تأليف : امل شانوحة
ظروفٌ مُعاكسة
بعد شهرين على نهاية الحرب العالميّة الثانية ، وتحديداً في برلّين الشرقيّة .. لاحظت ارملةٌ إلمانيّة كيس الحلوى التي يحملها ابنها بعد عودته من المدرسة ! مُدّعياً أنها هديّة من معلّمه لإجابته سؤالاً مهمّاً
وبعد تكرّر الأمر دون تحسّن نتائجه الأسبوعيّة ، راقبته دون علمه.. لتجده يلعب في غرفته بسيارته الجديدة التي لم يتسنّى له تخبأتها..
فجلست تستجوبه عمّن يعطيه الهدايا والحلوى ؟
فأنكر لبعض الوقت ، الى ان أخبرها بأنها هدايا من رجلٍ نمساويّ ينتظره عند باب المدرسة كل يوم ، ويبتعد فور إيصاله المنزل !
فعاتبته غاضبة :
- كم مرّة نبّهتك أن لا تكلّم الغرباء ؟!! وهآ انت تأخذ منه الحلوى ، التي ربما فيها مخدّرٍ او سُمٍّ قاتل
الصبية : امي ، هو صديق والدي بالعسكريّة
بصدمة : ماذا !
- أخبرني انه زميله ايام الحرب ، وانه بقيّ مع والدي اثناء احتضاره وهو يتحدّث عنا بشوقٍ وحنين
الأم باستنكار : إن كان كلامه صحيحاً ، فلما لم يقابلني اولاً لإخباري عن زوجيّ المرحوم ؟!
- قال سيراك لاحقاً ، لإعطائك الأمانة
الأم باهتمام : أيّةِ امانة ؟!
- لم يخبرني عنها
- لابد أن اراه ، لأطمئن من نواياه
ابنها : كيف وهو يُسارع بالرحيل فور إيصالي المنزل ؟!
- اذاً سأختبئ غداً خلف الشجرة ، إيّاك إخباره بذلك
***
وفي اليوم التالي ، وقبل توديعه الصبي (بعد شرائه الحلوى له) .. نادته من بعيد وهي تصوّب مسدسها نحوه :
- لما تصاحب ابني ، ايها المنحرف ؟!!
فرفع الرجل يديه مُستسلماً :
- اهدأي سيدتي ، وسأخبرك بكل شيء
ابنها بخوف : امي ! رجاءً لا تقتلي صديقي
الأم بحزم : أدخل الى المنزل !!
- امي !
الأم بغضب : قلت الى المنزل .. الآن !!
فركض حزيناً الى بيته .. بينما يحاول الرجل إقناعها بإنزال المسدس ، لإخبارها عن زوجها..
السيدة باستنكار : وهل تريدني أن أصدّق أنك كنت معه بنفس الكتيبة؟
ففتح حقيبة ظهره ، وهو يبحث عن شيءٍ بين غيارات ملابسه..
فاقتربت السيدة وهي تسأله : لما تحمل حقيبتك معك ؟!
الرجل : انام في فندق المسافرين .. وأخاف ان يسرقوا اغراضي بغيابي ، لذلك أحملهم معي اينما ذهبت
- حقيبتك الصغيرة تدلّ انك لست من هنا ، فهل انت حقاً نمساويّ ؟!
- دعينا نجلس في حديقة الأطفال ، لإخبارك الحقيقة
^^^
وذهبا مشيّاً الى الحديقة التي لا تبعد كثيراً عن منزلها ..
وبعد جلوسهما هناك .. أعاد فتح حقيبته والبحث فيها ، لحين إخراجه رسالتين عليهما بقع دمٍ قديمة !
الرجل : تفضّلي !! هاذين الرسالتين من زوجك ، كتبهما اثناء احتضاره.. فمن عادتي الإحتفاظ برسائل فارغة داخل حقيبتي العسكريّة ، لعدم علمي بوقت سماحهم لنا بمراسلة أهلنا !
السيدة : إن كنت فعلاً إلمانيّ ، فلما تتحدّث بلكنةٍ غريبة ؟!
- امي نمساويّة ، وهي ربّتني بعد وفاة ابي.. لهذا استطعت التقرّب من ابنك بسهولة ، فكلانا ايتام !
- ومن سمح بعطفك على ابني ؟
الرجل : كنت أنفّذ وصيّة زوجك
ثم وقف وهو يحمل حقيبته :
- سأتركك تقرأين الرسالة على راحتك .. ولا تنسي اعطاء الرسالة الثانية للصغير ، سيفرح بها كثيراً
السيدة : أين تذهب ؟! لم أُنهي كلامي بعد.. اريد معرفة سبب مصاحبتك إبني ؟
- ستعلمين لاحقاً
وابتعد ليراقبها خلف الشجرة ، وهي تبكي اثناء قراءتها رسالة زوجها الأخيرة
***
بعد يومين .. زار الرجل منزلها وهو يحمل الزهور ، مع لعبةٍ جميلة لإبنها ! فدعته على الغداء ..
وقد اعتاد في كل زيارة على إخبار الصبي عن شجاعة ابيه النادرة في المعارك ، الى أن تدمع عينا الصغير وهو يتخيّل والده كبطلٍ خارق !
رغم علم السيدة بمبالغته بمدح زوجها ! بل تكاد تجزّم أن معرفته به سطحيّة ، قد لا تتعدّى الأيام ..وليس صديقه منذ التحاقهما بالعسكريّة ، كما ادّعي ! فالكثير من المعلومات التي قالها عنه خاطئة ، كوصفه بالعملاق : مع ان زوجها متوسّط الطول ، مُقارنةً بطوله الذي يُقارب المترين ! ومع ذلك لم تكذّبه امام ابنها الذي كان مُتعطّشاً لسماع قصصٍ عن والده الذي التحق بالحرب وهو طفلٌ صغير
***
مع مرور الأسابيع ، تعلّقت السيدة بالرجل ! وصارت تنتظره على الغداء كأنه فرد من العائلة ، والذي قام بتعليمها بعض الوصفات الجديدة التي أحبّتها مع ابنها الذي يطير فرحاً كلما لاعبه بالكرة او تسابقا بالدرّاجة .. كما استمع باهتمام الى نصائحه بالتعامل مع رفاقه خاصّة الفتيات ، كأنه والده الحقيقيّ !
***
لم ينتهي الشهر الثالث ، حتى تجرّأ الرجل على طلب يدها ! ولولا انه الصديق المُقرّب لزوجها التي عشقته بجنون ، لما وافقت على اقتراحه الذي سيتمّ بعد اسبوع
***
وفي يوم العرس وقبل قدوم المعازيم الى حديقة منزلها التي زيّنتها بالورود ، أصرّ على محادثتها على انفراد !
فخرجت امها واختها وصديقتها من الغرفة وهنّ يعاتبنه : بأنه فألٌ سيء أن يرى عروسته قبل عقد الزواج !
وبعد بقائهما بمفردهما ، لاحظت الدموع في عينه ! فسألته بقلق :
- ماذا حصل ؟!
العريس بحزن : لا استطيع بدء حياتنا مع كذبتي التي طالت مدّتها
- ماذا تقصد ؟
- انا سوفيتيّ ، ولست نمساويّ
العروس بفزع : من جيش العدوّ !
العريس بحزن : ليس هذا فحسب .. لم اكن يوماً صديق زوجك.. (ثم تنهّد بضيق) .. الحقيقة انني تهت عن كتيبتي لساعات اثناء سيري وسط غابةٍ موحشة ، الى ان وجدته يأنّ من ألم قدمه التي أُصيبت في معركتنا الأخيرة ! وكان واضحاً بأنه يحتضر .. ولأني كنت مترجماً ، فهمت توسّلاته بعدم قتله .. ولم اجد مانعاً من إشرابه الماء بعد أن رأيته يتصبّب عرقاً رغم البرد القارص ، فعرفت أن جرحه مُلتهب وأصابته بليغة.. لهذا قاسمته شطيرتي ، وأشعلت سيجارته الأخيرة اثناء كتابته الرسالتين لك ولإبنه.. ثم تحدثنا لبعض الوقت .. وقبل حلول الظلام ، سمعت طلقاتٍ ناريّة من بعيد ! فعرفت ان زملائي يلاحقون الأسرى : إمّا لقتلهم او إرسالهم للمعسكر.. فأشهرت سلاحي في وجهه ، كيّ لا يعدّونني خائناً.. فسلّمني الرسالتين وهو يقول مبتسماً : ((عائلتي امانة في عنقك.. يمكنك إطلاق النار ، فأنا مقدّرٌ وضعك يا صديقي)) .. فطلبت منه السماح ، ثم أرديته قتيلاً !
فجنّ جنون العروس التي هجمت عليه وهي تضرب صدره بكلتا يديها بهستيريا ، وتصرخ باكية :
- قتلت زوجي !! ثم أوهمت ابني انك صديقه ، لأقع بغرامك .. يالك من وقحٍ ملعون !!
العريس وهو يحاول تهدأتها :
- قتلته ، لأنه أصبح صديقي خلال الساعات الثلاثة التي قضيتها معه .. لهذا خفت إن وجدوه ، أن يرسلوه لمعسكر التعذيب.. انت لا تدرين ما يفعلونه بالأسرى : هم يسلخونهم ويحرقونهم ، وأحياناً يقطّعونهم وهم احياء ! وهو بالكاد يتنفّس من آلام قدمه ، لهذا أرسلته الى الجنة .. وظننت بأني سأنساه فور التحاقي بكتيبتي ، لكن وصيّته الأخيرة أرّقت نومي لسنوات ! .. رغم نيّتي برميّ رسائله ، لحاجتي لمعجزة للوصول لإلمانيا بجنسيّتي السوفيتيّة ، ومع هذا احتفظت بهما ! .. ورغم سيطرة السوفييت على برليّن الشرقيّة ، الا انني دفعت مبلغاً كبيراً لتزوير الهويّة النمساويّة (الموالية لإلمانيا) وتعلّمت لهجتهم البافاريّة في حال كُشف امري ، وجازفت بحياتي للوصول اليكم.. كل هذا كيّ لا تعدّينني من الأعداء .. وعندما رأيت ابنك لأول مرة ، لاحظت شبهه بأبيه ! صدّقيني ، لولا الحرب لكنت انا وزوجك من أعزّ الأصدقاء.. صحيح لم اعرفه إلاّ لوقتٍ قصير ، لكنّا تشابهنا بالأفكار والأحلام ، كأننا نشأنا من ذات البيئة ! حتى ذوقنا بالنساء مُتشابه ، فقد أُغرمت بك فور رؤيتي صورتك في جيبه بعد وفاته .. وهذا ما شجّعني للمغامرة بحياتي لرؤيتك.. ارجوك سامحيني !!
ففتحت باب غرفتها ، وهي تقول بحزم :
- أغرب عن وجهي !!
بصدمة : حبيبتي !
بعصبية : لست حبيبتك !! مُحالٌ ان أعيش مع قاتل زوجيّ
فتنهّد بضيق وهو يمسح دمعته :
- توقّعت ردّة فعلك .. لكن على الأقل سامحيني ، لأكمل حياتي مُرتاح البال
العروس : وهل كنت ستسامحني لوّ قتلت حبيبتك ، أيّا كانت اسبابي؟
فسكت بامتعاض.. فأكملت ، قائلةً بخيبة أمل :
- رجاءً أخرج من الحيّ بهدوء دون ان يراك احد ، خاصّة ابني الذي يكفيه فراق والده
العريس بحزن : أهذا قرارك النهائيّ ؟
- نعم !! عدّ الى بلادك.. فنحن وانتم سنبقى اعداء ، الى ان تموت جميع النساء اللآتي فقدنّ ازواجهن او اولادهن بمعارككم الوحشيّة ، فجروحنا لن تلتئم مطلقاً !! ارحل الآن قبل قدوم المعازيم
وما أن خرج ، حتى صفقت الباب بقوّة وهي منهارة بالبكاء .. بينما ابتعد مكسور القلب عن مكان العرس ، بعد أن أخسرته الحرب العبثيّة حبه الأول والأخير !
لقد صدق بنقطة مهمة عندما قتله وكان مضطر لذلك انا عشت فترة في روسيا وجاورت عجوز شارك بالحرب العالمية الثانية اخبرني انه كان يقتل أسرى الألمان وأنه مرة اتته أوامر ان يقتل أسرى جرحى في المعركة بالفاس توفير للرصاص وقال لي انه كان مضطر لتنفيذ الأمر وهذه أوامر عليا من ستالين نفسه ومن يخالف الأوامر كان يتعرض للتعذيب الوحشي الشديد حتى الموت ولا يكتفون بعقاب شديد بل بإحضار عائلته وأقاربه أيضا وتهديد بنفس الانتقام
ردحذف🥺🥺🥺🥺🥺
حذف