تأليف : امل شانوحة
كيف ضاعت حياتي هكذا ؟!
فهنا كانت تلعب و هناك مشى اخوها الصغير اول خطواته ..و هذه غرفة والديها , و على هذه الشرفة كانوا يأكلون المثلجات سويّاً في فصل الصيف .. ذكرياتٌ كثيرة حُفرت في زوايا الشقة المهترئة ..
وضعت شالها الربيعي على الأرض و جلست عليه , مسندةٌ ظهرها على ركن الصالة .. ثم صارت تقول بصوتٍ مسموع بعض الأبيات التي كتبتها منذ عشرين سنة , عندما كانت ماتزال في سن الأربعين
ذكرى سنيني كفيلمٍ قصير منثوراً غباره مثل العبير
يهاب القلبُ من الضمور من وحشة اطراف السرير
فنهار صيفه طوييييل و شتاءُ ليلهِ زمهرير
و الكلُّ بحبّهِ هانىءٌ و العينُ لا تنامُ قرير !
انافسُ بأسّهُمَ ادعيتي اماني الحالم و الصغير
و اُشّفِقُ لخشونةِ اجّسادٍ ما اعتادتّ البِسةَ الحرير
فالكلُّ قد انطلقَ الخُطى و وحدي عجزّتُ عن المسير
و بمخبأي اليأسُ عَرَفّ و الهجّرُ ذُلّهُ كالأسير
و العمرُ معظمه انقضى بلأعذار و بالتبرير
فحَذارِكَ القولَ : كَبِرتِ ! اذّ كنتَ عن دربي ضرير
فالنصيبُ حُكِمَ بالقدر و القدير قد رسم المصير
لكن تذَكّرْ عُشّقُنا ؟ يا صديقي و السّمير
ففي الأمسِ كنتُ جاهلاً و انتَ بالعشقِ خبير
و غَلبتَ بغزلِ اشعارك كِّلا الفرزدق و الجرير
و اليوم عُقِد اللسان ! و تَعثُّرُ الحبِ خطير
و حين قرَرّتَ الرحيل الم يُعذّبُكَ الضمير ؟!
لكنك صَغِرتَ بالهجران و اصّبحتُ بإخلاصي كبير
و سَيَهْدِمُ الغد اوهامَك و يُلام الزمان بتقصير
و رُغمَ قساوةِ ذَنّبُكَ لما النسيان همٌ عسير ؟!
فأَجَبْتَني : لأن العشقَ ليُبّسِ الخبزِ كالخمير
و الغضب يَمُرُّ و ان طال و عِتابُكِ يُحّلِي المرير
و اَزَلّتَ غمّي ببسّمَةٍ اضاءت الوجْهَ المنير
فقلتُ : اذاً لقصّرنا !! فالعُرّشُ يصبو للأمير
ثم تذكّرت سميرة صوت خطيبها الحزين :
-هل انت متأكدة من قراركِ ؟!
و هي تمسح دموعها : نعم احمد .. عليّ ان اتحمّل مسؤولية عائلتي
-لكننا نحب بعضنا منذ سنين , و كنا سنتزوج بعد شهرين..
فأسرعت سميرة و ازالت خاتم خطوبتها من يدها و اعطته ايّاه , وهي تقول بحزن :
-سامحني يا احمد
ثم رحلت و هي منهارة في بكاءٍ مرير
و في مساء ذلك اليوم .. دخل والدها غرفتها بعد ان سمع بكائها المكبوت
الأب بشفقة : ابنتي .. هل انت بخير ؟
و هي تمسح دموعها : بخير يا ابي , لا تقلق
-ما كان عليك ان تفسخي خطبتك
-لقد وعدت امي و هي على فراش الموت ان اعتني بك و بأخوتي الصغار .. و كان احمد يريدني ان اسافر معه بعد الزواج , و هذا مستحيل .. فأخي مصطفى مازال صغيراً , و سعيد في سن المراهقة , و كلاهما يحتاج الى اهتمام ..
-لكن...
-ابي لا تقلق , فمديرة امي اتصلت بي البارحة و طلبت مني ان احلّ مكان امي
-لكنك حاصلة على منحة دراسية في طب اسنان , و هي دراسة تحتاج الى تركيز
-لن ادخل الجامعة يا ابي .. و منذ الغد سأبدأ في تدريس صف الحضانة , و هم لا يحتاجون الى شهادةٍ جامعية
بحزن و غضب : لولا ذلك الحادث اللعين الذي تركني مشلولاً لما تكفّلت امك و من ثم انت مسؤولية المنزل .. ليتني متّ و ارحتكم مني !!
-لا تقل هذا يا ابي , نحن دوماً في حاجة اليك .. و لا تقلق , فالبيت و انت و اخواني صرتم منذ اليوم مسؤوليتي في هذه الحياة
فحضن ابنته و صارا يبكيان..
***
ثم عادت سميرة بفكرها الى الواقع و هي ترى شقة منزلهم مغبّراً و خالياً من الأثاث ..
و عادت تتذكّر ما سمعته منذ عدة اسابيع و هي تسكن في منزل اخيها الصغير مصطفى الذي اصبح طبيباً مشهوراً
و كان حينها يتكلّم في جواله مع اخيه , دون ان ينتبه ان اخته كانت تمرّ بالصدفة من امام غرفته :
((اسمع سعيد , انا انسان مشغول بعيادتي و عملياتي الجراحية , هذا عدا عن رحلاتي لإلقاء محاضراتٍ طبية في اكثر من بلد , لهذا لست مستعداً ابداً لعيش اختك معي ... ماذا ؟.. نعم اعرف انها اختي ايضاً لكني مشغول .. مشغول جداً .. و هي عندي منذ اكثر من شهر .. على الأقل خذها عندك لشهرين حتى عودتي من اوروبا .. ماذا قلت ؟! .. و ما دخل زوجتك بالموضوع ؟!.. لا يهمني , تصرّف .. سأطلب من سميرة الآن ان ترتّب اغراضها , و غداً اوصلها اليك و من ثم اذهب الى المطار .. اتفقنا .. سلام))
و بعد ساعة .. دخل غرفة اخته ليتفاجىء برؤيتها ترتّب اغراضها داخل شنطتها , و هي تشيح بوجهها لإخفاء دموعها عنه
فقال لها و هو يخفي ارتياحه : هل انت ذاهبة يا سميرة ؟
-نعم .. لقد اشتقت الى ابناء اخي سعيد , و سأذهب لأبيت عندهم كم يوم ..
-بل اجعليها شهرين , و انا عندما اعود من ..
مقاطعة : تصلّ بالسلامة , مصطفى
و بعد اسبوع امضتها في فيلا اخوها سعيد الذي صار تاجراً غنياً , بدأ ابنائه الثلاثة في مضايقتها
البنت الصغيرة : هل ستعيشين عندنا دائماً يا عمتي ؟
سميرة : لا .. فقط كم يوم الى ان يأتي عمك مصطفى من السفر
الولد الأوسط : لكن امي قالت ان عمي سيستقر في الخارج و لن يعود الى هنا مرة ثانية
سميرة : لا بل سيعود , لأنه وعدني بأنني انا من سأختار عروسه
البنت : المهم ان لا تبقي كثيراً في غرفتي
سميرة : و هل كانت هذه غرفتك ؟!
الولد الأكبر : لا عمتي , هذه كانت غرفة العابنا
اخته بعصبية : و انا اريد غرفتنا هذه , لكنك سكنتيها (و تشير على العمة)
سميرة و هي تخفي المها : لا تقلقي , لن احتلها الى الأبد ..(ثم تتنهّد).. ما رأيكم ان تناموا الليلة عندي , و انا سأحكي لكم حكاية جميلة
البنت بفرح : احقاً عمتي , انا احب ..
الولد الكبير مقاطعاً : لا !! .. فماما قالت ان لا نبقى معك كثيراً .. هيا يا اخوتي لنذهب
و خرجوا ثلاثتهم من الغرفة تاركي العمة متضايقة بعد ان تأكدّت بأن امهم تحاول ان تبعد ابناء اخيها عنها ..
لكن هذا لم يكن شيئاً , فالضغط النفسي زاد بعد الأسبوع الثالث حيث يبدو ان امهم تحاول طردها من المنزل عن طريق ابنائها الذين كان عليهم مهمّة مراقبة العمة في كل لحظة , و لهذا لم تهنىء سميرة لا بطعام و لا حتى النوم حيث كان الصغار يدخلون غرفتها مع كل غفوة بحجة انها كانت غرفة لعبهم سابقاً ..
و حتى في كل نزهة كانت زوجة اخيها توكّل العمة بمهمة اطعام الأولاد و الإنتباه عليهم بينما تتسوّق هي على راحتها .. و الأسوء ان اخو سميرة كان نادراً ما يتواجد في المنزل لإنشغاله الدائم في اعماله , و لذلك تفنّنت عائلته بتعذيبها النفسي , حيث احسّت سميرة و كأنها خادمة عندهم
***
و هنا عادت سميرة الى واقعها , و هي ماتزال تجلس على ارضية شقة عائلتها المهجورة منذ ثلاثة شهور .. و دخلت في نوبة بكاء الى ان احسّت بيدٍ حانية تربت على كتفها , فرفعت رأسها لترى والدتها
بدهشة : امي !
و بثواني .. عاد كل شيءٍ حولها كما كان في السابق , نفس الأثاث القديم .. و تفاجأت بنفسها و هي تجلس فوق سريرها القديم , و امها بجانبها تقول :
-لا تبكي يا صغيرتي
و قبل ان تعي ما تراه , رأت والدها يدخل غرفتها و هو يمشي على قدميه , تماماً كما كان يفعل في السابق قبل الحادثة المؤلمة
سميرة بدهشة : ابي ! انت تمشي ..
و جلس على الجانب الأخر منها .. ثم حضنها هو و امها بحضنٍ دافىء جعلها تطير في ماضي الذكريات السعيدة !
سميرة و هي تبكي : اريد ان ابقى معكما , ارجوكما لا تتركاني لوحدي
الأم : سميرة .. ارجوكِ لا تغضبي من اخويك , فهما ..
تقاطعها سميرة بغضب : امي ! هما يكرهان وجودي في منزلهما بعد ان افنيت شبابي في تربيتهما .. قلّ لها يا ابي .. قل لها كيف كنت اعمل صباحاً في المدرسة و اصرف عليهما , و من ثم اعود لمعمة الأم و المعلمة لهم .. و الآن بعد ان نجحا لم يعد يريداني , و صرت همّاً على قلبيهما..الم اترك خطيبي وحبيبي الوحيد من اجلهما ؟.. الم اترك الطب الذي كنت اعشقه لإهتمّ بهما ؟! .. اخبرها يا ابي ارجوك !!
الأب بحزن : امك تعرف كل شيء يا سميرة
الأم بشفقة : كنت اراكِ من فوق , و كنت حزينة جداً عليك .. لكن لا اريد ان يذهب كل تعبك سدى يا ابنتي
الأب : نعم يا سميرة .. فوجودك اليوم داخل شقتنا القديمة في هذا اليوم بالذات يعتبر انتحاراً
سميرة و هي تبكي منهارة : لقد تعبت يا ابي .. تعبت يا امي من كل الحياة و اريد ان اموت ..
الأب : ليس بهذه الطريقة يا ابنتي ..
و هنا سمعت سميرة صوت الجرّافة و هي تقترب من العمارة القديمة التي فيها شقة عائلتها المهجورة
الأم بخوف : هيا يا سميرة ! اخرجي من المبنى حالاً , قبل ان يهدموه فوق رأسك
سميرة بإصرار : لكني اريد ان اكون معكم , و اليوم قبل الغد
الأب بصوتٍ حازم : انا و امك في النعيم الآن , لكن ما تفعلينه يعد انتحاراً و ستدخلين النار .. افهمت !!
فأردفت الأم قائلة بفزع : و بذلك احرم من رؤيتك الى الأبد .. هيا يا ابنتي اعقلي و اخرجي حالاً .. هيا !!!
***
في خارج المبنى .. وقفت عائلة سعيد مع مجموعة من السكّان القدامى للمبنى و بعض الفضولين لرؤية عملية هدم المبنى
زوجة سعيد متأفّفة : يعني كنت وعدتنا بنزهةٍ جميلة لتأتي بنا الى هنا , لرؤية منزلكم القديم و هو ينهدم ! .. و بذلك تتغبّر ملابسنا الغالية !!
سعيد و هو ينظر الى المبنى متأثّراً : لقد عشت هنا مع عائلتي اجمل ذكريات حياتي .. (ثم ينتبه) .. آه صحيح ! اين سميرة ؟ كانت تريد مشاهدة هذا الحدث ايضاً
الزوجة بلا مبالاة : كنت اخبرتها اليوم صباحاً بعودة اخيك الدكتور , و هي على الفور حزمت حقيبتها و ذهبت , حتى دون انتظار عودتك .. (و بصوت منخفض) ..الوقحة
و هنا تفاجأ سعيد بأخيه الصغير مصطفى و هو يلمس كتفه
سعيد : آه ! الحمد الله على السلامة اخي
مصطفى : لقد عجّلت بقدومي كي لا يفوتني هذا المنظر .. اين سميرة ؟
سعيد بدهشة : ماذا ؟! الم تذهب الى منزلك ؟!
-لا لم يكن هناك احد ! ظننتها ما تزال في منزلك
سعيد بقلق : هل معقول ان تكون ذهبت الى .. (و ينظر الى المبنى) ..لا ! غير معقول !
***
و في هذه الأثناء ..كانت سميرة (المرأة الستينية) تنزل بأسرع ما يمكنها على السلالم مستندةً على الحائط , و بخطواتٍ متعثرة بسبب الحجارة و الأوساخ المتراكمة على اطراف الدرج المهمل , معتمدةً في حركتها على الإضاءة خافتة القادمة من النوافذ الصغيرة المتواجدة في ادراج كل طابق
***
و في الخارج .. اسرع الأخوان المرتعبان ناحية المهندس المسؤول عن هدم المبنى لايقاف العملية , كي يتسنّى لهما التأكّد من شكوكهما بوجود اختهما في الشقة
لكن في اللحظة التي وصلا بها الى المهندس كانت الرافعة العملاقة قد غرزت كرتها الحديدية الضخمة في الجدار المتهالك , ليسقط منه على الفور حائطاً كبيراً , ليحطّ مباشرةً فوق جسد سميرة التي كانت خارجة لحظتها من بوابة المبنى
فركضا الأخوان صارخان ناحيتها و هما يبكيان .. و امسكا يديها و هي تلفظ انفاسها الأخيرة قائلة و هي تنظر الى السماء :
سميرة بسعادة : الحمد الله .. لقد اعتبروني شهيدة .. امي و ابي .. صار بإمكاني الذهاب معكما
ثم فارقت الحياة بابتسامة عريضة , بينما انهار الأخوان ببكاءٍ مرير بعد ان احسّا بثقل ذنبهما تجاه اختهم الكبيرة التي افنت حياتها لأجلهما
النهاية
ملاحظة :
ردحذفالشعر الموجود في القصة هو من تأليفي , اتمنى ان يعجبكم
النهايه جميله جدا كيف هذا ؟ ﻹنه الواقع
ردحذفانقهرت عليها😭💔
ردحذف