الجمعة، 2 مارس 2018

الصورة التي هزّت العالم

كتابة : امل شانوحة


الفقر دمّر عائلتي !  

وختم الصحفي مقالته بالقول : ((الطفولة هي أهم مراحل نمو الإنسان , فإن لم نقضيها بين الألعاب والحلويات والإخوة والأصحاب فإننا سنُصاب بعقدٍ نفسيّة تدوم معنا العمر كلّه))
ثم أرسل الصحفي (جاك) مقالته لقسم التحرير في المجلة التي يملُكها , لأنه مازال يكتب من بيته كرئيس تحريرها , رغم انه في هذا العام (2013) بلغ الثمانينات من عمره !

وبعد ان أنهى مقالته عن الحياة القاسية التي يُعانيها بعض اطفال العالم , ومنهم اطفال عائلة شاليفوكس (الموجودون في الصورة أعلاه) .. أزال نظارته ليمسح دمعته بعد تذكّره لتلك العائلة , وقال في نفسه بحزن : 
((يا ترى ماذا حصل لأولئك الأطفال المساكين ؟ لما لم يبحث عنهم أحد ليعرف أخبارهم ؟!)))  

وهنا خطرت على باله أن يقوم هو بالمهمّة , فهو بالنهاية من أخذ لهم صورتهم العائلية الأخيرة عند مروره بالصدفة من ذلك الحيّ الفقير في شيكاغو , عندما كان مراهقاً ويعمل كمصورٍ هاوي .
وبسبب هذه الصورة التي قدّمها لصحيفة (فيديدت ماسنجر أوف فاربريزو) والتي نُشرت في (5 أغسطس من عام 1948) حصل جاك على وظيفة هناك .. وبعد ان اجتهد على نفسه , أصبح صحفياً مبتدئاً .. واليوم صار يملك مجلةً مشهورة في اميركا تهتم بالأخبار الإنسانية والإجتماعية .. وطالما ان جميع احلامه تحقّقت بسبب إلتقاطه لهذه الصورة , فمن واجبه ان يكتب عن مصير تلك العائلة 

وعلى الفور !! إتصل بفرقة الصحافة الإستقصائية في مجلته , وطلب منهم البحث عن أولئك الأطفال الذين أصبحوا اليوم في السبعينيات من عمرهم 

وبفضل وسائل التواصل الإجتماعي , استطاع فريقه الصحفي جمع المعلومات التي أوصلتهم بالنهاية الى الأختين (ريان و سوّ الين) ..لكن صحّة الأخت الصغرى (سوّ الين) لم تكن جيدة , حيث كانت في هذه الفترة تتعالج في المستشفى من مرضٍ أصاب رئتها .. 

وقد أصرّ الصحفي العجوز ان يقوم هو باللقاء الصحفي , معلّلاً ذلك لموظفيه : 
- رجاءً لا تحاولوا منعي .. أعرف ان صحتي لا تسمح لي بالتنقّل من بلدةٍ الى أخرى , لكني مدين بالكثير لهذه العائلة .. وأحتاج ان اراهم واسمع معاناتهم بنفسي
***

 
لقاء الأختين بعد فراقٍ طويل

وبالفعل ذهب جاك الى المستشفى ترافقه السيدة ريان التي مرّ على بيتها اولاً.. 
وكان اللقاء بين الأختين حزيناً ومؤثراً للغاية , فكلاهما عانتا من حياةٍ صعبة .. ورغم ان الأخت الصغرى (سوّ الين) لم تعشّ مع عائلتها الحقيقية سوى ثلاث سنوات , الاّ انها إحتضنت اختها بشوقٍ كبير ! 

وعبّرت الأخت (ريان) للصحافة عن حزنها لرؤية اختها الصغرى بعد كل هذه السنوات طريحة الفراش , حتى انه لا يمكنها سماع صوتها بسبب انبوب الأوكسجين المزروع في رقبتها ل(سوّ الين) 

وبعد ان هدأ الوضع قليلاً ومسحت الأختان دموعهما .. أعطى الصحفي جاك الصورة القديمة (أعلاه) للسيدة ريان ..
فشردت ريان بذكرياتها وهي تتمعّن في الصورة جيداً , وكان الحزن بادياً على وجهها .. ثم قالت بألم : 

- كنت آنذاك في الخامسة من العمر , وأختي الكبرى (لانا) في السادسة , اما اخي (ميلتون) ففي الرابعة .. (ثم اشارت لأختها سوّ الين التي سلّمتها الصورة لتراها وهي على فراشها الطبّي) وأختي سوّ كانت في الثالثة او في عمر السنتين والنصف , لا اذكر بالضبط .. اما اخي (ديفيد) فكانت امي حاملاً به في هذه الصورة
الصحفي جاك : وهل قابلتم اخاكم الأصغر ديفيد ؟
ريان بحزن : نعم , انا وميلتون فقط ..اما سوّ ولانا , فلم يرياه حتى اليوم ! 

فأومأت سوّ الين برأسها موافقة على كلام اختها بحزن (فهي لا تستطيع الكلام بسبب مرضها)..

فقال جاك بتردّد وشفقة : انا آسف لقول هذا .. لكن الفريق الإعدادي لصحيفتي وصلوا البارحة الى عائلة لانا .. وانا حزين لإخباركما .. بأنها توفيت في سنة 1998 بمرض السرطان
فطأطأت الأختان رأسهما بحزن , وهما يحاولان كتم دموعهما

جاك : انا حقاً آسف .. وأعرف انكما لا تريدان تذكّر ماضيكم الأليم .. لكن من واجبي ان أنقل معاناتكم للناس .. فهل يمكنك سيدة ريان ان تخبرينا عمّا تذكرينه عن ذلك اليوم ؟
فتنهّدت ريان بحزن , ثم قالت : 
- مازلت أذكر الليلة التي سبقت يوم الصورة .. كنت فيها انا واخوتي نستمع الى شجار امي مع ابي في غرفتهما , وأذكر انني سمعت عبارة أخافتني جداً ومنعتني من النوم تلك الليلة ! حين قالت امي لأبي : من واجبك ان تجد وظيفة اخرى , لا ان تجبرني على بيع اطفالي .. فردّ ابي عليها صارخاً : لا يوجد عمل في البلد , والوضع سيءٌ للغاية والبطالة في ازدياد , ولا استطيع دفع أجرة منزلنا !! وبرأيّ ان نبيعهم أفضل من ان نراهم يموتون جوعاً امام أعيننا 
جاك : يا الهي ! فعلاً هذا الكلام يُخيف ايّ شخص , فكيف اذا سمعه اطفالٌ صغار في مثل عمركم ؟!  

ريان بحزن : والوضع صار اسوأ في اليوم التالي .. حين قامت امي منذ الصباح بتحميمنا جميعاً , ثم ألبستنا ثيابنا الجديدة .. طبعاً سترى اننا في الصورة نلبس ثياباً بالية , لكنها كانت أفضل ما عندنا
جاك : وماذا كان يفعل والدكم بهذه اللحظات ؟
- كان يكتب اللافتة التي تراها بالصورة ((4 اطفال للبيع , للإستفسار بالداخل)) .. وأذكر ان امي طلبت منا الجلوس بهدوء على الدرج امام مدخل البيت دون حراك , وفي هذه الأثناء كان ابي انتهى من تعليق اللافتة 
- الم يقل لكم شيئاً ؟ 
- نعم قال لنا دون ان ينظر الى وجوهنا : أتمنى ان تكون حياتكم الجديدة أفضل من حياتكم معنا ..ثم أسرع بالدخول الى المنزل , وكانت هذه آخر مرة آراه في حياتي

- وهل باعتكم امكم جميعاً في نفس اليوم الذي صوّرتكم فيه ؟ 
- لا .. فقط انا وأخي ميلتون تمّ بيعنا عصر ذلك اليوم ..اما بقيّة إخوتي فأظنهم بيعوا خلال سنتين
- حتى اخوك الذي لم يولد ؟!
- نعم , ديفيد بيع قبل ان يتمّ عامه الثاني , لكن نشكر الربّ ان حظّه كان أفضل منّا جميعاً
الصحفي : لقد أخبروني الصحفيون الذي يعملون لديّ قبل قليل بأنهم توصلوا الى عنوانه في الولاية المجاورة , وانا أنوي زيارته قريباً لإجراء مقابلة معه .. امّا اخوك ميلتون فمازال البحث جارياً عنه  

ريان بحزن : لقد بقيت مع ميلتون في المزرعة حتى سن المراهقة .. لكننا إفترقنا بعدها , ولم أره الى اليوم ! 
- سأسالك عنه فيما بعد .. لكن إخبريني الآن عن ما حصل لك بعد ان تمّ بيعك ؟
فتنهدت ريان بحزن , وهي تتذكّر ذلك اليوم الكئيب الذي حاولت لسنواتٍ طويلة نسيانه : 
- أذكر انني لم افهم لما كان علينا الجلوس لوقتٍ طويل على الدرج دون حراك ! ولما منعتنا امي من العودة الى المنزل , او اللعب في الشارع كما نفعل عادةً ؟! 

الصحفي الم تستطع اختك الكبرى قراءة اللافتة لتفهم الموضوع ؟
- كما تعلم سيد جاك .. فبعد الحرب العالمية الثانية كان الوضع الإقتصادي في اميركا سيئاً للغاية , خاصة على الفقراء أمثالنا , لهذا لم يُدخلنا أهلنا المدارس .. حتى إنني لم أتعلّم القراءة والكتابة الا بعد سن الأربعين 
الصحفي : أعتذر عن ذلك .. ارجوك إكملي القصة
ريان : كنت أرى الناس تنظر الينا بحزنٍ وشفقة بعد قراءتهم لتلك اللافتة ..وعندما التقطت لنا هذه الصورة , ظنّنا بأن امي أجلستنا هناك طوال النهار من أجل صورةٍ عائلية .. لكن الأمر تغير بعد قدوم ذلك المزارع اللعين وزوجته الشمطاء !!
- هل هي العائلة التي اشترتكما انتِ وميلتون ؟
وبحزن وقهر أجابت : نعم للأسف .. 
- إكملي رجاءً , ولن أقاطعك هذه المرة 

- حسناً .. كان اسم المزارع (جون زويت مان) وزوجته اسمها (روث) وقد رأونا ظهر ذلك اليوم بالصدفة وهما في طريقهما الى مزرعتهما .. فدخلا المنزل وتكلّما مع والدايّ .. وبعد خروجهما , اقتربت (روث) مني ومن اخي وطلبت منّا ركوب شاحنة زوجها القديمة التي كانت تنبعث من صندوقها الخلفي رائحة المواشي .. في البداية ظننت اننا ذاهبون جميعاً في نزهة .. لكن ما ان تحرّكت السيارة حتى صرخنا لأختينا اللتين تركناهما خلفنا , وهما ايضاً لوّحا لنا وهما يبكيان بخوف .. وكنت أنادي امي وابي كيّ يلحقا بنا , ولا يتركانا مع هاذين الغريبين .. لكن السيارة إبتعدت كثيراً عن منزلنا .. وقد حاول اخي القفز من السيارة لكني منعته , لأنها كانت تسير بسرعة , وبالكاد كنّا نُمسك بحوافها كيّ لا نسقط في الشارع , فالغبيان لم يكن يهمّهما ان تأذّينا ام لا , فهما بالنهاية إشتريا عبدين بسعرٍ بخس !

ثم مسحت ريان دمعتها , وأكملت قائلة : 
- ووصلنا قبيل العصر الى مزرعتهما .. وعلى الفور ادخلانا انا واخي الى الحظيرة ذات الرائحة الكريهة , ثم وضعا السلاسل الحديدية حول قدمينا الصغار ..وقالا لنا : بأننا سننام فوق القشّ , وسنبدأ العمل منذ صباح الغد .. وأذكر ان زوجته أحضرت لنا حساء الملفوف , وكان طعمه مقرفٌ جداً , لكننا شربناه من شدّة الجوع فنحن لم نأكل شيئاً منذ الصباح !

- وكيف كانت ليلتكم الأولى بعيداً عن عائلتكم ؟
ريان بحزن : كانت ليلة أشبه بالجحيم ..حيث كنّا نحتضن بعضنا طوال الليل ونبكي بقهر لإشتياقنا الى اخواتنا .. وايضاً لخوفنا من ان تسحقنا أرجل الحيوانات الضخمة الموجودة في الحظيرة ونحن نيام .. كما كنّا نشعر بالفئران تمرّ من امام اقدامنا .. هذا عدا عن البعوض والذباب التي تحوم حولنا .... لكن كل هذا لم يكن شيئاً امام ما حصل في اليوم التالي , حين أيقظنا جون بعنف وهو يصرخ علينا :
((هيا ايها العبدان الكسالى , قوما واطعما الدجاج !!))

فاستيقظت فزعة , لكن اخي كان غارقاً في النوم فهو مازال في الرابعة من عمره ! وحين لم يستيقظ معه , أتت زوجته ورمت عليه دلو ماءٍ بارد مما جعله يبكي بقهر .. لكن صوت السوط الذي فرقعه الرجل في الهواء جعل ميلتون المسكين يكتم بكائه بصعوبة  
وحينها قال جون لنا بغضب :
((لا وقت عندي لدلع الأطفال , فهناك عملٌ كثير في المزرعة .. فهيا اسرعا بإطعام الدجاج !!))

وأذكر انه أعطانا حبوباً لنرميها في قنّ الدجاج وكنّا جائعين للغاية , حتى ان اخي إضّطر لأكل بعضاً من حبوب الذرة القاسية .. ولم يتذكّر السيدان فطورنا لحين وقت الغداء .. يعني بعد انتهائنا من جمع البيض وإزالة روث البقرتين , وكانت الرائحة سيئة لدرجة اننا كنّا على وشك الإغماء .. وبعد كل هذا التعب أطعمتنا السيدة بعض الخبز المحروق , وأذكر حينما رفضت أكله .. صرخت عليّ قائلة : ((أتعترضين بدلاً من شكرنا , فلوّ بقيت مع امك لمتّي جوعاً)) وحينها انفجرت بالبكاء وقلت لها : اذاً أعيدينا الى امي , فنحن لا نريد البقاء معكما !! 

وهنا تلقّيت أقوى صدمة في حياتي ! حين شدّني زوجها من ثيابي قائلاً بقسوة : ((امك باعتكم جميعاً !! وقد دفعت بكما دولارين كاملين))
فصرخت والدموع على خدي : انت كاذب !! فعائلتي بانتظارنا...
لكنه صفعني بقسوة وقال : ((لم يعدّ لديك عائلة بعد اليوم))
واظن ان اخي لم يفهم ما قاله جون , لكني فهمت منه : ان إخواتي سيباعان ايضاً .. وأذكر انني خفت كثيراً على (سوّ الين) لأنها كانت صغيرة جداً , ولن تقوى على تحمّل قساوة الحياة ! 

وهنا أمسكت سوّ بيد اختها ريان التي قامت واحتضنتها , ليبكيا معاً .. فسوّ حتى هذه اللحظة لم تكن تعرف ما مرّ به اخوتها بعد بيعهم 

وهنا قال الصحفي : أعرف ان مأساتكما لم تنتهي هنا , لكني سأترككما سويّاً الآن .. وأعود بعد فترة لإكمل هذا اللقاء 
ثم ودّعهما (جاك العجوز) وذهب الى منزله , ليكتب الجزء الأول عن لقائه بأفراد هذه العائلة , تعساء الحظّ ! 
***

بعد اسابيع .. استطاع الفريق الصحافي المميز من إيصال رئيس مجلتهم (جاك) الى الأخ الأكبر ميلتون الذي إلتقاه في إحدى الحانات التي إعتاد ارتيادها , فهو عُرف بين مجتمعه بإسم : السكّير الخَرِف !
ورغم ان الكاس لم يفارق يد ميلتون العجوز طوال المقابلة الصحفية الا انه أجاب على اسئلة جاك بتركيزٍ شديد , لأنه على حسب قوله : حتى الخمور لا تنسيه ما عاناه في طفولته !
الصحفي : نعم لقد أخبرتنا اختك ريان عن ما عانيتماه في المزرعة 

ميلتون بنبرة حزينة : بصراحة لا الوم السيدين على قسوتهما معنا .. فطالما ان والدينا باعانا كعبيدٍ لهما , فكيف نتوقع الرحمة منهما !
- ومالذي تتذكّره عن حياتك بالمزرعة ؟
- أذكر انني كنت أُبعد الجرذان عن قدم اختي النائمة بسكين الذرة , لكننا تعودنا عليهم بعد شهور من حياتنا داخل الحظيرة ..(ثم شرِبَ بعض الخمر)..وأذكر انني مرّة سألت السيد ..أقصد اللعين جون .. لما تعاملنا بهذه القسوة ؟ ... أتدري بماذا أجابني ؟
الصحفي باهتمام : ماذا ؟

ميلتون بابتسامةٍ حزينة : أجابني ((لأنك ان بقيت خائفاً , فستنفّذ ما آمرك به)) وهذا ما حصل بالضبط .. (ثم سكت قليلاً) .. وبعد سنوات , تعودنا انا وريان على روتين حياتنا القاسي .. حتى جاء اليوم الذي أبعد فيه الحقيران اختي عني .. وبقيت لوحدي بالمزرعة , الى ان أصبحت شاباً
- ولما فرقاكما عن بعضكما ؟!

وهنا أنهى ميلتون كأس الخمر بعصبية , وطلب من النادل كأساً ثانياً ..ثم قال بغضب وهو يتذكّر الماضي بقهر : 
- ذات يوم .. أرسلاني للعمل في مزرعةٍ بعيدة ..وعندما عدّت بعد ايام لم أجد اختي ! فأخبراني بأنهما ارسلا اختي لتعيش في مزرعةٍ أخرى , وأكّدا لي بأن أصحابها طيبون .. فحمدّت ربي لأنها إرتاحت اخيراً من قساوة السيد وزوجته .. لكني لم اعرف ما حصل لها الا بعد سنواتٍ من تلك الحادثة 
- ومالذي حصل لها ؟!
- الم تقل لي : بأنك قابلت اخواتي ريان وسوّ قبل اسابيع ؟!
- نعم لكني لم اسأل ريان بعد عن مراهقتها ؟ فاخبرني انت 

ميلتون بقهر : كانت اختي ريان في سن المراهقة , ويبدو انني كنت غائباً وقتها عن المزرعة لنقل المحصولات الى المدينة .. وعندما عدت بعد ايام , وجدت حالة ريان النفسية ازدادت سوءاً بشكلٍ ملحوظ ! حيث كانت تبكي طوال الوقت , وترفض الخروج من المزرعة , وترتعش ليلاً وكأنها تعاني من الكوابيس ! وقد سألتها مراراً ان كان السيد أذاها في غيابي لكنها لم تنطق بحرفٍ واحد .. وبعد شهر او أثنين قاما بإبعاد اختي عني , كما أخبرتك سابقاً .. وبعد سنوات عرفت من الشرطي الذي كان مسؤولاً عن أمن منطقتنا : بأن اختي تعرّضت للخطف والإعتداء عليها من قبل مجهولين , وبأنه هو من أخبر السيدة روث عن مركز الأمهات الغير متزوجات التي قامت بإرسالها اليه لاحقاً لتنجب طفلها 

الصحفي بدهشة : وهل حملت ايضاً ؟!
ميلتون : نعم , هذا ما أخبرني به الشرطي .. 
- وكيف كانت ردّة فعلك ؟
- لم أصدّقه طبعاً , ودفعته بقوّة الى جذع الشجرة .. وقبل ان أضربه , إعتقلتني الشرطة .. وفي المحاكمة لم يراعي القاضي ان غضبي كانت ردّة فعل متوقعة لهذا الخبر الصادم , وإعتبرني شابٌ خطير على المجتمع , وخيّرني بين أمرين : اما قضاء محكوميتي في الإصلاحية او مستشفى الأمراض العقلية 
- واخترت الإصلاحية , اليس كذلك ؟

- لا طبعاً , لأنني سمعت قصصاً مرعبة تحدث هناك .. لهذا اخترت مستشفى المجانين .. وهناك شخّصوا نوبات غضبي بأنها اعراض الفصام او شيزوفرينيا .. لكنهم سمحوا لي بالخروج من المستشفى في عام 1967, على ما اذكر !
- وهل عالجوك بالفعل , ام عذّبوك هناك ؟
فأجاب ميلتون بسخرية وهو يرفع الكاس : بل عالجوني جيداً , الا ترى 

الصحفي : انا آسف لكل ما جرى بحياتك سيد ميلتون ..لكن عليّ ان اسألك هذا السؤال 
ميلتون : تفضل
- هل رأيت امك من جديد ؟
- نعم ..رأيتها بعد ثلاث سنوات من خروجي من المستشفى 
- وكيف كان اللقاء بينكما ؟
- بارداً وخالي من المشاعر ... لكني مع هذا , أصرّيت على العيش معها في بيتها الجديد
- ماذا تقصد ببيتها الجديد ؟ هل تحسّنت الأحوال الإقتصادية لوالدك ؟
- لا .. فأبي الكسول لم يجد عملاً آخر بعد ان طُرد كسائق شاحنة , لهذا طلّقته امي وتزوجت من رجلٍ جديد 
الصحفي باستغراب : أحقاً ! لم اكن أعرف هذه المعلومة .. وماذا حصل لوالدك ؟
- سألت امي عنه , وقالت انه يسكر في البارات .. (وبابتسامةٍ ساخرة) .. يبدو انني أشبه كثيراً ! 

- وكم عشت مع امك بعد ان أصبحت شاباً ؟
- شهرٌ واحدٌ فقط
- أحقاً ! ولما لم تبقى معها ؟
- لأنها طردتني 
- ثانيةً ؟!
ميلتون بابتسامةٍ حزينة : طبعاً , فهي أمٌ مثالية .. لكن سبب طردها لي من حياتها هذه المرّة كان بسبب شجاري مع زوجها , فهي أخبرته بأنني ابن شقيقها ..وعندما أخبرته بالحقيقية وبأن زوجته الرائعة قامت ببيعي انا واخوتي , لم يصدّقني .. فتشابكنا بالأيدي 
- فطردتك من منزلها ؟
- نعم , بعد ان اتصلت بالشرطة التي قامت باعتقالي 
الصحفي بدهشة : ماذا !

- هي فعلت ذلك لتنقذ زواجها , فقد كانت عروساً جديدة !
- الم يعاتبها العريس على ما فعلته بكم ؟
فأجاب بسخرية : بالتأكيد !! ولهذا أنجب منها أربعة بنات 
الصحفي : يبدو انها أنكرت كل ما قلته لزوجها ؟!
ميلتون : يعني .. يكفي ان تخبره انني خرجت حديثاً من مستشفى المجانين , ليصدّق أكاذيبها 
الصحفي بضيق : وانا طوال حياتي كنت أعذرها وأقول في نفسي : ربما إضّطرت لبيع اولادها بسبب فقرها , لكنها تبدو ..
فأكمل ميلتون قائلاً بقهر : امرأة انانية وحسب

فهزّ الصحفي رأسه موافقاً وهو يشعر بالإشفاق عليه , ثم سأله سؤال أخير: 
- الا تريد رؤية اخوتك سيد ميلتون , فسوّ الين تحتضر في المستشفى؟ 
فقال بحزن : يالها من محظوظة .. كم أتمنى ان أكون مكانها لإرتاح من هذه الذكريات اللعينة التي تلاحقني أينما ذهبت ! فهي على الأقل ستجتمع مع اختي الكبيرة لانا رحمها الله .. ومن يدري .. ربما يوماً نجتمع كلنا في السماء لنصبح عائلة من جديد ! 

ثم وقف ميلتون وغادر الحانة دون ان يقول شيئاً آخر !
*** 

بعد شهرين ..استطاع الفريق الصحفي إيصال جاك للأخ الأصغر ديفيد الذي كان يسكن في فندقٍ صغير موجود على الحدود بين الولايتين 
وبعد ان أخبره الصحفي العجوز بكل ما توصّل اليه .. جلس ديفيد يتمعّن في صورة عائلته القديمة (الموجودة أعلاه) وهو شريد الذهن ..الى ان قطع تفكيره جاك وهو يقول له :
- كنت حينها في بطن امك في هذه الصورة 
فهزّ ديفيد رأسه موافقاً بحزن..

جاك : كما أخبروني انه تمّ تبنّيك من عائلةٍ غنية .. 
ديفيد : عائلة (ميك دانيل) لم تكن غنية جداً , لكن حياتهم كانت أفضل بكثير من حياة عائلتي ..وقد تبنّوني قانونياً قبل ان أتمّ السنتين من عمري , لأن والدايّ بالتبني هاري وزوجته لويلا , كانا لا ينجبان الأطفال
- وماذا أخبراك عن عائلتك الحقيقية ؟

ديفيد بحزن : قالا عندما أخذاني من امي لوسيل كان جسمي مليئاً بعضّ بقّ الفراش , وكنت هزيلاً للغاية وحالتي يُرثى لها .. (ثم سكت قليلاً).. هما ربّياني جيداً , وأدخلاني المدارس ..كما اشتريا منزلاً قرب المزرعة التي يعمل بها اخوايّ ميلتون وريان ..وكنت دائماً أركب حصاني او دراجتي لأراهما .. لكني كنت أتمنى لوّ إن بيتنا لم يكن قريباً من تلك المزرعة 
- لماذا ؟

فقال ديفيد بنبرة حزينة : لأنني شعرت بالعجز لعدم قدرتي على مساعدتهما .. (ثم تنهد بحزن) ضع نفسك مكاني .. كيف يمكنك ان تسعد بشهاداتك او ألعابك , واخوتك يعاملون كالعبيد في المزرعة المجاورة لبيتك .. وكيف سأهنىء وانا اراهما يُربطان بالحظيرة بالسلاسل كالكلاب !  
- الم يكن باستطاعة اهلك بالتبني إخراجهما من هناك ؟
فأجاب ديفيد بعصبية : طلبت منهم ذلك آلاف المرات !! لكنهما دائماً يخبراني بأن صاحب المزرعة يرفض تحريرهما , لأنه اشتراهما بماله كعبدين له مدى الحياة ! اللعنة عليه وعلى زوجته الحقيرة !!

- وماذا حصل لك بعدها ؟
- في عمر 16 سنة تمرّدت وتركت المنزل والتحقت بالجيش الأمريكي , وبقيت هناك لعشرين سنة .. وتركت الجيش في سن 36 عاماً .. والآن أعمل في شركة للشحن بواشنطن , لكنهم احياناً يرسلوني لنقل البضائع بين الولايات .. يعني تماماً كعمل والدي الحقيقي (رايّ) .. اليس هذا غريباً ! 
الصحفي : وهل التقيت بأمك الحقيقية ؟
- نعم , كنت حينها يافعاً عندما أخذني والدايّ بالتبني اليها
- وماذا قالت لك ؟

فتنهّد ديفيد بحزن ثم قال : في اللحظة الأولى التي رأتني فيها امي قالت لي : أنني أشبه والدي كثيراً .. ولكنها لم تقدّم أيّة اعتذار ! ... لقد سئمت من كل اطفالها وباعتهم , وتزوجت رجلٍ آخر وأنجبت اربعة بناتٍ أخريات ..إحتفظت بهنّ , لكنها لم تحتفظ بنا !

ثم تابع الصحفي بقية الأسئلة معه عن امه الحقيقية واخوته  .. 
وبنهاية اللقاء .. وعده ديفيد بزيارة إخوته متى سنحت له الفرصة .

ثم عاد جاك الى مدينته , لكيّ يلتقي مجدداً ب(ريان وسوّ الين)  
***

وقد أجرى الصحفي لقاءً آخر بين الأختين , بالوقت الذي كانت فيه ريان تزور اختها المريضة سوّ الين بالمستشفى .. 
الصحفي وبعد ان أخبرهما بنتيجة لقائه بميلتون وديفيد .. عاد وسأل ريان بتردّد : 
- هل صحيح ما قاله ميلتون عنك ؟
ريان وهي تمسح دمعتها : نعم صحيح ..لكني أخفيت الأمر عنه , لأنني أعرف سرعة غضبه
الصحفي : إخبرينا بالضبط ما حصل لك في سن المراهقة ؟

ريان بحزن : كنت في 17 من عمري ..وكان هناك شابٌ لعين في القرية يلاحقني في كل مكان , وقد أخبرت السيدة روث عنه لكنها لم تهتم .. وفي إحدى الليالي .. طلبت مني ايصال الحليب الى اختها المريضة التي تسكن خلف الغابة , فأخبرتها عن قلقي من الخروج بهذا الوقت المتأخر من الليل 
الصحفي مقاطعاً : وحينها كان اخوك غائباً , اليس كذلك ؟
- نعم .. اصلاً لو كان متواجداً تلك الليلة , لذهب هو مكاني
- آسف على المقاطعة .. إكملي رجاءً

فتنهّدت ريان بحزن ثم قالت : وحينما رآني الشاب أمرّ بالغابة وحدي بعد ان أنهيت مهمّتي , هجم عليّ هو وأصحابه السكارى وحصل ما كنت خائفةً منه ! 
- آسف لسماع ذلك .. لكن ماذا حصل بعد عودتك الى المزرعة ؟
- إستقبلتني روث .. وأظنها عرفت ما حصل لي من ملابسي الممزقة ..لكنها لم تفعل شيئاً .. فقط رمت عليّ المنشفة قائلة : كفيّ عن البكاء المزعج .. واذهبي للإستحمام .. وايّاكِ ان تخبري أحداً بما حصل لك .. وفي اليوم التالي وبدلاً ان تأخذني الى العيادة , جعلتني أقوم بالروتين اليومي في الحظيرة , رغم شعوري بألمٍ شديد 

الصحفي بدهشة : يا الهي ! .. وروث هذه , ألم تخبر زوجها بالأمر ؟
- أخبرته بعد شهرين , حين علِمت بحملي .. ثم طلبا مني لمّلمة أغراضي لإرسالي الى مكانٍ تجتمع فيه الفتيات الساقطات على حسب قول روث , رغم معرفتها بأنني مجرّد ضحيّة 

وهنا توقفت ريان عن الكلام بعد ان لاحظت دموع سوّ الين , فقامت باحتضانها وهي تقول :
- لا ارجوك سوّ لا تبكي , انا بخير .. 
ثم قالت ريان للصحفي : ارجوك سيد جاك , دعنا نُكمل اللقاء في مكان آخر , فصحّة اختي لا تسمح ..
فقاطعتها سوّ وهي تلوّح بيدها.. 
ريان : ماذا تريدين يا سوّ ؟!

فأشارت سوّ للصحفي بأنها تريد ورقة .. فأعطاها دفتره وقلمه ..فكتبت لأختها ريان : إكملي قصتك رجاءً , اريد ان أعرف ما حصل معك ومع ابنك 
وبعد ان قرأت ريان ذلك , قالت لأختها : حسناً سأكمل عزيزتي 

وسكتت قليلاً , ثم أكملت ريان قائلة لصحفي : ومن بعدها أرسلاني الى مركز الأمهات الغير متزوجات , دون ان يسمحا لي بتوديع اخي ميلتون !
الصحفي : وماذا حصل لك في المركز ؟
- عاملوني كما الأخريات , كنساءٍ فاسدات .. حيث كانت العاملات هناك تشتمنا بأقذر الصفات .. لكن هذا لا شيء امام ما حصل معي يوم الولادة 
- هل أخذوه منك فور ولادتك له ؟

وهنا انهارت ريان بالبكاء , فأمسك سوّ يدها والدموع تسيل على وجنتها .. وحاول الصحفي تهدأة الموقف قائلاً :
- سأحاول البحث لك عن ابنك سيدة ريان 
فمسحت ريان دموعها قائلةً : قمت قديماً بتوكيل مخبرٍ لإيجاد طفلي , لكنه أخبرني بأن المركز احترق ارشيفه قبل سنوات .. واحدى العاملات هناك اخبرته : بأن جميع الأطفال يتمّ بالعادة تبّنيهم فور ولادتهم , ومعظم تلك العائلات ترفض تسجيل اسمائها او عناوينها , كيّ لا تبحث الأم الحقيقة عن ابنها من جديد !

الصحفي : آسف لسماع ذلك .. لكنك تزوجت بعدها وانجبت الأطفال , اليس كذلك ؟ 
ريان بحزن : نعم , لكنه يبقى ابني البكر , ورغم انه اليوم بلغ الخمسينات من عمره , الا انه سيبقى في نظري طفلي الصغير الضائع .. (ثم تنهّدت قليلاً) ..وأكثر ما يحزنني انني تخلّيت عنه , تماماً كأمي التي كنت ألومها طوال حياتي 

وهنا كتبت سوّ بالورقة التي سلّمتها لأختها : ((انت لست كأمي ..امي تخلّت عنّا بإرادتها , لكنهم أخذوا طفلك منك بالقوّة .. وأعتقد انه عاش حياةً أفضل من حياته ضمن عائلتنا المفكّكة))
فقالت ريان لأختها : ربما معك حق يا سوّ 

وهنا سأل الصحفي سوّ الين : وماذا عنك يا سوّ ؟ إكتبي لنا .. من هي العائلة التي تبنّتك ؟
فكتبت سوّ : تبنّتني عائلة جونسون .. وهي عائلة لا بأس بها ..وكنت أعامل فيها جيداً , الى ان أنجبا أبنهما الوحيد الذي فضّلاه عليّ .. حيث كانا دائماً يقفان في صفّه , ولوّ كان هو المخطِئ في حقي ! وفي يوم عندما كنت بسن المراهقة غضبت من والدي لتميزه بيننا , وحينها فقط أخبرني بأنني ابنته المتبنّاة .. وكانت هذه صدمة كبيرة في حياتي , لكنها لا تعادل صدمتي بعد معرفتي بقصة اخوتي وما فعلته أمنا بنا ! فبالرغم من كل ما حصل , كنت أفضل لوّ عشنا بالفقر المدقع كعائلةٍ واحدة , على ان نعيش بهناء متفرقين عن بعضنا البعض ! 

فسألها الصحفي : كلامك صحيح .. والآن إخبريني .. ماهو رأيك بأختك ريان ؟
فكتبت سوّ , والإبتسامة تعلو وجهها : ريان رائعة , انا أحبها
***

وانتهى اللقاء الصحفي .. وعاد جاك الى بيته , ليُنهي مقالته عن هذه العائلة قائلاً : 
((وختاماً اسألكم ايها القرّاء : ما هو رأيكم بتصرّف السيدة لوسيل -والدة الأطفال الخمسة- هل تتفقون مع ما قاله ابنها الصغير ديفيد حين سألته عن امه , فأجاب : 
- نحن جميعنا بشر ..نحن جميعنا نُخطىء .. ربما كان كل تفكيرها محصوراً في إنقاذ اطفالها من الموت جوعاً ! 
امّ تتفقون أكثر مع (سوّ الين) حين قالت عن امها : 
- هذه المرأة يجب ان تحترق في الجحيم !! 

في جميع الأحوال .. ستبقى تلك الصورة شاهداً على قساوة الحياة وانعدام الإنسانية في زمنٍ لا يرحم .. 
وفي الختام أقول : رحم الله سوّ الين التي ماتت بعد ايامٍ قليلة من هذه المقابلة .. لكني سعيد بأنني استطعت تجميع العائلة من جديد .. بعد ان وضعني القدر امام منزلهم في ذلك اليوم , لألتقط الصورة العائلية الوحيدة لهم .. الصورة التي هزّت العالم ..

والآن بعد ان أنهيت مهمّتي , أستطيع التقاعد بسلام .. 
وآخر ما أقوله لكم : حافظوا على الروابط العائلية مهما كانت الظروف .. أبعد الله ألم الفراق عن الجميع .. ودمّتم جميعاً بخير))  
******* 

ملاحظة :
جميع المعلومات المذكورة في القصة صحيحة .. 
شاهدوا الفيدو التالي عن معاناة تلك العائلة .. 
الرابط :
https://www.youtube.com/watch?v=OArtFaViv1I

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الكنز البحريّ

تأليف : امل شانوحة    الصندوق الثمين   أطلّت من نافذة المنارة المهجورة وهي تنظر للبحر بحزن ، وتتذكّر خطيبها وهو ينطلق بقارب العجوز الشمطاء ب...