الخميس، 19 يوليو 2018

تجارب أداءٍ مُريبة !

تأليف : امل شانوحة

ليتني لم أمتلك صوتاً جميلاً !

بعد انتهاء القدّاس .. إقترب رجل بطقمه الرسمي من الشاب جوزيف قائد الجوقة الموسيقية في الكنيسة , وهو يقول له : 
- صوتك جميل
الشاب : شكراً لك
الرجل : هل تريد المشاركة بتجارب الأداء ؟
- تقصد لجوقات الكنائس ؟
- لا , بل لمسرحية موسيقية ستُعرض في كافة مسارح الدولة 
الشاب : آسف , انا من عائلة متدينة ولا أرغب بدخول عالم الفن الفاسق
- إسمعني اولاً يا جوزيف قبل ان تقرّر
- أتعرف اسمي ايضاً ؟!
- أعرف كل شيءٍ عنك .. دعنا نجلس هنا ونتحدث قليلاً

وأمضى ساعة معه مُحاولاً إقناعه بالأجر الضخم والشهرة التي سيحصل عليها في حال وافق على عرضه , لكن الشاب ظلّ متمسكاً برأيه 
فقال له الرجل بنبرةٍ حادّة : وهل تظن إنك ستنجح في مسابقتنا الصعبة ؟ فنحن لا نختار سوى أفضل الأصوات من كل مناطق الدولة , ولهذا نحرص ان يكون إختيارنا دقيقاً ومتميّزاً للغاية
وقد إستفزّه هذا الكلام , فردّ الشاب بحزم : بالتأكيد سأربح !! فأنا فزت السنة الماضية كأفضل قائد جوقة في كل كنائس مدينتا 
الرجل : أعرف هذا ولذلك قدمت اليك .. على كلٍ , مسرحيّتنا لها طابعٌ ديني
الشاب : قلّ هذا من البداية .. طالما انها مسرحية دينية , فلا بأس بذلك

فأعطاه الرجل منشوراً به كل المعلومات عن المسابقة : (المكان وتاريخ تجارب الأداء) ..ثم خرج من الكنيسة بعد تأكّده بأن الشاب أصبح من ضمن فريقه
***  

بعد يومين .. وقف الشباب العشرة والصبايا الأربعة فوق المسرح الخالي الاّ من مخرج الإستعراض ومساعديه , في انتظار دورهم لتأدية مقطعاً غنائياً كيّ يختاروا منهم بطل وبطلة المسرحية الغنائية التي ستكون الأضخم إنتاجاً لهذا العام ..
وكان جوزيف أول المُمتحنين ..وتقدّم نحو مكبّر الصوت الذي بدا قديم الصنع ! 
ومن اول كلمتين في الأغنية , أوقفه المخرج قائلاً :
- لحظة !! لا أسمعك جيداً
فنقر جوزيف على مكبّر الصوت قائلاً : (test –test) – هل تسمعني الآن ؟
فهزّ المدير رأسه إيجاباً .. ورفع يده لعازف البيانو (الذي يجلس بجانب المسرح) ليبدأ العزف ..

وبدأ جوزيف بالغناء ليتفاجىء بصدىً جميل لصوته أبهرت الحاضرين , وفي نفس الوقت ضايقت منافسيه ! حيث قال الشباب في أنفسهم : ((سيكون من الصعب الفوز على هذا الشاب)) .. بينما قالت الفتيات في أنفسهنّ : ((سيختاروه حتماً ليكون البطل لجمال صوته ووسامته))
وبعد انتهاء وصلته الغنائية , رفع الرئيس يده ليقول : 
- جيد جداً .. التالي !!

ثم تتابعت تجارب الأداء لكل شاب وفتاة , لكن بعد ان ينقروا على مكبّر الصوت القديم الذي لا يعمل قبل ان يقولوا ذات العبارة : 
- (test –test) – هل تسمعني الآن ؟

الا ان صوت جوزيف وفتاة (إسمها جسيكا) كانا الوحيدين الذي أعطى لهما مكبّر الصوت صدىً جميل فاق جماله أصوات الآخرين ! لهذا لم يتفاجىء المتسابقون حين تمّ إختيارهما ليكونا بطل وبطلة المسرحية ..
وبدا الحزن وخيبة الأمل واضحاً عليهم .. لكن المخرج قال لبقيّة المتسابقين:
- وأنتم ايضاً نجحتم , لكن كمردّدين لهاذين البطلين .. ولا تقلقوا فأجوركم ستكون جيدة , بالإضافة اننا سنوفّر لكم غرفاً فندقية فارهة أثناء تجوالنا الموسيقي بين مسارح البلاد
فهلّل الجميع فرحاً !! حيث معظمهم كان من الطبقة الفقيرة , ويحتاجون لهذه الفرصة الذهبية التي لا تتكرّر مرتين في العمر 

ونزل المتسابقون من فوق المسرح لأخذ أغراضهم والتوجّه الى منازلهم , لكن المخرج أوقفهم قائلاً :
- الى اين تظنوا أنفسكم ذاهبون ؟
فأجابوا باستغراب : الى بيوتنا !
- لا طبعاً ..انتم الآن أصبحتم ضمن فريقي .. ومن الغد صباحاً سنبدأ التمارين المُكثّفة , فنحن اصلاً متأخّرون على موعد العرض الأول للمسرحيّة
جوزيف : اذاً غداً نأتي باكراً..
المخرج بحزم : لا !! لن أجازف في ذلك .. لهذا ستذهبون معي الى استديوهاتنا للمبيت هناك , فعلينا تسجيل مقاطع غنائية لكل واحدٍ منكم لنستخدمها لاحقاً بالمسرحية .. اما عن أهاليكم , فسأتصل بهم بنفسي لأطمّئنهم عنكم 
فقال أحد الشباب : ولما كل هذا التعب ؟ نتصلّ نحن بهم ونخبرهم...  

المخرج مقاطعاً بعصبية : الا تفهمون الكلام ؟!! هذه مسرحية مهمّة جداً لهذا ستبقى سرّية الى يوم الإفتتاح , فأنا لن أغامر بإرسالكم الى بيوتكم لتخبروا الجميع بما حصل معكم هذه الليلة
جوزيف باستغراب : مابك يا رجل ؟! سنخبرهم فقط اننا نجحنا بتجارب الأداء , فنحن أساساً لا نعلم بعد ماهو موضوع المسرحيّة! 
فوافقه الجميع قائلين : هذا صحيح
فاقترب المخرج من جوزيف بعد ان أزال نظارته السوداء لتظهر عيونه الحادّة , قائلاً له بحزم : 
- هذه آخر مرّة أسمح لك او لأيّ أحدٍ منكم ان يكّلمني بقلّة احترام .. أسمعت ؟!!
جوزيف بدهشة : انا لم أقل شيئاً ! كنت فقط..
فوضع المخرج أصبعه على فمه , ليُفهم جوزيف بأن عليه السكوت حالاً 

ثم قال لمساعديه : خذا منهم الهواتف , والحواسيب ان وجدت
فعاد جوزيف ليعترض : لما كل هذا الحرص من أجل مسرحيّة ؟!
فصرخ المخرج عليه بغضب : كلمة أخرى يا جوزيف وستخسر بطولة المسرحيّة , وكذلك الشهرة التي لن تحلم بمثلها في حياتك .. فإيّاك ان تعارضني ثانية .. مفهوم !! 

فخاف الجميع بما فيهم جوزيف من قساوة المخرج الغير مبرّرة ! لذلك خضعوا أراديّاً لطلباته خوفاً على مستقبلهم الموسيقي , وأعطوا مساعديه جوّالتهم وحواسيبهم .. 

ومن ثم ركبوا سيارات بزجاجاتٍ سوداء تمنعهم من رؤية الشارع , برفقة حرسٍ مدجّجين بالسلاح والذين منعوهم من فتح النوافذ .. 
وانطلقوا جميعاً نحو استديو سرّي , وقلوبهم تنبض بشدّة من غموض الموقف الذي تورّطوا فيه !
***

وحين وصلوا الى هناك ..نزلوا ادراجاً كثيرة الى ان وصلوا الى صالة كبيرة , بها العديد من الأبواب !
فأخبرهم مساعد المخرج (وهو نفسه الرجل الذي اختار جوزيف من الكنيسة) : 
- المخرج ذهب ليستريح في بيته وسيلقاكم غداً صباحاً ..والى ذلك الحين , إرتاحوا في غرفكم
فسألته إحدى الفتيات : أيّة غرف ؟!
فأجابها : كل باب يحوي غرفة نوم من سريرين وحمامٌ خاص ..وستجدون اسمائكم على الأبواب  
أحد الشباب : وماذا عن أغراضنا ؟
مساعد المخرج : لا تقلقوا , ستجدون ما تحتاجونه بالداخل
ثم ذهب , بعد أن أغلق الباب الرئيسي خلفه .. 

واقترب الجميع من الأبواب ليجدوا إسمين منهما على كل باب , حيث كانت غرف البنات بعيدة عن غرف الشباب .. وحين فتحوا الأبواب وجدوا ثياب نوم لكل واحدٍ منهم بالإضافة لفرش الأسنان.. والغريب ان مقاس البيجامات تناسبهم ! فبدأوا بتغير ملابسهم .. 

وحين لبس أسمن الشباب ثياب نومه , قال لصديقه : 
- طالما ان مقاس بيجامتي صحيحاً , فهذا يعني انهم اختاروني منذ البداية , فلما أتعبوني إذاً بامتحانهم المريب ؟! 
زميله بالغرفة : معك حق ! أساساً لم يرسب أحداً منّا , كلّ ما فعلوه انهم اختاروا من ضمننا بطل وبطلة المسرحيّة 
***

وفي الغرفة الثانية ..لم يرضى جوزيف ان يستلقي على سريره , كما فعل زميله الذي قال له :
- يا بطل المسرحية .. هيا إلبس بيجامتك ونمّ قليلاً , فغداً لدينا عملٌ مُرهق 
جوزيف بقلق : لست مرتاحاً لهذا المكان ! .. ثم بأيّ حقّ يجبرونا على المبيت هنا دون أخذ رأينا في الموضوع ؟!
- لا تقلق , فهم سيتصلون بأهالينا .. الم تضع رقم هاتف منزلك في الأوراق الرسميّة التي طلبوها لتجارب الأداء ؟
جوزيف بنبرةٍ حزينة : أساساً انا أعيش لوحدي , فوالدايّ متوفيان منذ الصغر
- آسف لسماع ذلك ... (ثم يسكت قليلا).. اذاً لما انت متضايق , طالما لا يوجد من يقلق على غيابك ؟  
فتغيّرت ملامح جوزيف بعد ان ضايقه كلام زميله الذي أسرع معتذراً : 
- آسف , لم أقصد ذلك
- بكل الأحوال , لن أبقى هنا 
وأخذ جوزيف معطفه وخرج من الغرفة .. فلحقه زميله :
- يا مجنون !! لا تفوّت فرصة عمرك 

لكنه تفاجأ بالباب الرئيسي مقفولاً من الخارج ! فبدأ يطرق الأبواب بهستيريا :
- هاى .. افتحوا الأبواب !! انا لا اريد البقاء هنا !!
وخرج الجميع من غرفهم ليعرفوا سبب الضوضاء , ليروا جوزيف وهو يحاول خلع الباب .. فحاولوا إقناعه بالإنتظار الى الغد ..لكنه التفت اليهم غاضباً :
- يا أغبياء !! نحن مسجونين هنا .. الا تخافون ان يكونوا اعتقلونا لأسبابٍ أخرى غير تلك المسرحيّة اللعينة ؟!!
زميله بقلق : وماذا تظن يريدون منّا ؟!
جوزيف : من يعرف .. ربما يخطّطون لتخديرنا ونحن نيام , ليسرقوا أعضائنا

فشهقت البنات برعب ! لكن الشباب استنكروا أفكاره المخيفة..
أحد الشباب مُعاتباً : أهدأ يا رجل .. انت تضخّم الموضوع وتخيف البنات
شابٌ آخر : معه حق .. فالمخرج أخذ هواتفنا وأقفل الباب علينا , خوفاً من ان نفضح موضوع المسرحيّة .. هذا كل شيء
جوزيف بعصبية : حتى أهم أفلام الهوليوود لم تأخذ كل هذه الحيطة , فكيف بمسرحيّةٍ غنائيةٍ تافهة ؟!

وهنا ! سمعوا المخرج يقول من مكبّر الصوت المعلّق في سقف الصالة :
- جوزيف !! إهدأ يا ولد  
فتجمّد الجميع في أماكنهم , بما فيهم جوزيف !
ثم تابع المخرج كلامه : 
- توجد كاميرات في كل غرفة , وسيراقبكم مساعديني حتى الصباح , فلا داعي لتفكيركم السلبي .. فغداً ستعرفون أهميّة هذه المسرحيّة , وتفهمون سبب حرصي الزائد عليكم .. والآن اذهبوا الى غرفكم وناموا جيداً .. هيا جوزيف لا تعاند , إذهب الى غرفتك ..فأنت بالذات لديك عملٌ كثير بالغد

فرضخ جوزيف للوضع , بعد ان رأى الجميع مقتنعاً بكلام المخرج ..لكن شكوكه ظلّت تراوده طوال الليل , الى ان نام من شدّة التعب 
***

وفي الصباح .. أيقظه زميله قبل قدوم المخرج ومساعديه ..
وبعد ان تجهّز الجميع .. وصل المخرج على الموعد المحدّد , وأخذهم الى مكانٍ آخر داخل هذا الإستديو الضخم , حيث وجدوا في إحدى طوابقه : صالة كبيرة بها مائدة ضخمة وعليها العديد من أطباق الطعام .. فتناولوا فطورهم بسعادة , حيث ان منهم من لم يتذوق أصنافاً لذيذة كهذه طوال حياته ..

وهنا شعر جوزيف وبقيّة الفرقة بأن المسرحيّة التي سيؤدّونها بالغة الأهميّة , بعد رؤيتهم لتكاليف التي صُرفت على إفطارهم الفخم .. فهدأت شكوك جوزيف قليلاً , وبدأ يتعوّد على وضعه الجديد
***

ومرّت أسابيع من التدريبات الشاقة على المسرح وفي الإستديو , حيث كان يتمّ نقلهم بين المكانين بالسيارات مُظلّلة النوافذ , لهذا لم يعرفوا بالضبط مكان الإستديو الضخم , وان كانوا يعرفون سابقاً مكان المسرح الذي قدّموا فيه إمتحانات الأداء
*** 

وفي أحد الأيام .. دخل جوزيف غرفته (بالإستديو السرّي) متضايقاً , فسأله زميله :
- مابك ؟
جوزيف : بأيّ لغة كُتبت الأغنية التي طلبوا مني غنائها اليوم ؟! فأنا لم أفهم منها أيّةِ كلمة !
- ربما هي باللغة الإيطالية 
- لا ..فأنا سمعت هذه اللغة من قبل , لكن لغة الأغنية تبدو قديمةً جداً وكأنها من عالمٍ آخر !
- لا تبالغ يا جوزيف , فهل انت على إطلاع بلغات العالم ؟
- معك حق .. المشكلة انها صعبة الحفظ
- حاول , فهو مقطعٌ صغير 
جوزيف بضيق : أظنني سأسهر عليها الليلة , فغداً يريدني المخرج ان أسجّلها في الإستديو
- بالتوفيق اذاً

وسهر جوزيف الليل كلّه بالصالة بينما أصدقائه نيّام , محاولاً حفظ المقطع الصعب ..
***

وفي مكانٍ آخر .. كان المخرج ومساعده يراقبان جوزيف من كاميرا المراقبة.. 
المساعد : هآقد اندمج أخيراً مع الفرقة , وبدأ يأخذ الموضوع بجدّية
المخرج : جيد , هذا يعني اننا اقتربنا من الهدف
وابتسما لبعضها بمكر !
***

في اليوم التالي , على المسرح ..
عاد جوزيف ينقر على مكبّر الصوت : 
- ( (test-test– هل تسمعني الآن ؟..أفّ سيدي , لما لا تغيّره فهو قديم ؟ فمن غير المعقول ان نجرّبه كل مرة قبل ان نغني ! 
فأجابه المخرج بغموض : إحمد ربك عليه ..فلولا مكبّر الصوت هذا , لما حصلت على دور البطولة
فنظر جوزيف الى اصدقائه باستغراب , وهم بادلوه نفس النظرات لأن كلام المخرج لم يكن منطقيّاً ! ومع هذا أكمل جوزيف غناء مقطعه .. 

ولأوّل مرة لاحظ الجميع فرح المخرج من إتقان جوزيف لكلمات الأغنية الصعبة , حيث وقف يصفّق له : 
- برافو برافو !! أحسنت .. الآن أصبحت مهيّئاً لدور البطولة 
فأحسّ جوزيف بالفخر ..
***

في غرفة الإستديو السرّية .. إقتربت بطلة المسرحيّة (جسيكا) من كاميرا الصالة لتقول :
- سيدي .. اليوم هو يوم عملية والدي , فهو ينتظر منذ شهرين تغير كليته .. فهل تسمح لي بالذهاب الى المستشفى لزيارته ؟ 
فظهر صوت المخرج وهو يجيبها بحزم  : لا !! فغداً يوماً مهماً لك 
جسيكا برجاء : صدّقني لن أتكلّم معه عن المسرحيّة , أساساً سيكون والدي مخدّراً ..وهو كل ما تبقى لي من عائلتي , ويحتاجني اليوم لأكون معه
المخرج صارخاً من مكبّر الصوت : 
- قلت لا !! الا تفهمين ؟ إذهبي فوراً الى غرفتك ونامي 
فذهبت باكية , وسط صدمة الجميع من رفض المخرج لطلبها الإنسانيّ ! 

وكان جوزيف أكثرهم ضيقاً , حيث قال لزميله داخل غرفتهما :
- بأيّ حق يمنع المسكينة من زيارة والدها ؟!
فهمس له زميله بقلق : إخفض صوتك , فهو يستمع الينا من الكاميرات
فصرخ جوزيف بغضب : اللعنة عليه , وعلى مسرحيته التافهة !! أساساً نحن نؤدي المقاطع بلغةٍ غريبة دون ان نفهم ماهيّة المسرحيّة وعن ماذا تتحدّث , فلما كل هذا الحرص ؟ 
- أهدأ يا جوزيف 
- لا اريد أن أهدأ .. فقد ضيعنا الكثير من وقتنا ونحن نغني تلك التراتيل المخيفة
صديقه باستغراب : مخيفة ؟!
- نعم .. الا تشعر ان لحنها مرعب ؟! حتى أحياناً أشعر بنبضات قلبي تتسارع كلما اقتربت من ذلك المكبّر الصوت المعطّل السخيف

وهنا ظهر صوت المخرج من كاميرا الغرفة : 
- جوزيف !! نمّ الآن .. وغداً سأُجيبك عن كل الأسئلة التي تدور في رأسك
فقال جوزيف متحديّاً المخرج , وهو يقترب من الكاميرا : 
- حسناً !! غداً أريد معرفة كل شيء , والاّ أحلف انني سأكسر الباب الخارجي , وأتوجّه مباشرةً الى الشرطة للتبليغ عنك وعن مساعديك
فسكت المخرج قليلاً , قبل ان يقول :
- في الغد ... ستتغيّر أشياءٌ كثيرة .. أحلامٌ سعيدة

وقد أقلقه جواب المخرج الغامض ! وجعله يفكّر : 
جوزيف : ((ماذا يقصد بأنه سيتغيّر الوضع غداً ؟! هل يقصد إنه سيسحب مني بطولة المسرحيّة ؟ .. لا مستحيل .. فأنا الوحيد الذي حفظ تلك المقاطع الغريبة , ولا أظنه سيضيّع الوقت لكيّ يحفظها شخصٌ غيري ..حسناً لأنمّ قليلاً , وسنرى بالغد ما سيقوله ذلك الأحمق المتعجرف !!))
*** 

وفي اليوم التالي .. أخبر المخرج جسيكا بأن والدها بخير , وأن عمليته الجراحية نجحت لكنه بالعناية المركّزة ولن يخرجوه من هناك قبل أسبوع , وهو الوقت الكافي لإنهاء التمرينات وعودتهم جميعاً الى بيوتهم .. فرضخت الفتاة للبقاء رغماً عنها , لأنها فكّرت بأن المال الذي ستحصل عليه من المسرحيّة سيغطي تكاليف عمليته .. 

ومرّ يوم التمرينات بشكلٍ عادي , وجوزيف ما زال يتساءل بنفسه:  
((لم يتغيّر شيء كما أخبرني المخرج ! فهل كان يكذب عليّ البارحة كيّ أهدأ ؟!.. سأنتظر حتى المساء , وان لم يُجيبني على كل أسئلتي , فسأقلب الدنيا عليه !!))
***

وعصراً .. أحسّ الجميع بالتعب , وتوجّهوا طواعيةً للنوم في غرفهم ..
جوزيف وهو يتثاءب : مع إني بالعادة لا أنام في هذا الوقت !
زميله وهو يستلقي على سريره بتعب : وانا ايضاً , لكن تمارين اليوم كانت متعبة , كما ان طعام الغداء كان دسماً للغاية
جوزيف بإرهاق : نعم نعم , ربما الطعام هو السبب !
وناموا جميعاً..
***

في غرفة المراقبة .. قال المخرج لمساعده :
- جيد انك وضعت المنوّم في طعامهم , فنحن نحتاجهم نشيطين في المساء
مساعده : ستكون ليلةً طويلة
فيغمزه المخرج : بل قلّ .. ليلة العمر
وضحكا بمكر..
***

في المساء .. قدِمَ المخرج الى الإستديو بعد ان استيقظوا من نومهم 
- هل انهيتم عشائكم ؟
الشباب : نعم !!
إحدى الفتيات : نأسف لأننا نمنا العصر , لكننا نشطون الآن
المخرج : جيد , فعملنا يبدأ منذ الآن .. هيا ورائي !!

وفتح لهم باب القبو لأوّل مرة , والذي به أدراجاً مظلمة نحو الأسفل
جوزيف : انه مظلمٌ للغاية ! اليس به انوار ؟
المخرج : لا , ولهذا سنستخدم المشاعل
الجميع بدهشة : مشاعل !
وأضاء مساعداه المشاعل الناريّة , حيث أعطيا لكل صبيةٍ وشاب شعلةً ليحملها أثناء نزوله الأدراج المعتمة..  
المخرج وهو يتقدّمهم بالنزول : 
- لا تخافوا !! فالمشاعل سنستخدمها لاحقاً بالمسرحيّة , المهم ان لا توقعوها أرضاً وتُسبّبوا حريقاً في المكان .. هيا إتّبعوا خطواتي 
وبدأوا ينزلون خلفه بحرص على الأدراج المتهالكة.. 

وأمضوا قرابة الساعة , وهم مازالوا ينزلون ادراجاً لا نهاية لها نحو المجهول المظلم في الأسفل !
وبدأ القلق يسري في نفوسهم , خاصة الفتيات اللآتي بدأن يخفنّ من وحشة المكان ! حيث رفضت إحداهنّ إكمال الطريق ..
فصرخ عليها المخرج غاضباً : هذا ليس وقت الدلال !! فالجميع ينتظرنا 
فسأله أحد الشباب بقلق : ومن هناك في الأسفل ؟!
المخرج بعصبية : الجمهور يا غبي !! من تظن إذاً ؟!
جوزيف باستغراب : وهل سنقيم المسرحيّة الآن ؟!
المخرج : نعم .. وهناك مسرحٌ ضخم في الأسفل , وهو ممتلىء بالمشاهدين
أحد الشباب مستفسراً : ظننت اننا سنقيم المسرحية بنفس المسرح الذي نتدرّب فيه كل يوم ؟
المخرج : لا , فالمسرح السفلي أكبر وأجمل بكثير
جسيكا بقلق : ليتك فقط أخبرتنا بموعد الإفتتاح كيّ نتدرّب أكثر !
جوزيف بقلق : وانا نسيت كلمات أغنيتي في الغرفة
المخرج مُطمئناً : لا تقلقوا , فأنا راقبتكم جيداً خلال الشهور الثلاثة وجميعكم مستعدّون للمسرحيّة .. فهيا بنا نسرع الخطى , فمازال عليكم لبس الثياب الخاصّة بالمسرحيّة وهي موجودة في غرفة الملابس خلف المسرح..
***

ووصلوا أخيراً الى هناك .. ولبسوا ثيابهم الحمراء بقبّعاتها المخروطية ..اما البطل جوزيف والبطلة جسيكا فلبسا رداءاتٍ سوداء .. وصعدوا بعض الدرجات للوصول الى مسرحٍ مُهيب مبني على الطراز القديم !
وما ان إنفتح الستار , حتى تفاجئوا بالجمهور الغفير الذين لبسوا جميعاً رداءاتٍ تُشبه التي يلبسونها لكنها بيضاء مع قبعاتٍ مخروطية , بالإضافة الى أقنعة تغطي وجوههم , فيما عدا أعينهم!  
فهمس جوزيف للمخرج الذي كان خلف الستار : 
- لما يُخفي الجمهور نفسه ؟!
فقال له المخرج بصوتٍ منخفض : لأنها حفلة خاصة بكبار المسؤولين بالبلد .. فهيّا تقدّم نحو مكبّر الصوت وابدأ الغناء
وهنا ! ارتفع صوت الموسيقى من الفرقة العازفة الموجودة تحت المسرح , والذين كانوا ايضاً مقنعيّ الوجه !

لكن قبل ان يتقدّم جوزيف للأمام , لاحظ نفس مكبّر الصوت القديم في مقدمة المسرح .. فهمس للمخرج بضيق : 
- لا تقلّ انك جلبت نفس مكبّر الصوت المعطّل ؟!
فأجابه المخرج بصوتٍ منخفض : لا تقلق فهو سيعمل هذه المرة , لأن وظيفته انتهت
جوزيف بدهشة : أيّة وظيفة ؟! 
المخرج : وظيفة إختياره لأفضل الأصوات لدور البطولة .. باختصار هو مكبّر صوت مميزٌ جداً .. تقدِمَة من شخصٍ مهم .. والآن تقدّم للأمام , فالجميع ينتظرك 

وابتدأت المسرحيّة .. وبدأ الجميع يغني كلاً بدوره .. وجاء دور جوزيف الذي تفاجأ بنفسه وهو يغني كلمات الأغنية الغير مفهومة بسلاسةٍ وطلاقة .. والأغرب ان مكبّر الصوت أظهر صدىً جميل , بحيث صدح صوته في كل أرجاء المسرح !
فقال جوزيف في نفسه : ((يبدو ان وجود المسرح في عمق الأرض زاد من قوّة صوتي ! كم انا فخورٍ بنفسي الآن))
***

وبعد انتهاء المسرحيّة , صفّق الجمهور لهم بحرارة .. 
لكن فجأة ! إرتفعت شعلات نارٍ عملاقة في كل جانب من المسرح .. ومن ثم خرج عرشٌ مُهيب من تحت الأرض في مقدمة الجمهور , وكان يجلس عليه رجلٌ مقنّع وهو يصفّق للمغنيين..
وما ان رأوه الجمهور , حتى سجدوا له جميعاً ..وسط دهشة أبطال المسرحيّة ! 
فتساءل جوزيف في نفسه : ((هل هو رئيس البلاد ؟! .. حتى ولوّ كان , فمنذ متى نسجد لرئيس دولتنا ؟!))

وهنا قاطع تفكيره صوت ذلك الرئيس المقنّع الذي قال بصوتٍ جهوري للمخرج الذي خرج من خلف الستار : 
- أحسنت يا جاك .. فأنت دائماً تُحضر لي أفضل المغنيين
المخرج جاك وهو مطأطأ الرأس : هذا واجبي سيدي .. وقد اخترت البطل جوزيف من جوقة الكنيسة
فضحك الرئيس قائلاً : يا لك من ملعون .. كل سنة تفاجأني بإبداعاتك ! 

ثم توجّه بالسؤال لجوزيف : 
- وانت ايها الشاب !! ما هو شعورك بعد ان كنت تُغني للربّ..  
((وأزال القناع عن وجهه بعد ان رمى الرداء عن جسمه , ليظهر خلفهُ مخلوقاً مخيفاً بجلده الأحمر وقرنيه الضخمين وذيله الطويل .. والذي أكمل كلامه قائلاً لجوزيف)) :
- أن تغني الآن لإبليس المعظّم !! 

فأغمى على بعض الصبايا من هول الموقف , خاصةً بعد ان قامت الفرقة الموسيقية بإزالة الأقنعة عن وجوهها لتظهر خلفها الشياطين المرعبة .. كما أزال الجمهور أقنعته ليتبين بأنهم كبار المسؤولين في الدولة ! 

فصرخ جوزيف على المخرج وهو يرتجف من شدة الرعب : 
- ايها اللعين !! من قال لك انني أقبل ان أغني للماسون ؟!! 
فردّ المخرج بمكر : لقد غنيّت لنا وانتهى الأمر
ثم قال ابليس لجوزيف مُبتسماً : وغنيت بلغة الشياطين , وبكل براعة ! 

فصار الشباب والصبايا يبكون وهم يتوسّلون للمخرج ان يخرجهم من هذا المكان المرعب !  
فصرخ ابليس عليهم :
- والى اين تريدون الهرب ؟!! فالحفلة لم تبدأ بعد .. لأن بطلكم سيُكمل الغناء , بينما شياطيني تحرقكم الواحد تلوّ الآخر كقرابين لي

فحاول الشباب المرتعبين القفز خلف المسرح للعودة من حيث أتوا , لكن الحرس الشياطين إستطاعوا الإمساك بهم .. 

وهنا شاهد الجميع البطلة جسيكا وهم يقبضون عليها ويربطونها بسريرٍ رخامي قرب عرش ابليس , وهي تنتفض وتصرخ محاولةً الهرب .. 
فقال لها ابليس : مع ان صوتك جميل , لكنني أخترتك لتكوني اول قربانٍ لي من بين اصدقائك.. 
ثم صرخ بصوتٍ مهيب لجوزيف : 
- وانت !! إكمل الغناء , قبل ان يأتي دورك 

وباكياً أكمل جوزيف الغناء , وهو يتابع رؤية اصدقائه وهم يحرقون الواحد تلوّ الآخر أحياءً .. الى ان جاء دوره , واختفى صراخه هو ايضاً بين النيران !

وهنا قال ابليس للمخرج : في المرة القادمة إخترهم جميعاً من النّسوة فأصواتهنّ تعجبني أكثر .. كما لا تنسى ان تحافظ على مكبّر الصوت الخاص بي , فهو دقيق باختيار القرابين لي 
المخرج : بالتأكيد !! فأنا لا أعمل من دونه , سيدي

ثم قال ابليس بصوته الجهوريّ للجمهور : 
- وهآقد إنتهى الحفل ..ألقاكم السنة المقبلة
ثم اختفى عرشه تحت الأرض , والجميع سجوداً له ! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المحطّة الأخيرة

كتابة : امل شانوحة    المصيّدة الدمويّة ركبت الصبيّة الحافلة بعد انتهاء عملها الليليّ في إحدى المطاعم ، وهي تشعر بالإنهاك والتعب الشديد.. وم...