الاثنين، 18 نوفمبر 2019

الغرب الأمريكي (Cowboy)

تأليف : امل شانوحة


الحجر الصحيّ الإلزاميّ

في بداية القرن العشرين .. وقبيل بزوغ الفجر , فوق سفح الهضبة .. إستيقظت ديانا على صرخات وتوسّلات وبكاء اطفال ! 

فخرجت من منزلها لتجد جارتها العجوز وزوجها يركبان عربة مليئة بالأغراض والحقائب , بعد ان اقفلا الباب الخارجيّ بإحكام على الخادمة السمراء وابنائها الثلاثة !
فسألتهم ديانا بقلق : الى اين تذهبان ؟!

الرجل : سنرحل لإحدى القرى المجاورة 
- وماذا بشأنهم ؟
(وأشارت على عائلة الخادمة)..
فأجابت العجوز : مات زوجها بالتيفوئيد , فأجبرنا الطبيب على البقاء معها بالحجر الصحيّ كيّ لا ننشر المرض بالقرية .. لكنّا حزمنا امتعتنا في المساء , لنبتعد عن هنا قبل استيقاظ الأهالي

ديانا بدهشة : وستتركينهم يموتون جوعاً ؟!
العجوز بضيق : نحن لم نأخذ من مؤننا الغذائية سوى حاجتنا للرحلة .. اما الملاعيين سيموتون ملأى البطون .. (ثم قالت لزوجها) .. هيا جون , لبتعد قبل شروق الشمس 

ثم راقبتهما الخادمة بعينين دامعتين (من النافذة) وهما ينزلان بالعربة الى اسفل الهضبة , وقلبها يرتجف بخوف على مصير اطفالها ..
***

في المنزل الثالث .. إستيقظ جورج مع شروق الشمس , ليتفاجأ بجارته ديانا تصعد السلم , محاولةً إقتحام منزل العجوز من المدخنة .. فنادها بدهشة :
- ماذا تفعلين يا مجنونة ؟!!
- سأنقذ إيميلي واطفالها .. فجيراننا عديميّ الرحمة رحلوا بعد ان حبسوهم في الداخل 
جورج : الم تسمعي ما قاله الطبيب ؟ هم يحملون عدوى التيفوئيد 
- وكيف سيشفون دون رعايةٍ واهتمام ؟ 

في هذه اللحظة .. كاد السلم ان يقع , فأسرع جورج بتثبيته وهو يقول :
- مدام ديانا , لا داعي لهذه المخاطرة .. فبإمكاني كسر القفل 
- أحقاً ؟
- نعم , إنزلي رجاءً 

وبعد نزولها .. ذهب الى منزله , وعاد بالفأس وحطّم قفل الباب .. لكنه نصحها بعدم الدخول الى المنزل الموبوء..
ديانا بإصرار : بل سأدخل وأنقذهم !! 
جورج : انت طبّاخة , ولست طبيبة 
- ابي دكتور مشهور في المدينة , وعلّمني بعض العلاجات والإسعافات الأولية 
- لكنهم لم يكتشفوا بعد علاجاً فعّالاً لهذا المرض .. فلا تقتلي نفسك لأجل شرذمة من العبيد
ديانا بغضب : هم بشرٌ مثلنا !!

جورج ساخراً : آه نسيت انك من انصار الرئيس (ابراهام لينكولن) لإلغاء الرقّ في البلاد , ولهذا تمّ اغتياله 
- على الأقل حرّر 4 ملايين افريقي في جنوب اميركا , وهي اكبر إنجازاته 
جورج : حصل ذلك قبل اعوام , اما الآن فالرئيس (ثيودور روزفلت) يرفض تطبيق تلك القوانين 
ديانا : لكنه دعا السيد (بوكر تي واشنطن) الى عشاء في البيت الأبيض , وهو كاتب ومدافع عن حقوق الأمريكين السود !
جورج بضيق : أعتقد ان الوقت غير مناسب لتكلّم في السياسة 
- اذاً توقف عن المجادلة , وساعدني !! 
- آسف , لا استطيع.. 
ديانا بعصبية : عدّ اذاً الى مزرعتك , ونحن سنكون بخير 

وكم سعدت الخادمة برؤيتها داخل المنزل الذي تجنّب الكثيرون دخوله بعد موت زوجها بالمرض المعدي !
***

بعد ساعة .. إنتهت إيميلي من حزم امتعتها للهروب مع ابنائها بعيداً عن المنطقة .. 
لكن قبل خروجهم , أوقفهم جورج وهو يرفع البندقية في وجوههم 
- لوّ سمحتم عودوا الى الداخل !! .. وانت ايضاً مدام ديانا

ديانا باستغراب : ماذا تفعل , هل جننت ؟!
جورج : لا .. لكني فكّرت بكلام الطبيب , وأخشى ان ينعدي اهل قريتي بالمرض المميت
الخادمة إيميلي : لكننا ذاهبون للقرية المجاورة , ولن ترونا مجدداً 
جورج بحزم : بل ستبقون هنا الى ان تشفوا جميعكم
إيميلي بقلق : او نموت !
جورج : يبقى أفضل من تفشّي المرض في كل مكان 

بهذه اللحظات .. علت صرخات ابن إيميلي بعد سقوطه عن الكرسي اثناء محاولته أخذ مرطبان البسكويت من فوق خزانة المطبخ , فجُرحت قدمه ..
وحين رأت امه الدماء على بنطاله , صرخت بخوف ..
- آدم !!!

فأسرع جورج وديانا الى المطبخ لرؤية ما حصل ..
وعلى الفور !! ضمّدت ديانا الجرح بالبنّ .. وقام جورج بلفّ قدم الصبي بالمنشفة جيداً لإيقاف النزيف ..
بينما عاتبته امه على فعلته : لما صعدت الى فوق ؟ 
آدم وهو يتألّم : قلتي بأن اختي لا ترضع جيداً .. فظننت ان البسكويت سيُعجبها .. 

في هذه الأثناء .. شاهدهم أحد اولاد القرية من النافذة , واسرع الى ساحة القرية لينادي بصوتٍ عالي :
- المزارع جورج والطبّاخة ديانا إقتحما منزل العجوزين !! 
العمدة : ماذا ! البيت الموبوء ؟
الولد : هم بالداخل الآن , رأيتهم مجتمعين في المطبخ مع الخادمة واطفالها 
***

أسرع العمدة مع الطبيب ونقيب الشرطة (Sheriff) الى سفح الهضبة التي لا يتواجد فيها سوى ثلاثة بيوت ..
وقبل خروج جورج من المنزل , تفاجأ بالشريف يصوّب بندقيته نحوه ويأمره بالعودة للداخل ..
جورج : لكني لست مريضاً !

وهنا اقتربت ديانا وإيميلي , لتسمعا الطبيب يقول له : 
- نعم , لكنك دخلت البيت الموبوء .. وصار ممنوعاً عليكم مغادرة المكان لأسبوعين كاملين  
جورج : ماذا ! لا يمكنني ترك ارضي كل هذه المدة
العمدة بحزم : سنُعيّن مزارعاً للإهتمام بمزروعاتك .. فنحن لن نجازف بصحة اهالي القرية لأجلكم .. فهيا عودوا الى الداخل , ولا تجبرونا على استخدام العنف معكم !! 

فانصاعوا مُجبرين لأوامر العمدة الذي أقفل عليهم الباب الخارجيّ بإحكام , ليعلق جورج وديانا مع الخادمة وابنها آدم (11 سنة) , وابنتها روث (8 سنوات) , وطفلتها ذات 7 شهور ..
***

جلس جورج غاضباً في الصالة وهو يلوم ديانا على ما حصل .. فردّت عليه بغضب :
- اساساً لم اطلب مساعدتك 
جورج بعصبية : أهذا جزائي لأني لم أتركك تقعين وتكسري رقبتك ؟!! 

وظلاّ يتشاجران , الى ان اقتربت منهما روث قائلة :
- رجاءً إخفضا صوتيكما , فأختي الصغيرة نائمة  
جورج : الأطفال ينامون بسرعة , لا تقلقي
روث : لكنها أتعبتنا الى ان غفت , بسبب إرتفاع حرارتها 
ديانا بقلق : أقلتِ حرارة ؟!

وذهبت للإطمئنان على الطفلة , غير آبهة بتحذيرات جورج ..
وبالفعل بدت عليها اعراض مرض التيفوئيد : من ارتفاع حرارة واسهال وفقدان شهيّة وظهور الطفح الجلدي على جسدها الصغير 
***

حين عادت ديانا للصالة , قال لها جورج بقلق :
- رجاءً إبقي بعيدة عني , فربما إنعديت بمرض الطفلة 
ديانا بيأس : يبدو قريباً سنُصاب جميعنا بالمرض , لكن بدرجاتٍ مختلفة .. وصاحب المناعة الأقوى , سيبقى حيّاً بيننا ! 

وحين سمعها آدم , سألها بقلق : 
- هل ستموت اختي كأبي ؟!
ديانا : أتمنى لا , وأعدك ان أحاول علاجها قدر المستطاع 
آدم بحزن : ارجوك ساعدي امي ايضاً .. فهي منذ وفاة والدي تشعر بالوهن , وبالكاد تُطعمنا 
ديانا : هل انت جائع ؟
آدم : نعم سيدتي
جورج : وانا لم أفطر بعد  
ديانا : اذاً سأدخل المطبخ لأرى ما تركته لنا العجوز البخيلة

جورج : سمعت إنك طباخة جيدة 
ديانا : نعم , واحلم دائماً بفتح مطعمٍ في الساحة
آدم : لا يوجد مطاعم للنساء هنا
ديانا : أعلم هذا , لكن الأوضاع تغيّرت كثيراً منذ انتهاء الحرب الأهلية ..وربما يأتي يوم ويسمحون لنا باستئجار محلاّت القرية كالرجال 
جورج : دعينا نتذوّق طبخك اولاً , ثم نقرّر إن كان مشروعك يستحق الدعم ام لا
***

في المطبخ .. إقتربت منها روث :
- نامت امي بجانب اختي 
ديانا : جيد , فكلاهما متعبان
- هل تريدين المساعدة ؟
- نعم , قومي بتحريك العصيدة 
***

في هذه الأثناء .. وجد جورج في قبو المنزل شِوالاً به عرانيس ذرة .. فاقترب منه الصبي قائلاً بحزن :
- قطفهم والدي قبل موته بأيام 
جورج : اذاً الأفضل ان نأكلها قبل ان تفسد 
آدم : هل سنسلقها ام نشويها ؟
- الأثنان ان اردّت .. وانا سأتكفّل بشواء بعضها على العشاء
*** 

بعد انتهاء الغداء .. شارك الولدان بتنظيف المائدة ..
جورج : شكراً مدام ديانا , كان الطعام لذيذاً .. وكم اشتقت لهذه الأطباق الشهيّة
ديانا بتردّد : لطالما اردّت سؤالك .. لما لم تتزوج بعد وفاة زوجتك؟
جورج بحزن : موت زوجتي والمولود بين يديّ دمّرني تماماً .. حيث كان يوماً عاصفاً , ولم استطيع إحضار القابلة .. ورفضت جارتي العجوز مساعدتي .. (ثم تنهّد بغضب) ..أتمنى ان تكون وزوجها الأحمق يحتضران الآن 
- مصيبتك كبيرة , لكن على الحياة ان تستمرّ

جورج : وماذا عنك ؟ سمعت انك مطلّقة  
ديانا بضيق : نعم لأنني عقيمة .. لهذا تركت المدينة , بعد ان مللّت من التعليقات الساخرة لأقاربي .. وأتيت الى هنا , لبناء مستقبلي وتحقيق احلامي 
- قرارٌ جريء ! 
- المهم الآن .. هل ستشوي لنا الذرة هذه الليلة ؟
- بالطبع , فأنا ماهرٌ بالشواء  
ديانا : وجدّتُ في المخزن بعض اللحم المقدّد , ما رأيك ان تشويها ايضاً ؟
جورج : هذا سيُسعد الولدان 
***

في المساء .. وبعد انتهاء من تناول العشاء .. سألت ديانا آدم :
- لم تأكل سوى ذرة واحدة !
آدم بحزن : انا قلقٌ على امي واختي الصغيرة , فهما لم يتناولا شيئاً منذ الصباح
روث وهي تمسح دموعها : أخاف ان تموتا كوالدي
ديانا : إسمعا جيداً .. نحن سنحارب المرض قدر المستطاع , وسنبقى اقوياء للإعتناء بهما .. لكننا لا نستطيع معاندة القدر , وعلينا ان نرضى بقضاء ربنا 
جورج : وفي اسوء الأحوال ..إن كنا سنموت بعد اسبوعين , فالأفضل ان نستمتع بصحتنا هذه الفترة , ونجرّب الأشياء الجميلة 

آدم : مثل ماذا ؟
ديانا : يمكنني مثلاً ان أخبز لكم أشهى الحلويات 
جورج : وانا سأقصّ عليكم اجمل القصص 
روث : واخي محترف بالرقص النقريّ , وانا أعزف جيداً على البيانو ..وقد حاولت تعليم العجوز وزوجها , لكن دون جدوى
ديانا بحماس : اذاً ماذا ننتظر , لننتقل للصالة لبدء الحفلة 
آدم : وماذا عن امي واختي ؟
ديانا : نُخرجهما من الغرفة للإستمتاع معنا .. هيا بنا

وأمضوا ليلتهم بالغناء والرقص .. بينما اكتفت إيميلي بالتصفق لرقص ابنها محاولةً مقاومة المرض والإرهاق , وطفلتها في حضنها غارقة في النوم رغم الضجيج العالي ! 

بعد انتهاء الحفلة , أخذ الولدان امهما والطفلة لترتاحا بالغرفة .. بينما فرشت ديانا الكنبة لجورج لينام عليها .. ونامت هي في غرفة العجوز بالطابق العلويّ.. 
***

ومع مضيّ الأيام إزدادت حالة الطفلة سوءاً , ولم تنفع محاولاتهم لإنقاذها .. فماتت بساعات الليل المتأخرة .. 
فاضّطر جورج لدفنها في قبو المنزل , بعد إزالة الواحٍ خشبية من الأرضيّة

وأمضت الأم ليلتها بالبكاء فوق قبرها .. وولداها يراقبانها بحزن , جلوساً على درج القبو ..
*** 

في اليوم التالي , رفض الولدان تناول فطورهما .. فقال لهما جورج :
- إن تناولتما طعامكما , سأخبركما بقصة رائعة
روث : مانوع القصة ؟
جورج : مخيفة
ديانا معاتبة : جورج لا !
آدم بحماس : بلى بلى !! انا احب القصص المخيفة
جورج : حسناً سأقصّ لكم مجموعة من قصص جدي المرعبة هذا المساء , لكن بعد ان نتبارى من يُنهي طبقه اولاً

وصار جورج يلاعبهم , والولدان يضحكان بسعادة .. وديانا تراقبهم وهي متفاجئة من حنان جورج الذي بدى سابقاً كجارٍ قاسي وغير اجتماعي !

وباتوا جميعاً ليلتهم في الصالة بعد ان افترشوا الأرض , وهم يستمعون لقصص جورج المثيرة .. بينما فضّلت إيميلي البقاء في غرفتها , خوفاً من ان تعديهم بمرضها الذي ازداد بشكلٍ ملحوظ ..
***

وسرعان ما تدهورت صحة إيميلي في الأيام التالية , رغم محاولات ديانا إخفاض حرارتها بشتّى الطرق ورفع معنوياتها , الا انها كانت مستسلمة للموت .. 
وقبيل الفجر .. وصّتها بأبنائها , قبل ان تسلم الروح ..

فقام جورج بدفنها قرب طفلتها , قبل إستيقاظ الولدان اللذان جنّ جنونهما حين علما بالخبر .. حيث أسرع آدم الى القبو لحفر قبر امه بيديه , بينما تجمّدت اخته على الدرج من شدة الخوف والحزن 

وحين لم يستطع جورج إيقافه , قام بصفعه .. ثم حضنه بقوة , لينهار آدم ببكاءٍ مرير .. ثم فتح جورج ذراعه الأخرى ليحتضن روث التي ركضت باتجاههما باكية .. وديانا تراقبهم من اعلى الدرج بعينين دامعتين 

وامضوا نهارهم بإقامة قدّاس حول قبر الأم وطفلتها لراحة روحهما 
***

في ذلك المساء , جلس جورج وحيداً في سقيفة المنزل .. فاقتربت منه ديانا ومعها كوب الشاي.. 
فأسرع بمسح دموعه .. فقالت له :
- من حقك ان تبكي
- الرجال لا يبكون 
- لا تعاند نفسك , فأنت خائفٌ مثلي من الأيام القادمة
جورج : انا قلقٌ عليكم , في حال متّ قبلكم 

فتنهّدت ديانا بضيق : أتدري ..احياناً ألعن (ماري مالون)
- من هذه ؟
ديانا : الم تسمع بها ؟!.. هي المرأة التي أدخلت مرض التيفوئيد الى اميركا اوائل عام 1900 .. وهي الآن محتجزة بمستشفى على جزيرة نائية , بعد ان نقلت المرض الى 53 شخصاً , مات ثلاثة منهم .. وكانت تعمل طباخة مثلي 
- اساساً هذا المرض إنتشر في كل مكان , وطبيعي ان يصل الينا .. إحمدي الربّ ان منطقتنا صحراوية والاّ لأصابتنا الكوليرا 
- وماذا عن الطاعون والجدري والجذام والحمّى الصفراء , فكلها امراض ارعبت العالم 
جورج : هذا طبيعي , فالجثث المتناثرة في ساحات المعارك تجلب هكذا امراض .. المهم الآن , ماذا سنفعل بالولدين بعد خروجنا من هنا ؟ هل سنسلّمهم لبائع العبيد ؟

ديانا : لا طبعاً !! النخّاس سيفصلهما عن بعضهما , ويبيع روث كخادمة في البيوت , وآدم كعامل في سكك الحديد او المناجم .. الا يكفي موت والديهما واختهما الصغرى ؟ 
جورج : اذاً خذي انت روث لتساعدك بالأعمال المنزلية , وآخذ انا آدم للعمل معي في المزرعة .. بالنهاية منازلنا قريبة , ويمكن للأخوة الإجتماع متى شاؤوا .. ما رأيك ؟ 
ديانا : دعنا اولاً نخرج من هنا احياءً , ثم نفكّر بالأمر 
فهزّ رأسه موافقاً , وهو مازال يشعر بالقلق حيال مصيرهم المجهول ..
*** 

بعد يومين .. أيقظتها روث في الصباح الباكر :
ديانا بنعاس : ماذا هناك ؟
- حرارة السيد جورج مرتفعة للغاية
ديانا بقلق : أوه لا !

ونهضت اليه , لتجده يرتجف بشدة فوق الكنبة .. فأمضت يومها كله بالإعتناء به : حيث عدّت له الحساء الساخن , وداومت على وضع الكمّادات الباردة على جبهته .. كما تناوب الولدان على مساعدتها في تمريضه 
***

في آخر الليل .. استيقظ جورج بعد انخفاض حرارته , ليجد ديانا نائمة على كرسي ..والولدان يفترشان الأرض بجانبه 

ثم استفاقت بعد ان غطّاها بالبطانية  
- جورج ! 
- الجوّ بارد 
ديانا بقلق : كيف اصبحت ؟
ووضعت يدها على جبينه..
جورج : انا بخير لا تقلقي
- حمداً للربّ , لقد زالت الحرارة
- نعم , وسأحمل الأولاد الى غرفتهم 
ديانا : لا تفعل شيئاً , فجسمك مازال مرهقاً .. دعهم ينامون الليلة هنا 
- كما تشائين 
- هل تريد شرب الشاي ؟ 
جورج : في حال شربته معي 
- اذاً لنذهب بهدوء الى المطبخ 
***

وبقيا هناك حتى طلوع الفجر , وهما يتحدّثان عن ذكريات طفولتهما وزواجهما السابق ..
وناما على كراسيهما , الى ان أيقظهما الولدان : 
روث : هل نمتما في المطبخ ؟!  
ديانا بتعب : يبدو ذلك ! 
آدم : لما لم تيقظونا لنسهر معكما ؟
روث بابتسامة : دعهم يا آدم , فربما ارادا التحدّث في شؤون الكبار 
وغمزت أخاها .. 
جورج : الى غرفتكما ايها الشقيان !!
فذهبا وهما يضحكان ..

ديانا : يمكنك إكمال نومك في الصالة , لحين انتهائي من إعداد الفطور
جورج : لا نمت جيداً .. سأصعد للسقيفة لإصلاح ثقب السقف , فالجوّ باردٌ في المساء
- حسناً , لكن لا ترهق نفسك بالعمل 

وقبل ان يخرج من المطبخ , قال لها بابتسامةٍ حنونة :
- على فكرة , كنت تنامين البارحة كالأطفال 
ديانا : وانت أيقظني شخيرك عدة مرات
جورج : أعذريني
ديانا مبتسمة : كنت أمزح .. كانت ليلة جميلة
- لنعيدها مرة ثانية
- لما لا 
***

ومرّت الأيام بشكلٍ روتينيّ .. 
وفي ظهر ذلك اليوم .. واثناء تناولهم الغداء في المطبخ , سمعوا صهيل أحصنة تقترب من المكان !
ديانا باستغراب : من في الخارج ؟!

وإذّ بهم يتفاجأون بالشريف يفتح قفل الباب الخارجيّ , ويدخل مع العمدة  والطبيب الذي سألهم : 
- هل يعاني أحدكم من ارتفاع الحرارة , غثيان او إسهال ؟
فأجابوا جميعاً : لا , نحن بخير
العمدة : واين البقية ؟
فأخبرهم جورج بما حصل..
العمدة بقلق : ولما لم تقولوا بأن العجوز وزوجها هربا من المنزل؟!
ديانا بعصبية : لأنكم سجنتمونا دون ان تسمعوننا !! 
العمدة : على كلٍ , تأخّر الوقت للإبلاغ عنهم .. أعان الربّ اهالي القرية التي توجهوا اليها .. اما انتما ..(وأشار الى ديانا وجورج).. فيمكنكما العودة الى بيوتكما..

ديانا بقلق : وماذا عنهما ؟..(وأشارت الى روث وآدم)..
الشريف : سنبيعهم في سوق العبيد
جورج بحزم : لا !! فأنا والسيدة ديانا أحقّ بهما منكم 
العمدة : اذاً ستدفع ثمنهما للبلدية 
ديانا : ولماذا ؟! العجوز تخلّت عنهما ..
جورج مقاطعاً : لا تجاديلهم يا ديانا .. (ثم قال للعمدة) .. حسناً , سأدفع لكم ما تريدون 
***

وبعد شهر من تلك الحادثة .. داوم آدم على زيارة اخته في منزل ديانا التي كانت ترسل معه الطعام باستمرار لجورج .. 

وفي إحدى الأيام .. اقترب منها جورج وهو يحمل القدر النحاسيّ الفارغ :
- كان الطعام لذيذاً للغاية
فتوقفت ديانا عن نشر الغسيل (خارج منزلها) , وقالت له مبتسمة: 
- بالهناء والعافية 
- برأيّ تستحقين ان يُفتح لك مطعماً في ساحة القرية
ديانا بضيق : سألت العمدة مجدداً , لكنه يريد كفيلاً عني 
جورج : وانا سأكفلك 
ديانا بدهشة : أحقاً !
- وسأدفع لك اجار المحل ايضاً 
- ليس لهذه الدرجة , يمكنني بيع عقدي ..
- لا داعي لذلك , فأنا المسؤول عنك وعن الأولاد
- هذا كثير يا جورج

جورج : يبدو لم تفهمي قصدي.. إفتحي الطنجرة لوّ سمحتي
وحين فتحتها , وجدت بداخلها خاتم الخطوبة ! 
ثم سألها بارتباك :
- هل تتزوجينني يا ديانا ؟

وهنا قفز الولدان نحوهما , وهما يصرخان بحماس :
- نعم وافقي !! ارجوك وافقي  
فأومأت برأسها إيجاباً , ليضع جورج الخاتم في اصبعها وسط فرحة الولدين
***

وكما وعدها جورج : فور انتهاء شهر العسل , فتح لها مطعماً كبيراً , عمل فيه كمورّد للخضراوات والفواكه من مزرعته .. بينما قامت ديانا وروث بإعداد قائمة الطعام .. اما آدم فعمل على خدمة الزبائن الذين تزايدت اعدادهم بعد اعجابهم بمذاق الأطباق اللذيذة

الا انه في أحد الأيام .. رمى رجلٌ حاقد الصحن في وجه آدم , فشُقّ جبينه , لأن الطعام لم يكن ساخناً كما يُحب !
وحصل ذلك بلحظة دخول جورج الى المطعم , مما جعله يفقد اعصابه ويرفع الرجل عالياً , وسط دهشة الزبائن ! صارخاً في وجهه بغضبٍ شديد:
- إيّاك ان تؤذي ابني ثانيةً !!
فشهق الجميع باستغراب ! بينما سأله الرجل بصوتٍ مرتجف :
- أتصفّ العبد الحقير بأنه ابنك ؟!

وهنا خرجت ديانا من المطبخ مع روث , ليسمعا جورج يُعلن للجميع :
- نعم !! آدم وروث هما ابنائي انا وديانا , فأنا سأقوم بتبنيهما قريباً
وكان العمدة وزوجته يأكلان على إحدى الطاولات , حين توجّه جورج بسؤاله :
- هل هناك ما يمنع قانوناً ؟
العمدة بارتباك : لا , لكن الأعراف.. 
جورج مقاطعاً : اذاً !! غداً سآتي الى مكتبك لإنهاء الأوراق الرسمية .. هذا في حال وافقت زوجتي والأولاد على اقتراحي 

فأجابته ديانا والولدين بصوتٍ واحد : موافقون !!
فخرج الزبائن من المطعم على التوالي وهم مشمئزّون مما حصل
*** 

في الأيام التالية للتبني الرسميّ , تعرّض المطعم وبيوتهما للرشق بالحجارة ورمي النفايات , عدا عن السباب والشتائم .. خاصة انه حصل في زمن تطبيق نظام "جيم كرو" سنة 1904 الذي أيّدته محكمة الولايات المتحدة العليا التي قضت بالفصل العنصري في المرافق العامة في الولايات الجنوبية ..

لكن هذا لم يحبط عائلة جورج المختلطة التي تعدّ الأولى من نوعها في اميركا الشمالية والجنوبية !
***

وخلال السنوات التالية .. بدأت السياسة الأمريكية تتغير تجاه العبيد مع نشأة حركات التحرير , لتزداد معها الوعيّ العام بحقوق الأفارقة الأمريكان .. ويعود مطعم ديانا للعمل تدريجياً , مع رفضهم الفصل بين طاولات السود والبيض , رغم الضغوطات من علّية القوم ! 

ولم يكن الأمر سهلاً مع توالي الخضّات السياسية , الاّ ان جورج وديانا تجاوزا كل الصعاب حتى ذاع صيتهما في انحاء البلاد , ليصبحا رمزاً للعيش المشترك ومحاربة العنصريّة وقدوة لكل الشعب الأمريكي !

هناك 5 تعليقات:

  1. آسفة مجدداً على تأخّري في النشر .. الحمد الله بدأ ابي يتماثل للشفاء , ويتابع علاجه في المنزل بعد عمليتين جراحيتين , وشهرين ونصف من الأيام العصيبة التي مرّت عليه وعلينا ..
    أشكر كل من دعا لوالدي بالشفاء .. كما أتمنى ان تعجبكم هذه القصة .. دمتم جميعاً بخير

    ردحذف
  2. حمد الله على سلامة والدك
    ربي يشفيه
    قصه مخزنه مؤلمه فرح فيها وامل
    استاذه امل ابدعتي
    نتظر جديدك مع اميرتك المفضله جاكلين
    وهي عضو في عصابة قتل رجال الاوفياء
    وانت سيدة الابداع الفكري

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً فؤاد .. لا ادري لما اصرارك على اسم جاكلين بالذات ؟! يبدو انه مهم بالنسبة لك! ..اما فكرتك فتشبه فيلم اليتيمة (Orphan) حيث كانت الفتاة الكبيرة بهيئتها الصغيرة تبحث عن رجلٍ لها , وتقتله هو واولاده وتحرق منزله ان كان وفياً لزوجته .. لكن اعدك ان اجعل بطلة إحدى قصصي القادمة (بإذن الله) بإسم جاكلين الشريرة .. تحياتي لك

      حذف
  3. العفو استاذه امل
    يعلم الله ما عرفت اسم سوى هنا
    الاسم حفظته لانه تكرر بقصص لك كثيرا
    لهيك اعتبرتها البطله المفضله لديك سواء طفله او شابه شقراء او سيده او عجوز
    الاسم المهم لي الان اسم ابي رحمه الله
    نتظر جديدك دوما

    ردحذف
    الردود
    1. رحم الله والدك سيد فؤاد , وألهمكم الصبر والسلوان

      حذف

المحطّة الأخيرة

كتابة : امل شانوحة    المصيّدة الدمويّة ركبت الصبيّة الحافلة بعد انتهاء عملها الليليّ في إحدى المطاعم ، وهي تشعر بالإنهاك والتعب الشديد.. وم...