الأربعاء، 20 أكتوبر 2021

الصراط المستقيم

تأليف : امل شانوحة 

حساب الآخرة


اسفل العمارة .. وجد وليد جاره يبيع اثاثه قبل سفره ، ومن بينها نظّارةً شمسيّة فخمة.. 

فسأل جاره عن سعرها ، فأجابه :

- هذه ليست نظّارتي !

وليد : لكني وجدتها فوق الكرسي المعروض للبيع 

فسأل الجار الناس : هل نسيّ أحدكم نظّارته ؟!!


فلم يجبه أحد ، فقال لوليد :

- خذها إن أعجبتك  

- اذاً سأدفع لك ، طالما لم نجد صاحبها

فطلب الجار مبلغاً زهيداً .. وفرح وليد بالصفقة الرابحة 

***


في نهاية الإسبوع ، قرّر وليد التنزّه على الكورنيش في وقت الظهيرة .. وكانت أشعة الشمس حارقة ، فوضع نظّارته الشمسيّة الجديدة التي لم يجرّبها في اليومين الفائتين .. 


وخلال إستمتاعه بمنظر البحر ، طلب رجلٌ تصويره مع زوجته ..

وقبل ضغط وليد زرّ الكاميرا ، شاهد شيئاً أفزعه !


فخلف الزوجين وقفت امرأة على سور الكورنيش ، وهي منهارة بالبكاء.. فعلم انها على وشك الإنتحار !


لكن ليس هذا ما أرعبه ، بل رؤيته لمخلوقين غريبين يقفان بجانبها:

احدهما اسود اللون ولديه قرون وذيلٌ طويلة ، وهو يهمس في أذنها مبتسماً .. يبدو انه الشيطان يحثّها على الإنتحار ! 

بينما وقف مخلوقٌ وسيم بجناحيه الأبيضين وهو يترجّاها أن لا تفعل ، كأنه ملاكها الحارس !


وبعد ثواني ، صرخ الناس بعد رؤيتها تقفز باتجاه صخور البحر المسنّنة !

وكادت الكاميرا تسقط من يد وليد ، الذي أرجعها للزوجين وهو يعتذر عن عدم التقاطه الصورة .. وابتعد سريعاً عن المكان 

*** 


عاد وليد الى سيارته وهو يشعر بالغثيان .. 

واثناء القيادة .. حاول إزالة النظّارة التي التصقت بقوة ، كأنها جزءٌ من وجهه ! 

ورغم غرابة الموضوع ، لكنه تابع السير بعد إطلاق السيارات خلفه أبواقها المزعجة ..

***


وحاول السيطرة على اعصابه ، الى أن توقف بجانب مطعم ..

ودخل ليطلب من النادل قارورة ماء ، وهو يتصبّب عرقاً ..

وبعد جلوسه على الطاولة .. حاول مجدّداً إزالة النظّارة ، لكن دون فائدة !


وحين إلتفت الى الزبائن ، رأى شيئاً أرعب كيانه ..

فمعظمهم خرج من جسمهم الدخّان الأسود ! ماعدا إثنين تطاير من أذرعتهم الورود العطرة ، التي استطاع شمّها رغم بعده عنهما 


وحين وصل صاحب المطعم ، رأى النار تشتعل في يديه .. 

فجاءت ردّة فعله سريعة ، حيث أفرغ قارورة الماء على المدير الذي استشاط غضباً ، وطرده من مطعمه بعد أن بللّ وليد ملابسه !


وبعد خروجه من المطعم ، أدرك بأن النظّارة توضّح اشياء لا يراها أحدٌ سواه .. لكنه لم يجد تفسيراً لذلك !  

وابتعد بسيارته للهروب من نظرات الزبائن المتفاجئين من تصرّفه الغير منطقي! 

***


في المنزل .. وفور مروره بجانب مرآة الصالة ، صرخ فزعاً بعد رؤية ذراعه وفمه يحترقان !

فلم يعدّ يطيق النظّارة التي تريه اشياء مُفزعة .. وحاول بكل قوته إزالتها ، لكنه توقّف بعد شعوره بألمٍ شديد 


وفي غمرة حيرته ، رنّ جرس شقته ..

ليجد جاره يدعوه لحفل زواج ابنه .. وذُهل وليد من كميّة الورود العطرة التي تخرج من جسم العجوز ! 

فسحب يده للداخل ، ليعزمه على كأس شاي .. 


وبعد جلوسهما في الصالة ، سأله العجوز :

- هل عيناك تؤلمانك ؟

وليد : آه ! تقصد النظّارة ؟

- نعم

فاضطّر وليد للكذب : 

- نعم ، أمرني الطبيب أن أحميهما من النور هذه الفترة  

- مُعافى سيد وليد

- سلمت .. (ثم سكت قليلاً) .. أعرف إن سؤالي غريب ، لكن هل بإمكانك إخباري بأعمالك الصالحة ، فأنا اراك من اهل الجنة

العجوز مبتسماً : نحن وإياكم ان شاء الله .. انا فقط أقوم بما أمرني به ديني من صلاةٍ وصوم..

وليد مقاطعاً : لا ، أعني فعلٌ صالح بينك وبين الله ؟ 


فسكت العجوز مطوّلاً ، قبل أن يقول :

- سترت على فتاةٍ من الريف

- ماذا تقصد ؟

العجوز : كنت مزارعاً في شبابي .. وفي فترة الحصاد ، وجدت فتاةً تبكي بين الأحراش .. فسألتها عن سبب حزنها .. فأخبرتني الحقيقة لشدّة إحباطها .. فهي تركت قريتها مع بزوغ الفجر للحاق بحبيبها الذي سافر الى المدينة بعد علمه بحملها ، فهربت خوفاً من عقاب أهلها إن عرفوا بذنبها.. فطلبتُ منها العودة الى قريتها ، ونسيان ذلك النذل ..ووعدّتها بالقدوم مع عائلتي لخطبتها في المساء 

- وهل فعلت ؟

- نعم ، رغم اعتراض اهلي على تسرّعي بالزواج 

- وهل هي زوجتك الحالية ؟


فضحك العجوز : لوّ سمعتك زوجتي لضربتك .. لا ، كنت أحدّثك عن طليقتي 

- ولما طلّقتها ؟ هل خانتك ؟

- معاذ الله ، هي فتاةٌ طيبة وبسيطة .. لكنها أصرّت على الطلاق بعد موت جنينها بقدرٍ من الله .. فنفّذت طلبها ، وسافرت الى هنا 

وليد : وماذا حصل لطليقتك ؟

- تزوجت ثانيةً من قريتها ، ولديها الآن ثلاثة اولاد .. 

- ولم تُخبر زوجتك بها مطلقاً ؟!

العجوز : هي تعرف بطلاقي ، لكني لم أخبر أحداً بسرّ الفتاة .. وأريدك أن تُبقي الموضوع بيننا 

- سرّك في بئر ، يا عمّ .. بارك الله فيك


وخرج الجار من عنده ، بعد تأكيد وليد له بحضور العرس في اليوم التالي

***


بعد ساعة .. تجوّل وليد في السوق لشراء ملابس جديدة لحضور المناسبة (والنظّارة الغريبة مازالت مُلصقة في وجهه !).. 


وبعد تبضّعه ، ذهب للسوبرماركت لشراء حاجيات منزله .. 

ووقفت قبله : امرأة ورجل في انتظار حساب مشترياتهما .. فلاحظ وليد إرتباك المرأة بعد معرفتها بثمن الأغراض .. 

فأسرع الرجل الذي خلفها برميّ ورقة نقدية امام قدميها ، وإخبارها أنها وقعت من حقيبتها .. فدفعت الحساب بعد تنفّسها الصعداء 

***


في موقف السوبرماركت .. شاهد وليد الورود تتطاير من ذراع الرجل الذي كان منشغلاً بوضع اغراضه في السيارة .. 

فاقترب منه ليسأله : 

- عفواً استاذ ..رأيت ما فعلته في الداخل ، فلما أعطيتها المال ؟

الرجل مبتسماً : عادةً ما أساعد المحتاجين بهذه الطريقة ، كيّ لا يشعروا بالإحراج .. فالصدقات هي أفضل الأعمال التي تقرّبك من الله .. فالآية تقول :((وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ)).. وهذا يدلّ على أهميّة الصدقة يوم القيامة 

 

فشكره وليد بعد إيجاده الحلّ لإطفاء لهيب ذراعه ، وهي الإكثار من الصدقات 

***


قبل وصول وليد الى منزله .. مرّ بجانب مقبرة ، تشاجر امام بوّابتها اهل الميت والحارس الذي رفض دفن والدهم المتوفي ، لعدم دفعهم رسوم القبر 


فاقترب وليد منهم ، ليسمع الحارس يقول :

- لن أدخل الجثمان قبل دفعكم 300 دولار مقدّماً

فردّ الإبن باكياً : أخبرتك اننا فقراء ، ولا نملك شيئاً .. فأين ندفنه ؟

- انا موظفٌ هنا ، وسأطرد إن أعطيتكم قبراً مجّانيّ .. كما إن الشمس على وشك المغيب ، وعليّ إقفال المقبرة بعد قليل


فوضع وليد المبلغ المطلوب بيد الحارس وهو يقول :

- إدفنه على حسابي


فكبّر الناس فرحين بشهامة وليد ، وحضنه ابن الميت وهو يشكره على كرمه وعطفه .. 

فابتعد وليد بسيارته ، خوفاً من الرياء الذي يُبطل الصدقات ..

***


بعد وصول وليد الى منزله .. وقف بجانب المرآة ، ليلاحظ إختفاء النار من ذراعه التي ظهرت فيها براعم زهورٍ صغيرة ! 

فعلم إن عليه التصدّق اكثر ، للنجاة من عذاب الجحيم .. 


لكن فرحته لم تكتمل لاستمرار خروج النار من فمه ، دون معرفته السبب! 

***


نام وليد تلك الليلة ، والنظّارة مُثبّتة فوق عينيه ! 

وفي عصر اليوم التالي ، جهّز نفسه لحضور عرس ابن جاره ..


وبعد جلوسه في القاعة ، عادت نظّارته الغريبة بإظهار صورٍ مخيفة ! حيث تصاعد الدخان من اجسام بعض المعازيم ، بينما اشتعلت النيران بأطراف المعازيم الأخرى .. ولم ينجو منهم سوى خمسة اشخاص ، فاحت منهم الرائحة العطرة التي لم يشتمّها أحد سوى وليد .. 


وبعد تجمّع الشباب للرقص مع العروسين .. فُتح شقٌّ عميق وسط الصالة ، ليقع فيه بعض المعازيم ! 

ولأن اهاليهم تابعوا التصفيق والزغاريد ، عرف وليد انه الوحيد الذي رأى ذلك ! لكن هذه المرة ظهرت عبارةٌ مكتوبة على الزجاج الداخليّ للنظّارة ، لتوضيح ما حصل : 

((هذا وادي الغيّ في جهنم ، يُقذف به متتبعين الشهوات))


فعلم وليد انه شاهد عقابهم يوم القيامة ! ورغم حزنه على مصيرهم ، لكن ليس بإمكانه فعل شيء سوى متابعة الحفلة بصمت


وحين سمع ضحكات نساءٍ خلفه ، إلتفت الى طاولتهن ليرى أظفارهنّ من نُحاسٍ ، يخْمِشون فيها وجوهَهن وصدورَهن ! 


وظهرت جملة على نظّارته : 

((هنّ يأكلن لحوم الناس ، وكذلك يفعل الرجال بجانبك)) 


فنظر لطاولة عليها 5 رجال يأكلون جيفة عفنة بنهمٍ شديد ! 

فعلم انهم ايضاً يغتابون المتواجدين في الحفل 


وفجأة ! تبدّلت الأطعمة على الطاولات ، الى أكلٍ نتنٍ وحار .. 

وقرأ المكتوب على النظّارة :

((طعامهم يومئذٍ الزقّوم والضريع والغسّلين ، وشرابهم الحميم والغسّاق والمهل والصديد الذي سيعتادون على طعمه في جهنم .. وسيتفاوت مرارته على حسب ذنوبهم))

فنظر وليد الى طعامه ، فوجده كما هو .. فشكر الله انه ليس منهم .. 


ثم التفتت لمن يظنّهم من اهل الجنة ، فوجدهم يأكلون اكلاً فاخراً غير متواجد بالحفلة ! فتمنى أن يجمعه الله بهم في جنات النعيم


ثم أخذ يتجوّل في القاعة .. ليرتعب بوجود نهرٍ من نار على مقربة من كوشة العريسين ، بداخلها رجلٌ كبير يَسبَحُ ويُلقَمُ الحِجارةَ .. ليظهر ذنبه على النظّارة : (هذا مدير بنك ، وهو آكِلُ الرِّبا)


بهذه الأثناء ..دخل رجلان مهمّان القاعة ، فأسرع اهل العريس لاستقبالهما ..وكان وليد الوحيد الذي رآهما بهئيةٍ مختلفة

فأحدهما هو خطيب منبر ، والكلّ يحترمه .. ومع هذا رأى وليد شفاه تُقرَضُ بمَقاريضَ مِن نارٍ.. فعلم انه يحدّث الناس بما لا يلتزم به في نفسه ومع اهله !


اما الثاني فتاجرٌ مشهور بكرمه وأعماله الخيّرة ، ومع ذلك رآه يسحب على وجهه حتى رُميّ في النار ! فعلم إن الرياء أصاب أفعاله


اما النادل المراهق فرآه يمشي بصعوبة .. وحين نظر لقدميه ، وجده يلبس نعالاً من نار يغلي بها دماغه ! 

وكُتب داخل النظارة : 

(هذا أهون عذاب اهل النار !)


فضاق صدر وليد بما رآه ، وسلّم على جاره بعد مباركته للعريسين .. وحين همّ بالخروج من القاعة ، دخل معازيم جدّد جميعهم مُقرنين في الأصفاد وسرابيلهم من قطران ، وتشتعل نواصيهم بالنيران !


فأسرع عائداً الى منزله ، وهو يدعو الله أن يهديهم جميعاً قبل فوات الآوان 

***


في المنزل ، شعر وليد بإحباطٍ شديد لاستمرار خروج النار من فمه ! مما يعني انه نطق بشيءٍ سيء ، سيُعاقب عليه يوم القيامة 


فأمضى ليلته باسترجاع الماضي : وهل قال شهادة زور ، او كذب على احدهم ، او أذى شخصاً بكلمةٍ لاذعة ؟

وظلّ يفكّر ، الى أن غفى من شدّة الإرهاق ..


في المنام : ((شاهد يوم القيامة ، والملاك ينادي بين الناس :

- فيلتقي المتخاصمون !!

فأوقفوه في مواجهة مع فتاةٍ بدينة ، طالبت عقابه لأذيّته مشاعرها 


ولم يسمع ما قالته للملاك الذي أعلن فوزها بالمحاكمة ! وطلب منها الحصول على حسناته ، إلى أن ترضى .. 

وبعد أن أخذتها جميعاً ، سألها الملاك :

- هل سامحت وليد ؟

فردّت غاضبة : ليس بعد !!

فأذِن لها بإضافة سيئاتها عليه ، حتى ترضى ..فأعطته جميع ذنوبها! 

ومن بعدها أوصلوها الى الجنة ، بينما نقلوه الى جهنم 

وقبل رميه في اللهب)) إستيقظ من كابوسه وهو يرتجف خوفاً ..


حينها فقط تذكّر زميلته البدينة في الجامعة ، التي راهن اصدقائه على إستمالة قلبها ..وبعد صداقة سنتين ، أخبرها يوم التخرّج : انه فاز بعلبتيّ دخان ، بعد إعترافها بحبها له .. وحين عاتبته ، أخبرها أنه لن يتزوج بفتاةٍ لا تهتم برشاقتها وجمالها .. وأكمل الحفل دون اكتراثه بدموعها


فعلم إن الله سيعاقبه على كلامه الجارح ، فقرّر البحث عنها للإعتذار منها 

***  


لم يجد وليد زميلته إلاّ بعد اسبوع من إتصالاتٍ متواصلة مع أصدقائه القدامى ، الذي أخبره أحدهم بعنوان عملها 


فذهب الى الشركة التجارية .. وفور دخوله مكتبها ، قالت بدهشة :

- وليد المغرور في مكتبي ، كيف حصل ذلك ؟!

- نوال ! تغيّرت كثيراً

- نعم خسرت وزني بعد عملية قصّ معدتي ، وعانيت بعدها من مشاكل صحيّة عديدة .. كلّه بسبب تعليقك السخيف يوم التخرّج ، هل تذكره ؟

- انا آسف

نوال بلؤم : واين أصرف إعتذارك هذا ؟ 

- خذي حقك مني في الدنيا دون الآخرة ، رجاءً 

فقالت ساخرة : هل انصلح حالك أخيراً ؟ او عاقبك الله بمرضٍ في عينيك ، تخفيه بنظّارتك الغريبة ؟  

وليد : لا اريد الجدال معك ، أتيت للإعتذار عن تعليقي الساخر الذي جرح شعورك


نوال بحزن : وماذا عن طلاقي مرتين ؟

- أكان بسببي ؟! 

نوال : لا تسرح بخيالك ، لم يكن عشقاً لك ايها المغرور !! بل لفقداني الثقة بالحب بعد بيعك قلبي بعلبتيّ دخان ، وإشعاري بتفاهة مشاعري في نظرك !

- ارجوك سامحيني ، سأفعل أيّ شيء لإرضائك

- ولما تترجّاني يا وليد ؟ قلّ الحقيقة وإيّاك الكذب !! 

فتنهّد بضيق : كابوسٌ مفزع ، رأيت فيه عقابي يوم القيامة.. لهذا لن أخرج من هنا قبل أن تسامحيني

نوال بلؤم : بصراحة .. لا أشعر برغبة لغفران ذنبك  

- نوال رجاءً !

- وداعاً وليد ، فورائي عملٌ كثير


فخرج حزيناً من مكتبها ، بعد شعوره بالجرح العميق الذي تسبّبه لقلبها 

*** 


في الأيام التالية.. لاحق وليد جميع الأشخاص الذي رآهم بنظّارته : أنهم من اهل الجنة .. وسألهم عن السرّ بينهم وبين الله ، وحاول تقليدهم قدر المستطاع : وكان أحدهم يهتم كثيراً بالنظافة قدوةً بالرسول ، والثاني مُرضي الوالدين ، والثالث تاجرٌ أمين يرخّص الأسعار لزبائنه الفقراء دون إشعارهم بذلك .. 


وفي الوقت ذاته حاول وليد الإكثار من الصدقات ، لعلّ الله يغفر ذنبه اتجاه نوال التي ترفض مسامحته : ففتح ماء سبيل في حيٍّ فقير ، وتبرّع لدار ايتام ، وتطوّع يومين في الإسبوع بدار العجزة .. 


ورغم كل هذا لم تُطفىء اعماله الخيّرة لهيب فمه (حسب النظّارة) وإن كانت ذراعه ازدادت نوراً ، وفاحت منها رائحة الورود الزكيّة .. فعلم انه لن يهرب من عقاب الآخرة ، طالما نوال لم تغفر ذنبه بعد !

*** 


في الإسبوعين التاليين .. لاحق وليد نوال في كل مكان ، وهو يغدق عليها الهدايا وكلمات المديح .. الى أن صرخت في وجهه في النادي:

- أتبعتني الى هنا ايضاً !!

وليد بإصرار : لن اتركك قبل أن تسامحيني 

- كل هذا لأجل كابوس !

- لوّ حلمتِ به ، لعذرتي خوفي 

- حسناً أرني عينيك

وليد بدهشة : ماذا !

- اريد معرفة إن كنت صادقاً هذه المرة ام لا

- لا استطيع إزالة النظّارة

نوال : إنارة النادي خفيفة ولن تؤذي عينيك ، كما حذّرك الطبيب

- صدّقيني انا انام واستحمّ بالنظّارة

- أزلها يا وليد ، أريد رؤية عينيك..


وحاولت إزالة نظّارته بالقوة ، لكنها لم تستطيع !

نوال : هل ألصقتها بوجهك ؟!

- ربما حين تسامحيني ، تُزال من تلقاء نفسها

- أهذا لغز ؟!

وليد : فقط جرّبي 

- حسناً ، سامحتك يا وليد.. هيا حاول من جديد 

لكنه لم يستطع إزالة نظّارته !

وليد : نوال رجاءً ، قوليها وانت تعنين ذلك 


فسكتت قليلاً ، قبل أن تقول :

- أتدري لما أحببتك في الماضي ؟ لأنك الوحيد لم تسخر من وزني الزائد .. لهذا انصدمت من تعليقك القاسي يوم التخرّج ! والآن بعد مرور سنوات على تلك الحادثة .. أرى إنك كنت شاباً يافعاً ، وطبيعي أن تتصرّف بطيش لإرضاء رفاقك

وليد : وماذا عن لومي بفشل زيجاتك السابقة ؟

- صحيح انه بسببك لم أفتح قلبي لهما ، لكنه قدري بنهاية الأمر ولا اعتراض على حكم الله


وليد : أهذا يعني انك سامحتني يا نوال ؟

فابتسمت قائلة : بعد كل تلك الهدايا الجميلة ، أسامحك طبعاً

وليد : إبتسامتك رائعة .. لا تدعي احداً يحرمك منها ، ولا حتى انا

نوال : شكراً لإطرائك ، يمكنك العودة الى حياتك .. فلا أظنك سترى الكابوس ذاته بعد اليوم 


فشكرها وعاد الى سيارته .. واثناء تعيدله مرآته الأماميّة ، لاحظ إختفاء النار من فمه ! مما أراحه كثيراً بعد حلّه اللغز الصعب.. 

ليس هذا فحسب ، بل استطاع إزالة النظّارة بسهولة دون تركها أثراً على وجهه ، رغم إلتصاقها به لأكثر من شهر !  


فوضعها خلف مقوّده ، وأدار المحرّك للعودة الى منزله بعد انتهاء الأزمة 

***  


في الطريق .. توقف خلف عشرات السيارت المزدحمة حول حادثٍ مروريّ .. فنزل وليد على عجل لرؤية ما حصل ، ناسياً قفل باب سيارته


بهذه الأثناء .. إقترب رجلٌ غامض بعباءته البيضاء ، لسرقة النظّارة بخفّةٍ ودهاء .. واختفى بين الجموع ! 


وبعد عودة وليد الى سيارته ، لم يجد النظّارة في أيّ مكان .. فقال في نفسه :

(لربما اختفت بعد أن إهتديتُ بسببها الى الصراط المستقيم !)

وحمد ربه ، وأكمل طريقه سعيداً بنجاته من عذاب الجحيم

***


بمكانٍ آخر ، وفي صالة لبيع الأثاث المستخدم .. دخل الرجل الغامض بين المشتريين الذين تجمّعوا حول مزادٍ لغرفة نومٍ مستعملة .. ووضع النظّارة في درج الخزانة ، دون أن يراه احد ..ثم خرج بهدوء من هناك

***


في السماء السابعة ..إجتمع الملاك مع الرجل الغامض الذي عاد لهيئته الحقيقة بعد خروج جناحيه المضيئين قائلاً :

- أتمنى أن تهدي نظّارتي ، العريس الذي اشترى غرفة النوم المستعملة

الملاك الثاني : ما كان عليك التورّط بالموضوع ، فالبشر عليهم هداية أنفسهم دون تدخلٍ منا .. 

- ساعدتُ فقط مئة رجل يشبهون وليد في طيبة قلبهم ، وأبعدتهم فتن الحياة عن الصراط المستقيم ..اما العصاة المتفاخرون بذنوبهم ، فلا يهمّني أمرهم

- هل برأيك سيتوقف العريس عن مواعدة الفتيات على الإنترنت بعد استقراره مع زوجته ؟ وهل سيفكّ لغز النظّارة كما فعل وليد ؟

- سنراقبه ونرى 


ونظرا من خلال الغيوم الى العريس الذي كان سعيداً مع زوجته بتجهيز منزلهما الجديد ، دون اكتراثه بخيبة امل عشرات الفتيات اللآتي وعدهن بالزواج عبر الإنترنت .. لكنه سيتعلّم خطأه قريباً 


******

ملاحظة :

انواع العذاب المذكورة في القصة ، هو ما رآه الرسول محمد عليه السلام برحلة الإسراء والمعراج .. اما الحديث المشهور عن عذاب النساء في جهنم ، فهو حديثٌ موضوع وغير صحيح 

## 

تخيلوا لوّ بإمكاننا رؤية ما ينتظرنا من عقاب يوم القيامة ، أمرٌ مرعبٌ بالفعل ! لكنه حتماً سيهدي الكثيرين منا ، اليس كذلك ؟ 


هناك 13 تعليقًا:

  1. اهلا أخت أمل تحية طيبة لقلبك الطيب وسلام الله عليك في الدنيا والأخرى
    كنت ابحث عن قصة جاكلين والمتشرد فقد اشتقت لتلك القصة التي لم تفارق ذهني منذ سنوات لأني كنت من متابعيك الاوائل فأردت أن اتذكر أيام الدراسة تلك الايام الجميلة التي كنت اقضي بعضا من اوقاتها في التنزه في مدونتك الجميلة فكانت انيس وحدتي حينما كنت بعيدا عن الوطن
    فكل يوم تبهرينا بقصصك الممتعة و بإفكارك الرائعة
    التي لها اهداف سامية لاتخلو من العبرة والموعظة من اين تأتين بهذه الافكار الرائعة هذا الهام الهي سبحان الله فأسأل من الله تعالى أن يجعل ذلك في ميزان حسناتك فلله درك ود من رباك وعلمك عشتي وعاشت النساء من أمثالك يابنة الكرام

    ردحذف
    الردود
    1. قصة جاكلين اسمها : المشرّد الشهم ..الرابط :
      https://www.lonlywriter.com/2020/05/blog-post.html

      وشكراً لدعائك الجميل ، اتمنى ان تعجبك قصصي دائماً

      حذف
  2. احسنتي ياكنز الابداع قصة هادفة انزلت الدمع من عيني وحركت مشاعر التوبة داخلي وكم تمنيت ان يهب لي الله نعمة البصيرة

    ردحذف
  3. خيال عميق وخصب... وقصه محزنه... نسأل الله السلامه والعفو ... هذه قصه تقض المضجع وتجعل المرء يقف ليتأمل خوفا أي مصيرا ينتظر... فليت شعري كيف يضحك من يعلم بوجود النار ... وما أبريء نفسي ...علمت أن مالك خازن النار وصاحبها حين خلق الله النار لم يعد يضحك بشرا ولا رؤي متبسما حتى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ...وحين يسأله أهل النار يوم القيامه ( ونادوا يامالك ليقض علينا ربك ) فإنه سيصمت 30 مليون سنه قبل أن ينظر إليهم لحظا مجيبا إياهم ( إنكم ماكثون )

    ردحذف
  4. برافو عليك اعجبني اسلوبك كيف دمجتي نصائحك بقصه......ولكني اختلف معك بشان سالفة وليد حينما جرح مشاعر البنت....اقصد لقد بالغتي بعقوبته او الحديث المبالغ عن اي اسائه لشخص....هل معقول ان شخص صلى وصام وتصدق وفعل الكثير من اعمال الخير ثم بسبب ذنب صغير يدخل النار ....لالالا لم استوعب هذه النهايه الظالمه للشخص المسيئ....اذنب حينما اساء لها ...مثلا سيبتليه الله بالسمنه او يعطيه الله ابناء سمينين او ستأخذ البنت من حسناته يوم العرض....ولكن لدرجة انه سوف تأخذ كل حسناته بسبب هذا الذنب فهذا ليس عدل بل ظلم للشخص.......ومن اسماء الله العدل ....اقصد الحديث مبالغ فيه جدا جدا......ولو انه كما قلتي او كما قال الحديث الذي روي عن الرسول....فهذا يعني اننا جميعا إلى النار فكم اسأنا لاشخاص سواء ونحن نعلم ام لا نعلم .....واريد اذكرك قول الرسول صلى الله عليه واله وسلم قال لاصحابه اتدرون من المفلس من امتي قالو المفلس من لا يملك دينار او درهم فقال الرسول لا المفلس من امتي يأتي يوم القيامه بجبال حسنات ولكنه سب هذا وشتم هذا واخذ حق هذا فيأتي كل شخص ياخذ من حسناته حتا يلقى في النار ....والحديث واظح ...اما انه سيلقى بالنار بسبب انه اساء لشخص واحد فقط فهذا ظلم كبير للشخص نفسه.....فكم من احاديث مكذوبه او مبالغ فيها يتم تداولها ....هذي وجهة نضري وتحياااتي ...

    ردحذف
    الردود
    1. إعتمدت في قصتي على حديثين صحيحين ، الأول :

      قال رجلٌ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن كَثرةِ صَلاتِها وصَدقَتِها وصيامِها، غيرَ أنَّها تُؤذي جيرانَها بِلِسانِها؟ قال: هيَ في النَّارِ، قال: يا رَسولَ اللهِ، فإنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن قِلَّةِ صيامِها وصَدقَتِها وصَلاتِها، وإنَّها تَتَصدَّقُ بالأَثوارِ مِن الأَقِطِ، وَلا تُؤذي جيرانَها بِلسانِها؟ قال: هيَ في الجنَّةِ.

      والحديث الثاني : عن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَنْ كَانتْ عِنْدَه مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ فَلْيتَحَلَّلْه ِمِنْه الْيَوْمَ قَبْلَ أَلَّا يكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمتِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سيِّئَاتِ صاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ

      الله يغفر جميع الذنوب الدينية ماعدا الشرك به ، لكن ذنوبنا مع البشر فمتوقفة على رضاهم عنا ومسامحتهم لنا .. وانت ذكرت حديث المفلس الذي يوضّح طريقة محاكمتنا يوم القيامة عن اذية غيرنا ..

      أريد إخبارك عن شخص من معارفي من اهل الدين والتقوى ، لكنه كان قاسياً مع زوجته .. رأيته في المنام الشهر الفائت : بأنه ذاهب الى الجنة بعد حسابه لسنةٍ كاملة عن ذنبه مع زوجته !

      طبعاً لم اخبر عائلته بالمنام .. لكن هذا يوضّح انه رغم صلاحنا ، سيعاقبنا الله على أذيّة عباده حتى لوّ كان من اقاربنا ..وهذا هو العدل بحدّ ذاته .. تحياتي لك

      حذف
    2. نسيت ان اقول .. لا يعني دخولنا النار لأذية غيرنا إننا سنخلّد في جهنم ، لكننا سنعاقب فترة عن هذا الذنب .. لأنه بعد مدة من العقاب ، يُخرج الله من جهنم كل من في قلبه ذرّة ايمانٍ به.. لكن الأفضل ان نراعي حقوق ومشاعر غيرنا كي لا ندخل لجهنم اصلاً .. وان شاء الله يبعد الله اذى النار عنا في الدنيا والآخرة ، اللهم آمين

      حذف
  5. تخيلو لو كان بإمكاننا رؤية ماينتظرنا من عقاب يوم القيامه.....نحن نرا ان من يعمل الخير ويتبع شرع الله سيدخل الجنه وعكس ذالك ........مثلما نحن المسلمين مؤمنين اننا علا الحق ..كذالك المسيحيين يرون انهم علا الحق ...وكذالك اليهود واصحاب الديانات الاخرا

    ردحذف
  6. القصة جميلة أعجبني كلام نوال حينما أرادت أن تري عينيه لتعلم إذا كان صادقاً في إعتذاره أم للا فأنا شخصياً لتصديق شخص ما يجب أن أري ذلك في عينيه ويكون هو صادقاً بحق ليظهر صدقه في عينيه، اما عن العذاب فعلاً أعتقد أن مهما كان الخير الذي نفعله في الدنيا فإننا حتماً قد فعلنا شئ مؤذ لمشاعر الأخرين سواء بعلمنا أو بدون قصد، أستفر الله لي ولكم من كل ذنب تبنا إليك منه ثم عدنا فيه أو ذنب فعلناه ونحن لا نقصد أو نقصد وذنب لا نستغفرك منه إنك أنت الغفور الرحيم،
    لعل الله يغفر لنا ولكم ويرحمنا من عذاب يوم لا ينفع فيه الأهل ولا الأصحاب

    ردحذف
  7. قرأت فيما مضى قبل سنوات قصة لفتاة تدعى جاكلين ومتشرد بداية القصة هي ان سائت الاحوال الجوية سبقها تحذيرات على النشرة الجوية وهبت عاصفة شديدة جاكلين كانت تبحث عن قطتها لادخالها قبل هبوب الإعصار اما المتشرد فكان ينوي أن يساعدها في ادخال القطة بعدها بدأت القصة الجميلة من أروع ما قرأت لو سمحتي أخت أمل ما عنوان القصة سألتك مسبقا واعطيتني عنوان المتشرد الشهم وهي ليست نفس القصة وهي جديدة اما قصة جاكلين والمتشرد قرأتها قبل سنوات ارجو ان تذكرولي عنوان القصة ودمتم في أمان الله وحفظة

    ردحذف
    الردود
    1. لأني استخدمت اسم جاكلين كثيراً بقصصي ، لم اعرف اي قصة تريد
      القصة اسمها : ارواح في مهبّ الريح
      https://www.lonlywriter.com/2017/12/blog-post_31.html

      حذف
  8. لماذا يا أخت أمل كلما احاول ان ارسل تعليقي يرفض من قبل قوقل وخاصة في القصتين الاخيريتين

    ردحذف
    الردود
    1. هذا التعليق الوحيد الذي وجدته عندي ، وقمت بنشره

      حذف

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...