الأحد، 5 مارس 2017

معاناة عانس

تأليف : امل شانوحة


معاناة,الم,عانس,كبيرة,مسؤولية,عمر,موت

كيف ضاعت حياتي هكذا ؟!


تجوّلت سميرة المرأة الستينية داخل منزل عائلتها التي امضت فيه كل سنوات حياتها , و هي تتنقل حزينة من غرفةٍ لأخرى متأمّلة كل ركنٍ في بيتها القديم .. 

فهنا كانت تلعب و هناك مشى اخوها الصغير اول خطواته ..و هذه غرفة والديها , و على هذه الشرفة كانوا يأكلون المثلجات سويّاً في فصل الصيف .. ذكرياتٌ كثيرة حُفرت في زوايا الشقة المهترئة ..

وضعت شالها الربيعي على الأرض و جلست عليه , مسندةٌ ظهرها على ركن الصالة .. ثم صارت تقول بصوتٍ مسموع بعض الأبيات التي  كتبتها منذ عشرين سنة , عندما كانت ماتزال في سن الأربعين

ذكرى سنيني كفيلمٍ قصير          منثوراً غباره مثل العبير
يهاب القلبُ من الضمور           من وحشة اطراف السرير
فنهار صيفه طوييييل                و شتاءُ ليلهِ زمهرير
و الكلُّ بحبّهِ هانىءٌ                  و العينُ لا تنامُ قرير !
انافسُ بأسّهُمَ ادعيتي                 اماني الحالم و الصغير
و اُشّفِقُ لخشونةِ اجّسادٍ              ما اعتادتّ البِسةَ الحرير
فالكلُّ قد انطلقَ الخُطى              و وحدي عجزّتُ عن المسير 
و بمخبأي اليأسُ عَرَفّ              و الهجّرُ ذُلّهُ كالأسير  
و العمرُ معظمه انقضى             بلأعذار و بالتبرير
فحَذارِكَ القولَ : كَبِرتِ !            اذّ كنتَ عن دربي ضرير
فالنصيبُ حُكِمَ بالقدر                 و القدير قد رسم المصير 
لكن تذَكّرْ عُشّقُنا ؟                    يا صديقي و السّمير 
ففي الأمسِ كنتُ جاهلاً              و انتَ بالعشقِ خبير 
و غَلبتَ بغزلِ اشعارك              كِّلا الفرزدق و الجرير 
و اليوم عُقِد اللسان !                 و تَعثُّرُ الحبِ خطير 
و حين قرَرّتَ الرحيل               الم يُعذّبُكَ الضمير ؟!
لكنك صَغِرتَ بالهجران             و اصّبحتُ بإخلاصي كبير
و سَيَهْدِمُ الغد اوهامَك                و يُلام الزمان بتقصير 
و رُغمَ قساوةِ ذَنّبُكَ                   لما النسيان همٌ عسير ؟!
فأَجَبْتَني : لأن العشقَ                ليُبّسِ الخبزِ كالخمير  
و الغضب يَمُرُّ و ان طال           و عِتابُكِ يُحّلِي المرير
و اَزَلّتَ غمّي ببسّمَةٍ                 اضاءت الوجْهَ المنير
فقلتُ : اذاً لقصّرنا !!                فالعُرّشُ يصبو للأمير

ثم تذكّرت سميرة صوت خطيبها الحزين :
-هل انت متأكدة من قراركِ ؟!
و هي تمسح دموعها : نعم احمد .. عليّ ان اتحمّل مسؤولية عائلتي
-لكننا نحب بعضنا منذ سنين , و كنا سنتزوج بعد شهرين..

فأسرعت سميرة و ازالت خاتم خطوبتها من يدها و اعطته ايّاه ,  وهي تقول بحزن :
-سامحني يا احمد
ثم رحلت و هي منهارة في بكاءٍ مرير

و في مساء ذلك اليوم .. دخل والدها غرفتها بعد ان سمع بكائها المكبوت

الأب بشفقة : ابنتي .. هل انت بخير ؟
و هي تمسح دموعها : بخير يا ابي , لا تقلق
-ما كان عليك ان تفسخي خطبتك
-لقد وعدت امي و هي على فراش الموت ان اعتني بك و بأخوتي الصغار .. و كان احمد يريدني ان اسافر معه بعد الزواج , و هذا مستحيل .. فأخي مصطفى مازال صغيراً , و سعيد في سن المراهقة , و كلاهما يحتاج الى اهتمام .. 
-لكن...

-ابي لا تقلق , فمديرة امي اتصلت بي البارحة و طلبت مني ان احلّ مكان امي 
-لكنك حاصلة على منحة دراسية في طب اسنان , و هي دراسة تحتاج الى تركيز 

-لن ادخل الجامعة يا ابي .. و منذ الغد سأبدأ في تدريس صف الحضانة , و هم لا يحتاجون الى شهادةٍ جامعية 
بحزن و غضب : لولا ذلك الحادث اللعين الذي تركني مشلولاً لما تكفّلت امك و من ثم انت مسؤولية المنزل .. ليتني متّ و ارحتكم مني !!
-لا تقل هذا يا ابي , نحن دوماً في حاجة اليك .. و لا تقلق , فالبيت  و انت و اخواني صرتم منذ اليوم مسؤوليتي في هذه الحياة

فحضن ابنته و صارا يبكيان..

***

ثم عادت سميرة بفكرها الى الواقع و هي ترى شقة منزلهم مغبّراً و خالياً من الأثاث ..

و عادت تتذكّر ما سمعته منذ عدة اسابيع و هي تسكن في منزل اخيها الصغير مصطفى الذي اصبح طبيباً مشهوراً

و كان حينها يتكلّم في جواله مع اخيه , دون ان ينتبه ان اخته كانت تمرّ بالصدفة من امام غرفته :

((اسمع سعيد , انا انسان مشغول بعيادتي و عملياتي الجراحية , هذا عدا عن رحلاتي لإلقاء محاضراتٍ طبية في اكثر من بلد , لهذا لست مستعداً ابداً لعيش اختك معي ... ماذا ؟.. نعم اعرف انها اختي ايضاً لكني مشغول .. مشغول جداً .. و هي عندي منذ اكثر من شهر .. على الأقل خذها عندك لشهرين حتى عودتي من اوروبا .. ماذا قلت ؟! .. و ما دخل زوجتك بالموضوع ؟!.. لا يهمني , تصرّف .. سأطلب من سميرة الآن ان ترتّب اغراضها , و غداً اوصلها اليك و من ثم اذهب الى المطار .. اتفقنا .. سلام))

و بعد ساعة .. دخل غرفة اخته ليتفاجىء برؤيتها ترتّب اغراضها داخل شنطتها , و هي تشيح بوجهها لإخفاء دموعها عنه 

فقال لها و هو يخفي ارتياحه : هل انت ذاهبة يا سميرة ؟
-نعم .. لقد اشتقت الى ابناء اخي سعيد , و سأذهب لأبيت عندهم كم يوم ..
-بل اجعليها شهرين , و انا عندما اعود من ..
مقاطعة : تصلّ بالسلامة , مصطفى

و بعد اسبوع امضتها في فيلا اخوها سعيد الذي صار تاجراً غنياً , بدأ ابنائه الثلاثة في مضايقتها 

البنت الصغيرة : هل ستعيشين عندنا دائماً يا عمتي ؟
سميرة : لا .. فقط كم يوم الى ان يأتي عمك مصطفى من السفر
الولد الأوسط : لكن امي قالت ان عمي سيستقر في الخارج و لن يعود الى هنا مرة ثانية

سميرة : لا بل سيعود , لأنه وعدني بأنني انا من سأختار عروسه
البنت : المهم ان لا تبقي كثيراً في غرفتي
سميرة : و هل كانت هذه غرفتك ؟!

الولد الأكبر : لا عمتي , هذه كانت غرفة العابنا 
اخته بعصبية : و انا اريد غرفتنا هذه , لكنك سكنتيها (و تشير على العمة)

سميرة و هي تخفي المها : لا تقلقي , لن احتلها الى الأبد ..(ثم تتنهّد).. ما رأيكم ان تناموا الليلة عندي , و انا سأحكي لكم حكاية جميلة
البنت بفرح : احقاً عمتي , انا احب ..
الولد الكبير مقاطعاً : لا !! .. فماما قالت ان لا نبقى معك كثيراً .. هيا يا اخوتي لنذهب

و خرجوا ثلاثتهم من الغرفة تاركي العمة متضايقة بعد ان تأكدّت بأن امهم تحاول ان تبعد ابناء اخيها عنها .. 

لكن هذا لم يكن شيئاً , فالضغط النفسي زاد بعد الأسبوع الثالث حيث يبدو ان امهم تحاول طردها من المنزل عن طريق ابنائها الذين كان عليهم مهمّة مراقبة العمة في كل لحظة , و لهذا لم تهنىء سميرة لا بطعام و لا حتى النوم حيث كان الصغار يدخلون غرفتها مع كل غفوة بحجة انها كانت غرفة لعبهم سابقاً ..


و حتى في كل نزهة كانت زوجة اخيها توكّل العمة بمهمة اطعام الأولاد و الإنتباه عليهم بينما تتسوّق هي على راحتها .. و الأسوء ان اخو سميرة كان نادراً ما يتواجد في المنزل لإنشغاله الدائم في اعماله , و لذلك تفنّنت عائلته بتعذيبها النفسي , حيث احسّت سميرة و كأنها خادمة عندهم

***  

و هنا عادت سميرة الى واقعها , و هي ماتزال تجلس على ارضية شقة عائلتها المهجورة منذ ثلاثة شهور .. و دخلت في نوبة بكاء الى ان احسّت بيدٍ حانية تربت على كتفها , فرفعت رأسها لترى والدتها
بدهشة : امي !

و بثواني .. عاد كل شيءٍ حولها كما كان في السابق , نفس الأثاث القديم .. و تفاجأت بنفسها و هي تجلس فوق سريرها القديم , و امها بجانبها تقول :
-لا تبكي يا صغيرتي 

و قبل ان تعي ما تراه , رأت والدها يدخل غرفتها و هو يمشي على قدميه , تماماً كما كان يفعل في السابق قبل الحادثة المؤلمة  
سميرة بدهشة : ابي ! انت تمشي ..

و جلس على الجانب الأخر منها .. ثم حضنها هو و امها بحضنٍ دافىء جعلها تطير في ماضي الذكريات السعيدة !
سميرة و هي تبكي : اريد ان ابقى معكما , ارجوكما لا تتركاني لوحدي
الأم : سميرة .. ارجوكِ لا تغضبي من اخويك , فهما ..

تقاطعها سميرة بغضب : امي ! هما يكرهان وجودي في منزلهما بعد ان افنيت شبابي في تربيتهما .. قلّ لها يا ابي .. قل لها كيف كنت اعمل صباحاً في المدرسة و اصرف عليهما , و من ثم اعود لمعمة الأم و المعلمة لهم .. و الآن بعد ان نجحا لم يعد يريداني , و صرت همّاً على قلبيهما..الم اترك خطيبي وحبيبي الوحيد من اجلهما ؟.. الم اترك الطب الذي كنت اعشقه لإهتمّ بهما ؟! .. اخبرها يا ابي ارجوك !!

الأب بحزن : امك تعرف كل شيء يا سميرة
الأم بشفقة : كنت اراكِ من فوق , و كنت حزينة جداً عليك .. لكن لا اريد ان يذهب كل تعبك سدى يا ابنتي
الأب : نعم يا سميرة .. فوجودك اليوم داخل شقتنا القديمة في هذا اليوم بالذات يعتبر انتحاراً

سميرة و هي تبكي منهارة : لقد تعبت يا ابي .. تعبت يا امي من كل الحياة و اريد ان اموت .. 
الأب : ليس بهذه الطريقة يا ابنتي .. 

و هنا سمعت سميرة صوت الجرّافة و هي تقترب من العمارة القديمة التي فيها شقة عائلتها المهجورة

الأم بخوف : هيا يا سميرة ! اخرجي من المبنى حالاً , قبل ان يهدموه فوق رأسك
سميرة بإصرار : لكني اريد ان اكون معكم , و اليوم قبل الغد

الأب بصوتٍ حازم : انا و امك في النعيم الآن , لكن ما تفعلينه يعد انتحاراً و ستدخلين النار .. افهمت !!
فأردفت الأم قائلة بفزع : و بذلك احرم من رؤيتك الى الأبد .. هيا يا ابنتي اعقلي و اخرجي حالاً .. هيا !!!

***

في خارج المبنى .. وقفت عائلة سعيد مع مجموعة من السكّان القدامى للمبنى و بعض الفضولين لرؤية عملية هدم المبنى

زوجة سعيد متأفّفة : يعني كنت وعدتنا بنزهةٍ جميلة لتأتي بنا الى هنا , لرؤية منزلكم القديم و هو ينهدم ! .. و بذلك تتغبّر ملابسنا الغالية !!

سعيد و هو ينظر الى المبنى متأثّراً : لقد عشت هنا مع عائلتي اجمل ذكريات حياتي .. (ثم ينتبه) .. آه صحيح ! اين سميرة ؟ كانت تريد مشاهدة هذا الحدث ايضاً

الزوجة بلا مبالاة : كنت اخبرتها اليوم صباحاً بعودة اخيك الدكتور ,  و هي على الفور حزمت حقيبتها و ذهبت , حتى دون انتظار عودتك .. (و بصوت منخفض) ..الوقحة

و هنا تفاجأ سعيد بأخيه الصغير مصطفى و هو يلمس كتفه
سعيد : آه ! الحمد الله على السلامة اخي 
مصطفى : لقد عجّلت بقدومي كي لا يفوتني هذا المنظر .. اين سميرة ؟
سعيد بدهشة : ماذا ؟! الم تذهب الى منزلك ؟!

-لا لم يكن هناك احد ! ظننتها ما تزال في منزلك
سعيد بقلق : هل معقول ان تكون ذهبت الى .. (و ينظر الى المبنى) ..لا ! غير معقول ! 
***

و في هذه الأثناء ..كانت سميرة (المرأة الستينية) تنزل بأسرع ما يمكنها على السلالم مستندةً على الحائط , و بخطواتٍ متعثرة بسبب الحجارة و الأوساخ المتراكمة على اطراف الدرج المهمل , معتمدةً في حركتها على الإضاءة خافتة القادمة من النوافذ الصغيرة المتواجدة في ادراج كل طابق  
***

و في الخارج .. اسرع الأخوان المرتعبان ناحية المهندس المسؤول عن هدم المبنى لايقاف العملية , كي يتسنّى لهما التأكّد من شكوكهما بوجود اختهما في الشقة

لكن في اللحظة التي وصلا بها الى المهندس كانت الرافعة العملاقة قد غرزت كرتها الحديدية الضخمة في الجدار المتهالك , ليسقط منه على الفور حائطاً كبيراً , ليحطّ مباشرةً فوق جسد سميرة التي كانت خارجة لحظتها من بوابة المبنى 

فركضا الأخوان صارخان ناحيتها و هما يبكيان .. و امسكا يديها و هي تلفظ انفاسها الأخيرة قائلة و هي تنظر الى السماء : 

سميرة بسعادة : الحمد الله .. لقد اعتبروني شهيدة .. امي و ابي .. صار بإمكاني الذهاب معكما 

ثم فارقت الحياة بابتسامة عريضة , بينما انهار الأخوان ببكاءٍ مرير بعد ان احسّا بثقل ذنبهما تجاه اختهم الكبيرة التي افنت حياتها لأجلهما

النهاية

هناك 3 تعليقات:

  1. ملاحظة :
    الشعر الموجود في القصة هو من تأليفي , اتمنى ان يعجبكم

    ردحذف
  2. النهايه جميله جدا كيف هذا ؟ ﻹنه الواقع

    ردحذف
  3. انقهرت عليها😭💔

    ردحذف

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...