الجمعة، 13 يوليو 2018

طفل الغوّاصة

تأليف : امل شانوحة

كيف سنربّي طفلاً في أعماق البحار ؟!

في عام 1939م , في فترة الرايخ الثالث ..سُمح للنساء العمل في القتال وفي الوحدة المساعدة البحريّة .. وكانت (ويلما هاغن) المجنّدة الوحيدة التي تمّ تجنيدها في البحريّة بإحدى الغوّاصات الإلمانية المتواجدة بالمحيط الأطلسي لضرب سفن الحلفاء .. وقد تمّ تكريمها بالعمل هناك بعد نجاتها من المعتقل البريطاني الذي تعرّضت فيه للتعذيب .. 

لكنها وبعد ان تعمّقوا في البحر , تفاجأت بالقبطان يطلب منها ترك أجهزة المراقبة والعمل ضمن وظيفتين : اما المطبخ او ممرّضة مساعدة لطبيبهم .. ورغم إنكارها لهذه التفرقة , الا انها قبلت بذلك مُرغمة بعد رفض المجندين الذكور تواجدها معهم في مركز المراقبة التابع للغواصة , خاصة بعد ان اشتدّت الحرب .. فاختارت العمل بالمطبخ برفقة الطباخ العجوز الذي كان يُعاملها كإبنته .. 
***

وفي أحد الأيام .. حصل مالم يكن بالحسبان ! فقد تأكّدت شكوكها التي  كانت تؤرّق نومها , وأفضت بسرّها التي كتمته لشهر ونصف الى الطبّاخ الذي قال مندهشاً :
- ماذا تقولين ؟ّ هل انت متأكدة ؟
فقالت بحزن ويأس : نعم .. أظنني حامل 
- ومن هو الوالد ؟
فقالت بغضب وقهر : أكيد هو القائد الإنجليزي اللعين !! الذي قام باعتقالي أثناء عملي في الميناء ..
- وما اسم ذلك القائد ؟
- لا ادري .. اسمه القائد جون , وهو مشوّه الوجه .. هذا كل ما أعرفه عنه 
الطباخ : وبأيّ شهرٍ تظنين .. 
مقاطعة : ربما الثالث او الرابع , لا أعرف بالضبط
- هذه مشكلة يا ويلما , لأنهم سيلاحظون حملك قريباً

المجنّدة برجاء : لهذا اريدك ان تبعدني عن الجميع الى حين ولادتي
- لا يا ويلما .. فبكل الأحوال سينفضح الموضوع , لهذا علينا إخبار القائد بالحال !!
ويلما بخوف : لا ارجوك ! ان عرف القبطان الآن , فسيطلب من الطبيب إسقاط الجنين
الطباخ باستغراب : وهل تريدين طفل ذلك المغتصب ؟!
الصبية بحزن : كنت يتيمة طوال عمري , وحين أصبحت مراهقة إلتحقت بالتجنيد النسائي .. لذلك سيكون هذا الطفل كل حياتي
يتنهّد بقلق : انت ستوقعيني بورطةٍ كبيرة يا فتاة
- إسمعني يا عم .. فريقنا سيتمّ إستبداله بعد ستة أشهر , وحينها آخذ ابني وابتعد عن الجميع .. فقط اريدك ان تحميني الى ذلك الوقت
الطباخ : ستكون هذه أطول ستة اشهر في حياتي .. ليساعدنا الربّ
***

الاّ ان الحرب اشتدت على غير عادتها بعد تدخّل القوات الأمريكية في امداد بريطانيا بالبضائع والأسلحة ..لهذا طُلب من افراد الغوّاصة الثبات في أماكنهم ..وسيتمّ إمدادهم بما يحتاجونه عن طريق غوّاصة صغيرة , وهذا يعني ان ويلما علقت معهم الى أجلٍ غير معلوم !

الطباخ : يا مجنونة !! لما لم تركبي في الغوّاصة الصغيرة ؟ فأنت على وشك الولادة !
ويلما بتعب : انا لا اعرف أحداً هناك , وأخاف ان يؤذونني او يقتلوا ابني .. ارجوك انت كوالدي , دعني أبقى هنا مع ابني 
- وماذا عن بكاء الطفل حين تلدينه ؟ سيكشفون أمره حتماً 
- الى حينها نفكّر بحلّ .. فقط أبقيني بعيدة عن أعين الجميع , كما فعلت معي الشهور الماضية
فأومأ الطباخ برأسه موافقاً وهو يعلم بأنه قرارٌ خاطىء
***

وفي يوم .. هبّت عاصفةٌ مفاجئة , أجبرت الغوّاصة على التعمّق أكثر بالبحر إبتعاداً عن الأمواج المتضاربة في الأعلى .. لكن الوضع كان أسوأً في المطبخ , حيث أحضر الطباخ طبيب الغوّاصة الى غرفة المؤن , ليتفاجأ برؤية المجنّدة ويلما في حالة وضع , وهي تحاول كتم صراخها بصعوبة رغم حالتها المزريّة !
فحاول الطبيب مساعدتها قدر الإمكان , الى ان أخرج الطفل بعمليةٍ قيصرية , لينفجر بعدها الولد بالبكاء الذي وصل لأسماع المجنّدين حيث انطلقوا مسرعين نحو المطبخ ليعرفوا مصدر الصوت , لكنهم وجدوا باب المطبخ مقفلاً من الداخل ! فبدأوا يطرقون الباب بقلق , لكن لا مجيب .. لهذا أسرع أحدهم الى غرفة القبطان ليخبره بما حصل في الأسفل 

القبطان بدهشة : ماذا تقول ؟ صوت بكاء طفل في غواصتي ! هل هو ابن ويلما ؟ 
الشاب : بالتأكيد !! فهي المرأة الوحيدة بيننا , وكانت إختفت عن الأنظار منذ شهور ..وكلما سألنا الطباخ عنها , أخبرنا بحجةٍ مغايرة : اما نائمة او مريضة او تستحم او أي عذرٍ آخر كيّ يبعدها عنا ..والآن عرفنا السبب
القبطان : أتقصد ان الطباخ هو والد الطفل ؟!
- ربما , فهو الأقرب لها ..مع انها لم تلتحق بطاقمنا الا منذ ستة أشهر.. كما ان الطباخ رجلٌ عجوز
القبطان بغضب : حسناً , لأذهب وأرى المشكلة بنفسي
***

وقد أدّت ولادتها المتعسّرة الى نزيفٍ حاد لم يستطيع معها طبيب الغوّاصة حلّ المشكلة , فأسرع الطباخ لفتح الباب ليجدّ القبطان في وجهه , فقال له بقلقٍ شديد : 
- سيدي انها تموت , والطبيب عاجزٌ عن إنقاذها 
فصرخ عليه القبطان بغضب (والبحّارة يستمعون خلفه لنقاشهما):  
- وماذا تريدني ان أفعل , ونحن عالقون في البحر وفي خضم المعارك ؟! اساساً ان أردنا ايصالها الى أقرب مستشفى على اليابسة , فسنحتاج على الأقل لشهرين من الملاحة المتواصلة , هذا ان وصلنا بخير دون ان يقصفنا الأعداء !!  
الطباخ بقلق : ومالعمل الآن ؟!

وهنا خرج الطبيب من غرفة المؤن وهو يحمل الطفل الصغير , قائلاً :
- لقد أنقذت الصبي
الطباخ بقلق : وماذا عن ويلما ؟
فهزّ الطبيب رأسه بالنفي .. فعلم الجميع بموتها..
فقال القبطان للطباخ بغضب : وها نحن خسرنا أحد أفرادنا بسبب كتمك لحملها , هل انت سعيدٌ الآن ؟!! 
فالتزم الطباخ الصمت وهو يشعر بالندم .. 

القبطان بعصبية : والآن إخبريني !! من هو والد هذا اللقيط ؟ 
الطباخ : رجاءً سيدي , لا تقل هذا ..
القبطان مقاطعاً : هل هو أحد المجنّدين ؟
وأشار الى البحّارة الذي بدأ كل واحداً منهم ينكر ذلك ..
شاب : هو ليس ابني , سيدي
شاب آخر : وانا لم أرى ويلما منذ شهور 
شاب ثالث : وانا ايضاً  
القبطان بغضب : اسكتوا جميعاً !! وانت (ونظر الى الطباخ) الم تقل لك من هو والد طفلها ؟
فقال الطباخ : نعم ..هي أخبرتني انها تعرّضت للإغتصاب في المعتقل البريطاني.. 
القبطان مقاطعاً بغضب : اذاً ارموه خارجاً !! فنحن لن نربّي ابن العدو 
فحصل هرجٍ ومرج بين الجنود الرافضين لهذا القرار الجائر.. 

فسألهم القبطان : اذاً ماذا تريدونني ان أفعل به ؟! 
فقال الطباخ العجوز : دعني أربّيه , فأنا جدّ ولديّ خبرة بهذه الأمور 
القبطان بتهكّم : وماذا عن الحليب وغيارات الطفل , يا عبقريّ ؟ 
فقال أحد الشباب : سيدي .. انا كنت أعمل خياطاً قبل ان ألتحق بالجيش , وسأخيط له الغيارات والملابس من الملاءات الإضافية الموجودة بالمخزن 
وقال مجنّدٌ آخر : وانا سأكون المسؤول عن التغير له , فأنا أب لطفلين وليس عندي مشكلة بهذا الأمر  
شاب : وانا سأطعمه
بحّار آخر بحماس : وانا سألاعبه , سيدي.. فأنا أعشق الأطفال 
القبطان : يعني إتفقتم جميعاً عليّ !
الطبيب : دعه يُؤنس وحدتنا في أعماق البحار , سيدي 

ففكّر القبطان قليلاً , ثم قال : 
- حسناً كما تشاؤون .. لكن إيّاكم ان أسمع صوته , والاّ رميتكم جميعاً في البحر 
ففرح الجميع , واقتربوا من الطفل ليتأمّلوا وجهه الجميل.. 

وأثناء انشغالهم بالطفل , همس الطبيب للقبطان : 
- وماذا بشأن المجنّدة ؟
- إرمي بجثتها في البحر من مكان اطلاق الصواريخ , كما نفعل عادةً بالجثث .. وابلغ القيادة بما حصل معها كيّ يبلغوا اهلها بوفاتها ..لكن لا تخبرهم بشأن الطفل , فلا أظنها كانت ترغب بمعرفتهم به 
الطبيب : كما تشاء , سيدي 
و ذهب القبطان غاضباً الى كابينته , بينما تجمّع بقيّة البحّارة لرؤية الطفل الصغير
***

ومرّت ثلاثة شهور , كانت الأجواء في الخارج هادئة .. حيث استمرّت الغوّاصة الإلمانية في عملها المعتاد بإغراق سفن البضائع الإنكليزية والإمدادات الأمريكية دون ان يجدوا مقاومة تقلقهم من الحلفاء .. لهذا كان الوضع بداخل الغواصة هادئاً , الاّ من صوت بكاء الطفل الذي كان يعلو صداه في أرجاء الغوّاصة الحديدية من وقتٍ لآخر 
***

في أحد الأيام .. وفي أثناء قيلولة القبطان , دخل عليه أحد المجندين وهو يقول : 
- آسف على إيقاظك سيدي , لكن وصلتنا إخبارية ان الإنجليز سيرسلون سفناً حربية لحماية سفنهم التجارية , وهذا يعني ان علينا توخّي الحذر في عملياتنا القادمة
فقال القبطان بتعب : هذه ليست بمشكلة كبيرة 
- كيف سيدي ! فقد صار بإمكانهم ضربنا بالطوربيدات .. 
القبطان مقاطعاً : الا تدري كم يكلّف إبحار السفن الحربية الضخمة , وهم اساساً يعانون من انهيارٍ اقتصادي بعد مئات السفن التي دمرناها لهم
الجندي : لكن القيادة الإلمانية أخبرتنا قبل قليل ان الولايات المتحدة ستساعدهم في ذلك ..
القبطان : جيد ..هذا يعني المزيد من الإنتصارات لنا , وكأننا نضرب عصفورين بحجرٍ واحد .. هيا بنا , فلدينا عملٌ كثير 
***

في كابينة القيادة , جمع القبطان جنوده في اجتماعٍ عاجل 
- لقد أخبرتني القيادة بأنه منذ هذه اللحظة , يُمنع علينا مساعدة الجرحى من بحّارة السفن التجارية للعدو
مساعده بدهشة : أحقاً ما تقول ؟!
القبطان : نعم , لأن إحدى غوّاصاتنا تمّ قصفها أثناء صعودها لسرقة المؤن الغذائية العائمة من سفينةٍ مدمّرة .. لهذا يُمنع علينا الصعود الى السطح مهما كانت الأسباب
الطباخ بقلق : وماذا عن طعامنا ؟!
القبطان : كما فعلوا معنا سابقاً , سيرسلون لنا ما نحتاجه عبر غواصةٍ صغيرة
أحد الجنود بغضب : هذا يعني اننا سنعلق في البحر لشهورٍ أخرى 
القبطان بحزم : وربما لسنوات , فحضّروا أنفسكم لذلك

وقبل ان يعود الى كابينته , أوقفه الطباخ : 
- وماذا عن الطفل , سيدي ؟
القبطان بعصبية : وماذا عنه ؟! سيكبر هذا الإنجليزي اللعين معنا ..(ثم يسكت قليلاً).. او يمكننا ارساله في غوّاصة المؤن التي ستصلنا بعد شهرٍ من الآن
الطباخ بحزم : لا !! لن أقبل ان أرسل الصبي بهذه الطريقة  
فصار الجنود يؤيدون رأيه : نعم , لن نبعده عنا !!
القبطان بتهكّم : يا سلام ! وكأن لهذا الطفل خمسين أباً 
فقال الجندي ممازحاً القبطان : وله جدّان ايضاً
القبطان (الخمسيني) : ماذا تقصد ؟
الطباخ (الستيني) متداركاً الموقف : كان يقصدني انا 
القبطان صارخاً بحزم : هيا عودي جميعاً الى أماكنكم !!
الجنود بصوتٍ واحد : حاضر سيدي !!

وبعد ان ذهبوا.. تمّتم القبطان بنفسه بضيق :
- هذا ما كان ينقصني .. ان أكون جدّاً لهذا اللقيط الإنجليزي !
***

وبعد مرور سنة ونصف , وفي أحد الأيام .. دخل الطباخ غرفة الجنود , وعلى وجهه علامات القلق :
- هل رأى أحدكم فيليب الصغير ؟!
أحد الجنود : لا ! الم يكن معك ؟
الطباخ : كنت منهمكاً بتحضير الطعام , وفجأة اختفى من المطبخ
جندي آخر : لا تقلق , سنبحث عنه
وانطلق بعض البحّارة للبحث عن الصغير , خوفاً من ان يكون دخل غرفة الصواريخ..

وقد وجده الطباخ أخيراً في غرفة القبطان بعد ان رآه من شقّ الباب وهو يلاعبه بمجسّماتٍ لجنود صغيرة كان يحتفظ بهم في غرفته الخاصة..
وهنا اقترب جندي آخر من الطباخ الذي كان يتلصّص عليهما .. 
- هل وجدت فيليب ؟
فهمس له الطباخ : إخفض صوتك , وانظر هناك
الجندي بدهشة : ماذا ! هذه أول مرّة يلاعبه القائد منذ ولادته
الطباخ مبتسماً : دعنا نذهب ونتركهما سويّاً

وظلّ يلاعبه القبطان , الى ان غفى الصغير بين يديه .. ثم نادى أحد الجنود لأخذه الى غرفة الطباخ حيث كان سريره ..
***

وفي عام 1945 .. وأثناء إحتفال البحّارة ببلوغ فيليب الصغير عامه السادس .. إهتزت الغوّاصة فجأة !
فصرخ القبطان : الكلّ الى موقعه !!
ودبّ الخوف أرجاء الغوّاصة وانطلق الجميع الى غرف المراقبة حيث فاجأتهم سفن الملكيّة البريطانية بطوربيد أصاب جزءاً من الغوّاصة
وحاول القبطان الإلماني توجيه البحّارة لتجاوز الصواريخ التي انطلقت عليهم من كل جانب ..
فقال أحدهم بخوف : قبطان !! سنغرق ان قاومناهم
فيصرخ القبطان بحزم : اذاً اطلقوا جميع صواريخنا عليهم ..فلا استسلام اليوم.. وإن كنّا سنموت , فسنغرق هؤلاء الملاعيين معنا !!!

فقال أحدهم : سيدي .. وماذا عن فيليب ؟
وسكت الجميع بذهول !
فقال جندي آخر : نعم , هو يستحق الحياة
وبدى الجميع قلقاً على الطفل ..فقال القائد لهم : 
- من يريدني ان استسلم للعدو , فليرفع يده ؟!! 
فرفع الجميع ايديهم.. 
القبطان بغضب : ايها الجبناء !!

وهنا اقترب الطباخ العجوز منه : ليس من أجلنا , بل من أجل الصغير 
القبطان بعصبية : الا تفهمون الموقف ؟ سيعذّبونا في معتقلاتهم !!
الطباخ : المهم ان يبقى الطفل بخير
القبطان : أهذا رأيّ الجميع ؟! 
الجنود بصوتٍ واحد : نعم سيدي !! 

وبعد ان رأى القائد بأن البحّارة يرفضون المقاومة خوفاً على مصير الطفل , اضّطر الى بعث رسالة بشفرة مورس لقائد السفينة البريطانية يعلن فيها استسلامهم ..وحينها توقف اطلاق الصواريخ باتجاههم .. 

وبعد هدوء الوضع .. إرتفعت الغوّاصة بصعوبة الى سطح البحر , بعد ان تمكّن البحّارة الإلمان بصعوبة من إغلاق الخرق الذي أحدثها الطوربيد الإنجليزي ..
***

وفوق سطح الماء .. إقترب القبطان الإنجليزي من البحّارة الألمان وهم يرفعون أيديهم باستسلام .. وقال لهم باللغة الإلمانية التي يتقنها: 
- وأخيراً قبضنا عليكم .. الا تعلمون كم خسرنا اقتصادياً بسبب غوّاصاتكم اللعينة ؟ لهذا تستحقون الموت
واصطفّ الجنود الإنجليز شاهرين سلاحهم امامهم , منتظرين الإشارة من قائدهم لقتل البحّارة الإلمان ..

وهنا تفاجأ الجميع ! بخروج الصبي من فوهة الغواصة مُنطلقاً نحو الطباخ وهو يقول :
- جدي !! لا تقتلوا جدي !!
فاستغرب القائد الإنجليزي ممّا قاله , وسألهم باستنكار :
- كيف تحضرون طفلاً صغيراً الى المعركة ؟!
فقال القبطان الإلماني : رجاءً لا تقتله .. فهو اساساً طفلٌ انجليزي وليس الماني
القائد البريطاني : وماذا تقصد ؟!
فأخبره القبطان الإلماني بقصّة المجندة ويلما باختصار ..

القائد البريطاني بدهشة : هل هي نفسها الجندية (ويلما هاغن) التي كرّمتموها بالعمل معكم , بعد ان أطلقنا سراحها من معتقلنا ؟!
القبطان الإلماني : نعم هي 
البريطاني بارتباك : يا الهي !
وبعد ان فكّر قليلاً .. قال للصغير :
- تعال يا ولد الى هنا !!
لكن الولد كان متعلّقاً بثياب الطباخ , بعد ان أخافته اسلحة الإنجليز المُشهرة ضدّهم  
الطفل بخوف : لا اريد ..
فقال له القائد الإلماني : إذهب عنده يا فيليب
الطفل : لا اريد جدّي ..انا أخاف منهم
القائد البريطاني : وهل هذا جدّك ايضاً ؟!
فقال الطفل : جميعهم أبائي .. جيم .. ومارك ...وجاك .. أمّا الطباخ والقبطان فكلاهما جدّي لأن ذقنهما أبيض
فابتسم القائد الإنجليزي وقال للطفل : ربما هما جدّاك , لكن انا والدك الحقيقي

فانصدم الجميع ممّا قاله ! وهنا تذكّر الطباخ كلام (ويلما) عن القائد مشوّه الوجه الذي اعتدى عليها .. فسأله :
- أأنت القائد جون ؟ 
فقال القائد البريطاني : نعم , جون اندرسون .. وحين علمت قبل سنوات بأن جنودي قبضوا على مجنّدة المانية تعمل بالبحريّة , قرّرت ان تكون لي وحدي 
الطباخ بغضب : ايها اللعين !! اذاً انت من اغتصبتها ؟ 
البريطاني : على الأقل , حميتها من الآخرين .. والآن أعطوني ابني !!
فصرخ الطفل وهو مازال يحضن أرجل الطباخ : 
- لا !! لن أذهب دون آبائي 
..وأصرّ على بقاء معهم..
فاقترب منه القائد البريطاني : حسنا بنيّ , سأتفق معك على أمر ..في حال قدمت معي , فسأطلق سراحهم ..لكن ان بقيت معهم , فسأضّطر حينها لقتلهم جميعاً.. فما رأيك ؟

فنظر الصبي الى اصدقائه الجنود الذي كان الخوف واضحاً في أعينهم .. ثم قال للقبطان الإلماني الذي كان يحاول ان يبقى متماسكاً :
- انت كنت دائماً تحدّثني عن القادة الإلمان الشجعان 
- صحيح 
- وكنت تقول لي : بأن أكون مثلهم قويّاً وشجاعاً , اليس كذلك؟ 
- نعم حبيبي
- ولأجلك جدي ولأجلكم جميعاً , سأوافق على الذهاب معه
القبطان الإلماني وهو يمسح على رأس الصغير بفخر وحزن : 
- أحسنت يا صغيري البطل

ثم شاهدوه وهو يرحل في سفينة القائد الإنجليزي , بينما كانوا هم يجدّفون في قاربين صغيرين مُبتعدين عن الصغير وهم يكتمون دموعهم بصعوبة 
فقال الطباخ حزيناً : لقد فدانا جميعاً
أحد الجنود متأثّراً : طبعاً , فهو بطلٌ الماني صغير
القبطان : لا تنسوا انه انجليزي الأصل
فاعترض أحدهم قائلاً : لا سيدي ! هو الماني أصيل ..فنحن من ربّيناه ليكون شهماً هكذا
فتنهّد القبطان بحزن : هذا صحيح

ثم ابتعدوا في السفينتان الخشبيتان عائدين الى مقرّهم على اليابسة 
..ومن بعدها بفترة , تمّ تسريحهم الى بلادهم ..
***

وبعد عشرين سنة على انتهاء الحرب .. وصلت للقبطان الإلماني المعتزل رسالة باللغة الإلمانية , كتبها الطفل فيليب بعد ان أصبح شاباً : يطلب منه الذهاب الى اميركا لحضور حفل تخرّجه من البحريّة الأمريكية بعد ان انتقل للعيش هناك
***

وفي اميركا .. تفاجأ القائد الإلماني بعشرة من طاقم غوّاصته القدامى حاضرين الحفل , بما فيهم حفيدة الطباخ التي قدمت مكان جدها المتوفي لحضور حفل تخرّج الطفل الذي أخبرها عنه كثيراً بعد عودته من الحرب 

وقد صفّقوا لفيليب بفخر بعد رؤيتهم له وهو يستلم شهادته , بطقمه الرسمي الخاص بالبحّارة الأمريكان..
ثم اقترب اليهم ليشكرهم على ذكرياته الجميلة التي عاشها معهم داخل الغوّاصة..
القائد العجوز باستغراب : أمازلت تذكر ؟! .. كنت حينها صغيراً !
الشاب فيليب : نعم أذكر كل شيء .. ولهذا رغبت في الإنضمام للبحريّة الحربيّة مثلكم , فأنا بالنهاية طفل الغوّاصة 

وهنا لاحظ الفتاة التي تراقبه من بعيد .. فاقترب منها :
فيليب : أنت حفيدة الطباخ , اليس كذلك ؟
الصبية : نعم .. هو أخبرني كثيراً عنك , فقد كان يحبك تماماً كما يحب أحفاده
فيليب : وانا أحببته كجدي , رحمه الله ..هل أتيت لوحدك ؟
الفتاة : اساساً انا أدرس هنا بالجامعة .. 
فيليب : كم جميل انه إنتهت الحروب , وعادت الدول لتتواصل مع بعضها من جديد 

فأشار القائد لبقيّة الطاقم بأن يتركوهما معاً .. وقال لفيليب : 
- سنودّعك الآن بنيّ , فنحن متعبون من السفر ونريد ان نرتاح في الفندق
فيليب : لكني سأراكم حتماً قبل عودتكم الى المانيا
القائد وهو يربت على كتفه : في انتظارك بنيّ
ثم همس له وهو يغمزه : قم بإيصال الفتاة بنفسك  
فابتسم له فيليب : فهمت جدّي

وأمضى فيليب النهار مع الفتاة وهما يتذكّران ايام الحرب , وكانت هذه بداية لعلاقة ربطتهما بزواج في السنة التالية , والتي حضرها القائد مع أفراد طاقم غوّاصته الإلمانية .
********

ملاحظة :
لمعرفة المزيد عن معركة الأطلسي , التي كانت أطول حملة عسكرية مستمرّة خلال الحرب العالمية الثانية .. يمكنكم قراءة مقالاً عنها في الويكيبيديا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

طبيب الأسنان المشبوه

فكرة : اختي اسمى كتابة : امل شانوحة    جنّية الأسنان جلست سلمى على كرسي طبيب الأسنان وهي ترتجف رعباً ، فهي المرّة الأولى التي تخلع فيها سن ا...