الأربعاء، 19 مايو 2021

رحلة الأحلام

 تأليف : امل شانوحة

الراكب الوحيد


خرج جورج من شقته في الحيّ الفقير القريب من المطار ، قائلاً بحماس :

- أخيراً سأحقّق حلم طفولتي ، وأسافر لأوّل مرة في حياتي !! 


وحمل حقيبته الصغيرة التي بها بعض الملابس وجواز سفره ، متجّهاً لعمله في المطار ..


فهذا الشاب تمنّى دائماً أن يصبح طيّاراً ، بعد مراقبته آلاف الطائرات التي حلّقت وهبطت كل يوم ، من شرفة منزل اهله الذي ورثه بعد وفاتهم.. لكن لسوء أوضاعهم المادية ، لم يُكمل تعليمه ..

فتوظّف كعامل نظافة في المطار ..الاّ أن طموحه جعله يترقّى سريعاً في عمله ، بسبب نشاطه الذي لاحظه مدرائه في العمل ..


وهو اليوم ذاهباً لإستلام وظيفته الجديدة في ترتيب الحقائب داخل مخزن الطائرة .. ورغم انه لا يملك ثمن تذكرة السفر ، الا انه خطّط لهذه الرحلة بالذات للإنتقال الى بلدةٍ مجاورة ، لقضاء عطلة نهاية الأسبوع ..ثم العودة سريعاً الى وطنه (بذات الطريقة) كيّ لا يغيب عن عمله .. لكن عليه تنفيذ الخطّة بسرّية وحذر ، حتى لا يُسجن بسبب تهوّره ..  

***


في البداية انهمك مع زميله في ترتيب الحقائب داخل الطائرة ، التي كان بينها : قفصٌ حديديّ فيه كلبٌ بوليسيّ ، وتابوت لميت يُراد دفنه في مسقط رأسه !

ولم يبقى امامهما سوى ترتيب الحقائب الصغيرة .. فاستغلّ جورج نزول صديقه لإحضار حقيبةٍ علقت بالسلّم المتحرّك ، للصعود الى الطابق العلويّ للطائرة من خلال سلّمٍ صغير يصل المخزن بغرفةٍ خاصة لنوم المضيفين  


واختبأ هناك ، بعد إرساله رسالةً نصّية لصديقه : بأنه يعاني من مغصٍ شديد ، وأن عليه إنهاء العمل وحده .. 

فقام العامل الآخر بترتيب الحقائب الصغيرة ، قبل إقفاله مخزن الطائرة  وهو مُطمئن بأن جورج سبقه الى المطار ..

وجلس جورج في تلك الغرفة الصغيرة ، منتظراً بفارغ الصبر إقلاع الطائرة كما حلم دائماً ..

***


بعد ساعة ، بدأت الطائرة بالتحرّك أخيراً فوق المدرج .. قبل توقفها المفاجىء !

واستمع جورج الجالس أسفل الركّاب الى صريخهم من فوقه ، وهم يعترضون على توقّف الرحلة !

واستمرّ إرتباك الركّاب لفترة ، قبل سماعه صوتاً آخر قادماً من المخزن السفليّ ، دون معرفته حقيقة ما يحصل !

***


بمرور ساعةٍ أخرى .. إنتهى الضجيج تماماً ، وعمّ الهدوء المُقلق .. فنزل اولاً الى المخزن ، ليتفاجأ باختفاء الحقائب ونعش الميت والكلب ، كما حقيبة ملابسه الصغيرة التي دسّها بين أغراض المسافرين ! 

فصعد سريعاً الى فوق ، ليرى بأن الطائرة خالية من الركّاب .. فركض باتجاه قمرة القيادة ، ليجدها فارغة ايضاً ! 


والأسوء إن باب الطائرة مُغلقٌ بإحكام .. فراقب الوضع في الخارج من إحدى النوافذ : ليجد موظفي المدرّجات يشيرون لبقية الطيّارين بصفّ طائراتهم في أماكنها ، قبل عودتهم جميعاً الى المطار ! دون سماعهم لصرخات جورج وطرقاته العنيفة على النوافذ الجانبية للطائرة المحتجزّ بداخلها ..


ثم حاول تذكّر ما سمعه قبل إنزال ركّاب رحلته ، حيث صرخ أحدهم بغضب :

- ما ذنبنا أن تتوقف رحلتنا بسبب النتيجة الإيجابية لأحد المسافرين !!


ففهم جورج إن إدارة المطار تلقّت بلاغاً من المستشفى عن إصابة احد الركّاب بالكورونا .. فأسرع لقراءة صحيفة اليوم ، المتراصّة فوق طاولة الطعام التي لم تُفرّغ بعد من وجبات المسافرين .. وكان فيها :

((منظمة الصحّة العالمية تأمر جميع الدول بحظر رحلاتها الجويّة والبريّة والبحريّة ، وفرض الحجر العام للسكّان بعد انتشار جائحة كورونا وفقد السيطرة عليها))

وكانت هذه المرة الأولى التي تصدر فيها المنظمة أمراً بالحجر الصحّي العالميّ !


فتنهّد جورج بضيق :

- يالا سوء حظي ! أفي اول رحلةٍ لي يتوقف الطيران حول العالم .. ترى كم سيدوم الحجر ؟.. أكيد مجرّد ايام .. وحتماً سيأتي أحدهم لإفراغ الطائرة من الطعام قبل فساده .. حينها أُبلغ إدارتي إنني علقت في حمام الركّاب ، كيّ لا يطردوني .. حسناً لا داعي للهلع ، لأستمتع قليلاً بوجودي وحيداً هنا 

***


في البداية قام بتناول طعام الدرجة الأولى ، وتذوّق مشروباتها الغالية .. وهو يفتح الهدايا الخاصة للبيع .. 


ثم جلس في قمرة القيادة بعد لبسه معطف الطيّار وقبعته المتروكتان فوق المقعد ، وهو يشرب الشايّ الساخن اثناء تمثيله دور القبطان .. وأخذ يلعب بالأزرار المطفأة (لعدم وجود المفتاح) بعد بحثه مطوّلاً عن مفتاح إضافي لإدراة المحرّك في محاولته للطيران ، حتى لوّ انتهت تجربته بحادثةٍ كارثيّة .. او على الأقل يفتح به الباب الرئيسي للخروج من هذا المأزق .. 

لذا لم يكن امامه سوى إكمال تمثليته الخيالية وهو يتكلّم باللاسلكي مع المسافرين عن وجهة الرحلة ، تحقيقاً لحلم طفولته الذي حُرم منه بسبب فقر عائلته 


من بعدها نزل الى غرفة المضيفين ، وتمدّد على السرير وهو يقرأ المجلاّت والصحف .. الى أن غفى هناك

***


إستيقظ مساءً وهو يتصبّب عرقاً ، ليجد الظلام الدامس يخيّم على الطائرة ! فتلمّس طريقه صعوداً الى غرفة المطبخ التي بها اضواء ليليّة تعمل عند انقطاع الكهرباء المفاجىء .. ورغم انها اضواء خافتة ، لكن تكفيه في الوقت الراهن .. وتمنّى لوّ أن المكيفات تعمل ايضاً ، بعد أن أصبح الجوّ خانقاً .. 

وجلس في إحدى المقاعد لتناول طعام الدرجة الإقتصادية .. 


ثم فتّش خزائن الأمتعة فوق مقاعد الركّاب ، ليجد حقيبةً صغيرة نسيها صاحبها هناك .. ومن حسن حظه أن بها بيجامتين وبعض الغيارات .. ويبدو أن الرجل قصير القامة ، لكن ثيابه تفي بالغرض  


فاستحمّ جورج بدورة المياه الخاصة بالدرجة الأولى التي تحوي دشّاً وسخّان ماء التي يبدو أن خزّانها صغير ، مُقارنةً بحماميّ الدرجة السياحيّة ، لأنه اضّطر لإغلاقه بعد أن فاض بالمياه ! 


ثم غسل ملابسه الوسخة بحوض المطبخ ، ونشرهم على الحبل الذي وجده في خزانة الطوارىء خارج قمرة القيادة ، بعد أن ربطه في وسط الطائرة بين الباب الرئيسيّ وإحدى النوافذ ..

***


قبيل الفجر ..شعر بضيق النفس ، فاستجمع قواه لفتح الباب الرئيسيّ .. وبعد فشل جميع محاولاته ، أراد كسر إحدى النوافذ بدفع طاولة الطعام الحديديّة باتجاهها مراراً ، دون فائدة ! 


وبعد شعوره بالتعب .. نام في مقعد الدرجة الأولى بعد تمديده كسرير ، وهو يأمل أن يتنهي كابوسه صباحاً

***


ومرّت الأيام دون أن ينتهي الحظر الجويّ ! وبدأت الوجبات الغذائية تفسد الواحدة تلوّ الأخرى ، فتخلّص من الكثير منها في مكبّ المطبخ الذي امتلأ ببقايا الطعام ، لتصبح رائحة المكان لا تطاق .. 

واضّطر لتناول بعض المعلّبات مثل : الكافيار والأنشوفة الخاصة بالدرجة الأولى التي أثارت غثيانه .. فأسرع لبلع حبة دواء وجدها في صندوق الإسعافات الأولية ، كي لا يتقيّأ طعامه.. 


كما حرص دائماً على تدخين السجائر في مخزن الطائرة ، لحفظ الأكسجين المتبقي في غرفة الركّاب .. 

***


بعد اسبوعين ، شعر بإحباطٍ شديد .. فبحث في ادراج المطبخ عن سكين لقطع وريده بغرض الإنتحار ، بعد كتابة وصيته باكياً .. لكن جميع السكاكين التي وجدها غير حادّة ، تطبيقاً لقانون الطيران بعد عمليات الإختطاف الإرهابية المتكرّرة التي حصلت حول العالم.. 


وقبل أن يتملّكه اليأس ، تذكّر كتيّب التعليمات الموجود في غرفة استراحة المضيفين .. فقرأه باهتمام ، ليجد الطريقة المُثلى لفتح باب الطوارئ في حال تعطّلت الأجهزة الكهربائية في الطائرة ..

فأسرع لتطبيق التعليمات بدقةٍ وحذر ، ليتنفّس الصعداء بعد فتحه الباب أخيراً ..ووقف هناك ، متزامناً مع شروق الشمس ..


لكن لسوء حظه لم يُفتح المنزلق المطاطيّ (شريحة الإخلاء او منحدر الهروب) حيث يبعد الباب امتاراً كثيرة عن الأرض .. 

فأخذ يصرخ بعلوّ صوته ، لعلّ أحد العاملين في المطار يُقرّب له السلّم الحديديّ لإنقاذه ، إلا أن المطار بدى مهجوراً !


ولشدّة يأسه ، أغمض عيناه وهو يقفز للأسفل .. ليسمع صوت تكسّر عظامه ..مُطلقاً صرخةً عالية ، قبل إغمائه ! 

ولحسن حظه إن عامل النظافة خرج باكراً الى المدرّج ، فسمع صرخته المرعبة ، واتصل بالإسعاف فوراً  

***


في العام التالي .. أعلنت الحكومات إنهاء الحظر الجويّ ، لتعود حركة الطيران ضمن رحلاتٍ قليلة الى اماكن محدّدة ، مع تشديد قوانين السلامة بأخذ اللقاح ولبس الكمّامات الواقية 


وأخذ جورج يراقب إقلاع الطائرة من نافذة منزله القريب من المطار ، والدموع في عينيه :

- كان حلمي أن أطير ، والآن حلمي أن أمشي

وجرّ كرسيه المتحرّك بعيداً عن النافذة ! 


هناك تعليقان (2):

  1. بشار سليمان19 مايو 2021 في 10:04 ص

    رااائعة
    أحسنت

    ردحذف
  2. تصفين الطائرة وكأنك كابتن الطائرة ماشاء الله عليك فالقصة لا تخلو من الطرافة كما اعجبني تلك الكلمات المعبرة . كان حلمي أن أطير والآن حلمي أن أمشي
    برابو أخت أمل
    ودمتي في حفظ الله ورعايته

    ردحذف

المحطّة الأخيرة

كتابة : امل شانوحة    المصيّدة الدمويّة ركبت الصبيّة الحافلة بعد انتهاء عملها الليليّ في إحدى المطاعم ، وهي تشعر بالإنهاك والتعب الشديد.. وم...