الخميس، 26 يوليو 2018

السفينة المهجورة

تأليف : امل شانوحة

ماذا في داخلها ؟!

((عليّ التفكير بسرعة للخروج من هذا المأزق , فلا يمكنني البقاء طويلاً فوق هذه الصخرة بعد اقتراب موعد المدّ , وحينها سيتمكّن ذلك القرش اللعين من الوصول اليّ ثانيةً .. اللعنة عليّ !! لما قرّرت ركوب الأمواج وحدي ! فلوّ كان أصدقائي معي , لأحضر أحدهم المساعدة .. لكن هل يعقل إنه لا توجد سفينةٌ واحدة في كل هذا البحر الواسع , ولا حتى قارب صيّادٍ صغير , او سبّاحٌ غبي مثلي ينقذني من هذه الورطة ؟!)) 

وبعد ساعات مرّت ببطءٍ شديد على جاك .. لمح قبيل غروب الشمس سفينةً كبيرة تقترب من المكان , فصرخ بعلوّ صوته :
- هاى !!!!! إنقذوني !! انا هنا !! 

وحين أمعن النظر بالسفينة التي اقتربت كثيراً منه , رأى سلّماً مصنوعاً من الحبال ممّتداً على طول جانبها .. 
ففكّر في نفسه : ((في حال سبحت بسرعة وأمسكت بتلك الحبال , فسيكون من السهل عليّ الصعود الى السفينة .. لكن عليّ الإنطلاق حالاً , فالمياه في ارتفاعٍ مستمرّ وستغمر الصخرة قريباً))

ودون ان يطيل التفكير ... إنطلق باتجاه السفينة بكل ما أوتيّ من قوة , حيث كانت تبعد عنه أمتاراً قليلة ..
وكل ما كان يقوله في نفسه بتلك اللحظات :
((عليّ الإسراع بالسباحة !! ..لا اريد لذلك القرش اللعين ان يعضّ رجلي ..فلست أرغب بالعيش بقيّة عمري معاقاً .. او ان أموت هذا اليوم .. هيّا أكاد أصل , تبقّى القليل .. وأخيراً وصلت !!.. هآقد أمسكت بالسلّم .. حسناً لأرتفع بسرعة قبل ان ..)) 

وما ان صعد اول درجتين حتى هجم القرش عليه من الخلف , لكن فكّه ارتطم بقوّة بالسفينة فعاد أدراجه .. فصرخ جاك ساخراً منه :
- نعم ابتعد ايها اللعين !! فقد أفلتّ منك أخيراً

وصعد بقيّة سلّم الحبل , الى ان وصل للسطح الذي بدا خالياً من مظاهر الحياة !
فصار يصرخ بعلوّ صوته :
- هل يوجد أحدٌ هنا ؟!! ساعدوني رجاءً !!
لكنه لم يحصل على إجابة .. فمنظر الصدأ والعفن المنتشر بأرجاء السفينة تدلّ انها لم تحصل على صيانة منذ سنواتٍ طويلة ! (وقد لاحظ ذلك قبيل حلول الظلام)
- كيف يتركون سفينتهم دون ترميمات او إصلاحات , هذا خطرٌ على الملاحة ؟ّ!.. ام هي .. سفينةٌ مهجورة ! مصيبة ان كانت كذلك ..لأدخل واتأكّد بنفسي

وحين لم يجد من يُديرها في غرفة القيادة , تأكّدت اسوأ ظنونه 
- ماهذا الحظ اللعين ؟ حين وجدت أخيراً سفينة تنقذني , تكون مهجورة !

وحين خرج ليقف عند مقدّمة السفينة المهترئة , لمح ضوء المنارة يظهر من بعيد ..
- على كلٍ .. الأمواج كفيلة بأخذنا الى الشاطىء .. الأمر يحتاج الى بعض الوقت , ربما غداً .. والى ذلك الحين سأبقى على السطح , فأنا لن أجرأ على دخول الغرف بعد ان حلّ المساء .. هيا يا جاك لا تقلق , فغداً سينتهي هذا الكابوس وتُخبر أصدقائك بهذه المغامرة الغريبة !
***

في الصباح .. تفاجأ جاك بأن السفينة تسير في عرض البحر !
- كيف هذا ؟! لما لم نصل الى الشاطىء ؟! .. يا الهي ! هذا اسوأ بكثير من هجوم القرش .. فأنا عالقٌ في سفينةٍ مهجورة وسط البحر .. يعني لن أموت فقط من الجوع , بل من الخوف ايضاً !

ثم عاد واستجمع قواه ليدخل مجدداً الى كابينة القبطان للبحث عن جهاز الإرسال (ان كان يعمل) ليرسل منه إشارة لسفينةٍ أخرى تنقذه .. لكنه وجد جهازاً قديماً نمت عليه الطحالب وأكله الصدأ ليغدو معطلاً تماماً .. 

الغريب انه وجد دفتر مذكّرات القبطان في حالةٍ جيدة داخل الدرج المهترىء ! وقرأ منه آخر صفحة كتبها القبطان , حيث قال فيها :
((حدث خرقٌ في الجانب الأيمن من السفينة , أثناء إحتكاكنا بإحدى الصخور المرجانية بعد ان قذفتنا عليها موجةٌ عارمة .. من الجيد انها لم تُغرقنا , لكن امتلاء قعر السفينة بالمياه سيزيد من ثقلها مما سيعرّضنا للغرق مع مرور الوقت , لذا علينا إخلاء السفينة حالاً .. المشكلة انه لا يوجد لدينا سوى القليل من قوارب الإنقاذ , وهي لا تكفينا جميعاً .. لهذا قرّرت ان أخالف قوانين البحّارة وأنقذ نفسي اولاً , فزوجتي حامل بأول ولدٍ لنا ..ولن أُغرَق مع سفينتي تطبيقاً لقانونٍ غبي .. كل ما اريد قوله لمن يجد دفتري هذا : هو ان يغادر هذه السفينة الملعونة فوراً , فهناك أحداث غريبة تحصل بداخلها وهي من تسبّبت بتوجيهنا لتلك الصخور المرجانية .. لا أستطيع الشرح أكثر ..عليّ الهرب سريعاً , فبحّارتي ينادونني))

وبعد ان انتهى جاك من القراءة , قال في نفسه : 
- هذا ما كان ينقصني .. ان كان القبطان بنفسه شعر بأشياءٍ مخيفة تحدث في سفينته , فكيف الآن بعد ان أصبحت مهجورة ؟! لهذا سألازم سطحها الى ان ينقذني أحد , دون ان أغامر بدخول غرفها الداخلية
***

في وقت الظهيرة , اشتدّ عليه الجوع ..فاضّطر الى دخول السفينة على أمل ان يجد سمكة دخلت من ذلك الخرق (الذي تكلّم عنه القبطان) وعلقت بالداخل , ليأكلها ويسدّ جوعه .. 

وما ان تعمّق قليلاً بالداخل , حتى لاحظ الطحالب تعلو كل الجدران الخشبية ممّا جعله يغلق أنفه بسبب رائحة الرطوبة العفنة ..
وفجأة ! سمع انغام بيانو أوقفت شعر رأسه..
- من يعزف بالداخل ؟!

قالها برعبٍ شديد .. ورغم انه اراد الهرب فوراً الى سطح السفينة , الا ان قدماه وفضوله جعلاه يقترب اكثر واكثر من مصدر الصوت وبحذرٍ شديد .. ليجد داخل صالةٍ مهترئة فتاةً صبية بشعرها الأشقر الطويل وهي تعزف على البيانو القديم وتدنّدنّ باندماجٍ شديد والتي حين رأت وجهه يطلّ عليها من شقّ الباب .. شهقت برعب , صارخةً :
- قرصان !!

ففتح الباب وهو يقول بدهشة : قرصان ! بأيّ عصرٍ تعيشين ؟!
فسألته وهي ترتجف : اذاً انت شبح ؟!
فقال لها مهدّئاً : إهدئي قليلاً , انا لست شبحاً .. انا سبّاحٌ ضائع .. وقد وجدت هذه السفينة بالصدفة , وصعدت اليها 
فاقتربت اليه بحذر : يعني انت حيّ ؟
- ما هذا السؤال الغريب ؟! بالتأكيد حيّ 
- أعذر خوفي , فأنا هنا منذ عشرين سنة 
- كيف هذا ؟! واين الباقون ؟!
- رحلوا جميعاً وتركوني لوحدي .. فأمي ظنّت بأن المربّية أخذتني معها في القارب الذي سبقهم , والمربّية اعتقدت إنني برفقة امي .. بينما كنت انا وقت إجلاء الركّاب في الحمام , وكنت في الثانية عشر من عمري ..وحين خرجت , لم أجد أحداً سوايّ على السفينة..فأسرعت الى سطحها , وهناك رأيت قوارب النجاة تبتعد في البحر..فصرخت بعلوّ صوتي , لكن لم يلتفت اليّ أحد ! ومنذ ذلك الوقت وانا أعيش وحدي هنا 
جاك : لحظة ! قصتك مستحيلة .. فكيف عشتي عشرين سنة دون طعام او شراب ؟!
الصبيّة : ومن قال انه ليس عندي ما يُؤكل .. تعال معي لأريك
***

وذهب معها الى أسفل السفينة ليرى خرقاً بالجانب الأيمن العلوي , كان يدخل منه بعض مياه البحر ليستقرّ في قعرها 
جاك باستغراب : غريب ان السفينة لم تغرق الى الآن رغم الخرق الذي فيها ؟! ..انها حقاً معجزة !
الصبيّة بغيظ : بل هي لعنة علينا جميعاً
جاك بقلق : من تقصدين ؟!
فحاولت الصبيّة تغيّر الموضوع : 
- أنظر تحت !! ستجد في القعر سمكة او إثنتين , وأحياناً لا أجد سمكاً الا مرّة كل ثلاثة ايام .. لكن في حال وجدت , أصطادها بهذه الشبكة التي وجدتها في غرفة أحد البحّارة .. ثم أصعد بها الى مطبخ السفينة لأطبخها .. إنتظرني قليلاً , سأريك الطريقة .. 
واقتربت من حافة البحيرة الصغيرة التي تكوّنت في قعر السفينة وهي تحمل الشبكة ..

وبعد عدة محاولات , قالت بحماس وهي ترفع الشبكة التي بها السمكة الكبيرة :  
- وهآقد اصطدتها .. ارأيت !! الموضوع سهل ..
جاك بارتياح : أحسنتِ !! إمسكي بها جيداً .. 
وبعد ان وضعتها جانباً .. عاد وسألها :
- لكن عندي سؤال ..هل تبّقى في السفينة غاز منذ عشرين سنة لنطبخها ؟!
الصبيّة : انتهت آخر انبوبة منذ عشر سنوات , فقد كانت السفينة مليئة بأنابيب الغاز , لأنه تمّ إجلاء الركّاب بعد اربعة ايام فقط من انطلاق الرحلة التي كان من المفترض ان تستغرق ثلاثة اسابيع في البحر
- وكيف تطبخين السمك بعد انتهاء..
الصبيّة مقاطعة بحماس : على الخشب !! فقد وجدت فأساً في عِدّة البحّارة , وصرت أكسر بها الأبواب وأضعها في الفرن الكبير الذي يعمل على الحطب ..وعادة أنام في المطبخ حين يشتدّ البرد

جاك : وماذا عن مياه الشرب ؟
الصبيّة : من حسن حظي انه كان بين الركّاب عالمٌ محبّ للإختراعات .. وأذكر انه دخل الصالة التي كنّا نتعشّى فيها بعد يومين من انطلاق الرحلة وأخبرنا عن اختراعه الجديد , وهو هذه المصّاصة
وكانت تضعها في رقبتها..
- ما هذه ؟! ولما هي عريضة من الوسط ؟!
الصبيّة : انها مصّاصة بداخلها فحم واشياءٌ أخرى .. حين تمصّ بها مياه البحر تخرج مصفّاة وخالية من الأملاح .. إشرب من هذه البحيرة لتجرّبها بنفسك .. 

وبعد ان جرّب المصّاصة  ..
جاك بدهشة : جميل ! لقد شربت بها مياهً عذبة ومنعشة بالفعل
- نعم .. فالعالم كان ينوي بيعها لشركات السفن , هذا ان ظلّ حيّاً 
- كان من الأفضل لوّ وزّعها على قوارب النجاة
الصبيّة : أظنه فعل .. فهو صنع الكثير من النسخ , لكنني لم أجد الا هذه في غرفته ..وجيد انني تذكّرتها , رغم صغر سني وقتها
- وماذا عن ..
وأشار الى ملابسها .. فضحكت
- لم تكبر معي طبعاً .. لكنهم رحلوا تاركين ملابسهم في الغرف ..وكلما ازداد طولي , كنت ألبس إحدى فساتينهنّ التي لم تهترىء بعد 

جاك : قصتك هذه أغرب من الخيال ! أتدرين انك ستعملين ضجّة اعلامية بعد عودتنا سويّاً الى البرّ
فقالت بحزن : البرّ .. هذا حلمٌ مستحيل
- لا ليس مستحيلاً , فالشاطىء لا يبعد كثيراً عن هنا .. كلّ ما علينا فعله هو إدراة دفّة السفينة للعودة الى الشمال , فهي تسير عكس الطريق
الصبيّة : الدفّة مُعطّلة .. هذا ما سمعته بالصدفة من بحّارين في الليلة التي سبقت حادثة الإصطدام , وقالا ايضاً : بأن السفينة لا تسير بشكلٍ مستقيم وكأنها تتعمّد ان تبتعد عن كل الشواطىء التي تُصادفها , رافضةً ان ترسو بأيّ مكان ! ..(ثم حاولت كتم غضبها) ..وفي صباح اليوم التالي أخبرنا القبطان بموعد الإجلاء 

جاك : هذا غريب !
الصبيّة : مالغريب في الموضوع ؟!
- كنت قرأت مذكّرات القبطان قبل ان ألتقي بكِ , وأظنه كان ينوي الهرب وحده ! 
- ربما خطّط لذلك ! لكن الجميع شعر بلحظة الإصطدام , فانطلق الرجال اليه ليعرفوا المشكلة
جاك : لكنه كتب ايضاً : إن قوارب النجاة معدودة !
الصبيّة : ما أذكره .. انه حينما رأيت القوارب تبتعد عن السفينة , كانت مُزدحمة بالركّاب .. (بحزن) ومع ذلك لم يتواجد مكانٌ لي بينهم !
- لا تحزني ..ان لزم الأمر فسأصنع قارباً صغيراً من الأخشاب المتبقية , ونأخذ معنا الشبكة والمصّاصة السحريّة , بعد ان نُخيط الشراع من الأقمشة المتبقيّة ..ثم نجدّف سويّاً حتى نصل الى الشاطىء

فابتسمت الصبيّة قائلة : اين كنت طوال عمري ؟.. آه صحيح لم اسألك ..ما اسمك ؟
- جاك , وانت ؟
- جوزفين  
- اسمٌ جميل يا جوزفين
- وكم عمرك يا جاك ؟
- 36 ..وانت 32 , اليس كذلك ؟
فأجابت بخجل : نعم

وهنا ظهر صوت قرقرة معدته الخاوية , فضحكت عليه :
- أظنك جائع
جاك : نعم , كثيراً
الصبيّة بحماس : اذاً دعنا نصعد الى فوق حيث المطبخ لنشوي هذه السمكة ونأكلها , ومن ثم نخطّط سويّاً للخروج من هنا
***

وتناولا طعامهما على طاولةٍ قديمة في الصالة المتواجدة قرب المطبخ , وهناك بدأ يُخبرها عن التطوّرات التكنولوجية التي حصلت في العالم خلال العشرين سنة التي فاتتها , وظلاّ يتكلمان الى ان اختفى نور الشمس الذي كان يظهر من النافذة .. 
فقال جاك وهو يُخفي خوفه بعد ان أظلمت الصالة التي هما فيها : 
- الا يوجد قنديلاً هنا ؟
- بلى .. سأحضره حالاً
- لا, لا تذهبي لوحدك ..سآتي معك
الصبية بابتسامة : إعترف انك خائفٌ من البقاء وحدك
- بالحقيقة لا ادري كيف عشتِ لوحدك هنا , فالأمر مخيفٌ للغاية !
- تعوّدت مع الأيام .. هيا تعال معي , فالقنديل في غرفتي
***

وبعد ان اضاءت القنديل الذي أنار غرفتها , رأى جاك سريرها الصدىء وفوقه بقايا ملاءةٍ مهترئة , ومرآة كبيرة على الجدار .. 
وكانت تقول وهي تمسك القنديل : هذا آخر قنديل يعمل في السفينة , فقد استخدمت كل قناديل الغرف والممرّات في السنوات الماضية

لكن فجأة !! انتبه على شيءٍ أرعبه للغاية , فخيالها لم يظهر مثله في المرآة رغم انها كانت تقف خلفه حاملةً القنديل الذي ظهر وحده في المرآة وكأنه يطفو بالهواء ! فارتعب صارخاً :
- انت شبح !
الصبيّة بارتباك وقلق : لا , لست كذلك 

فتركها راكضاً بأسرع ما يمكنه الى سطح السفينة , وهي تلاحقه ..الى ان وقف على حافّة السفينة.. فأوقفته قائلة : 
- لا ارجوك لا تقفز !! لا تتركني وحدي هنا .. فأنا لم أصدّق متى التقيت بشخصٍ مثلك بعد كل هذه السنوات ! 
جاك صارخاً بفزع : لا تقتربي مني أكثر .. أنا أحذّرك !!
الصبيّة بخوف : لن أقترب .. فقط إنزل عن الحافّة , ودعني أفهمك الموضوع

فتجمّد في مكانه لدقائق , قبل ان ينزل متردّداً وهو مازال يرتعش من الخوف.. 
جاك بعصبية : اريد ان أعرف كل شيءٍ الآن !! هل انت جنية ام شبح ؟ فوجهك لم يظهر بالمرآة !
وهنا سمع صوت رجلٍ من بعيد , يجيبه :
- نحن ارواح الركّاب الذين ماتوا هنا قبل سنواتٍ طويلة

وخرج عشرات الركّاب بوجوههم الشاحبة وملابسهم الممزّقة من داخل السفينة نحو السطح , ووقفوا بالقرب منه .. حتى كاد ان يغشى على جاك من هول الصدمة ! حيث صرخ في وجه الصبيّة باكياً :
- أكنتِ تكذبين عليّ طوال الوقت ؟!
الصبيّة بحزن : لا .. فقد كنت انسانة حيّة قبل سنوات , والجميع كانوا كذلك ..(وأشارت اليهم).. لوّلا ما فعله القبطان الجبان بنا

جاك وهو يلتقط انفاسه بخوف : وماذا فعل بالضبط ؟!
فأجابه رجلٌ عجوز بقهر : لقد هرب هو والبحّارة بسفن النجاة , بعد ان تركنا نيّام ! 
جاك مستفسراً : وكيف استطعتم النوم بعد ان علمتم بالخرق الذي حصل بسفينتكم ؟!
الصبيّة : القبطان اللعين طمّأننا بأنه خرقٌ بسيط والبحّارة يعملون على إصلاحه , وبأننا سنُكمل المسير في الغد .. 
وأكمل رجلٌ آخر بغيظ : لكن بحلول اليوم التالي تفاجأنا بأننا لوحدنا في السفينة دون فريق الإبحار ! والأسوء من ذلك ان الإرتطام عطّل المحرّك تماماً , وصار مصيرنا مقيّداً بالأمواج التي تأخذنا يمنةً ويسارا ..حتى انتهى الطعام في مطبخنا

جاك : وهل متّم جميعاً من الجوع ؟!
الصبيّة بحزن : بعد مرور كل تلك الشهور , بالتأكيد  
وهنا قال طفلٌ في السادسة من العمر بقهر : 
- كنت انا أول من أكلوني
جاك بصدمة : أكلوك ؟!
فقالت سيدة كبيرة في السن : نعم , فقد مات من الحمّى ..وفضّلنا شوّيه وأكله من شدّة الجوع
جاك : وماذا عن والديه ؟!
الرجل : كانا يصرخان بألم بعد ان أقفلنا عليهما باب الغرفة , لحين انهائِنا الوجبة .. وقد ماتت ام الصبيّ بعده بيومين من شدّة الحزن عليه ..لكن هذه المرّة لم يعترض زوجها على طبخ جثتها , بل شاركنا العشاء .. اليس كذلك ؟ 
فأومأ زوجها الشبح برأسه إيجاباً بحزن , وهو يحتضن زوجته وكأنه يعتذر لها ..

ثم أكمل الرجل كلامه : وهكذا أكلنا كل شخص مات على السفينة  
رجلٌ آخر : بالحقيقة نحن أكلنا كل شيءٍ يتحرّك.. فالأسماك التي كنّا نجدها بالقاع لم تكن تكفينا , لهذا أكلنا الفئران .. وبعض الطيور التي حامت فوق السفينة , قمنا باصطيادها من بندقيةٍ وجدناها في غرفة القبطان .. وكذلك أكلنا الحشرات وكل شيء ..امّا اللحم البشري فكان آخر إختيارٍ لنا .. فأنت لا تدري يا بنيّ كم الجوع مؤلم , وبإمكانه تحويل الإنسان العاقل الى وحشٍ كاسر !

ثم قالت سيدة منهم : وفي أحد الأيام .. إقتربنا كثيراً من الشاطىء , فكسرنا ابواب غرفنا كيّ نستخدمها كقوارب نجاة
جاك : هذا أفضل حلّ , ان تقفزوا جميعاً من السفينة .. ثم ماذا حصل ؟
الرجل : أُغميّ علينا دفعةٍ واحدة ونحن نستعدّ لرمي الأبواب في البحر ! وحين استيقظنا في اليوم التالي , كنّا في عرض البحر مجدداً 
جوزفين بقهر : وكأن هذه السفينة الملعونة ترفض خروجنا منها ! 
جاك : بصراحة لن أعترض على كلامكم الغريب , فبقاء ارواحكم حيّة الى الآن تكفي لأن أشعر بأنني فقدت عقلي تماماً ! .. المهم الآن ..اريد ان أعرف بقيّة القصة منك يا جوزفين ؟ 

فأجابته الصبيّة بحزن : كنت انا آخر الناجين , وعشت لوحدي ثلاثة شهور .. في البداية كانت سمكةً واحدة تكفيني كل ثلاثة ايام , لكن حين ضربت العاصفة السفينة أصابتني الحمّى من شدّة البرد وانا بعمر 8 سنوات ونصف , على ما أظن .. فمعاناتنا دامت أكثر من ستة أشهر !
جاك بغضب : انت كاذبة !! لقد متّي في عمرك هذا , فالأشباح لا تكبر.. إعترفي !! 
فنظرت جوزفين الى بقيّة الأشباح , ثم قالت لجاك بارتباك :
- القصة التي رويتها لك صحيحة , لكنني لم أكن فتاةٌ صغيرة .. قلت هذا لأبرّر لك بقائي لوحدي في السفينة .. أعتذر منك 

جاك وهو يخفي غضبه : لا يهم .. وماذا عن آخر يوم لك في السفينة كبشريّة , ماذا تذكرين عنه ؟
الصبيّة : أذكر انني نمت في غرفتي بعد ان أحضرت كل بطانيات الغرف واستلقيت تحتها ظنّاً مني انها ستقيني من البرد , لكن حين أردّت القيام لم استطع إزاحة كل تلك البطانيات عنّي بعد ان هدّني المرض والجوع , فاختنقت تحتها .. كل ما أذكره , انه حين فتحت عينايّ وجدت جميع الركّاب الذين ماتوا بجانبي ! وقد أفزعني ذلك تماماً , لكنهم أخبروني بأنني أصبحت شبحاً مثلهم

وهنا قال الطفل له : وربما تكون انت ايضاً شبحٌ مثلنا , وأكلك القرش قبل صعودك الى هنا  
جاك صارخاً : لا هذا مستحيل !! وسأثبت لكم ذلك .. فربما أرواحكم علقت للأبد في هذه السفينة , لكنني مازلت حرّاً .. حتى انظروا !!
ووقف عند حافّة السفينة من جديد , فصرخت الصبية بفزع :
- ارجوك لا تتركني يا جاك !!

لكنه لم يأبه لتوسّلاتها وقفز الى البحر وهو يعلم تماماً انها بمثابة قفزة إنتحار , فهو في خضم بحرٍ لا نهاية له ..وان لم يأكله القرش , فسيغرق حتماً من التعب والجوع , لكن هذا كان أهون عليه من البقاء في سفينة الأشباح

وبعد إختفاء أثره بين الأمواج , قالت الصبية بحزن : 
- هذا سادس شاب يفضّل القفز بالبحر على ان يبقى معي ! 
الرجل : لا تحزني يا جوزفين , البشر بالعادة جبناء 
جوزفين : تتكلّم وكأننا لم نكن يوماً منهم !
فقال العجوز : لقد فزع الشاب بعد ان أخبرناه اننا متنا منذ عشرين سنة , فكيف لوّ عرف ان مأساتنا حصلت في القرن الماضي ؟! 

وهنا اقتربت سيدة من جوزفين وهي تربت على كتفها لتواسيها : 
- لا تحزني يا ابنتي .. فنحن خلال المئة السنة الماضية لم نلتقي الا ببعض الأفراد الضائعين في البحر ..لكن الأمر إزداد صعوبة هذه الأيام مع وجود التكنولوجيا وخفر السواحل الذي أخبرك عنها جاك , لذا لا تعقدي الأمل بلقائك مع شابٍ وسيم يشاركنا مصيرنا المجهول , واقبلي بقدرك كما رضينا نحن به !

فتمّتمت جوزفين بحزن : وهل قدري ان أعيش طوال حياتي برفقة الشيوخ والنساء والأطفال , دون وجود شابٌ واحد على هذه السفينة .. يالحظي السيء !

ثم نادى الرجل بقيّة الأشباح بصوتٍ عالي : 
- هيّا يا رفاق !! كلاً الى غرفته , على أمل ان نصادف مغامرةً جديدة في المستقبل

فقالت الصبية في نفسها بحزن , وهي تتأمّل البحر : ((او ان تغرق هذه السفينة الملعونة الى أعماق البحر , لتصعد أرواحنا الى السماء ونرتاح جميعاً من هذا الجحيم المؤلم !!))

ثم عادت برفقة الأشباح المحبطين الى غرفهم العفِنَة !

هناك تعليق واحد:

العرش اللاصق

تأليف : امل شانوحة  يوم الحساب إتصل بيدٍ مرتجفة بعد سماعه تكبيرات الثوّار في محيط قصره : ((الو سيدي .. لقد انتهى امري .. جنودي الجبناء هربوا...