الأربعاء، 4 يوليو 2018

جارنا المحقّق

تأليف : امل شانوحة
شكر خاص للأستاذ (حسين هاشم زاده) الذي أوحى لي بالفكرة..

من قتله امام بابي ؟!

كانت الساعة الثانية صباحاً حين أنهى المحقق جاك عمله في مكتبه الفدرالي للتحقيقات الجنائية , وعاد الى شقته في الطابق الثالث بالعمارة الصغيرة التي يسكنها بعد توقف هطول المطر وهدوء العاصفة .. وحينها شاهد على بابه ما لم يكن بالحسبان .. جثة شاب امام عتبة شقته !
فأخذ جاك نفساً عميقاً وهو يقول بضيق : يا الهي ! ستكون ليلةً طويلة 
***

وبعد ساعة .. حضرت فرق الشرطة المكان لمعاينة الجثة وأخذ الصور والبصمات , واستعدّ جاك للتحقيق مع جيرانه الستة لكشف ملابسات الجريمة , وبرأسه الف سؤال :
فكيف عرف القاتل بعمله الليلي الذي يختلف أوقاته على مدار الأسبوع ؟ وبأنه لن يكون هناك شهود على جريمته في الشقة المقابلة لشقة المحقق لأنها فارغة ؟! 
***

ومع تباشير الصباح .. بدأ التحقيق اولاً مع الشابة التي تسكن فوق شقة المحقق , حيث أوقفها جاك قبل ذهابها الى عملها ..
- عفواً آنسة جسيكا .. أحتاج الى مكالمتك في أمرٍ هام
- الآن ! سأتأخّر هكذا على عملي 
- الا تعرفين ان هناك جريمة قتل حصلت في مبنانا مساء البارحة ؟
جسيكا وعلى وجهها علامات الدهشة : لقد سمعت صفّارات الشرطة ليلاً , لكني لم أظن انها قادمة الى هنا .. ومن هو الميت ؟ هل أحد الجيران ؟
المحقق : بل شخصٌ غريب , لهذا اريدك ان تلقي نظرة على جثته فربما رأيته يتجوّل امام مبنانا قبل فترة
جسيكا بضيق : لكني لا أحب رؤية الموتى
- الأمر ضروري , فبعد قليل سننقله الى المشرحة
- يا الهي ! ما هذا الصباح المشؤوم

وذهبت خلفه تجرّ كرسيها المتحرك لأنها مشلولة منذ الصغر , هذا ما يعرفه عنها جيرانها منذ ان انتقلت للعيش في هذا المبنى قبل ثلاثة شهور
***

وبعد ان نظرت اليه نظرةً سريعة , قالت :
- لا , لا أعرفه .. فهل يمكنني الذهاب الآن ؟
وشعر المحقق ان منظر الميت عكّر مزاجها , فسألها :
- لحظة , مازال عندي سؤال .. هل سمعت شجاراً مساء البارحة , يعني قبل الساعة الثانية صباحاً ؟ 
- لا لم اسمع شيئاً ! مع ان نومي خفيف والجريمة حصلت أسفل شقتي , فهل قُتل بمسدس كاتم الصوت ؟
فقال المحقق مُحتاراً : لا أظن .. فبعد فحصنا الأولي له , لم نجد سوى شجٌّ صغير في جبينه .. وبرأيّ ليست كفيله لقتله ! 
جسيكا : اذاً ربما مات بسكتةٍ قلبية .. مع انه مازال شاباً ! 
ثم نظرت الى ساعتها..
- سيد جاك , لقد تأخّرت كثيراً على عملي
- حسناً يمكنك الذهاب , وسنُكمل التحقيق لاحقاً بعد ظهور نتائج التشريح 
***

وبعد ذهابها .. نزل جاك الى الطابق الثاني للتحقيق مع جاره وهو رجلٌ في مثل عمره ولديه ابنة صبيّة فاتنة الجمال , قام بتربيتها لوحده منذ وفاة امها , والجميع يعلم كم يخاف عليها ..
الرجل : اهلاً جارنا .. ماذا هناك في هذا الصباح الباكر ؟! ولما اصدقائك الشرطة في كل مكان ؟!
فأخبره جاك بالموضوع الذي فاجأه تماماً !
الأب : جريمة في مبنانا ! وحصلت فوقنا .. غريب ! لم أسمع أيّةِ مشاجرة

وهنا اقتربت ابنته بعد ان سمعت حوارهما ..
- انا سمعت ضجّة البارحة 
المحقق باهتمام : أتذكرين متى ؟
الصبيّة : حوالي منتصف الليل
المحقق : أوصفي لي نوع الضجّة , هل كان صراخاً ام عراكاً ؟
الفتاة : لا لا ..فقط شيءٌ ثقيل سقط من الأعلى 
- أتقصدين تدحرج على الدرج ؟
- نعم , وظننت ان أحدهم سقط من يده كيس النفايات
المحقق : هذه معلومةً مهمّة يا آنسة .. شكراً لك 
فسأله الأب : هل يمكننا الذهاب الآن الى أعمالنا ؟ فابنتي لديها امتحان في الجامعة
المحقق : ليس قبل ان تصعدا معي الى فوق لرؤية الجثة
الوالد بقلق : وهل هذا ضروريّ ؟
- نعم فربما رأيتماه في المبنى من قبل 
ورغم اعتراض الأب على قدوم ابنته معه , الاّ ان المحقّق أصرّ ان تراه هي ايضاً ..

وحين شاهداه , لم يتعرّف عليه الوالد , لكن الفتاة تذكّرته..
المحقق : واين رأيته بالضبط ؟
الفتاة : في المصعد قبل ايام ..كان ينزل معي الى الأسفل , وكان غاضباً جداً 
المحقق : الا تذكرين شيئاً آخر ؟
- كان يطبع رسالة على جواله وهو يتمّتم :((ستندمين))
الأب بقلق : وهل ضايقك ابنتي ؟
- لا لم ينظر اليّ اصلاً , فقد كان مشغولاً بجواله ..لكني لم أنسى أنفاسه الثقيلة ووجه المحمّر غضباً
المحقق : هذا يعني انه كان بزيارة لأحد الجيران .. شكراً لك على هذه المعلومة
***

وبعد ان أنهى التحقيق معهما .. كان الفريق الطبّي يستعدون لنقل لجثة , لهذا قام المحقّق بأخذ بعض الصور للقتيل على جواله كيّ يريها لمن تبقى من الجيران .. وذلك بعد ان اتصل برؤسائه في العمل وأخبرهم بأنه سيتكفّل بنفسه بحلّ لغز هذه الجريمة لأن المشتبه به أحد جيرانه , وقد طلب إعطائه المهلة الكافية لإكمال التحقيقات ..
وبما ان بقيّة الجيران كان إمّا نائماً او ذهب باكراً الى عمله .. فقد عاد جاك الى شقته لينام فوراً من شدّة التعب , على نيّة إكمال التحقيقات لاحقاً 
*** 

وبحلول العصر ..نزل جاك الى جاره الشاب وهو طالبٌ جامعيّ يسكن لوحده في الطابق الأول والذي نفى ايضاً سماعه لأيّةِ مشاجرة ليلة البارحة ..لكن حين شاهد صورة القتيل من جوّال المحقّق , شهق باستغراب :
المحقق : ماذا ! ..هل تعرفه ؟!
الشاب : نعم , هو طالبٌ في جامعتي لكنه باختصاصٍ آخر .. فأنا أدرس الحقوق , وهو يدرس التجارة على ما أعتقد ! 
- هذه معلومةً ستفيدنا كثيراً , لأنه يمكننا بالغد معرفة هويّة القتيل من خلال ملفّه الجامعيّ
- الم تكن معه اوراق تثبت هويته ؟!
المحقق : لا , فقط رسالة وداع لحبيبته
- وهل حبيبته تسكن هنا ؟!
المحقق : هذا سؤالٌ جيد .. فقد ظننا انها رسالة قديمة يحتفظ بها في محفظته.. لكن معك حق , ربما أتى الى هنا لزيارة حبيبته

الشاب : على حسب معلوماتي .. لا يوجد في مبنانا سوى السيدة المشلولة والعجوزة في الطابق الأخير والصبيّة الجميلة التي يراقبها والدها باستمرار
المحقق : اراك غاضباً من والدها , فماذا حصل بينكما ؟
الشاب يتذكّر بضيق : لا شيء .. لكني مرّة سلّمت عليها حين تقابلنا أسفل العمارة , وحينها جنّ جنونه وسحبها من يدها الى داخل المصعد وكأنني سأخطفها منه !  
- هو ربّاها منذ الصغر , لهذا يخاف عليها كثيراً 
- وكيف ستتزوج المسكينة اذا كان يذهب معها الى الجامعة وينتظرها طوال الوقت في الحديقة 

المحقق باستغراب : الهذه الدرجة ؟!
- نعم فهي تدرس في جامعة اختي الموجودة بالطرف الآخر من المدينة .. واختي من أخبرتني بأن ابنته تشعر بالخجل امام صديقاتها بسبب حرصه الزائد عليها 
- وهل تظن ان القتيل حاول التغزّل فيها , فقتله ؟!
- والله لا استبعد هذا من ذاك الرجل المستبدّ
المحقق : شكراً لك .. وان كانت لديك أيّة معلومات إضافية , إتصل بي 
واعطاه بطاقته .. 
***

ثم ذهب جاك الى شقة الرجل المعروف لدى الجميع بالسكّير , فهو جارٌ عصبيّ ينام طوال النهار ويسهر طوال الليل في البارات , ويعيش على نفقة ابنه الذي يعيش في الخارج .. والذي بعد ان اراه صورة القتيل , فاجأه الرجل قائلاً :
- نعم أذكره جيداً 
المحقّق : ماذا ! هل حقاً تعرفه ؟!
الرجل بعصبية : قلت أذكره , ولم أقل أعرفه !! هناك فرق
- ومتى رأيته آخر مرة ؟
- التقيت به مرةً واحدة , حين حاول ان يصفّ سيارته مكاني ..فقمت بتأديبه 
- ماذا يعني أدّبته ؟!
الرجل : لا تقلق , لم اقتله .. بل صرخت عليه بقوّة جعلته يُبعد سيارته في الحال  

المحقق : وهل كان يتردّد كثيراً الى مبنانا ؟
- لا ادري ..كل ما أعرفه ان سيارته خضراء صغيرة وقديمة بعض الشيء
- لكننا لم نجد سيارة غريبة في موقفنا ؟
الرجل : وهل سألت البوّاب ؟
- معك حق .. كان عليّ سؤاله اولاً .. 
- والآن هل تريد مني شيئاً آخر ؟ فأنا اريد الذهاب الى اصدقائي في البار
- حالياً لا , لكننا سنبقى على إتصال
فأغلق بابه خلفه , ليخرج الى البار كعادته .. بينما نزل المحقق لرؤية حارس المبنى
***

وبعد ان اراه صورة القتيل .. 
البوّاب : نعم أذكر انه تشاجر مع الجار السكّير بسبب موقف السيارة .. 
- نعم أخبرني بذلك .. لكن سؤالي ..هل كنت تراه دائماً عندنا ؟
- مرتين او ثلاثة فقط 
- هل تذكر شيئاً عنه ؟
البوّاب : رأيته مرّة يصعد الى فوق ومعه زهوراً حمراء ..لكن حين نزل كان غاضباً جداً , ورمى الزهور في سلّة المهملات القريبة من هنا 
- اذاً هو كان يأتي لزيارة فتاة في مبنانا ؟
- او شاب .. من يدري ؟ فنحن بزمانٍ مُريب !
المحقق بدهشة : شاب .. من تقصد ؟!
- لا اريد ان أتّهم أحداً .. لكن برأيّ عليك التحقيق مع جون
- أتقصد جارنا الإنطوائي بالدور الأخير الذي بجانب شقة العجوز ؟
- انطوائي ! بل قلّ مجرماً سابقاً ..
- ماذا ! كيف لم أعرف عن هذا من قبل
البوّاب : انت انتقلت الى مبنانا في الصيف الفائت , بينما هو من السكّان القدامى

المحقق : وماذا تقصد بمجرم ؟
البوّاب : علمت عن طريق الصدفة بأنه انسجن فترة طويلة في شبابه لأنه اعتدى على ولدٍ مراهق
المحقق : يعني شاذ ومعتدي ؟!
البوّاب : نعم , وقد جنّت زوجتي حين عرفت بالأمر , فنحن لدينا ثلاثة اولاد صغار ولهذا نخاف ان نخرجهم كثيراً من المنزل  .. حتى انني أحرص على إحضار اولادي بنفسي من المدرسة .. لكنه مرة رآني وانا أسرع بإدخال اولادي الى بيتي اثناء خروجه من المصعد , وحينها ابتسم قائلاً : ((لا تخفّ مني , فقد تبت منذ مدةً طويلة)).. لكني مع هذا مازلت أقلق منه , حتى انني أفكّر بتغير مكان عملي خوفاً على اولادي
- هذه معلومةً خطيرة ! هل معقول ان الميت كان على علاقة معه واختلفا فيما بينهما , فقتله ؟ 

البوّاب : ربما .. لكنك لن تعرف الحقيقة قبل عودته من الخارج , فقد سافر منذ شهر تقريباً .. مع اني أشكّ في ذلك , فربما يقطن في فندقٍ قريب ليبعد الشبهات عنه 
- لا تقلق سأطلب من فريقي البحث عن اسمه في المطارات والفنادق القريبة من هنا .. وبما انه ليس متواجداً الآن , فسأذهب الى جارتنا العجوز 
البوّاب : أعانك الله , فطباعها حادة وسيئة
- هل هي عصبية ؟
- جداً ! وبخيلة ايضاً .. وهي مدرسة متقاعدة لمرحلة الإبتدائي ..وقد رأيتها مرة وهي تضرب بعصاها كلباً في الشارع لأنه حاول الإقتراب منها , وكان محظوظاً لأنه لم يمت 
- لكنها امرأة ضعيفة في السبعينات من عمرها ! 
البوّاب : بل هي أقوى مني ومنك 
- حسناً فهمت .. سأذهب اليها الآن
***

وحين وصل جاك الى شقتها , إستقبلته بوجهٍ مُتجهّم
- ماذا تريد ؟! فأنا لا استقبل أحداً في بيتي
ولم تقبل الحديث معه , الا بعد ان هدّدها بأنها ستُعاقب في حال عرقلت سير التحقيقات ..

وبعد دخوله شقتها , أراها صورة القتيل ..
العجوز : لا اعرفه ولم أره من قبل .. لكن ان كان من سكّان المنطقة فربما يكون من تلاميذي السابقين 
- أحقاً ؟!
- نعم , الا تدري ان منطقتنا لا تحوي سوى مدرستين ابتدائيتين .. وجميع من علّمتهم قبل تقاعدي اصبحوا الآن في سن الجامعة 
جاك : وهل تذكرين جميع طلابك ؟
- فقط الذكي والمشاغب منهم 
- حسناً .. حين أحصل على ملفّه الجامعي , سأعود اليك لأخبرك بأسمه الكامل فربما تخبريني المزيد من المعلومات عنه 
فقالت العجوز بلؤم : سأحاول .. والآن أغرب عن وجهي , فأنا اريد النوم قليلاً 

وبعد خروجه ..تمّتم المحقّق في نفسه , بضيق : 
- يالها من امرأةٍ قاسية وصعبة .. كم أشفق على اولئك الأولاد الذين علّمتهم , أكيد يعانون بسببها من العقد النفسيّة !
***

ثم عاد جاك الى بيته ليكتب ملاحظاته عمّا سمعه من الجيران :
((يمكنني استبعاد السيدة جسيكا من قائمة المشتبه بهم لأنها مشلولة , ولن تقدر على قتل شابٍ قويّ .. والسيدة العجوز ايضاً مُستبعدة رغم سوء طباعها .. اما الآنسة الجميلة فربما تكون حبيبته السريّة دون علم والدها .. والشاب الجامعي لا ارى علاقة بينهما الا انهما في نفس الجامعة , لكن غداً سأعرف أكثر بعد ذهابي الى هناك .. يبقى لديّ المجرم السابق لكن عليّ اولاً انتظار فريقي لإحضار المعلومات عنه : ان كان خارج البلد او في الجوار .. امّا الرجل السكير فهو عادةً غير متواجد مساءً في المبنى .. لكن ربما ليلة الجريمة عاد مبكراً ليلتقي بالقتيل , وحينها حصل سوء تفاهم بينهما بسبب سكره , رغم ان الجميع ينكر سماعه لأيّة مشاجرة !.. 
لكن ماهذه الصدفة .. ففي العادة أكون متواجداً كل ليلة في شقتي الاّ في ايام دوامي الليلي ..فكيف علم القاتل ببرنامج عملي ؟!)) 
***

في اليوم التالي بالجامعة .. علم جاك بأن الجار الشاب كان يعرف القتيل جيداً , فكلاهما في نفس فريق كرة السلّة الجامعي .. وقد حصل الشاب على مكان القتيل بالفريق بعد إصابته بكتفه قبل ايام من مقتله .. فهل أتى الى المبنى للشجّار معه ؟ 

كما عرف المحقّق من ملفّ القتيل بالجامعة : ان اسمه (جيم باركل) الذي على حسب أقوال زملائه : ليس لديه الكثير من الأصدقاء لأنه انتقل حديثاً الى هذه الجامعة بعد حصوله على منحة دراسية بسبب براعته في لعبة السلّة من جامعته الأخرى المتواجدة خارج المدينة , والتي تُصادف بأنها جامعة الصبيّة الجميلة ! وهذا يعني انها كذبت حين أنكرت معرفتها به , لأنه يدرس التجارة مثلها وفي نفس السنة ! فهل هي مجرّد صدفة , ام ان هناك علاقة قديمة بينهما ؟ وربما تكون رسالة الوداع العاطفيّة لها ووالدها علم بالأمر , فقتله ..لهذا تحاول حماية والدها .. 
***

والأهم من ذلك : هي المعلومات التي وصلت عن المجرم السابق : فهو فعلاً كان خارج المدينة لفترة , قبل ان يعود للمنطقة قبل يومٍ واحد من وقوع الجريمة .. حيث بات ليلته (على حسب أقواله) في منزل صديقه الذي لا يبعد كثيراً عن المبنى , ولا يوجد شاهد على كلامه الا صديقه الشاذ الضعيف الشخصية 
***

امّا نتائج التشريح فكانت أشدّ غرابة ! حيث أظهرت ان القتيل لم يمت بسبب تعثّره بالأدراج , بل تمّ قتله بسمّ فئران مدسوس في طعامه الذي لم يُهضم بعد في معدته .. لكن كيف وصلت جثته الى شقّة المحقق ؟ ام كان القاتل يتحدّى قدرات المحقق بفعلته هذه ؟
***

لكن الأهم من كل هذا ..هو ما قالته العجوز بعد ان أخبرها المحقق بالإسم الكامل للقتيل , حيث قالت : 
- جيم باركل .. نعم تذكّرته .. كم كان ولداً مشاغباً 
- كيف تذكّرته بعد كل هذه السنوات ؟!
العجوز : انا بالعادة لا أنسى طلابي المشاغبين , فكيف سأنسى ذلك اللقيط المتمرّد ؟
- ماذا تقصدين ؟!
- كان طفلاً يتيماً وجدوه مرمياً قرب الكنيسة , فتبنّاه الراهب الذي كان متشدّداً بالدين , لهذا كان ولده يعانده بكل شيء مخالفاً بذلك التعاليم المسيحية , وقد كان بحقّ ولداً متنمّراً ! 
- وهل كنت تعاقبينه ؟
العجوز : بالطبع !! وكثيراً .. لكن للأسف كانت المدارس وقتها أصدرت قانوناً بمنعنا من الضرب , لهذا كنت أعاقبه بنسخ الجمل عشرات المرات على السبّورة امام الطلاب الذين كانوا يسخرون منه
- يبدو انه فعلاً تلميذك .. انظري الى الرسالة التي كتبها بخط يده قبل وفاته  

((وكان فيها عدّة جُمل مُعادة لأكثر من مرة , وكأنها كتبها كقصاصّ دون وعيٍّ منه !)) 
فضحكت العجوز ساخرة : أظنه مازال يتذكّر عقابي
- وهل كنت تسخرين عليه امام الجميع بأنه لقيط ؟
فقالت دون مبالاة : نعم دائماً .. فأنا لم أكن أتوقّع له مستقبلاً جيداً , فقد كان فاشلاً بكل شيء
- لكنه كان طالباً جامعياً
- وهل كان متفوقاً ؟
- بالحقيقة لا , فهو طرد بسبب عنفه من جامعته السابقة , ولولا تفوقه بالرياضه لما سمحوا له بدخول الجامعة الثانية 
- ارأيت ما أقصده
المحقق : هو كان سريع الغضب , فرفقائه بفريق السلة أخبروني كيف غضب من المدرب حين استبدله بطالب السنة الأولى الذي هو جارنا بالطابق الأول
- نعم أخبرتك , هو كان متنمّراً منذ الصغر
- ربما لأنك لم تجعلي حياته سهلة
العجوز بغضب : ماذا تقصد ؟!! أنا كنت اريد توجهيه فقط , فهو لم تكن لديه أمّ لتربيه
فلم يردّ المحقق مجادلتها , لأن طباعها صعبة .. 

وبعد خروجه من شقتها , فكّر جاك في نفسه : 
((ربما قدِمَ جيم الى مبنى للإنتقام من هذه العجوز التي عقّدت حياته بتعليقاتها المدمّرة , فهل يعقل ان تكون هي من سمّمته ؟ .. لكن هل معقول إمرأة في مثل ذكائها ان تُقدم على ارتكاب هكذا جريمة وهي تعلم تماماً بأن صحتها لن تسمح لها بالتخلّص من جثته الضخمة ! .. يا الهي , الأمر يزداد تعقيداً كل يوم !)) 
***

ثم بدأ التحقيق مع المجرم السابق الذي عاد أخيراً الى المبنى بنهاية الأسبوع والذي أنكر تماماً معرفته بالقتيل , كما أصرّ على انه مكث في منزل صديقه فور عودته من السفر .. الاّ ان كاميرا ذلك المبنى تُبيّن انه في يوم الحادثة خرج مع صديقه في منتصف المساء ولم يعودا للشقة الا قبيل ساعات الفجر الأولى .. وعلى حسب أقوالهما : كانا وقتها يتمشيّان على الشاطىء , لكن لا دليل على صحّة ذلك .. فهل شاركه صديقه بعملية القتل ؟ وان كان هذا صحيحاً , فلما اختارا طريقة السمّ بالطعام ؟ فهذا لن يحصل الا اذا كان القتيل يعرفهما جيداً , ودخل شقة المجرم السابق ليأكل عنده .. لكن حتى هذا الإحتمال مُستبعد لأن خبير البصمات أثبت بعد فحصه لقفل باب المجرم بأنه لم يُمسّ طيلة فترة غيابه عن المبنى .. لذا يبدو انه على الأرجح يقول الحقيقة ! .. اذاً من هو القاتل ؟
***

في عصر ذلك اليوم .. استدعوا والد الصبيّة الى المخفر بعد ان قام بضرب شابٍ جامعي حاول الحصول على رقم جوال ابنته دون ان يلاحظ وجوده بكافتيريا الجامعة , لكنه خرج من التوقيف بعد ان تعهّد بعدم الإقتراب من الشاب مجدداً .. 
لكن هذه الحادثة أكّدت للمحقق بأن هذا الوالد لديه مشكلة في التحكّم بأعصابه بسبب حرصه الزائد على ابنته .. فهل القتيل حاول التقرّب منها بقدومه الى بيتها , فقام والدها بتسميمه ؟ .. 
بجميع الأحوال يبقى الأب في قائمة المشتبه بهم .. 
***

ومن جهةٍ أخرى .. أكّد صاحب البار الذي يتردّد عليه السكّير دائماً , بأنه اشترك بالعديد من المضاربات في الآونة الأخيرة لأنه يفقد أعصابه بسهولة حين يسكر تماماً .. لهذا يبقى هو ايضاً من ضمن المشتبه فيهم بهذه القضية 
***

الاّ ان مجريّات التحقيق تغيرت كليّاً بعد اسبوعين .. حين وصلت للمحقق إخبارية من أحد المخبرين (الذين وضعهم لمراقبة كل شخص من سكّان العمارة) بعد رؤيته لجسيكا تخرج من سيارتها على قدميها وتدخل المطعم لمقابلة صديقها , رغم انها خرجت من عملها على الكرسي المتحرّك ! 

وعلى الفور !! تحرّك جاك باتجاه المطعم كيّ يمسكها بالجرم المشهود , وقد ارتبكت كثيراً حين رأته خلفها وهو يقول لها بنبرةٍ غاضبة :  
المحقق : اذاً انت لست مشلولة .. فلما كذبتي علينا ؟
فتلعثمت وهي تنظر الى صديقها والزبائن من حولها بارتباك..
فقال صديقها متفاجئاً : مشلولة ! مالمشكلة جسيكا ؟ ومن هذا الرجل ؟
جسيكا بارتباك : ارجوك آدم , اذهب الآن وسنتكلّم غداً .. رجاءً 
ورغم رفض صديقها تركها مع جاك (لعدم معرفته بأنه محقق) الا انه غادر المطعم بعد إصرارٍ منها ..

وبعد ذهابه , جلس جاك مكانه ليُكمل معها التحقيق ..
- لماذا كنت تمثلّين على الجميع بأنك مشلولة ؟
فقالت وهي تشعر بالحرج : لأحصل على وظيفة
- لم أفهم !
- بعد ان تركت شركتي القديمة لظروفٍ شخصية , أمضيت ستة شهور في البحث عن وظيفة أخرى .. لكن لم تكن هناك وظائف شاغرة , وأوشكت على الإفلاس .. وبالصدفة سمعت السكرتيرة تتكلّم مع احدهم في الهاتف وتقول : ((لا وظائف عندنا سوى للحالات الخاصة)) .. وعرفت لاحقاً ان الدولة تُلزم الشركات بتوظيف 3 في المئة من موظفيها من المعاقين .. فعدّت اليهم بعد ايام على الكرسي المتحرّك , وتفاجأت بأنه لم يسألني احد عن ملفّي الصحيّ , وقاموا بتوظيفي كمحاسبة وبمرتبٍ أفضل من راتبي السابق .. لذلك قمت بتغير مكان سكني خوفاً من ان يفضحني جيراني السابقين , فأخسر عملي .. وسكنت عندكم منذ ثلاثة شهور , حيث تعرّفتم عليّ جميعاً كسيدة مشلولة منذ الصغر 

المحقق : وماذا عن القتيل ؟
فأسرعت قائلة : صدقاً يا سيد جاك , انا لا أعرف من هو ..  
- هل لديك اقوالٌ أخرى ؟
- لا .. هذا كل ما لديّ
ورغم إحساس جاك بأنها تكذب عليه , الا انه تركها تحت المراقبة حتى وصول معلومات عن شركتها القديمة 
***

وفي ظهر اليوم التالي .. وصلت للمحقق المعلومات التي ينتظرها عن حياة جسيكا السابقة .. فأسرع الى شركتها القديمة ليسأل إحدى زميلاتها  عنها ..
صديقتها القديمة باستغراب : لا ! جسيكا ليست معاقة , الا اذا كانت أصيبت بحادثة في السنة التي تركت فيها شركتنا
- لا تقلقي , هي بخير .. كنت فقط اريد التأكد منك .. المهم إخبريني.. منذ متى تعرفينها ؟
- عملنا سويّاً لخمس سنوات

المحقق : ولماذا تركت الشركة ؟
فسكتت الموظفة .. 
لكن المحقق قال لها بحزم : 
- من الأفضل ان تتكلمي , لأن الموضوع يتعلّق بجريمة كما أخبرتك
الموظفة : بالحقيقة .. هي لم تعدّ تريد البقاء هنا , بعد ان تغيّر مديرنا
- لم أفهم !
- هي كانت تحب مديرنا السابق الذي كوّن معها علاقةً عابرة .. ..وبعد تزوجه من فتاةٍ اجنبية وسفره معها الى الخارج , لم تعدّ تريد البقاء هنا
المحقق : يعني الأمر تسبّب لها بصدمةٍ عاطفية ؟ 
- بل صدمةً كبيرة دمّرتها تماماً , فهو كان حب حياتها

المحقق : الهذا السبب فقط تركت شركتكم ؟
فقالت بتردّد : ولكيّ تبتعد ايضاً عن ذلك الأحمق
- من تقصدين ؟
- قبل زواج المدير , فترت العلاقة بينهما .. وحين قدم الينا شابٌ جامعي اثناء تدريبه الصيفيّ , بدأت تغازله امام المدير لإثارة غيرته .. وحين لم تنفع حيلتها وترك المدير الشركة نهائياً , تفاجأت بتعلّق الشاب فيها , وملاحقته لها في كل مكان ..مع انها أخبرته بالحقيقة , الا انه أصرّ على حبها 

وهنا .. أخرج المحقق صورة القتيل من ملفّه الجامعيّ..
- أهذا هو الشاب ؟
الموظفة بدهشة : نعم هو ! فأنا مازلت أذكره , لأننا كنّا نستهزأ من لثغة لسانه
- صحيح , حتى اصدقائه بالجامعة أخبروني ايضاً بمشاكل نطقه ..  طيب بعد استقالة جسيكا , الم تتكلّمي معها ثانيةً ؟
- هي إنقطعت اخبارها منذ ان تركت شركتنا .. لكن قبل ثلاثة او اربع شهور , لا اذكر متى بالضبط .. اتصلت بي لتخبرني عن الشاب الطفيليّ , كما كانت تلقبه

المحقق باهتمام : وماذا قالت عنه ؟
- قالت بأنها غيّرت شقتها وانتقلت الى منطقة بعيدة لتتخلّص منه.. وحين سألتها : وماذا ستفعلين في حال لحقك الى هناك ؟ .. قالت لي.. (وسكتت) 
المحقق بعصبية : ماذا قالت ؟ إكملي !!
- قالت : ((حينها سأجعله يندم على اليوم الذي أحبّني فيه))
فهزّ المحقق رأسه قائلاً : شكراً .. هذه المعلومة تكفيني
***

ومن بعدها .. واجه المحقق جسيكا بالأدلة الجديدة ..
- طالما كنت تعرفين القتيل من قبل , فلما أنكرتي ذلك ؟
وهنا انهارت اعصابها..وقالت باكية : 
جسيكا : حاولت إفهام ذلك الغبي بكل الطرق انني لم أحبه يوماً !! لكنه لم يتركني في شأني .. وبدأ يتصل بي عشرات المرات كل يوم , هذا عدا عن رسائل الإيميلات ..
المحقق مقاطعاً : لحظة ! ولما أعطيته عناوينك .. 
مقاطعة بعصبية : لم أعط اللعين شيئاً !! هو بحث في حاسوبي الخاص التابع لشركتي القديمة وأخذ كل المعلومات عني .. حتى انه ارسل رسائل لعائلتي يخبرهم بأنه خطيبي المستقبلي .. وحينها اضّطررت ان أخبرهم عن هوسه بي , فنصحوني بأن اتصل بالشرطة ..وليتني سمعت كلامهم 

المحقق : وماذا حصل بالضبط جعلك تقرّرين قتله ؟ 
فتنهّدت جسيكا بضيق : كنت ارتحت منه لشهرين بعد انتقالي لهذه العمارة وتعرّفت بهذا الوقت على شابٍ آخر , لكني تفاجأت مع بداية الشهر بباقة زهور على عتبة بابي , وظننت انها من صديقي الجديد .. لكن ما ان قرأت البطاقة حتى عرفت انه هو 
- وماذا كان مكتوبٌ فيها ؟
جسيكا : قال فيها : ((هل ظننت ان بإمكانك التخلّص مني بسهولة ؟))

المحقق : وماذا حصل بعدها ؟ 
- قام بزيارتي في شقتي الجديدة لعدّة مرات .. وفي المرة ما قبل الأخيرة رميت الزهور في وجهه وطردّته من بيتي .. لكن حتى هذا لم يفهمه انني أكرهه , وظلّ يتصل بي 
- وحينها خطّطتي لقتله ؟
جسيكا بعصبية : نعم !! واشتريت سمّ فئران .. واتصلت به لأول مرة منذ ان تعرّفت عليه , وطلبت منه ان يأتي على العشاء 
- لكننا وجدنا رسالة وداع في جيبه
- ربما كتبها لأنه رفض دعوتي بعد ان رآني مع صديقي الذي قدم صدفةً قبله .. وحين اتصلت به لأعرف سبب عدم مجيئه , صرخ عليّ قائلاً : بأنني خنت ثقته بي

المحقق : اذاً بذلك تخلّصت من محبته , فلما دعوته مجدّداً على العشاء ؟!
- لأنني أعرفه جيداً , وكان حتماً سينتقم مني لاحقاً .. لهذا كان عليّ التخلّص منه سريعاً 
- برأيّ تسرّعت .. فلوّ قرأت رسالة الوداع الذي قدم لإعطائك اياها , لما أقدمتي على قتله 
جسيكا : اساساً لا أعرف شيئاً عن هذه الرسالة , فماذا كتب فيها ؟! 
فأخرج المحقق من ملفّاته رسالة القتيل التي كانت معه لحظة وفاته , وأعطاها لجسيكا :  
- خذي .. اقرأيها بنفسك 

وكان جيم كتب فيها بإحساسٍ مرهف وصادق : ((بأنها اول حب في حياته .. كما أخبرها عن حياته البائسة مع الراهب (والده بالتبني) , وعن معلمته القاسية التي كانت تعاقبه باستمرار .. ثم فسّر سبب ملاحقته لها : لأنها اول شخص يغازله في حياته , ولذلك تمسّك بها كالغريق يتعلّق بقشّة .. وبالنهاية كتب قائلاً : لكن طالما انك وجدت الحب مع شخصٍ آخر , فسأتركك بسلام .. لأنه يبدو ان الرب لم يكتب لي السعادة في هذه الدنيا))
فقالت بدهشة : يا الهي !
- ارأيتي .. لوّ انتظرتي قليلاً , لانتهت مشكلتك دون الحاجة لقتله

فالتزمت جسيكا الصمت بعد ان أصابها الذهول ممّا قرأته ! 
فقاطع المحقق صمتها : لكن هناك شيئاً لم أفهمه .. فحين قدم اليك لتسليمك رسالة الوداع .. أصرّيت عليه ليتعشّى معك , دون علمه ان الطعام مسموم 
جسيكا بحزن : هذا صحيح 
- اذاً كيف وصلت جثته قرب شقتي ؟!

فأخذت جسيكا نفساً عميقاً , ثم قالت : 
- حين سقط على الأرض بعد تناوله الطعام , ذهبت الى الداخل لأحضر شيئاً ألفّه فيه .. وحينها سمعته يخرج من بيتي ! فلحقته لأراه يضغط بقوة على زرّ المصعد .. وحين تأخر بالصعود اليه ورآني فجأة خلفه , أسرع خائفاً بنزول الأدراج وهو يترنّح بألم .. فقمت بدفعه بقوّة , ليتدحرج الى الأسفل ويسقط قرب بابك .. وقبل ان أقترب منه لأتأكّد من موته ..رأيت المصعد يصعد نحو طابقك , فأسرعت بالعودة الى شقتي ..
المحقق : الآن فهمت .. وقد كشف تقرير التشريح بأن التسمّم كان السبب في وفاته , فهو كان يحتضر قبل ان تدفعيه من فوق الدرج ..وبما انك اعترفت الآن بجرمك , فسأقوم باعتقالك 
***

ولاحقاً تمّ ارسال جسيكا الى سجن النساء بعد ان حُكم عليها بعقوبة القتل من الدرجة الأولى التي تصل عقوبتها الى 30 سنة مع الأشغال الشاقة
***

وبعد صدور حكم المحكمة على القاتلة .. قرّر المحقق تغير مكان سكنه بسبب جيرانه الذي تفاجأ بسوء طباعهم بعد الحادثة , ولأنه مازال يرى القتيل امام عتبة بابه كلما اراد الخروج او الدخول الى شقته .. 

لكنه خرج من هناك حزيناً لما حصل لذلك الشاب الذي قتلته حبيبته مرتين : حين طعنت قلبه البريء , وحين أنهت حياته .. 
فتمّتمّ المحقق بحزن وهو يبتعد عن العمارة بعد ان حزم أمتعته : 
- كم جريمة أُرتكبت بإسمك ايّها الحب اللعين !

هناك تعليق واحد:

  1. قصه التحقيق هذه مثيرة جدا اتمنى ان تكتبي المزيد منها انها رائعة .. الله يوفقك

    ردحذف

المحطّة الأخيرة

كتابة : امل شانوحة    المصيّدة الدمويّة ركبت الصبيّة الحافلة بعد انتهاء عملها الليليّ في إحدى المطاعم ، وهي تشعر بالإنهاك والتعب الشديد.. وم...