سيلٌ من ذكريّات طفولته السيئة ، التي تناساها لسنواتٍ طويلة !
جعلته يُدير ظهره ، وهو يحاول إسناد نفسه بالطاولة بعد انهيار قوته .. قائلاً بصوتٍ مرتجف ، لا يخلو من الحدّية :
- إذهبي الآن آنسة فاديا ، وعودي بعد اسبوع بجلسةٍ جديدة
قالها دون النظر اليها ، كيّ لا ترى دمعته !
لينصدم من احتضانها له من الخلف ، وهي تقول بحنان :
- لن اتركك تعاني وحدك .. سأساندك لحين شفاءنا سويّاً
ثم خرجت من العيادة قبل إعطائه فرصة للردّ ، تاركةً طبيبها يعاني من تسارع ضربات قلبه وضيقٌ شديد في التنفّس ! جعلته يطلب من السكرتيرة إغلاق العيادة باكراً ، بينما توجّه عائداً الى بيته
***
في منزله ، صعد الى العلّية .. لإحضار صندوقٍ اعطته له والدته ، بزيارتها الأخيرة لجدته (التي اخذته منها بسن المراهقة قبل تحوّله لشاذّ ، بسبب تربيّة ابنتها الخاطئة) لكنه لم يفتح الصندوق ، بعد سماعه بانتحارها!
لكنه اليوم تشجّع على فتحه ، ليجد صور طفوّلته التي يكرهها .. جميعها بشعره الطويل وفساتينه المزركشة ، ومكياجه التي أجبرته على وضعها ! كما وجد شريط فيديو قديم ، وضعه في الجهاز :
((ليشاهد عيد ميلاده بسن التاسعة وهي يبكي ، طالباً من امه السماح بنزع فستانه الزهريّ قبل قدوم اصدقائه .. ليسمع صوتها بالفيديو ، تقول :
- حبيبتي هانية .. انت اجمل اميرات العالم !! لا تسمحي لأحد بحرمانك من تألّقك وأنوثتك الطاغية
ليجيبها بالفيديو باكياً : إسمي هاني ، يا امي !!
- قلت لا !! انت طفلتي التي أسميّتها منذ ولادتها : ب (هانية) .. الا يكفي انني لم اعاقبكِ على قصّ شعركِ البارحة دون إذني))
فأطفأ الدكتور الفيديو غاضباً .. وهو يتذكّر كيف امضى تلك الليلة يستمع الى تعليقات اصحابه الذين لقبوه بالشاذّ ، وغريب الأطوار .. ليعاني بعدها لسنوات من تنمّرهم القاسي في المدرسة ، وبشوارع منطقته القديمة !
وكأن دموع طفولته تجمّعت بعينيه ، لتنهمر كالشلال طوال الليل.. بعد ان مزّقت المريضة فاديا كل جروحه الماضية !
***
بعطلة نهاية الإسبوع .. تلقّت فاديا دعوة من طبيبها ، لزيارة منزله !
وعندما فتح لها الباب ، لم يكن يلبس الروب الأبيض .. وأدخلها الصالة وهو يقول :
- هنا لن نلتزم بدوّر الطبيب والمريضة.. وربما نتبادل الأدوار ، لعلاج هويّتنا المشوّهة
ثم اراها صور طفولته التي كانت معظمها بملابس بنات ، قائلاً بعيونٍ دامعة :
- هل كان هذا خطأ امي ، ام ابي المُعتدي الذي ربما مات دون عقابٍ قانونيّ على تدميره والدتي التي ارادت الشعور بأنوثتها المُهدرة من خلالي؟!
فأخرجت فاديا صور طفولتها من حقيبتها الرياضيّة ، والتي صُوّرت معظمها اثناء تدرّبها الكاراتيّه بالنادي .. وهي تقول بقهر :
- اما والدي ، فأرادني شاباً قوياً عديم العواطف .. كيّ لا ينكسر قلبي ، كما حصل له ! وبسببه امتلأ جسمي بالرضوض والكسور.. لكن ما يشغل تفكيري حالياً هي وصيّته الأخيرة قبل موته .. فهل آخذ ابر الهرمونات لتحوّلي لرجل ، كما حلم دائماً ؟
فأمسك هاني يدها ، قائلاً بحنان :
- لسنا مُضّطران لتنفيذ احلامهما الغريبة.. بل دعينا نكون كما خلقنا الله منذ البداية
فأومأت برأسها موافقة
***
بعدها بأيام .. زارها بالجامعة ، بعد توطّد علاقتهما بالمكالمات الهاتفيّة.. ليتفاجأ بلبسها فستاناً جميلاً مع مكياجٍ ناعم .. وهي تقول بخجل :
- رجاءً لا تحكم عليّ .. فالبارحة تجرّأت لأول مرة على اللبس بهذه الطريقة .. وبعد تشجيع زميلاتي ومدحهنّ ، قرّرت المتابعة
هاني بابتسامة : تبدين كالأميرات
فاديا : آه ! على ذكر الأميرات .. ما رأيك بالإنضمام لمسرحيّة الجامعة ؟
وأخبرته بأنه قبل ذهابها الى عيادته ، كانت تنوي التقدّم لدوّر الأمير بالمسرحيّة.. لكنها الآن ستؤدي دوّر الأميرة.. وطلبت منه التقدّم لدوّر الأمير ، لوسامته واناقته
فقال وهو يكتم حزنه :
- ذكّرتني بأمي عندما تشاجرت مع معلمتي ، لجعلي الأميرة بمسرحيّة في مرحلة الإبتدائيّة ! مما جعلني محطّ سخريّة الطلاّب وأهاليهم لسنواتٍ طويلة.. وبسببها كرهت المسرح ، وكرهت نفسي !
فأمسكت يده بحنان :
- لنجعل هذه المسرحيّة بداية علاجنا من طفولتنا المشوّهة
***
وبالفعل وافق على اداء الدوّر.. وبالمشهد الأخير : كان عليه انقاذ الأميرة المخطوفة من قطّاع الطرق .. ليتفاجأ الكومبارس بضربهم بقوّة ، من الممثل الجديد !
وبعد انتهاء المسرحية وتصفيق الجمهور على حسن ادائه هو وفاديا ، عاتبه الكومبارس بالكواليس على قساوته معهم !
فاعتذر قائلاً :
- آسف يا رفاق ، إندمجت بالدوّر
ليتفاجأ بقبلة لطيفة من فاديا على وجنته ، وهي تقول بفخر :
- كنت فارسي البطل !!
^^^
وبعد بقائهما بمفردهما ، قالت له :
- كان والدي يعلّمني الكاراتيه ، لأصبح قويّة دون وجود شابٍ بحياتي .. لكني من خلال المسرحيّة ، شعرت بحاجتي لرجلٍ يحميني .. رجلٌ شهمٌ مثلك ، أشعرني بأنوثتي الضائعة !
هاني : لا تدري كم كلامك يُريحني
وقرّبها منه .. ليشعرا كأنهما دفنا الماضي الكئيب ، بحضنيّهما الدافئيّن !
***
بنهاية الشهر .. اتفقا على زيارة قبريّ والديّهما ، لمسامحتهما على تربيتهما الخاطئة التي أضرّت نفسيّتهما طوال حياتهما
ليتفاجئا بأن والديّهما مدفونان بذات المقبرة ! فقال لها :
- يبدو ان القدر كتب لقاءنا ، حتى قبل اجتماعنا بالعيادة !
ثم توجّه كل واحدٍ منهما الى قبر اهله ..
ووقفت فاديا امام قبر والدها ، وهي تمسح دمعتها :
- انت قمعت انوثتي .. حرمتني من حنانك ! اردّت بقسوتك جعلي شاباً قوياً .. بعكس حبيبي الذي أشعرني بأني اميرة تحت ظلّه وحمايته .. ورغم كل ذكرياتي السيئة معك الا انني اسامحك .. لا لشيء سوى إخراج ذكراك من قلبي ، وفسح المجال لعشق اميري الذي احتل كل كياني..
وامام قبر والدته ، قال هاني بقهر :
- لسنواتٍ طويلة ، لم اعرف من اكون ! انت دمّرتي هويّتي .. مع اني حاولت ارضائك غصباً عني ، لشفقتي على ماضيك المؤلم .. لكنه ليس عدلاً ان تعاقبني على جرم والدي .. والآن بفضل حبيبتي فاديا ، اصبحت رجلاً حقيقيّ .. وسأكون الداعم الأول لها .. فبمحاولتي شفائها من عقدتها ، شفتني معها ! ولهذا اتيت اليوم لمسامحتك عن ذنبك معي.. ربما لن ازورك ثانيةً ، لكن اردّت إخبارك إنني لم اعد غاضباً منك
ثم التقيا امام بوّابة المقبرة ، ليصدمها بجثوه على ركبته وهو يرفع خاتم الخطوبة :
- اعرف انه ليس مكاناً مناسباً للتقدّم بخطبتك ، لكنه لم يعد بإمكاني الإنتظار اكثر .. فاديا حبيبتي ، هل ترضين ان تكوني اميرتي للأبد ؟
فأجابت بابتسامة ، وعيونٍ مليئة بالدموع :
- بالطبع !! يا فارسي الشهم الشجاع
واحتضنا بعضهما بشوقٍ وحنان ، بعد ان شُفيا اخيراً من جروح الماضي المؤلمة !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق