الاثنين، 6 فبراير 2017

الفرصة الثانية


تأليف : امل شانوحة


ملاك,موت,عزرائيل,فرصة,نجاح,فشل,حياة
لا اريد الموت الآن !

وحيداً هناك في غرفة الإنعاش , كان العجوز التسعيني يحاول التقاط انفاسٍ تبدو له الأخيرة , فهاهو يستمع الى دقات قلبه الضعيفة التي تتماشى نغماً مع ذلك الرنين المزعج الصادر من ماكينة تحديد النبضات التي امامه , و رغم خوفه الكبير باقتراب اجله الا انه يشعر بمللٍ كبير بسبب الوحدة التي قضاها معظم حياته بلا عائلة ولا اصدقاء , لذا لم يعد يمانع بالموت , بل اصبح متحمّساً لتجربة شيءٍ جديد كالأنتقال الى ماوراء الحياة
  
و في تلك الليلة استيقظ على كلمات الطبيب الذي عاينه و هو يتحدّث مع الممرضة عند باب الغرفة :
- لا اظنه سيعيش كثيراً ..من الأفضل ان تتصلوا بعائلته لتوديعه
- ليس لديه احد يا دكتور , فقد حاولنا طيلة هذا الأسبوع و .. 
- فهمت , هذا شيءٌ حزين .. طيب هل اوراق ضمانه تكفي مصاريف المشفى و  اجراءات الدفن ؟
- لقد عرفنا انه ليس غنياً , لكن اوراق ضمانه تتكفل بذلك ..لا تقلق

و هنا نزلت دمعة على خدّ العجوز , و صار يحدّث نفسه : 
هآ انت ستموت قريباً يا جون , فماذا فعلت بحياتك يا غبي ؟! ..آه منك  يا ابي اختياراتك قيّدتني .. فمنذ صغري و انت تصرّ بأن احلّ مكانك في مصنع الصابون التابع لصاحبك , و لم تسمح لي باكمال دراستي الثانوية , و جعلتني اعمل بتلك الوظيفة المملّة , التي لولا وجود نانسي هناك لما بقيت هناك يوماً .. (ثم تنهد بحزن و هو يتذكرها) .. نانسي .. حبيبتي الوحيدة .. آه كم اكرهك يا مايكل , يا صديقي الخائن


- الن تتوقف عن استخدام الناس كشمّاعة لفشلك !!
قالها رجلٌ يلبس ثياباً بيضاء و يقف عند باب غرفته 
- من انت ؟!
اقترب منه الرجل الغريب و قال له :
- كان بامكانك اكمال دراستك بمدارس ليلية كما اقترحت عليك امك 
- كيف عرفت ؟!
- و كان بامكانك بيع روايتك التي كتبتها , لكنك توقفت عن المحاولة بعد ان رفضت دورين نشر شرائها منك
- لحظة ! من انت ؟! و كيف تعرف هذه الأمور ؟!
- كما كان بامكانك خطبة صديقتك نانسي بدل ان تتركها لصديقك الذي كان سيئاً معها .. 
- لكن هي لم ترفضه ! 

- و ماذا عنك ؟!! هل حاربت للأحتفاظ بها بدل ان تضيع عشرين سنة من عمرك باحتساء الخمور 
- هذا ليس ذنبي , الحقير خدعني و تزوجها رغم معرفته بحبي لها , كما انني شربت لأتحمّل خسارتها , و اتحمّل وظيفتي المملّة التي اجبرني عليها والدي
- والدك توفيّ منذ مدة طويلة فما الذي منعك عن تقديم استقالتك  و ملاحقة احلامك الكتابية , بدل ان تمضي بقية حياتك في منزل اهلك كرجلٍ فاشل لا عائلة له ؟!!
- من انت ايها اللعين ؟!! و كيف تعرف عني كل هذه الأمور ؟! ثم من انت لتحاكمني ؟!! هيا اخرج من هنا !!
ثم بدأ يصرخ بغضب :
- ايتها الممرضة !! يا ممرضة !! .. ايسمعني احد ؟!!!

فقال له الرجل بابتسامة ساخرة :
- لا تتعب نفسك فلا احد يسمعك , لأنك الوحيد الذي تراني
ثم اختفى الرجل فجأة ليظهر ثانيةً قرب سريره , و كان هذا كفيلاً بإغماء المريض المرتعب ! 

ليستيقظ بعدها و الممرضة تعلّق له المصلّ : 
- سيد جون ..الحمد الله على السلامة كنت على وشك ان تصاب بأزمة قلبية ثانية
- اين ذاك الرجل ؟! 
و بدأ ينظر في ارجاء الغرفة بخوف , قبل ان يقول لنفسه :  
ربما كان كابوساً , يا الهي كم ارعبني
- سيد جون يبدو عليك الأرهاق , من الأفضل ان تنام مجدداً
ثم خرجت الممرضة .. لكن ما ان اغمض عيناه حتى سمع صوت الرجل الغامض من جديد , ففتح عيناه برعب ليجده واقفاً قرب سريره :
- هاى جون !! .. أتريد فرصةً ثانية ؟

جون بخوف : ماذا تعني ؟!
- اسمع !! انا ملاك الرحمة و سأعطيك فرصة لكيّ تعود الى الوراء , ايّ لسنة واحدة فقط لتغير نمط حياتك , لكن ان عدّت لإختيار نفس الطرق السهلة من جديد فستموت في الحال .. افهمت !!
- ماهذه الخزعبلات ؟!! اتريد ان تتلاعب بمشاعر رجلٍ يحتضر  يا هذا ؟!! 
- اذاً كما تشاء .. سأطلب من عزرائيل الآن ان يأخذ روحك طالما انه لا فائدة من حياتك
و فجأة ! بدأت تتكوّن زوبعة سوداء بزاوية الغرفة , فأسرع العجوز الخائف قائلاً :
- لا ارجوك لا تناديه الآن !! انا فعلاً احتاج لتلك الفرصة
و هنا اشار الرجل للزوبعة بيده , فاختفت على الفور !

ثم اقترب منه و هو يقول :
- اذاً سنعيدك لسن الأربعين
- و لما ليس سن العشرين مثلاً ؟!
- لأنك في ذلك السن بالذات حصلت على اكثر من فرصة لتغير حياتك لكنك قمت بتجاهلها جميعها 
- فهمت .. اذاً قبلت عرضك
- بإمكانك ان تغير الكثير في هذه السنة يا جون , فلا تهدر يوماً واحداً منها ..و الآن اغمض عينيك

و عندما فتحهما , كان جون في غرفته بمنزل اهله ! 
فنهض من سريره نحو المرآة ليرى نفسه في الأربعين من العمر .. ثم سمع امه تناديه من خارج الغرفة :
- هيا يا جون !! هيا يا كسول !! الفطور جاهز

فخرج سعيداً و حضنها بقوة و بدأ يقبّل رأسها ..
امه ممازحة : يا مجنون ! انا لست بنانسي
جون بدهشة : نانسي ! اتعلمين بأمرها ؟!
و هنا خرج والده من حمام و هو يقول : 
- يا بنيّ ..المصنع كلّه يعرف بأمركما , فمتى ستفاتحها بالموضوع لنخطبها لك , بدل ان تعيش مع والديك العجوزين و انت بهذا العمر
فتسرع الأم لتلطّف الأجواء : 
- لا تغضب من والدك , لكننا حقاً نودّ ان نرى ابنائك قبل ان نموت
جون بحماس : ستفعلان يا امي و قريباً جداً , لكن قبل هذا عليّ ان استقيل و فوراً 

ابوه بدهشة و غضب : هل جننت ؟!! و من سيدفع اجار بيتنا ؟ انت تعلم انني تقاعدت عن العمل 
جون بحزم : لا يا ابي !! لن اسمح لك بأن تحبطني ثانية .. سأستقيل  و اعود لكتابة القصص من جديد 
الأب : لكنهم رفضوا روايتك .. و مرتين ايضاً 
جون : و هذا يعني انها تحتاج الى المزيد من التدقيق .. كما ان هناك العديد من دور النشر في البلد , لذا سأظلّ احاول الى ان يقبلها احدهم
ابوه بعصبية : لكن الكتّاب لا مستقبل لهم .. قولي له شيئاً يا امرأة !!
- و هل تظن ان مستقبلي سيكون افضل بمصنع صديقك .. لا !! انا لن اقتل موهبتي بهذه الوظيفة المملّة
- بل احمد الله ان صديقي قبل ان يوظّفك بدلاً مني
- هذا حلمك انت يا ابي , و ليس حلمي .. عليّ الذهاب الآن 
الأب يصرخ بغضب : توقف يا فاشل !! ايّاك ان تقدّم تلك الإستقالة .. اسمعت !!!
لكن جون خرج من المنزل غير آبهٍ بالكلام المدمّر لوالده  
***

و بعد ان كتب استقالته في الحافلة , تفاجىء فور دخوله المصنع برؤية نانسي توزّع الحلوى على زملائها بمناسبة خطبتها من مايكل صديقه القديم .. و عندما تقدّمت نحوه
- تفضل جون .. حلوى بمناسبة...
قال مقاطعاً و بعصبية :
- اعرف اعرف !!
- ما بك غاضب ؟! 
- هل يمكنني التحدّث معك على انفراد ؟
- حسناً سأكمل توزيع الحلوى ثم اراك هناك ..(و تشير الى المكان) .. قبل ان اعود الى عملي 
- و انا سأحضر شيئاً من خزانتي و الحق بك

و هناك بدأ يفتش بعصبية بين اوراقه القديمة الموجودة في الخزانة المخصّصة للعمّال 
اين تلك الورقة الغبية ؟! ..أخيراً وجدتها .. آه جيد انني لم ارمي هذا الوصل ايضاً

ثم التقى بها مجدداً بعيداً عن باقي العمّال ..
- اريد ان اسألك يا نانسي .. مايكل كان يعمل معنا منذ سنوات ..فلماذا اخترته الآن ؟! 
فنظرت اليه باستغراب :
- اخترته ! 
جون بارتباك : 
- اعرف انه ليس لي الحق بالسؤال , لكن رجاءً اجيبيني
- لأني اكتشفت شهامته ..فهو الوحيد الذي بادر بطلب اجازة لي من المدير بعد ان شعر بسوء مرضي الشهر الفائت , كما انه جلب لي هدية مميزة في المستشفى
- تقصدين الفستان الزهري الجميل الذي كنت تنظرين اليه دائماً من واجهة المحل القريب من هنا 
- هل كان يراقبني ؟!
- لا يهم .. اخبريني ماذا قال لك بالضبط حين احضر الهدية ؟
- مع انه ليس من شأنك لكني سأخبرك .. هو قال بأنه اضّطر الى جمع راتبين له لكي يشتري لي فستاني الغالي الذي سألبسه غداً بحفلة الخطوبة

- ياله من ماكر ! لقد استغلّ تردّدي 
- ماذا تقصد ؟!
- اولاً !! انا من طلبت لك الإجازة , و هذه نسخة عن الورقة التي قدّمتها لمدير المصنع .. و يمكنك التأكّد بنفسك من سكرتيرته 
- ماذا ؟! لكن مايكل قال لي..
مقاطعاً : كما انني انا من اشتريت لك الفستان , لكني لم اكتب اسمي على الهدية كي لا تشعري بالأحراج مني.. و بالصدفة و انا ابحث عن ورقة اجازتك وجدت ايضاً وصل الشراء .. انظري .. مع اني حقاً لم اكن اريد ان اريك اياه
- طيب كيف عرف مايكل بكل هذا ؟!
- مايكل كان صديقي منذ سنوات .. و قبل شهرين كنت افضفض له  و اخبره عن حبي لك بعدما انتقلتي الى قسمنا , و اخبرته ايضاً بما فعلته لأجلك بالسرّ .. لكن الحقير استغلّ طيبتي و طيبتك ايضاً ..  
فتسكت بصدمة ! 
- اسمعي يا نانسي ..انا لا اريد الإيقاع بينك و بينه , لكنه انسان استغلالي فهو يتقرّب من المدير عن طريق نقل كلام العمّال اليه  و هو من تسبّب بطرد العم جاك و السيدة انجي .. و كل هذا طمعاً في ان يصبح مسؤولاً عن العمّال .. نانسي .. هو لا يناسبك , صدّقيني
- لكنك تأخّرت يا جون , فأهلي و اصدقائي جميعهم قادمون غداً لحفل خطوبتي
- ان تتركيه الآن افضل من ان يتركك الحقير بعد ان تنجبي ابنه المعاق ذهنياً

- ما هذا الكلام ؟!!
- لا تغضبي يا نانسي , فأنا رأيت المستقبل و لا تسأليني كيف , لكني اعلم تماماً بأنك ستندمين على زواجك منه , بينما سأضيع انا في دوّامة الأكتئاب و الخمور , لهذا لن اسمح بخسارتك هذه المرّة 
و هنا يقترب منهما مايكل و هو يتصرّف و كأنه رئيس للعمّال : 
- ماذا تفعل هنا يا جون .. هيا عدّ الى عملك قبل ان تحصل على خصمٍ لراتبك
- لن يحصل هذا , لأني سأقدّم استقالتي بعد قليل
مايكل بارتياح : 
- كما تشاء .. (ثم ينظر لها) .. عزيزتي نانسي .. دعينا نأخذ اجازة ليوم الغد , فورائنا الكثير من التحضيرات 
تنظر اليه بازدراء و تقول بحزم : 
- بل انا ذاهبة مع جون لأستقيل ايضاً .. هيا خذّ خاتمك !!
و تخرجه من اصبعها و تضعه بيد مايكل المتفاجىء , الذي قال لجون بغضب : 
- ماذا ؟! .. نانسي !.. ماذا قلت لها يا حقير ؟!!
***

و في الحديقة العامة و بعد ان استقالا من المصنع :
تغلق نانسي جوالها و هي تقول بارتياح :
- لقد اخبرت اختي بكل ما حصل و هي ستتكفّل بأخبار الجميع عن الغائي للخطوبة .. ياله من شعورٍ مريح 

فينظر جون الى عينيها و هو يستفسر عن الموضوع :
- لما استقلتي يا نانسي ؟!
- بصراحة لسببين .. فأنا لي صديقة قديمة التقيت بها منذ ايام  و سألتني ان كنت اريد ان اعمل بشركة والدها كسكرتيرة و براتبٍ جيد , الا ان خطبة مايكل جعلتني أأجّل الموضوع .. لكني غداً سأذهب الى هناك , و اتمنى ان يكون عرضها مازال قائماً
- و ماذا عن السبب الآخر ؟
- لأني لن اتحمّل البقاء مع ذلك المستغلّ الطمّاع في نفس المكان 
- لا تقلقي سيأخذ نصيبه , لأن طمعه سيجعله يحصل على المصنع الذي سيخسره فيما بعد بالقمار , و من بعدها سينتحر
تبتسم و هي تمازحه :
- هل اصبحت مشعوذاً يا جون ؟
- ربما كان مجرد مناماً غريباً .. او رؤية .. لكن لا يهم

- طيب و ماذا عنك ؟ لا اظن والدك سيفرح بخبر استقالتك
- اخبرته بالأمر هذا الصباح .. فأنا يا نانسي حلمي بأن اكون كاتباً مشهوراً فأنا اعشق تأليف القصص , لكن لا احد يصدّق بموهبتي
- و هل تصدّق انت بها ؟
- بكل تاكيد !!
- اذاً هذا يكفي .. المهم عليّ الذهاب الآن الى المنزل 
- نانسي .. انتظري
ثم جثا على ركبته و اخرج من جيبه خاتماً كان اشتراه قبل ذهابه للمصنع
- هل تتزوجينني ؟ 

فتقترب منه و هي تقول بابتسامة :
- سأجيبك على هذا السؤال فور بيعك لقصتك الأولى , و ليكن ذلك حافزاً لك على مواصلة حلمك
***


و بالفعل قرّر جون امضاء الأسابيع القادمة في الحديقة العامة و هو يكتب هناك منذ الصباح و حتى غروب الشمس لكي يبتعد عن الكلام السلبي لوالده الذي يسمعه كل مساء .. و قد انتهى اخيراً من كتابة روايته بوقتٍ قياسي و ذلك قبل يومين من نهاية الشهر..

و في منزل عائلته و قبل ان يتناول فطوره , رأى والده غاضباً
جون بضيق : ماذا اليوم ؟!
- لقد وصلنا اشعار الإيجار , فكيف سندفع الآن و كلانا عاطلٌ عن العمل ؟
- لا تقلق يا ابي , سأجد حلاً 
بسخرية : آه حقاً .. يعني ستبيع روايتك السخيفة في هاذين اليومين مثلاً ؟
لكن جون قام متضايقاً و خرج من المنزل

و في اليوم التالي تفاجأ جون بأن الأيجار تم دفعه من قبل نانسي , فذهب الى الشركة التي تعمل فيها و قال بإحراج :
- انا لا اقبل يا نانسي ان تدفعي عني 
لكنها فاجئته بالسؤال : هل انهيت روايتك يا جون ؟
- ماذا ؟! .. آه نعم 
- اذاً سنرسل نسخاً منها الى دور النشر , و حين تبيعها تردّ لي ديني .. اتفقنا
فأومأ برأسه موافقاً و هو يشعر بالقلق أن لا ينجح ابداً في هذا المجال
***

و مرّ شهرٌ آخر مليء بالمحاولات الفاشلة حيث رفضت معظم دور النشر قصته بحجة انه غير مشهور , و بدأ اليأس يدبّ في نفس جون من جديد

و ذات يوم , قدِمَ الى شركتها قائلاً : 
- اعتذر منك يا نانسي , لقد ابعدتك عن خطيبك و كلّفتك الكثير , لكن يبدو ان مصيري هو الفشل 
- اسمع يا جون , لقد اتصلو بي دار الآداب للنشر قبل قليل و يريدون رؤيتك عند الساعة الخامسة هذا اليوم 
- نعم ليخبروني بنفس الكلام الذي اخبرني به الجميع .. لا لن اذهب 
- اسمعني يا جون , هذه شركة محترمة
- آسف نانسي .. انت تستحقين افضل مني

ثم ذهب يائساً و جلس في الحديقة .. و هنا اقترب منه عجوز فقير متسوّل
فقال له جون دون ان ينظر اليه : 
- اذهب رجاءً , فانا افقر منك
- يا خسارة ..لقد فشلت بالأمتحان 
قالها العجوز بصوتٍ منخفض , لكن كلامه ذكّره بالملاك و الفرصة الثانية التي نسيها تماماً بسبب هموم الدنيا

و قبل ان يبتعد العجوز , لحقه جون قائلاً :
- لحظة توقف !! خذّ هذه النقود يا رجل , لكن رجاءً ادعي لي لكيّ تتحسّن اموري

و هنا تحوّل العجوز الى نفس ذلك الملاك و قال له بحزم :
- ايّاك ان تأخذ الطريق السهل مجدداً و الاّ اخذنا روحك ..افهمت !! 

ثم اختفى ! و هذا ما ارعب جون تماماً .. حينها نظر الى ساعته و وجدها قرابة الساعة الخامسة , و كانت دار النشر على بُعد شارعين من الحديقة , لكنه انتبه انه اعطى العجوز كل ما معه فلم يتبقى له مال يكفي لسيارة الأجرة .. فأسرع راكضاً و بكل ما اوتي من قوة ليلحق بالموعد ..

و بالفعل دخل الى مكتب مدير النشر و هو يلهث من التعب 
و هناك تفاجىء بنفسه و هو يكلّمه عن كتابه بكل ثقة و فخر , بل انه  راهنه على ان قصته ستتحوّل ذات يوم الى فيلمٍ سينمائي عالمي .. و هذه الثقة الزائدة اعجبت المدير الذي اعطاه عقداً للعمل لكتابة مجموعة اخرى من القصص 

و ما ان خرج من عنده حتى وجد نانسي تنتظره بالردهة ..
جون بدهشة : كيف عرفتي اني هنا ؟!
- كنت اعرف انك لن تخذلني..و الآن اخبرني هل وافق على شراء قصتك ؟
- نعم و طلب مني مجموعة من القصص القصيرة  
نانسي بحماس : هذا رائع !!
جون بقلق: لكن بالنسبة لروايتي هذه , فقد عرض عليّ عرضاً مربكاً !
- ماهو ؟

- اما ان يشتريها مني بمئة الف دولار و ابيعه اسمي , او يعطيني فقط الفين دولار و يبقيها بأسمي .. و انا قلت له بأنني سأفكر بالموضوع اولاً ثم ..
نانسي مقاطعة و بحزم : خذّ الألفين دولار و ابقيها بأسمك
- لكنها لا تكفي تكاليف عرسنا
- و من قال انني اريد عرساً , يكفيني حفلاً عائلي 
- و ماذا عن السكن ؟
- شقتي موجودة 
- لا هذا كثير يا نانسي , كما ان مبلغ مئة الف مغرية اكثر
- لا يا جون لأنك ستندم كثيراً حين تتحوّل قصتك لفيلمٍ كبير يحمل إسم المدير .. 

جون بحيرة و قلق : لا ادري حقاً ماذا افعل !
نانسي : الا تعلم ان المؤلفة (ج. ك. رولينغ) التي قامت بكتابة سلسلة هاري بوتر حصلت 1800 دولار فقط عن نسختها الأولى .. لكن نسختها الأخيرة حققت ايرادت قاربت المليار دولار يا رجل ! لذا ارجوك يا جون ثق اكثر بموهبتك 
جون بابتسامة : حسناً اقنعتني 
- اذاً ادخل اليه مرة ثانية و اخبره بقرارك 
***

و في خلال سنة واحدة تم تحويل قصته بالفعل الى فيلمٍ سينمائي حصل على استحسان النقّاد و الجمهور , و طالبوه بالمزيد من الأجزاء لما اعتبروه فكرة جيدة لسلسة مشوّقة 

و في احدى الأيام و بعد ان عاد هو و زوجته الحامل من الحفل التكريمي لفيلمه الأول 
نانسي : انا سأذهب لأنام , و انت ؟
جون : سأنهي القسم الأخير من الجزء الثاني من الرواية و ارسله للمنتج , و من ثم الحقك
- عليك ان تكون فخوراً بنفسك يا جون , فقد انهيت روايتين بسنة واحدة
جون بقلق : و هل مرّت سنة منذ يوم خطبتنا ؟! 
- نعم .... هيا تصبح على خير 

و بعد ان ذهبت .. بدأ يتذكّر ما حصل له قبل سنة في المستشفى ..
فصار يحدّث نفسه بخوف : لا ادري ان كان ذلك الملاك حقيقي ام مجرد منام لكني لن اجازف , يجب ان انهي القصة بسرعة و قبل منتصف الليل

و بالفعل انهى القصة بحدود الساعة 11 و قام بإرسالها بالبريد .. ثم ذهب لعند زوجته الغارقة في النوم و حضنها و هو يرتعش من الخوف 
نانسي و هي تشعر بالنعاس : ما بك يا جون ؟!
- لا شيء ..انا فقط متعب
- هل ارسلت القصة ؟
- نعم انهيتها و ارسلتها .. نانسي .. هل تحبينني ؟
- طبعاً يا جون , ما هذا السؤال ؟!
- اردّت فقط ان اشكرك على وقوفك معي و ايمانك بموهبتي , فلولا دعمك لي لما كرّمت هذه الليلة عن اول اعمالي
- انا زوجتك و هذا واجبي , و الآن نم قليلاً فقد كان يوماً طويلاً 
جون بنبرة حزينة : بل سنة قصيرة جداً 
- ماذا قلت ؟!
- لا شيء عزيزتي .. هيا عودي للنوم .. تصبحين على خير

و بعد ان نامت صار يحدّث نفسه بحزن : ليتني ابقى معك قليلاً لأعيش لحظات ولادة ابننا القادم بعد شهر .. يالا الأسف 

و قد حاول جون ان يقاوم النوم لكنه نام في الساعة 12 تماماً , ليستيقظ  و قد وجد نفسه على فراشٍ مخصّص للمرضى , لكنه ليس في المستشفى بل في غرفةٍ فخمة داخل قصره و قد زوّد بكافة الأجهزة الطبية اللازمة , بينما جلست الممرضة على الكرسي المقابل لسريره تنتظر الأوامر .. فصار يتمعّن برفوف مكتبه التي امتلأت بالجوائز الأدبية و السينمائية ..  

و هنا فُتح باب غرفته ليدخل عليه احفاده كما زوجته العجوز  
جون بتعب و دهشة : نانسي !
بابتسامة حنونة : نعم عزيزي
- هل كنت زوجاً جيداً ؟
- طبعاً يا غالي 
- و اباً حنوناً ايضاً 
قالها شاب يقف على يمينه : 
جون بدهشة و فخر : صغيري كبر ! ... و هل هؤلاء احفادي ؟!

فصار الأحفاد الصغار الثلاثة ينظرون لبعضهم باستغراب , فقال احدهم :
- نعم جدي .. هل نسيتنا ؟!
لكن جون اكتفى بالضحك .. ثم نظر الى زوجته و سألها :
- و ماذا عن اعمالي يا نانسي ؟
- اتقصد الجمعية الخيرية
جون بدهشة : و هل افتتحت جمعية ايضاً ؟!

فتشير الممرضة الواقفة امام السرير لهما بأن يجيباه على سؤاله , ففهمت نانسي و ابنها بأن المرض اتعب ذاكرته  
- نعم يا ابي , و امي من تقوم بإدارتها .. و حالياً اصبحنا نتكفّل بالعشرات من العوائل الفقيرة , بل حتى المئات
و تكمل زوجته قائلة : كما انك افتتحت شركة تقوم بتحويل قصص الكتّاب الناشئين الى افلامٍ سينمائية , و بسببك انشهر العديد من الكتّاب الشباب 

و هنا يتنفّس جون بارتياح بعد ان علم انه نجح اخيراً بحياته .. ثم يوجّه كلامه للجميع قائلاً : 
- يا عائلتي العزيزة .. نصحيتي الأخيرة لكم : ان تجازفوا في سبيل تحقيق حلمكم , فالسعادة الحقيقية لا تكون الا بثلاثة اشياء :
1- ان تقوم بعملٍ تحبه و تنجح به
2- ان تحظى بعائلة جميلة تحبك
3- و ان تفعل الخير 
لا تنسوا هذا الشيء ابداً يا احبائي

فبدأ الجميع بالبكاء بعد ان صار واضحاً على محيّاه قرب الأجل 
و هنا يرى جون الملاك نفسه برفقة ملاكٍ آخر يلبس رداءً اسود 

فقال له الملاك بلباسه الأبيض معرّفاً عنه : 
- هذا عزرائيل يا جون .. فهل انت مستعد ليقبض روحك ؟ 
فيشير جون برأسه (نعم)
الملاك الأبيض : و هل انت نادمٌ على شيء ؟
فيشير برأسه (لا)
فيقترب منه عزرائيل و يقول بصوتٍ اجش : 
- اذاً اغمض عينك و خذّ نفسك الأخير

و هنا يظهر صفير ماكينة تحديد نبضات القلب التي بجانبه معلنةً وفاته , لترتفع بعدها اصوات بكاء الأحفاد الصغار مترافقاً مع دموع زوجته و ابنه الشاب , و هما يراقبان بدهشة ابتسامة الرضا على وجه العجوز جون !

النهاية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...