الأحد، 25 فبراير 2018

البطل الصغير

كتابة : امل شانوحة


لن أبكي يا أخي العزيز !

كان يوم 9 أغسطس من عام 1945م هو أسوء يومٍ مرّ في حياتي , وحياة الكثيرين من ابناء مدينة ناجازاكي اليابانية .. ففي ذلك الصباح وبينما كنت الاعب اخي الصغير في ساحة منزلنا , مرّت من فوقنا طائرةٌ حربية .. فقلت لأخي بحماس : 
- انظر الى فوق , انها طائرة !! 

لكن صوت امي الخائف وهي تناديني لحمل اخي والإختباء فوراً داخل المنزل أفهمني بأنها طائرة العدو أتت لقصف مدينتنا بصاروخٍ واحد , لكنه أقوى من آلاف القنابل .. وكنت حينها في العاشرة من عمري واخي لم يبلغ السنتين بعد , لهذا لم اكن اعلم بخطورة القنبلة النووية , مع انهم القوا بمثلها على مدينة هيروشيما قبل ثلاثة ايام .. ورغم الدمار الذي حصل هناك الاّ ان هذا لم يُثني اميركا على رمي القنبلة الثانية على مدينتا , والذي عانى من آثارها الشعب الياباني بأكمله ولسنواتٍ طويلة ! 
***

مازلت أذكر ما حصل ذلك اليوم وكأنه البارحة .. حيث عمّ الظلام لثوانيٍ قليلة قبل ان نرى وهج الإنفجار الذي تبعه صوت دويٍّ صمّ الآذان , بل وفجّرها حرفياً ! 
اما الشعاع الذي نتج من القنبلة فكان أقوى من نور الشمس في ذلك الصيف ! نورٌ كان كافياً لإذابة أعين الناس القريبون من نقطة الإنفجار , حتى انه قيل بأن العُميان أحسّوا بهذا الوميض على بعد اميالٍ من الحدث !

وفي تلك اللحظة .. مرّ كل شيءٍ امام عينيّ كفيلمٍ مرعب بالحركة البطيئة , حيث رأيت جلود الناس من حولي ممزّقة ومحترقة لدرجة بانت معها عظامهم ! كما تفسّخت شعورهم عن فرّوة رأسهم , بعد فقدهم لأعينهم وألسنتهم وسقوط معظم أسنانهم .. فلا يمكن إعتبارهم أحياءً ولا أمواتاً لأن أعضائهم الحيوية (من قلب ورئة وامعاء) كانت ظاهرة للعيان !

وظلّوا يمشون في الشوارع لساعات , وهم يأنّون من شدّة الألم ..ومنظرهم أشبه بشخصيات الزومبيز التي استخدمت لاحقاً بأفلام الهوليوود الأمريكية اللعينة !! 
***

اما انا .. فلم يحصل لي سوى ذوبان حذائي البلاستيكي مع بعض الخدوش التي أصبت بها بسبب شظايا الزجاج التي تناثرت من قوّة الرياح التي أحدثها الإنفجار الضخم

اما امي التي كانت حاملاً بشهرها الأخير , فقد إنهارت امام منزلنا دون حراك .. فتقدّمت نحوها ببطء مُتمنياً ان تكون بخير , لكن ما ان رأيت بحيرة الدم التي إنفجرت من بطنها حتى أيقنت بموتها , فقد خرج الطفل من أحشائها مُقطّعاً الى اشلاءٍ صغيرة !
وحينها تجمّدت في مكاني وانا لا أعيّ مالذي يحصل من حولي , فهل هذه علامات قيام الساعة ؟!  

وهنا سمعت صوت ابي (الذي كان نائماً قبل الإنفجار) يناديني من داخل المنزل .. فأسرعت اليه , لأجده عالقاً تحت الركام بعد تهدّم جزء كبير من بيتنا.. فقمت بإزالة الأحجار عن جسمه , الى ان استطاع الخروج من هناك مُستنداً عليّ .. وعندما رأى امي بهذا المنظر , حاول بصعوبة إمساك مشاعره وكتم دموعه .. ثم انتبهت على يده تشير الى الشارع , وهو يقول لي :
- يا الهي ! وأخوك ايضاً ؟!

لم أفهم ما يقصده الى ان نظرت الى حيث أشار , ويبدو ان قوّة الرياح قذفت بأخي الصغير الى رصيف الشارع .. 
فتركت ابي وانطلقت ناحية أخي لأجده نائماً هناك دون حراك .. رغم إنّي ادرك تماماً بأنه توفّى كأمي , لكن عقلي الصغير لم يردّ تصديق ذلك , فحملته لأعيده الى بيتنا , قائلاً له : 
- لا تقلق يا اخي .. (وحضنته بقوة) .. أعدك عندما تستيقظ , يكون انتهى هذا الكابوس .. ومن ثم نتابع اللعب من جديد .. إتفقنا ؟  
وعندما سمعني ابي , دخل بسرعة الى المنزل .. وأظنه لم يردّ ان يبكي امامي !
***

وخرج ابي بعد قليل ومعه ملاءة غطّى بها جثمان امي , ثم جمع اشلاء وليده داخل كيسٍ فارغ للأرز .. 
ومن بعدها .. جلست انا وهو على درج المنزل , ننظر الى حال البلد المدمّر من حولنا دون ان ننطق بكلمةٍ واحدة , حيثُ كنّا في ذهولٍ تام ! 
***

ومرّت ساعاتٍ طويلة  ..كان ابي فيها شريد الذهن , بينما بقيت أحمل اخي وأضمّه الى صدري , مُتمنّياً ان يفتح عيناه من جديد ..
ولم نستيقظ من صدمتنا الى ان سمعنا نداءً من سيارة تابعة للحكومة تُخبرنا عبر مكبر الصوت ((بضرورة حرق الموتى بأسرع وقتٍ ممكن , منعاً من تفشّي الأمراض .. كما أعلنت عن محرقةٍ كبيرة ستُقام في وسط البلد , وعلى الجميع إحضار الجثث الى هناك !))  

وكان الوقت عصراً , حين أحضر ابي حبلاً من المنزل وربط أخي على ظهري ! بينما حمل بيده الكيس الذي بها بقايا طفله , بعد ربطه لجثة امي على ظهره .. 
ثم مشى نحو الشارع وهو مازال يعرج من إصابته .. وصرت ألحقه دون ان أفهم ما ينوي فعله ! 
***

حتى وصلنا الى وسط البلد الذي كان مدمرّاً بالكامل .. وحينها شاهدنا أعمدة النار تظهر من بعيد .. وكلما اقتربنا من مكان المحرقة إرتفع معها نحيب وبكاء الناس على رحيل أحبائهم .. حينها فقط أدركت ما سيحصل لأخي !
فتوقفت عن المشي وانا انظر الى ابي بذهول ! 
فقال دون ان ينظر اليّ : 
- تابع المسير يا بنيّ , فعلينا الوصول الى المحرقة قبل غروب الشمس 
وهنا إنتفضت صارخاً :
- لا !! انا لن أحرق اخي ..فهو نائمٌ الآن , وسيستيقظ بعد قليل

فالتفت ابي اليّ غاضباً , وعيونه مغروّرقة بالدموع :
- إسمع يا ولد !! لقد ماتوا ..امك والطفل الذي كان في بطنها , واخوك الذي تحمله على ظهرك .. جميعهم ماتوا !! .. وربما نموت نحن ايضاً في الأيام القادمة .. لهذا تحرّك !! فلا وقت نضيعه .. فما زال علينا مهمّة إيجاد مكانٍ نبيت فيه بعد تهدّم منزلنا , هذا عدا عن تأمين الطعام .. 
فقلت وانا ابكي بقهر : لكن ابي ..

فصرخ عليّ قائلاً : كفّكفّ دموعك !! فأنت منذ اليوم لم تعدّ طفلاً , وعليك التصرّف كرجلٍ قويّ .. هل فهمتني ؟!!
فمسحت دموعي وانا أكتم غيظي وقهري بصعوبة (ومنذ ذلك اليوم لم أبكي مرةً ثانية في حياتي !)
***

ثم وصلنا الى المحرقة .. وشاهدت هناك الجثث المتراكمة فوق بعضها البعض في انتظار حرقها .. هي بالأصح لم تكن جثثاً , بل مجرّد اشلاء و بقايا بشريّة من قطع لحمٍ وعظامٍ متفحّمة ! 
وما ان رأيت موظفيّ الدولة يرمون بالجثث وكأنها لحمٌ منتهيةَ الصلاحية داخل ألهبة النار , حتى ركضت بأسرع ما يمكنني مُبتعداً عن المكان .. 

ومازلت الى اليوم أسمع صوت والدي وهو يناديني , وكانت هذه آخر مرة أراه فيها , لأننا تُهنا عن بعضنا لسنواتٍ طويلة , الى ان وصلني خبر وفاته بالسرطان بعد عشر سنوات من هذه الحادثة .. 
اما انا فأرسلوني الى دار الأيتام , لحين أصبحت شاباً ..
ومن ثم عملت في دارٍ للنشر , وتابعت عملي فيها ككاتب 

أعرف ما ستقولونه : ان كنت الطفل (الموجود في الصورة أعلاه) الذي هزّ الضمير العالمي , فكيف تُنكر إحضارك لأخيك الى المحرقة ؟ 
فأجيبكم : كما تشاهدون في الصورة .. لقد عدّت ثانيةً الى هناك بعد حلول المساء 
امّا مالذي فعلته طوال عصر ذلك اليوم ؟ 
فقد أمضيته بالتجوّل في أرجاء مدينة ناجازاكي المحترقة , حيث أخذت اخي النائم الى كل مكانٍ أعرفه .. 

وظللّت أتكلّم معه طوال الطريق , عن الألعاب التي سنلعبها فور إستيقاظه من النوم .. كما أخبرته عن ذكرياتي معه عندما وضعته امي في أحضاني اول مرة بعد ولادته .. وقلت له عن الأشياء التي سأعلّمه إيّاها عندما يكبر , تماماً كما تعلّمتها في المدرسة .. ..وكيف إنني سأغار منه عندما يخطف مني قلوب الصبايا بعد ان يصبح شاباً وسيماً .. وكيف سنكبر معاً لنكون أفضل أخوين .. كما أقترحت عليه ان نعمل في الجيش لخدمة وطننا اليابان , لنكون جنديان باسلان , فهو سيحارب في البحر حتماً لأنه يحب اللعب بالماء , اما انا فسأصبح طيّاراً فدائياً كا(كاميكازي) الذين دمرّوا اسطول الحلفاء في المحيط الهادي .. وبذلك نجعل والدنا فخوراً بنا 

وبينما انا أطلق لخيالي العنان وانا أكلّم اخي النائم عن مستقبلنا المشرق , مرّ بجانبنا رجلٌ عجوز أيقظني فجأة من غفلتي ! حين قال لي بشفقة وهو يمسح على رأس أخي : 
- خذه الى المحرقة يا بنيّ , فروحه الآن في السماء ولن يشعر بألم 

وفي هذه اللحظة وعيت لكل ما حصل هذا اليوم ! 
نعم لقد رمى العدو بقنبلةٍ شيطانية حوّلت جنتنا الى جحيم في ثوانيٍ ! وقتلت الكثيرين من أفراد شعبي , ومن ضمنهم عائلتي .. 
اما أخي الذي أحمله على ظهري فلن يستيقظ ابداً , لأن جسمه البارد رغم جوّ الصيف الحارّ يؤكّد ذلك .. 

لهذا كان عليّ الإستسلام للواقع المرير .. 
وقرّرت انني سأصبح منذ اليوم رجلاً كما قال والدي ..
وحينها لم أجد نفسي الا وقدمايّ الحافيتين (التي تنزفان بسبب شظايا الزجاج المتناثر على الطرقات) تأخذاني الى وسط البلد من جديد , فلا مهرب من القدر !
***

ووصلت الى هناك بحلول المساء (كما أخبرتكم سابقاً) .. 
وبحثت بين الناس (في المحرقة) عن ابي لكني لم أجده , ولم نلتقي بعدها ابداً ! 
اما الصفوف , فقد قلّ عددها عن وقت العصر .. لكن مازال هناك اشخاصٌ يقفون قبلي , ورائحة الجثث التي يحملونها تثير الغثيان بعد خروج ما بداخل إمعائهم .. 

فوقفت هناك ثابتاً كجندي صغير , رغم ألم ظهري الذي لا يُحتمل بسبب حملي لجثة أخي طوال النهار , لكني مع هذا لم أتحرّك من مكاني ولم أبكي ابداً .. فقط عضّتُ على شفتي بقوّةٍ أدمتها , لكن ألم قلبي كان أكبر بكثير مما يعانيه جسدي الصغير من تعبٍ وأرهاق 

وأذكر انني وقتها رأيت وميض نورٍ يخرج من كاميرا مصورٍ أجنبي كان يقف قريباً مني , وأعتقد انه هو من أخذ صورتي الأخيرة مع اخي (الصورة أعلاه) .. 
لكن في تلك الأثناء لم يكن يُهمّني سوى إرسال روح اخي الى امي التي تنتظره في السماء .. على الأقل , هذا ما كنت أصبّر نفسي به 

ووقفت هناك دون حراك لعشر دقائق قبل ان يروني الرجال ذو الأقنعة البيضاء العاملين في المحرقة .. وحينها اقتربوا وفكّوا الحبل عنّي , وأخذوا اخي بعد تأكّدهم من موته .. ورغم ان الثقل خفّ عن ظهري الاّ انني شعرت بحزنٍ شديد لفراقنا الأبدي !  

ثم جاءت أصعب لحظة في حياتي حين رأيت ألهبة النار تحرق جسده الصغير .. وكنت أقف متصلّباً , وانا أشعر بطعم الدماء في فمي ! 

ومرّ شريط ذكرياتي القصير معك يا أخي الصغير امام عينيّ الدامعتين .. وانا اقول في نفسي :
((لن ابكي .. لا لن ابكي يا اخي العزيز .. لكن ليتني كنت مكانك الآن.. وليتننا متّنا جميعنا معاً))

وبقيت هناك حتى بدأت ألسنة النار تنخفض بعد تفحّم جثمانه الطاهر .. فاستدرت للخلف وابتعدت بصمت , وانا أقول في نفسي بحسرة :
((أخي صار معك الآن يا أمي .. فاخبريه بأنني كنت رجلاً ولم أبكي , لكني حتماً سأفتقده .. وسأفتقدك انتِ ايضاً يا امي , وكذلك الطفل الذي لم يُقدّر له ان يُولد .. أحبكم جميعاً .. إدعوا لي , وزوروني في احلامي من وقتٍ لآخر .. ارجوكم لا تنسوني .. وداعاً .. والى لقاءٍ قريب))

ثم انطلقت في الشوارع المظلمة , للبحث عن ابي .. وقمت بذلك لساعاتٍ طويلة , حتى انهار جسدي من شدّة الجوع والتعب .. 

واستيقظت في اليوم التالي مُحاطاً بأولادٍ آخرين لا أعرفهم ! فجميعنا أصبحنا أيتاماً بين يومٍ وليلة , محتجزون داخل جدران ميتمٍ حكومي .. 
***

وهآ انا اليوم أخرج عن صمتي بعد ان أصبحت في الثمانينات من عمري لأخبر العالم أجمع عن ذلك اليوم المشؤوم .. فربما الله لم يأذن بموتي آنذاك لأكون شاهداً على أبشع جريمة في حق البشريّة في القرن العشرين 

ومن واجبي ان أنبّه العالم على خطورة استخدام القنابل النووية التي دمّرت حياة الكثيرين من ابناء الشعب الياباني , والتي سأعيش بسببها مرارة الذكريات لآخر يومٍ في حياتي ..
فسحقاً للحروب , وسحقاً لكل من يُشعل فتيلها في عالمنا الكئيب ! 
********** 

ملاحظة : 
هذه القصة مستوحاة من أحداثٍ حقيقية .. 
وهذا ما قاله المصوّر جو أودونيل (الذي كلّفه الجيش الأمريكي بتوثيق تأثير القنابل الحارقة والنوويّة على المدن اليابانية سنة 1945) عن هذه الصورة التي إلتقطها للطفل الياباني :

((رأيت صبياً في حوالي العاشرة من العمر يحمل طفلاً على ظهره .. وفي ذلك الوقت كان معتاداً أن يحمل الصِبية أشقائهم الصغار على هذا النحو .. لكن هذا الصبي كان مختلفاً ! حيث كانت ملامحه صلبة وكأنه يحاول تمالك مشاعره .. وكان الطفل الصغير فوق ظهره مائلاً إلى الأسفل وكأنه نائم .. وقد توقف الصبي بالقرب من محرقة الجثث لحوالي 10 دقائق .
ثم اقترب منه الرجال ذووّ الأقنعة البيضاء العاملين في المحرقة ، وقاموا بفكّ الحبل عنه , وتناول الطفل الصغير الذي بدا واضحاً أنه ميت .. ثم وضعوا الصغير في النار .. 
أما شقيقه , فوقف قليلاً بنظرته الثابتة وقدميه الحافيتين دون حركة سوى عضّ شفته السفلى .. وحين بدأت ألسنة اللهب تنخفض ، إستدار الصبي إلى الخلف وابتعد في صمت !)) 
******

كما يمكنكم مشاهدة ما حصل في ذلك اليوم : تماماً كما ذكرها ولدٌ ياباني كان من القلائل الذين نجوا من هذه الجريمة .. حيث تمّ تحويل شهادته لاحقاً الى هذا الفيلم الكرتوني المرعب الذي يحكي عن فظائع القنبلة النووية ..
شاهد الفيديو :



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مسابقة الفيلم الدموي

تأليف : امل شانوحة  الزومبي الكومبارس  فور دخول الشباب 12 الى المسرح (الذي سيقام فيه احداث الفيلم المرعب ، والذي بُنيّ على شكل قبّةٍ زجاجيّة...