الأحد، 5 يونيو 2022

الجنود المعاقون

تأليف : امل شانوحة 

 

نكران الجميل !


بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية .. عاد الجنود الى قراهم الأوروبيّة ، بعضهم مُشوّه الوجه والبعض الآخر مُعاق جسديّاً .. ومن نجى منهم ، عانى من إضطراباتٍ نفسيّة مُعقّدة ! 

ورغم عطف الأهالي عليهم إلاّ أن أكثريّتهم إنزوى بأطراف القرية ، ليعيشوا بأكواخٍ قرب غابةٍ موحشة ، خوفاً من تملّل الأهل بخدمتهم او سماعهم تعليقات جارحة من المارّة والأطفال والغرباء ، خصوصاً المتنمرّين..

***


في احد الأيام .. تجمّع المعاقون حول صديقهم جاك الذي عاد من رحلته الإكتشافيّة للغابة وهو يمشي على قدميه اللتين فقدهما في المعركة ! 

وسألوه بدهشة :

- من الطبيب الذي ركّب لك اقداماً صناعيّة ؟! رجاءً دُلّنا عليه

فأجابهم بابتسامةٍ عريضة : انهما قدمايّ الحقيقيتين ، إنظروا بأنفسكم !! 

ورفع بنطاله من الأسفل ، ليتأكّدوا انهما من عظامٍ ولحم ! 

الجميع بصدمة : لا يعقل هذا ! إخبرنا بما حصل ؟


جاك : كنت اسير بكرسيّ المتحرّك بصعوبة وسط الأدغال .. وإذّ بتوازني يختلّ فوق الصخور الصغيرة المدبّبة التي أوقعتني من الجرف ، لأسقط في بركةٍ ضحلة

- أتقصد المستنقع الصغير قرب الشجرة العملاقة ؟

جاك : نعم ، وحين خرجت منه .. وجدّتُ اقدامي نمت من جديد ! أظنها بركة سحريّة .. وإن اردّتم ، أدلّكم على المكان


فوافق المعاقون على الذهاب معه ، بعد إشتراطه عليهم : عدم إخبار اهالي القرية بالمكان السرّي !

***


وقبل غروب الشمس ، وصلوا الى المكان المنشود.. ورغم نتانة المياه الراكدة إلاّ انهم مسحوا بها وجوههم المشوّهة واطرافهم المقطوعة ، حتى شعورهم ورؤوسهم لعلاجها من عقدهم النفسيّة المستعصية.. 


وخلال ثواني .. نمت اطرافهم المقطوعة من جديد ، وعادت وجوههم كما كانت قبل المعارك ، واختفت اصوات الصراخ والإنفجارات التي كانت تدويّ في عقولهم المتعبة ! 

فحضنوا بعضهم بسعادةٍ غامرة بعد إسترداد قوتهم وشبابهم الضائع 

***


في تلك الليلة .. اوقدوا ناراً قرب أكواخهم ، للإحتفال بفرصتهم الجديدة بالحياة .. وأخذوا يتشاورون فيما بينهم على الطريقة المميزة لدخول القرية

فمنهم من رغب العودة لحياته السابقة ، وبعضهم اراد الزواج ممّن رفضته بسبب إعاقته .. اما الأغلبية فرغبوا بعقاب المتنمّرين والشامتين ، بردّ الإساءة اليهم ! 

واتفقوا على التجمّع في ساحة القرية مع بزوغ الفجر ، قبل ذهاب المزراعين الى حقولهم..

***


في الصباح الباكر .. شهقت النساء بصدمةٍ كبيرة بعد رؤية معاقيّ الحرب يهرولون كجنودٍ بواسل ! ووقف الرجال مذهولين مما رأوه .. بينما رفع الراهب صوته بالصلوات ، خوفاً أن يكون تلبّسهم الشيطان

وتجمّع الناس حولهم لسؤالهم عن المعجزة التي حصلت لهم ؟ وهل نزلت الملائكة من السماء بأطرافهم الجديدة ، ام إن طبيباً عبقريّاً عالجهم من تشوّهات الحرب ؟! 


فإذّ جاك يفاجئهم (وهو اقوى الجنود) بوابلٍ من الشتائم على كل من استهزأ او استحقر إعاقته فور عودته من الحرب .. 

وسرعان ما شاركه بقيّة زملائه بوصفهم اهالي قريتهم بالجبناء لعدم مشاركتهم المعارك !


وبعد تماديهم بالشتائم ، قال عجوزٌ لأهالي قريته بضيق :

- لما نقف مكتوفيّ الأيديّ امام تحقيرهم لأعمالنا الشريفة بالزراعة ورعيّ الأغنام ؟!.. إن كانوا لا يريدون إخبارنا بسرّ معجزتهم ، فليذهبوا للجحيم !! 

فقالت امرأة بغيظ : هذا صحيح !! ساعدناهم ببناء اكواخهم ، وأرسلنا اليهم الطعام من وقتٍ لآخر .. وانظروا كيف يردّون الجميل ؟! 


فاقترب رجلٌ آخر من الجنود ، وهو يقول بقهر : 

- وظّفناكم بأعمالٍ بسيطة في حقولنا ، بأجورٍ مجزيّة مراعاةً لإعاقتكم .. لكن طالما أظهرتم طباعكم السيئة ، فلن نساعدكم ثانيةً !! ..إعملوا بأنفسكم بعيداً عن قريتنا التي تشمئزّون منها ..

ثم قال للأهالي :

- هيا لنذهب الى مزارعنا ودوابنا التي فيها خير اكثر منهم ..


وغادر الجميع الساحة .. تاركين الجنود يتفاخرون بقوّتهم وعضلاتهم ، غير آبهين بجرحهم مشاعر كبار السن في قريتهم ! 


ثم قال جاك لرفاقه : 

- اللعنة عليهم !! لسنا بحاجة لطعام نسائهم الرديّ وعطايا عجائزهم البخلاء ، بإمكاننا الإهتمام بأنفسنا جيداً 


وعادوا لأكواخهم بجانب الغابة ، للإحتفال مجدّداً باستعادتهم صحّتهم وقوّتهم 

***


ومرّت الأيام .. قضاها الشباب العشرين بصيد الأرانب والغزلان ، دون اكتراثهم بالبحث عن اعمالٍ ذات أجورٍ ثابتة ..حتى انهم لم يصلحوا اكواخهم المتهالكة .. وكل ما فعلوه هو عيشهم كل يومٍ بيومه ، دون التفكير بمستقبلهم ! 

***


إستمرّت اعمالهم الطائشة حتى حلول الشتاء ..

فتشاور جاك معهم بقلق : 

- ليتنا أصلحنا بيوتنا ، بدل الوقت الذي أضعناه بالإحتفالات المسائيّة

- معك حق ، أخاف أن تنهار سقوفنا مع هبوب العواصف الرعديّة

- حتى المال الذي كنّا نملكه ، صرفناه على النساء الرخيصات في المدينة ، بدل شراء المواشي والبذور التي من المفترض زراعتها في حقلٍ خاصٍ بنا !

- ومالعمل الآن ؟!


جاك : دعونا نعود للمستنقع ، لربما يعطينا ما نتمنّاه

- وهل تظنه فانوساً سحريّاً ؟

جاك : حين جرّبناه ، كان همّنا الوحيد هو الشفاء من إعاقتنا دون طلبنا لشيءٍ آخر

- إن كان كلامك صحيحاً ، فسأطلب هذه المرة الكثير من المال

- وانا سأطلب زوجةً حسناء ، أنجب منها الكثير من الأولاد

- وانا اريد كسب مهارات جديدة تساعدني بإيجاد عملٍ مرموق في المدينة  

جاك بحماس : اذاً ماذا ننتظر ؟ لنذهب فوراً للبركة قبل تجمّدها من البرد

***


وتوغّلوا الى وسط الغابة .. وقفزوا معاً في المستنقع الصغير النتن وهم يرفعون اصواتهم ، طالبين أمانيٍ خياليّة !


وحين خرجوا من البركة ، إنصدموا بعودة إعاقاتهم القديمة وتشوّهاتهم الجسديّة والنفسيّة بعد دويّ الصراخ والإنفجارات في أذانهم من جديد !

جاك وهو ينظر بصدمة الى قدميه المقطوعتين : 

- لا ! لا اريد ذلك 


وعادوا للقفز في المستنقع ، وهم يرفعون ايديهم بالدعاء : 

جاك باكياً : يارب !! لا اريد المال ولا النساء ، فقط أعدّ قدمايّ ارجوك!! 


وظلّوا يسبحون في البركة ، حتى حلول المساء .. وبعد أن دبّ فيهم اليأس ، خرجوا منها قبل تجمّدهم من البرد .. وهم يساندون بعضهم للعودة الى اكواخهم المتهالكة .. 

***


بعد حملهم جاك ووضعه فوق كرسيه المتحرّك الموجود في كوخه ، اسرع بتحريك عجلاتها باتجاه القرية .. 

ليقف في الساحة وهو يطلب منهم المساعدة ببطانيات لأصدقائه ، وبعض الطعام بعد نفاذ مخزونهم من الصيد 


لكن اهالي القرية ورغم استغرابهم من عودة إعاقة جاك ! وتشوّهات زملائه الجنود (حسب روايته) لم يكترثوا هذه المرة لمساعدتهم ، بعد ظهور طبائعهم السيئة بالتعامل معهم في الشهور الثلاثة الماضية .. بل أكملوا طريقهم الى بيوتهم الدافئة وهم يقولون:

- اعطاكم الله فرصة جديدة للحياة ، لكنكم أفسدتموها بنكرانكم الجميل  .. فلا تلوموا إلا انفسكم !! 

العجوز : طالما تجاوزتم المعارك بمفردكم ، ستتجاوزون برد الشتاء دون مساعدتنا


فعاد جاك الى رفاقه يائساً ، لإخبارهم بتخلّي اهالي القرية عن مساعدتهم ومدّ العون لهم !  

***


في عمق الغابة .. خرج الشيطان من المستنقع وهو يقول بفخر :

- اظن سيدي سيكافئني على خطتي ماكرة ، بعد توكيلي الجن بتلبّس أجسام المعاقين في الشهور الماضية ، وإيهامهم بعودة اطرافهم المقطوعة ، وسحر عيون المشوّهين لتجميل وجوههم .. بينما أكمل الجنود الأغبياء تنفيذ خطتي بغرورهم وغطرستهم التي أخسرتهم شفقة المجتمع عليهم.. أعتقد فكرتي العبقريّة ستُسعد جدي ابليس وسيرفع رتبتي بين الشياطين  


واختفى الشيطان مع مستنقعه السحريّ ، تاركاً المعاقين يندبون حظّهم ويلومون انفسهم على نكرانهم الجميل الذي جعلهم منبوذين لدى اهالي قريتهم الذين فقدوا ثقتهم بهم للأبد ! 


هناك 7 تعليقات:

  1. بشار سليمان5 يونيو 2022 في 11:16 م

    رااااااااااائعة
    سلمت أناملك

    ردحذف
  2. لافيكيا سنيورا

    ان قلت لك رائعه قليل بحقك لذالك اقول انتي إم الروائع ..وان قلت لك مبدعه كمان قليل بحقك لذلك انتي ام الابداااااااع




    احم احم احم في البدايه لم التفت للعنوان تحت الصوره نكران الجميل ولما اكملت قراءة القصه قلت في نفسي مابالها اختي امل المفروض كانت تكبتب عنوان القصه نكران الجميل . وتخيلت نفسي ذاك الكاتب المثقف المخضرم الذي يلبس بدلة ذات ربطة عنق والذي تجاوزت مبيعات كتبه مئات الملايين من النسخ واردت ان اكتب لك رأيي بشان العنوان ولكني رجعت للبدايه واتاكد من العنوان فقلت الحمدلله لم اتسرع واكتب ملاحظتي ههههههههههههههههههههه

    القصد اختي امل ان الشيطان اللي ذكرتيه بالقصه هو نفس الشيطان اللي اراد ان يظهر غبائي لك ويجعلني اضهر امامك بالكاتب الغبي ..المهم اني ألفت الانضار نحوي سواء مثقف او غبي كلها شهره. هههههه

    في المره القادمه ساقرأ المعوذات قبل ان اقرأ قصصك عشان مايأثرون عليا الشياطين. ويضهرون غبائي لك .

    لافيكيا سنيورا

    ردحذف
    الردود
    1. بالطبع انا احترم المعاقين وهم برأيّ اصحاب الهممّ القوية ، لكني وصفت الجنود بقصتي بالمعاقين لأن لديهم إعاقة بردّة الفعل والتصرّف اتجاه من احسنوا لهم ..سعيدة ان القصة اعجبتك

      حذف
  3. سلام امل ❤️ أتدرين؟ صدقا انا لا تستطيع القراءة لاي كاتب غيرك انا عندما اهم بقراءة قصة عند كاتب اخر اجد نفسي ابحث عنكي فيه ..القصة ابداع واضح و مبطن كذلك دمتي سالمة ♥️ و من فضلك إذا تعرفي كاتب عندو من اسلوبك شيء دليني عليه و شكرا لكي انتي فعلا الافضل ما شاء الله 🤍🤍

    ردحذف
    الردود
    1. اولاً أشكر مدحك اللطيف ، وأتمنى ان اكون دائماً عند حسن ظنك .. كان هناك كتاب رائعين في موقع كابوس ، اذكر محمد فيوري من مصر ، وسيبا من سوريا وآلين سليمان من السعودية .. وعدد كبير من الكتّاب الموهوبين بقسم ادب الرعب بموقع كابوس .. تحياتي لك

      حذف
  4. اكيد انا اصلا تعرفت عليك من موقع كابوس افضل موقع 🤍 اكيد هذا مش مدح و مش مجاملة صدقيني انتي افضل بكثير شكرا لكي دمتي متألقة

    ردحذف
    الردود
    1. تعليقك أسعدني للغاية ، شكراً لك .. أتمنى أن اكون دائماً عند حسن ظنّك وظنّ القرّاء بي .. تحياتي لك

      حذف

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...